مع "مدخل إلى القرآن الكريم" يختم الجابري مساره الفكري. وهو عمل ضخم ينقسم إلى جزأين في أربعة كتب. الكتاب الأول مخصص للجزء الأول، وعنوانه: "في التعريف بالقرآن" وقد خصه لمجمل المسائل التي طرحت حول البعثة المحمدية و القرآن. أما الكتب الثلاثة الأخرى فهي الأقسام الثلاثة للجزء الثاني، وهي منشورة تحت عنوان: "فهم القرأن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول".
وبهذا المشروع تكتمل قراءة الجابري لمجمل الثقافة العربية الإسلامية. أما غرضه المباشر من هذا الكتاب فهو- حسب قوله - تجديد التفكير في الأسئلة القديمة: و"ذلك لأنه بغير تجديد التفكير في الأسئلة القديمة وطرح أخرى جديدة لن يتأتى لنا الارتفاع بمستوى فهمنا "للظاهرة القرآنية" إلى الدرجة التي تجعلنا معاصرين لها وتجعلها معاصرة لنا." (مدخل... ص 23)
وقد كان هذا الكتاب مناسبة أعاد فيها الجابري التذكير بما قاله في الكتب السابقة، بحيث أن "تجديد التفكير في الأسئلة القديمة" تم على ضوء الأطروحات نفسها التي هيكلت مشروعه الفكري. ورغم أن الجابري لم يخصص ل"الأسئلة القديمة" إلا فصلا مباشرا واحدا وقصيرا (أقل من عشرين صفحة)، وهو الفصل الخامس الذي عنوانه : "حقيقة النبوة... وآراء في الإمامة والولاية"، زيادة على بعض الإشارات المنتشرة في كل الكتاب، إلا أن نقد هذا الفصل القصير وهذه الإشارات اضطرنا إلى العودة إلى الأصل الذي فصل فيه الجابري أطروحاته؛ بحيث أن الحيز الذي خصصناه لها يحتل ثلاثة أرباع هذه الدراسة.
وبما أن الجابري لم يحد عن خط سيره فإن السؤال الذي وجه قراءتنا هو: إلى أي مدى جدد الجابري التفكير في الأسئلة القديمة؟
ونود قبل الدخول في صميم الموضوع أن نوضح غايتنا من هذا الدراسة والمنهجية التي وجهتنا في كتابتها.
غايتنا ليست إعطاء ملخص للكتب المذكورة أعلاه، خاصة وأن علوم القرآن ميدان شاسع جدا. والجابري نفسه اكتفى في كثير من القضايا بتلخيص الأخبار والآراء المتداولة حولها. فغايتنا – كما في المقالات السابقة - هي مساءلة أطروحات الجابري على مستوى تناسقها الداخلي وعلى محك تاريخ الأحداث والأفكار. وبما أن قراءته المفضلة هي القراءة الأيديولوجية، كان علينا ربط تاريخ الأفكار بالتاريخ العام. فهذه القراءة لا تستقيم إلا بوجود تساوق بين المذاهب الفكرية والأحداث التاريخية، وهو تساوق بالتزامن أو التعاقب: وكمثال على ذلك تساوق أفكار عصر الأنوار مع الثورات الأمريكية والفرنسية، أو الأفكار الاشتراكية للقرن التاسع عشر مع الثورات الاشتراكية للقرن العشرين. وهذا التساوق هو مثل تساوق المشتقة مع دالتها الأصلية في الرياضات، فالمشتقة وإن لخصت الدالة إلا أنها تعطي منحاها، وهذا أمر غير مضمون عندما يتعلق الأمر بعلوم الإنسان. ورصد هذا التساوق فيما يتعلق بالقرنين الأولين للإسلام صعب لعدة أسباب: فمن جهة لا تعطينا المصادر المتوفرة أخبارا بدرجة الدقة التي يتواخاها البحث العلمي، وهي في الغالب ليست مصادر مباشرة لأنها ألفت في القرون اللاحقة؛ وهي، من جهة أخرى، مشحونة بالتحزب المذهبي، فالبغدادي في "الفرق بين الفرق" يصف مخالفيه ب"أبناء الزنا"! (قال هذا في ثمامة بن أشرس النميري) وهو – حسب قول محقق الكتاب - "يجادل خصومه بما هو أسوأ، فيسبهم ويسخر منهم ويشمت فيهم" ؛ إلا أنها – ورغم هذه الشوائب التي ما زالت تلوث المقالات إلى اليوم - تعطينا ما فيه الكفاية من الأخبار لتكوين نظرة على درجة مقبولة من الوضوح والموضوعية. كما أن على الباحث الحذر مما تحمله تسميات الفرق والمذاهب من مضمون، فالتسمية المشتركة قد تجمع بين فرق بينها من الخلاف أكثر مما بين بعضها والمذاهب الأخرى، وأحيانا قد نجد تطابقا جزئيا في الرؤى يجسر بين فرق يُعتقد أنه ليس بينها جامع، كما هو الشأن بين الأزارقة الخوارج والواصلية المعتزلية، إذ "زعم هؤلاء أن أطفال المشركين مشركون، ولذلك استحلوا قتل اطفال مخالفيهم وقتل نسائهم." (البغدادي: الفرق... ص 107)
ولهذا تعاملنا مع الأخبار والنصوص بكثير من الحذر المنهجي. وسيلاحظ القارئ أننا لم نذكر إلا القليل من المراجع، والسبب هو أننا اعتمدنا على الأخبار التاريخية المتداولة الموثوقة (خاصة في التاريخ السياسي) الواردة في أكثر من مرجع، وكذلك على ما هو موثوق من مواقف الشخصيات التي ذكرناها على المستويين السياسي أو العقدي. وعندما لم نجد جوابا على سؤالنا تركناه مفتوحا. لكن هذا لا يعني أننا اكتفينا بالخلاصات المدرسية المتداولة، فهذه الخلاصات تعطي نظرة إجمالية عن المذاهب والأحداث قد تؤدي إلى استنتاجات خاطئة. فالجابري، وغيره، يتحدث – مثلا- عن "الشيعة" دون تمييز بين فرقها، ويوظف هذه التسمية في قراءته الأيديولوجية؛ والمعروف أن تحت هذه التسمية نجد فرقا عديدة، منها السبئية والكيسانية والزيدية والجعفرية والإسماعيلية... والخلاف المذهبي بين هذه الفرق قد يتجاوز خلاف بعضها مع السنة. والاستنتاجات الخاطئة تطال المعتزلة أيضا، خاصة فيما يتعلق بالمواقف التي قد تكون لها انعكاسات سياسية، كما هو الشأن في الموقف من الإمامة كما ورد ذلك بقلم الشهرستاني: "وأما كلام جميع المعتزلة في النبوات والإمامة (فإنه) يخالف كلام البصريين، فإن من شيوخهم من يميل إلى الروافض، ومنهم من يميل إلى الخوارج، والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة..." .
فالأحداث السياسية والمذاهب ليست بالوضوح الذي تظهر به في الكتب المدرسية أوالمقالات التعميمية، فهي تشكل شبكة متداخلة تجعل توظيفها في قراءة أيديولوجية أمرا صعبا.
القرآن يدعو إلى "دين العقل"
يقدم لنا الجابري في ختام "مدخل إلى القرآن الكريم" خلاصة لإشكالية الكتاب، قائلا: "الآن، وقد شاءت الأقدار أن يأتي هذا الكتاب بعد "رباعية نقد العقل العقل العربي"، نستطيع القول إننا قد دشنا به عملية قراءة حقل آخر من حقول ثقافتنا العربية الإسلامية." (مدخل... ص 427)
"فعلا، قدمنا، في ما نعتقد، تعريفا بالقرآن الكريم بددنا فيه كثيرا من الضباب الذي كان – وما يزال – يحول دون التعامل العقلاني مع هذا النص الديني الذي لم يُشِد بشيء إشادته بالعقل، وذلك إلى درجة يمكن القول معها إن القرآن يدعو إلى دين العقل، أعني إلى الدين الذي يقوم فيه الاعتقاد على أساس استعمال العقل، انطلاقا من الاعتقاد في وجود الله إلى ما يرتبط بذلك من عقائد وشرائع."
" والحق أن ما يميز الإسلام، رسولا وكتابا، من غيره من الديانات هو خلوه من ثقل "الأسرار" (mystères) التي تجعل المعرفة ب "الدين" تقع خارج تناول العقل..." (مدخل... ص 429)
هذه، إذن، هي الأطروحة التي تلخص فهم الجابري وتعامله مع ذلك الحقل المؤسس للثقافة العربية الإسلامية. وكما هو الشأن مع جل أطروحات الجابري، علينا أن نعيد فك كل خيوط النسيج الذي خاطه للوصول إلى هذه الخلاصة التي تجعل من الإسلام "دين العقل" .
وأول خيوط هذا النسيج مصطلحا "الدين" و "العقل". وكما سبق لنا أن بينا التباس بعض المصطلحات الأساسية التي استعملها الجابري في الكتب السابقة، فإن الالتباس هنا مصدره الجمع بين المصطلحين. فالطبيعة المتباينة للمفهومين لا تسمح بحمل صفة أحدهما على الآخر، إذ عندما يتحول الدين إلى علم – وهو جوهر العقل – فإنه لا يبقى دينا (نظرا لانتفاء الحاجة إلى الإيمان)، وعندما يتحول العقل إلى دين فإنه يفقد طبيعته العلمية (وفي هذه الحالة لا يكون علما بل مجرد أيديولوجيا عِلموية). واستعمال البراهين العقلية للدفاع عن المعتقدات - وهو شائع في كل الديانات - ليس إلا مجرد عملية عَقلنة لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى العلم، وهي لا تقنع إلا المؤمن أصلا.
ونظرا لتعدد الظواهر التي تدخل ضمن مفهوم الدين (وهذا ما يلاحظه القارئ في المعاجم)، فإننا سنكتفي هنا بالمنظور الإسلامي الذي سبق لنا أن قلنا عنه (في الدراسة حول "العقل الأخلاقي العربي") بأنه يتمحور حول مفهوم "الغيب" وما يترتب عنه من معتقدات تُجمِلها، على سبيل المثال، الآيات التالية:
"إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "(57) . (الأعراف)
فالآيات الأربع السابقة تحدثنا عن خلق الله للسماوات والأرض في ستة آيام (تفسير الكون)؛ وفيها الدعاء لله ورحمته (الوظيفة النفسية للدين)؛ وفيها النهي عن الفساد (الوظيفة الأخلاقية والاجتماعية)؛ وفيها إحياء الموتى (أي كل ما يتعلق بالآخرة)... وهذه كلها أجوبة على الأسئلة الوجودية للإنسان. وهي أجوبة عن أسئلة لماذائية (من لماذا)، أي أنها أسئلة تبحث عن الدلالة وليس عن التفسير الكيفي فحسب. وعندما تتحول هذه الأجوبة إلى عقيدة يؤمن بها الناس ويهتدون بها، فإنها تتحول إلى حقيقة ثقافية واجتماعية وحضارية وتاريخية. ولهذا فإن مواجهة الدين، أو محاولة إفحامه، بالحقائق الموضوعية يخطئ هدفه لأن حقيقة الدين لا تكمن في مدى مطابقته لما اكتشفه العلم أو في عقلانيته، بل في مطابقة أجوبته لأسئلة الإنسان الوجودية. وبما أن الديانات ظهرت في مرحلة كانت فيها المعارف العلمية جد بسيطة فإن تفسيرها للكون تشوبه الأساطير التي نشأت على تربها. وإذا كان بإمكان الدين أن يجدد ويصحح نظرته ليجعلها مطابقة للعلم، إلا أن أسئلته لا يمكن أن تتحول إلى مجرد أسئلة علمية، لأنه بذلك يفقد هويته كدين.
أما العلم، وخاصة العلم الحديث، فهو لا يحتاج لمفهوم الإله لتفسير الكون، لأن الكون يفسر نفسه بنفسه لأنه يطرح سؤال الكيف وليس سؤال اللماذا. وهو عندما يتطرق إلى الأخلاق فهو يكتفي بوصف الأنظمة السائدة بصفتها ظواهر اجتماعية، ويترك التأمل في القيم للفلسفة والدين. وهو لا رأي له في الآخرة لأن هذه مسألة تخرج عن عالم الظواهر.
ولهذا عندما يقول الجابري أن "نظام الكون وبيان القرآن متساويان" - كما سنرى ذلك لاحقا - فإنه يخلط بين مجال الحقيقة ومجال الدلالة، وهذا أمر مستغرب من قبل مفكر عرف كاختصاصي في الابستيمولوجيا. وهو أكثر من ذلك "يساوي" بين مجالين لغتهما غير متكافئة، إذ ان لغة العلم تجريبية / رياضية ولغة الدين رمزية / غائية. فالقرآن يقول حول خلق الكون:
"أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) " (الأنبياء)
أما العلم فإنه يشرح بداية الكون ونشأته استنادا إلى نظرية "الانفجار العظيم" Big Bang، وهي نظرية تقوم على قوانين فيزيائية وكميائية وعلى وملاحظات فلكية. وكلمة "سماء" لا محتوى لها من الناحية العلمية فهي اسم أطلق على ظاهرة ضوئية تعطي الانطباع بأن الأرض محاطة بسقف أزرق في النهار وأسود في الليل؛ وهي بذلك تدخل في مجال الانطباعات التي كونها الإنسان عن الكون، مثل كون الأرض مسطحة والشمس تدور حول الأرض...
واختيارنا لموضوع خلق الكون لم يكن اعتباطا، فالآية 30 من سورة الأنبياء كثيرا ما قدمت من قبل المشتغلين بالاعجاز العلمي في القرآن كبرهان على أن القرآن كان سباقا في الإعلان عن النتائج التي توصل إليها العلم الحديث. إلا أنه إذا كان من الممكن إيجاد مقابلة بين "رتقا ففتقناهما" وبين "الانفجار العظيم" (وهذا المصطلح غير دقيق لأن ما حدث ليس في الواقع انفجارا بل بداية امتداد الكون )، رغم اختلاف لغتهما، فإنه من الصعب إعطاء مقابل علمي للآية التي تقول:
"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7)" (هود). فهذه الآية تعلن أن وجود الماء كان سابقا عن خلق السماوات والأرض، وفيها ضرب من التجسيم (العرش على الماء)، وكلا الأمرين في منطوقهما الظاهر غيب لا يتوافق مع معارفنا العلمية الراهنة. والماء، كمادة أولية للكون، من الأفكار التي كانت متداولة في بعض المعتقدات القديمة !
والقرأن، من جهة أخرى، يؤكد: "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )11)" (الشورى).
ألآية الأولى تقول: "وكان عرشه على الماء"، أما الثانية فإنها تقول: "ليس كمثله شيء" ! وبما أن تأويل الآيات التي تتحدث عن صفات لله كان محل خلاف بين المتكلمين المسلمين، بين مُعطِلة ومُشبِهة ومُؤوِلة... فهذا يعني أنهم كانوا واعين بأن الآيات التي تتحدث عن صفات الله تطرح مشكلة ليس فحسب على مستوى المعقولية - بمعنى "نظام الكون" - كما كانوا يشاهدونه ويفهمونه؛ بل حتى على مستوى القابلية للتصور، لأنه لا يمكن تشبيهه بشيء في الكون. فكيف يمكن للجابري أن يجزم بأن "نظام الكون وبيان القرآن متساويان"؟
والحاصل هو أن "نظام الكون" لا يمكن أن يتساوى مع "بيان القرآن": ف"نظام الكون" مصطلح لا يمكن أن نفهمه إلا بمعنى القوانين الفيزيائية والكميائية والبيولوجية التي تحكم الظواهر الطبيعية. وحتى يكون "بيان الكون وبيان القرآن متساويان" يجب أن يكون القرآن كتاب علوم ! وهذا إلزام للدين بما لا يلزمه.
علاقات تعدي غير مشروعة
يقول الجابري أنه دشن عملية قراءة حقل جديد من حقول الثقافة العربية الإسلامية، إلا أن هذا "الحقل" يتميز بكون الجزء فيه (القرآن) يستغرق الكل (الإسلام)؛ فهو يستنتج من إشادة النص الديني بالعقل، أن الإسلام "دين العقل" ! أو كما قال في معرض تعليقه على فلسفة ابن حزم: "وبعبارة هيجلية: "كل ما هو قرآني فهو معقول، وكل ما هو معقول فهو قرآني" " (ت.ع.ع، ص 304) . وكأن الإشادة بالعقل في القرآن تكفي لتزكية كل التراث الإسلامي - باستثناء ما تأثر منه بالعرفان - وترفعه إلى مقام البرهان !
وهذه الطبيعة العلمية للقرآن تدعمها طبيعته الإلهية، وهو ما يؤكده الجابري حين يقول: "لقد أكدنا مرارا أننا لا نعتبر القرآن جزءا من التراث. وهذا شيء نؤكده هنا من جديد، وفي نفس الوقت نؤكد أيضا ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من اننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن، سواء كظاهرة بالمعنى الذي حددناه هنا، أو كأخبار وأوامر ونواه، هي كلها تراث، لأنها تنتمي لما هو بشري." ( مدخل... ص 26)
إننا لا ننازع الجابري حقه في أن يكون مؤمنا، لكننا لا نفهم لماذا يصر على أن يُخرج القرآن من التراث؟ وحتى لو سلمنا معه أن القرآن وحي إلهي، فإن هذا الوحي تجسد في نص مكتوب كما هو شأن باقي التراث. وهو بذلك قابل وعرضة لأن يخضع لما يخضع له، لا محالة، كل نص مكتوب: السؤال عن نشأته وتأويله، وبالوسائل نفسها التي تستعمل في تحليل كل وثيقة تاريخية، وهو ما فعله الجابري نفسه في تفسيره للقرآن!
وترفيع القرآن عن التراث موقف لا يشارك فيه الجابري إلا أكثر الفقهاء تزمتا. ولهذا- وعلى خلاف المؤلَّفَين السابقين الذين ركزنا فيهما على المنهج بالنسبة للأول، وعلى المنهج والمحتوى بالنسبة للثاني - فإن ما استوقفنا في هذا المؤلَّف هو تموقع الجابري ضمن حقول الثقافة العربية الإسلامية. فهذا المؤلف الأخير يلقي إنارة جديدة على البداية، ويبين الدلالة الفعلية لنظم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية - أي البرهان والبيان والعرفان - عند الجابري. وهذا يعود بنا إلى أول كتاب في سلسلة "نقد العقل العربي"، وهو "تكوين العقل العربي".
يقول الجابري في الفصل السابع من تكوين العقل العربي، والذي عنوانه " "المعقول" الديني واللامعقول "العقلي" ":
"الواقع أن البيان العربي بوصفه "الكلام" الإسلامي، وبعبارة أخرى الخطاب العربي في العقيدة الإسلامية، لا يبدأ مع "المتكلمين" الذين ردوا على ما انبعث من المعتقدات القديمة التي تدخل تحت الدائرة الكبرى للموروث القديم كما حددناه قبل، بل أن البيان العربي بهذا المعنى إنما يجد بدايته الفعلية، وفي ذات الوقت أعلى مراتبه وأكملها، في القرآن: الكتاب العربي المبين: وإذن فالمعقولية في البيان العربي إنما تتحدد أولا وقبل كل شيء داخل "الكلام" القرآني، وبالضبط في جدلية المعقول واللامعقول في خطابه." (ت.ع.ع، ص 135-136)
"الكون ونظامه القرآن وبيانه هما العنصران الرئيسيان في الإطار المرجعي الذي يستند إليه "العقل" في القرآن في صراعه مع "اللاعقل": مع المشركين الذين يطلبون حضور ما وراء الطبيعة في الطبيعة صادرين عن نفس المنطق الذي يؤسس عبادتهم للكواكب والأصنام والذي يقوم على وضع وسائط بين الله والناس تمارس نوعا من التأثير الإلهي. إن القرآن يرفض هذا المنطق من أساسه ويوجه انتباه الناس وجهة أخرى:
- إلى الكون لتنبيه عقولهم إلى أن النظام السائد فيه دليل على وجود خالق صانع له، وإن هذا الخالق الصانع لا يمكن أن يكون له شريك وإلا حصل التنازع بينهما وفسد النظام وانهار العالم.
- إلى القرآن لإثارة انتباههم إلى بيانه المعجز الذي هو آية محمد، الآية التي لا تقل إعجازا عن آيات الأنبياء السابقين: ذلك لأنه إذا كانت المعجزة هي "خرق العادة" وإذا كانت معجزات الأنبياء قد خرقت العادة على مستوى الطبيعة فإن معجزة محمد تخرق العادة على مستوى اللغة والبيان، وهذا أكبر تحد لقوم كانت اللغة والبيان عندهم مجالا للمفاضلة والامتحان."
"نظام الكون وبيان القرآن متساويان إذن، من حيث الدلالة: نظام الكون دليل وجود الله ودليل وحدانيته، وبيان القرآن دليل نبوة محمد ودليل صدق رسالته، وهما معا في ارتباطهما وتكاملهما يؤسسان "المعقول" الديني ضدا على اللامعقول "العقلي"، الذي يعني، على مستوى الخطاب القرآني الشرك بالله وإنكار النبوة."
"يتحدد "المعقول" الديني العربي، إذن، بثلاثة عناصر أساسية:
1- القول بإمكانية – بل بوجوب – معرفة الله من خلال تأمل الكون ونظامه، (دلالة الشاهد على الغائب).
2- القول بوحدانية الله أي نفي الشريك عنه، وبالتالي فلا خالق ولا مدبر للكون إلا هو (الشيء الذي يعني عدم الاعتراف بأي تأثير سواء للكواكب أو السحر الخ...)
3- القول بالنبوة، بمعنى أن الاتصال بالله، وبالتالي بالحقيقة، ليس ميسرا لكل الناس، بل أن الله يصطفي من بين عباده من يشاء ليبعثه رسولا إلهم. والنبي الرسول محمد هو خاتم الأنبياء والمرسلين (وإذن فالاتصال بالحقيقة العليا، الله، لم يعد ممكنا قط، ولذلك يجب أن ينصرف الاهتمام إلى القرآن فهو وحده مستودع الحقيقة: عقيدة وشريعة)."
"هذه العناصر الثلاثة التي يتحدد بها "المعقول" الديني يتحدد بها عكسيا اللامعقول "العقلي" الذي يجره معه الموروث القديم." ( ت.ع.ع، ص 139-140)
ويوضح الجابري في الفقرة التالية الفترة التاريخية والمجال الجغرافي الذي ازدهر فيه هذا "المعقول" الديني، قبل أن يحتد الصراع بينه وبين "الموروث القديم" الذي يشمل في كتابات الجابري كلا من الأفلاطونية المحدثة والغنوصية والهرمسية والباطنية والمانوية... يقول الجابري:
"هكذا يمكن القول بكيفية عامة إن "المعقول" الديني كان وحده السائد في كل من الجزيرة العربية وشمال افريقيا والأندلس وأن حضوره في مصر كان قويا منذ الفتح وبقي كذلك حتى عهد الخلافة الفاطمية التي استندت في أيديولوجيتها الدينية-السياسية، كبقية الفرق الشيعية والتيارات الباطنية، على الموروث القديم كما سنبين لاحقا. أما في سورية والعراق وإيران الكبرى فلقد ظل الموروث القديم فيها يواصل الحياة في بنية المعتقدات الدينية الجديدة التي جاء بها الإسلام، إما كعناصر مستترة لا واعية، وإما كتيارات تتنازع البقاء مع "المعقول" الديني، البياني العربي، إلى أن تم اندماجها في صيغة واحدة هي الفكر الشيعي وما يرتبط به من تيارات باطنية كالتصوف والفلسفة الاشراقية، وما تفرع منه من تيارات فكرية أخرى جانبية." (ت.ع.ع، ص 143- 144)
وبهذه الاستشهادات تكتمل صورة الأطروحة المؤسِّسة التي وجهت كل كتابات الجابري، وهذا ما يدفعنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة:
- ما هي مشروعية طرح مسألة البت في الخلاف بين الديانات والمذاهب على أساس مقولة "المعقول" و"اللامعقول"؟ خاصة من قبل مفكر يزعم أنه اختصاصي في الإبستيمولوجيا !
- هل العناصر الثلاثة المؤسسة ل "المعقول" الديني الإسلامي (معرفة الله من خلال تأمل الكون، وحدانية الله، النبوة) قابلة لجواب عقلي قطعي، وكأن الأمر يتعلق بقضية علمية يمكن الحسم فيها بصفة نهائية بواسطة معادلة رياضية أو تجربة ميدانية؟
- هل العناصر السابقة الذكر غائبة عن "الموروث القديم" ومتنافية معه بحيث لا يمكن التوفيق بينها وهذا الموروث، أو على الأقل بعضه؟
- هل الشيعة والباطنية مجرد ممثل ل"اللامعقول" الدخيل على "المعقول" الديني؟ ألا يعود الشرخ السني/الشيعي إلى "الفتنة الكبرى" أي إلى الخلافات الفكرية والصراعات السياسية الداخلية التي شهدها الإسلام، والتي احتدت مباشرة بعد وفاة الرسول، خاصة وأن التنازع حول خلافته كان أحد محركاتها؟
ومن الناحية المنطقية، فإن برهان الجابري يقوم على علاقات تعدي غير مشروعة، فهو ينطلق من مسلمة أن "نظام الكون وبيان القرآن متساويان..."؛ وهي مسلمة غير مبرهنة - لأن برهانها أن يشتمل القرآن على تفسير للكون مطابق تماما للقوانين العلمية - ويستنتج من ذلك:
- أنه بما أن نظام الكون عقلي فإن القرآن "معقول" ، وكأنه يكفي إقرار القرآن بنظام الكون، ويحث على استعمال العقل، ليصير "معقولا".
- وبما أن القرآن معقول فذلك دليل على صدق نبوة محمد وصدق رسالته، وهذا كفيل بتزكية كل الشريعة الإسلامية ! (كما سبق لنا القول)
- وبذلك فإن كل ما يخالف الإسلام يخالف العقل أيضا، وما يخالف العقل يخالف الإسلام !
- وبهذا يتماهي "المعقول" الديني الإسلامي مع "العقل الكوني" ! (كما سنرى ذلك فيما بعد)
وهكذا يتضح لنا التهافت المنطقي للأطروحة المؤسسة للجابري.
وعندما يقول الجابري ان "المعقول" الديني بقي سائدا "منذ الفتح...حتى عهد الخلافة الفاطمية"، فهل هذا يعني أن الثقافة العربية الإسلامية كانت "معقولة" من بداية البعثة المحمدية (حوالي 610 ميلادية، بما ان الهجرة كانت في 622 م) إلى ظهور الدولة الفاطمية (909 م في افريقيا و 969 م في مصر)، أي لحوالي ثلاثة قرون ونصف؛ وهي المرحلة التي يقول لنا الجابري – في غير ما موضع - أنها مصدر الداء الذي تعاني منه الحضارة العربية الإسلامية إلى اليوم، إذ خلالها تكرس "الملك العضوض" و"أخلاق الطاعة" وهيمنة "القبيلة" و"الغنيمة" و"الريع"...؛ وإن كان يتناسى أنها عرفت أيضا تضخم المدونة الحديثية والفقهية التي مازالت الثقافة الإسلامية ترزح تحت ثقلها إلى اليوم؟ ولا محالة أن يُطرح سؤال مشروع آخر: ألا توجد علاقة بين مصادر الداء هذه وبين الإسلام؟ وكان من المفترض أن يَطرح هذا السؤال مهووسٌ بالأسباب البعيدة العابرة للقرون وبالقراءة الأيديولوجية مثل الجابري. أم أن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة – دون الحضارات الأخرى – التي لا توجد فيها صلة بين عقيدتها المُؤسِّسة وما نشأ عن هذه العقيدة من فكر ومؤسسات اجتماعية وسياسية؟ فهل هو انفصام في الحضارة الإسلامية، أم انفصام في نظرة الجابري؟
أسئلة تصير أكثر إلحاحا عندما نعرف أن الجابري يؤكد بأن الحضارة الإسلامية "حضارة فقه" (ت.ع.ع، ص 96 وما بعدها)، والفقه أكثر منتجات الفكر التصاقا بالواقع لأنه يقنن كل أوجه الحياة. فهل كل الفقه الإسلامي – أو على الأقل ما أنتج منه في القرون الثلاثة الأولى – "معقول"؟ وبأي معنى يكون "معقولا" بصفته انتاجا معياريا تشريعيا؟ فبأي معنى – مثلا - تكون المصنفات حول الرق "معقولة"؟ وبأي صفة يريد أن يكون هذا "المعقول" معاصرا لنا؟
إن الجابري يكتب بمنطق "الفرقة الناجية" وكأن تاريخ الفكر بقي راكدا منذ البغدادي (صاحب "الفرق بين الفرق") وابن حوقل (صاحب "الملل والنحل") وغيرهم. كل ما هنالك أن "الفرقة الناجية" أي "أهل السنة والجماعة" صارت فرقة "المعقول الديني".
وهنا يجب أن نذكر أن الجابري ابتدأ مشواره الفكري في صفوف الماركسية، فكريا وسياسيا وحزبيا؛ وفي مجال الاختصاص والانتماء الأيديولوجي، كان يضع نفسه في صف الفلسفة النقدية البرهانية. وإذا بنا نكتشف أن الجابري لم يكن في الموقع الذي كنا نتوهمه فيه، فهو أقرب إلى المتكلم السني منه إلى الفيلسوف البرهاني النقدي. ولا يشفع له أنه وضع "معقول" بين مزدوجين.
وبما أن المسألة تطرح العلاقة بين نظم المعرفة الثلاثة التي عرفتها الثقافة العربية - أي البرهان والبيان والعرفان - نود أن نوضح ما يميز كل واحد منها قبل أن ننتقل إلى بيان الخلل الذي يحدثه الجابري في هذه العلاقة:
- البرهان ينطلق من مقدمات عقلية ليستنتج منها بواسطة الاستقراء أو الاستنباط نتائج عقلية. وهو مجال العلم والفلسفة مع الفرق النوعي الموجود بينهما. إلا أن الجابري يجعل من البرهان مرادفا للعقل الكوني، وهوبذلك يرفعه إلى مستوى الحقيقة المطلقة في حين أنه ليس إلا مجرد أداة.
- البيان ينطلق من مقدمات إيمانية (أي أنها تختلف من دين لدين ومن فرقة لفرقة) ليبين ما ينتج عن هذه المقدمات من نتائج، وقد يستعين في ذلك بوسائط منطقية، كالقياس مثلا، وإن كانت وسيلته المثلى هي علوم اللغة. وهو بذلك قد يشترك مع البرهان في الوسيلة (المنطق). وهو مجال الفقه وعلم الكلام.
- العرفان يحتمل وجهين، فإما أنه بيان لعقيدة سابقة (هرمسية، غنوصية، أفلاطونية محدثة، باطنية، فيثاغورية...)؛ وإما أنه تأويل حر لأركان العقيدة (بمعنى انه قد يخرج عن التفسير السني، والسني بمعنى القويم) كما هو شأن بعض المتصوفة؛ دون الالتزام بمنهج محدد، فقد يكون قياسا أو "إلهاما" أو "كشفا" أو "رؤية" أو "ذوقا" أو خيالا وحتى "وحيا".
إلا أن الأمور ليست بهذا الوضوح في الواقع، فالبيان والعرفان من طبيعة واحدة، كل ما هنالك أن البيان لا يقر إلا بعرفان الأنبياء (وحيهم) الذي هو منطلقه، ويرفض عرفان باقي البشر (خاصة "الغلاة" منهم). أما البرهان فلا يخلو فكر منه بما فيه العرفان، إذ أنه انطلاقا من مقدمات عرفانية يمكن بناء صرح لا يتناقض مع مسلماته. وكمثال على ذلك كتابات روني غينون René Guénon (عبد الواحد يحيى) (1886/1951) أحد أبرز ممثلي الباطنية في القرن العشرين، فهو ينطلق من مسلمة وجود سُنَّة أولية La Tradition primordiale ليوجه نقدا جذريا للحضارة العصرية. وما يقوله في كتابه Reigne de la quantité et signes des temps (هيمنة الكم وعلامات الزمان) عن هيمنة الكم في الحضارة العصرية ومخاطر هذه الهيمنة يسائل حتى من لا يشاركه مسلماته.
وعلى المستوى الفلسفي يمكن التوفيق بين بيان الديانات الابراهيمية وبرهان الفلسفة الأرسطية، وبين إلهها وإله أرسطو؛ كما يمكن التوفيق بين وجود إله متعال ومبدأ السببية، لأن الله هو خالق الكون وواضع قوانينه. لكن هذا لا يُجيز الخطوة النوعية التي قطعها الجابري: فهو عندما يجعل من مقدمات البيان ومسلماته "معقولا" فهو يساوي بينه وبين والبرهان (العقل الكوني)، وبما أن الديني "معقول" فإنه يرتقي إلى مصاف البرهان (العلم)، ويصير الاستنتاج من المقدمات – بالقياس أوغيره – بمثابة الاستنتاج العلمي. فتصير الشريعة علما كما كان أتباع الأيدولوجية الماركسية يعدون المادية التاريخية علما، ومن يخالفها يخالف العلم ذاته !
"تنصيب العقل في الإسلام"
إن هذه المقارنة بالأيديولوجية الماركسية تبرهن على إجرائيتها عندما نحلل الطريقة التي عرض بها الجابري الصراع السياسي في الدولة العباسية في الفصل العاشر من "تكوين العقل العربي"، المعنون ب "تنصيب العقل في ... الإسلام". يقول الجابري:
"لقد اتجه المأمون، إذن، إلى أرسطو لمقاومة الغنوص المانوي والعرفان الشيعي وهما من طبيعة واحدة، فكلاهما يريد أن يؤسس معارضته للدولة العباسية على سلاح لا يملكه العباسيون الذين يتزعمون الخلافة السنية التي تؤمن بانتهاء النبوة وتوقف الوحي نهائيا مع خاتم النبيين والمرسلين. فكان لا بد من سلاح يقف صامدا في وجه "العقل المستقيل" وأطروحاته المانوية والشيعية. ولم يكن هناك من سلاح آخر غير "العقل الكوني" خصمه التاريخي. ومن هنا لجأت الدولة العباسية على عهد المأمون إلى العمل على تنصيب هذا العقل في الثقافة العربية الإسلامية وإقامة التحالف بينه وبين "المعقول" الديني العربي لصد الهجمات الغنوصية التي كانت تهدد ليس فقط العباسيين كدولة بل الفكر الديني "الرسمي" بشقيه المعتزلي والسني. وفي هذا الصدد يقول هنرش بكر: "الغنوص إذن كان يحارب الإسلام دينيا وسياسيا، وفي هذا النضال استعان الإسلام بالفلسفة اليونانية وعُني بإيجاد عالم من العلوم الدينية العقلية يشبه عالم العصر المدرسي في أوروبا في العصور الوسطى. فكان الإسلام الرسمي قد تحالف إذن مع التفكير اليوناني والفلسفة اليونانية ضد الغنوص (...) ومن هنا نستطيع أن نفسر حماسة الخليفة المأمون للعمل على ترجمة أكبر عدد ممكن من مؤلفات الفلاسفة اليونانيين إلى العربية، وهي حماسة غير مفهومة ولا معهودة في الشرقيين. وقد أعتاد الناس أن يفسروا هذا حتى الآن بإرجاعه إلى ميل هذا الطاغية (=المأمون) المستنير إلى العلم وحبه له. ولكن إذا كانت الرغبة في ترجمة كتب الأطباء القدماء قد نشأت عما اشتهرت به المدارس الطبية الكبرى من حاجة عملية كذلك إلى هذه الكتب فلعل ترجمة كتب أرسطو أن تكون نشأت بالضرورة عن حاجة عملية كذلك، وإلا فإنه إذا كانت المسألة مسألة حماسة للعلم ورغبة خاصة في تحصيله فحسب لكان هوميروس أو أصحاب المآسي من بين من ترجمت كتبهم أيضا. لكن الواقع هو أن الناس لم يحفلوا بها ولم يشعروا بحاجة ما إليها" . (ت.ع.ع، ص 231)
ولنا على هذا النص عدة ملاحظات:
1) يقول الجابري في بداية النص: "لقد اتجه المأمون، إذن، إلى أرسطو لمقاومة الغنوص المانوي والعرفان الشيعي وهما من طبيعة واحدة". لكن المعروف تاريخيا هو أن المأمون زوج ابنته للإمام علي الرضا وأراد أن تنتقل الخلافة إليه بعده (وإن كانت بعض المصادر تقول أنه انقلب عليه وسممه)، وبعض المصادر تذهب إلى أنه كان ذا ميول علوية، بل كان شيعيا ! واستبدل لون العباسيين الأسود بلون العلويين الأخضر. وقد عرفت خلافته تصاعد نفوذ الفرس لأنه اعتمد عليهم لاغتيال أخيه الأمين للوصول إلى السلطة. واتخذ من مرو في خراسان (في تركستان حاليا) عاصمة له لمدة ست سنوات قبل أن ينتقل إلى بغداد. وهذان العاملان (ميوله للعلويين وللفرس) يناقضان أطروحة الجابري، لكنهما لا يتنافيان مع انفتاح المأمون – مثل العديد من الخلفاء - على العلوم والفلسفة اليوناية.
2) يجمع الجابري بين الاعتزال والسنة تحت تسمية "الإسلام الرسمي"، في حين أن المأمون اصطف إلى جانب المعتزلة في مسألة خلق القرآن واضطهد أهل الحديث من السنة. وقد التزم الشيعة الحياد في هذا الصراع، إذ اكتفوا بالجهر بأن "القرآن كلام الله" دون الافصاح عن موقفهم الحقيقي الذي لا يختلف عن أهل الحديث، ألا وهو أن القرآن غير مخلوق. ولا يمكن على كل حال – بناء على المصادر المتوفرة – الحديث عن تحالف بين المعتزلة والسنة، في حين أن المصادر التاريخية تحدثت عن تصارع بينهما (وكان بعضهم يكفر بعضا)، كانت الغلبة فيه للمعتزلة طوال عصر المأمون (198-218هـ)، ثم المعتصم (218-227هـ)، ثم الواثق (227-232هـ)، إلى أن حدث الانقلاب المتوكلي الذي مكن السنة من أخذ ثأرها من المعتزلة.
3) المأمون وظف الاعتزال - وهو ممثل العقل في الإسلام - ضد أهل الحديث، أي في صراع داخلي بين المذاهب الإسلامية.
4) المعتزلة عبوا من منابع مختلفة، كما هو شأن إبراهيم النظام (185هـ/777م – 222هـ/836م) الذي يقول بشانه البغدادي: "النظام عاشر قوما من الثنوية وقوما من السُّمَنِية (فرقة من الهند دهرية تقول بالتناسخ)"..."و خالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة؛ ثم خالط هشام بن الحكم الرافضي"..."واعجب بقول البراهمة" (الفرق... ص 117). وهذا يعني أن بعض ممثلي "المعقول الديني" تأثروا أيضا بتيارات "العقل المستقيل" ! و أن جسورا عديدة كانت تربط بين المذاهب والمعتقدات الحاضرة في الساحة الثقافية، إسلامية كانت أوغير إسلامية، وهو ما يبين تعسف تصنيف الجابري. وتجدر الإشارة إلى أن العلاف كَفَّر النظام ! (الفرق... ص 120)
5) لم يكن للمعتزلة تحالف حصري مع مذهب معين من المذاهب، ولهذا نود أن نعيد التذكير بما قاله الشهرستاني: "وأما كلام جميع المعتزلة في النبوات والإمامة (فإنه) يخالف كلام البصريين، فإن من شيوخهم من يميل إلى الروافض، ومنهم من يميل إلى الخوارج، والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة...".
6) أقرب المذاهب إلى الاعتزال هو المذهب الزيدي (الشيعي) ! (والحنفية من السنة). وهذا يعني أن أقرب مذهب لممثلي العقل مذهب ينتمي في تصنيف الجابري إلى العرفان و "العقل المسقيل" !
7) يُطرح سؤال حول هوية الحركات الغنوصية المانوية والعرفانية الشيعية التي كان على المأمون محاربتها. فالمعروف تاريخيا أن الدولة العباسية في عصر المأمون واجهت نوعين من الثورات: ثورات ذات مرجعية معادية للإسلام وأخطرها ثورة بابك الخرمي، وثورات ذات مرجعية إسلامية وهي إما خارجية أو شيعية، وغالبية الثورات الشيعية علوية (وتسمى أيضا طالبية)؛ أما الثورات التي يمكن أن تنعت ب "العرفانية الشيعية" فهي تلك التي اندلعت تحت راية السبئية أو الكيسانية. ومحاربة هذه الحركات لا يستدعي استيراد "البرهان" كسلاح أيديولوجي لمحاربتها، فالبيان السني كاف للتجنيد ضد الخرمية؛ في حين أن الصراع ضد الزيدية العلوية صراع سياسي داخلي قد يشكل خطرا على الأسرة الحاكمة وليس على الدولة الإسلامية.
8) الثورات المعادية للدولة الإسلامية هي – وقبل كل شيء – حركات تحرر وطني (هي أشبه بظاهرة الردة ضمن القبائل العربية بعد وفاة الرسول)؛ وهو بعد لا يجوز طمسه بادعاء أنها ممثلة ل"الغنوص المانوي والعرفان الشيعي". والدليل على ذلك أن بابك الخرمي ما زال يعتبر بطلا وطنيا في العالم الفارسي، ووضعه لا يختلف عن وضع كسيلة أو الملكة ديهية (الكاهنة) اللذان قاوما الفتح الإسلامي في الغرب الإسلامي.
9) ما مدى الصحة التاريخية لهذا "التحالف" الحصري بين الإسلام "الرسمي" والفلسفة اليونانية؟ فعندما انتقلت الفلسفة اليونانية إلى الثقافة العربية استحوذ عليها أيضا خصوم الإسلام السني ووظفوها لأغراضهم، ومنهم إخوان الصفاء "الإسماعيليين"، حسب قراءة الجابري نفسه (وهو ما يفنده طرابيشي). أما ما هو يقين فهو أن موقف الإسلام السني من الفلسفة كان يشوبه دائما كثير من العداء. أما الصراع بين السنة والشيعة فهو صراع داخل البيان الإسلامي، ولسنا ندري كيف يمكن ل"العقل الكوني" أن يبت في الصراع بين المذهبين؟ أي كيف يمكن له الفصل – مثلا – في مسألة الإمامة والعصمة، أو في شرعية الخلفاء الراشدين؟ والسجال مع الديانات الأخرى، سجال بين بيانات هذه الديانات؛ ولسنا ندري – مثلا - كيف يمكن الحسم على أساس "العقل الكوني" بين من يُؤَلِّه عيسى ومن ينكر ذلك، وهما يؤمنان معا بميلاده العذري (المسيحية والإسلام) !؟ اما الصراع مع المانوية، وغيرها من الديانات القديمة، فهو صراع مع أمم مغلوبة لم تستسلم للأمر الواقع، والصراع معها صراع أيديولوجي وسياسي وليس صراعا بين "العقل الكوني" واللاعقل؛ إلا أن يبرهن لنا الجابري على أن للعرب المسلمين الحق - من وجهة نظر "العقل الكوني" دائما - في السيطرة على الشعوب الأخرى.
10) لا يمكن أن نقول أن الصراع مع من يدعون بالزنادقة صراع مع اللاعقل، بل العكس هو الصحيح، فكثير ممن نعت بالزندقة ونُكِّل به يعد من ممثلي الفكر الحر في الحضارة العربية الإسلامية.
11) وهذه ملاحظة تاريخية صرف. فالجابري يعطينا توصيفا للصراعات الأيديولوجية لا يتطابق مع عصر المـأمون، بل مع العصور التالية له. ف"العرفان الشيعي" لم يظهر بشكل يهدد أركان الدولة العباسية إلا مع حركة الزنج (التي تأثرت بالخوارج أيضا) والإسماعيلية والقرامطة.
12) وهي أيضا ملاحظة من طبيعة تاريخية. فالمقارنة مع تاريخ الدولة الأموية تبين أن الحركات المعارضة التي واجهتها هذه الدولة هي نفسها التي واجهتها الدولة العباسية في بدايتها:1- ثورات الشعوب التي أخضعها الفتح الإسلامي إما تحت لواء عقائدها الأصلية أو تحت لواء مذاهب إسلامية. 2- ثورات ذات طبيعة مذهبية (شيعية أو خارجية). 3- ثورات أقاليم على السلطة المركزية. 4- ثورات سياسية محضة يحركها التنافس على الحكم (كثورة عبد الله بن الزبير). ومواجهة هذه الثورات لم تكن تحتاج إلى استيراد المنطق الأرسطي.
13) راجعنا سيرة أعلام التصوف في القرنين الثاني والثالث للهجرة الواردين في "قائمة أعلام التصوف" (ويكيبديا)، ومن بين الأعلام التسعة للقرن الثاني والستة والثلاثين للقرن الثالث، لم نجد إلا الحلاج الذين يقول بوحدة الوجود مع اختلاف فيما يتعلق بالبسطامي ، أما الآخرون فيعدون من أعلام التصوف السني. وهذا ما يتفق مع الخلاصة التي خرج بها هنري لاووست في ختام فصله عن التصوف في كتابه حول الفرق الإسلامية، إذ يقول أن التصوف نشأ وتطور في صلة وثيقة « symbiose » مع الحديث والفقه والكلام . وما تجدر الإشارة إليه هو أن ذو النون المصري (179-245 هـ) هو أول من أدخل العرفان في التصوف وكان في الوقت نفسه مالكيا ، وهذا يعني أن العرفان لا يتنافى بالضرورة مع السنة.
14) جل أعلام التصوف الواردين في "قائمة أعلام التصوف" من الفرس، وهذا يدل على أن ليس كل متصوف فارسي عرفاني أوشيعي، بل جلهم كان سنيا.
15) تعامل الدولة العباسية مع الشيعة والفرس كانت تحكمه الحسابات السياسية، فهو تعامل انتهازي صرف.
أما فيما يتعلق بالمذاهب الإسلامية والديانات التي عرفها عصر المأمون فهي نفسها تلك المذاهب التي ظهرت في عصر الدولة الأموية (زيادة على تفريعات منها)؛ وبوادر هذه المذاهب ظهرت منذ عصر الرسول والخلفاء الراشدين، كما يؤكد ذلك الشهرستاني . وهي الديانات نفسها التي عرفتها الرقعة الجغرافية التي سيطرت عليها الدولة الإسلامية. والجابري عندما يعتبر بعضها بمثابة طابور خامس دخيل كل همه هو تقويض أركان الدولة الإسلامية، فهو يغفل عن كون هذه التيارات لها حق المواطنة، لسبب بديهي ألا وهو كونها موجودة في الأرض التي شهدت ميلادها: فالهرمسية نشأت في مصر؛ أما الغنوصية فهو اسم يطلق على مجموعة من التيارات المختلفة، لا يجمع بينها إلا كونها نشأت في منطقة الشرق الأوسط، ومن بينها المسيحية والأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة والثنائية وعبادات الأسرار ؛ أما المانوية فقد كانت من أكثر الديانات انتشارا في العالم، إذ أن نفوذها كان يمتد من الصين إلى كل حوض البحر الأبيض المتوسط، قبل أن تتراجع بضغط من المسيحية ثم الإسلام. وما ساهم في هذا الإنتشار هو كونها كانت تركيبا من عدة ديانات، من بينها الزرادشتية والمسيحية والبوذية. هذا يعني أن هذه الديانات المغلوبة بقيت حاضرة في ضمير وثقافة الشعوب التي اعتنقتها في فترة من تاريخها. وما يساعد على استمرار هذا الحضور هو كون الديانات ليست عوالم منفصلة بل بينها جسور عديدة، بما فيها الجسور مع الأساطير القديمة، رغم التشنج الذي تظهره كل واحدة منها في الدفاع عن خصوصيتها، وادعائها الانفراد بالحقيقة.
أما الزرادشتية فإنها تستحق معاملة أفضل مما هو شائع عنها في المقالات الإسلامية تحت اسم المجوسية: فهي من أقدم الديانات المعروفة، وهي أقدم ديانة توحيدية وكثير من معتقداتها انتقلت إلى الديانات الابراهيمية. وترجح المصادر أن اليهودية تأثرت بالزرادشتية أثناء المنفى البابلي. ومن معتقداتها أن أحورا مازدا (الإله الواحد) خلق الكون والعناصر الأربعة: الماء والتراب والنار والهواء، وخلق الإنسان. ومن معتقداتها: القول بالبعث وبحياة بعد الموت ومحاسبة الأرواح حسب افعالها؛ والاعتقاد بوجود الملائكة؛ والأمر بالطهارة؛ وإقامة خمس صلوات في اليوم؛ وفرض الصيام؛ وتحريم المشروبات المسكرة...
ولربما أن هذا القرب البنيوي من الديانات الابراهيمية هو الذي سهل انتشار الإسلام في فارس، في حين أن الإسلام وجد صعوبة في التجذر في الهند رغم خضوعها للحكم الإسلامي لعدة قرون، أو الصين التي بقي الإسلام فيها هامشيا رغم أنه وصل إليها في القرن الأول للهجرة.
والأساطير ليست مجرد خرافات لا معنى لها، ففي الأساطير القديمة جذور للمعتقدات المؤسسة للديانات الابراهيمية، ومنها - على سبيل المثال - قصة الطوفان وقصة سرجون الأكدي التي تشبه قصة موسى... والمطلع على الفكر الغربي الحديث يدرك الدلالات العديدة التي يمكن إيجادها في الأساطير القديمة. وأطروحات الجابري لا تساعد على استغلال هذا المنجم الكبير لخبايا النفس الإنسانية.
من الملاحظات السابقة يتبين لنا أن القراءة الأيديولوجية للجابري تقوم على قراءة متعسفة للمذاهب والأحداث. وهي تطرح مسألة منهجية المقارنة بين المذاهب والديانات. فالجابري يدعي أنه يعتمد التحليل التاريخي والبنيوي، ولو أنه اعتمد حقا هذا المنهج لما أقام تراتبية على أساس العقلانية بين الديانات والمذاهب. فما يميز الديانات عن بعضها هو الطريقة التي وظفت بها كثيرا من العناصر التي تنتمي إلى الظاهرة الدينية عموما، ولو أن هذه العناصر اتخذت في كل ديانة أشكالا مختلفة، بحيث يصعب أحيانا التعرف عليها. والمقاربة البنيوية تتجاوز السجال العقيم حول سؤال الأسبقية الذي يفترض وجود بداية مطلقة لفكرة أو عقيدة ما موثقة توثيقا لا جدال فيه، في حين أن تاريخ المعتقدات يضرب بجذوره فيما قبل التاريخ وفي ما لم تذكره المراجع المكتوبة. وهذه المقاربة تتجاوز فكرة النقل المرتبط بسؤال الأسبقية. وهذا موضوع سجال بين بعض المستشرقين الذين يذيبون الإسلام فيما قبله، ومعارضيهم من المسلمين الذين يريدونه بداية مطلقة . فأصالة كل دين أو مذهب تكمن في الطريقة التي ولف بها العناصر المقتبسة، والتي تعطيه هويته التي تميزه عن غيره.
والجابري – من جهة أخرى - يقرأ التاريخ من جانب المنتصرين وبمنطقهم، ولهذا فإن عرضه لسياسة الدولة العباسية يشبه الطريقة التي كانت تبرر بها الدول الاستعمارية سياستها: فهي ممثلة للعقل والعلم والأخلاق السامية المعقولة والحضارة، في مواجهة التعصب والخرافة والتخلف، أي "العقل المستقيل" حسب تعبير الجابري نفسه ! وهذا موقف الماركسية نفسها، إلا أنها كانت تغلفه باعتبارات أيديولوجية مختلفة، فهي كانت ترى في الاستعمار وسيلة لتحديث البنى في المجتمعات القبل رأسمالية.
وقد يكون تبرير "حق المنتصرين" مبنيا على أساس وجهة نظر هيجلية للتاريخ، أي أن "التاريخ هو الحكم النهائي على التاريخ"، لكن الجابري لا يبرر "حق" الدولة الإسلامية من منظور هيجلي بل من منظور البيان السني المرفوع إلى مستوى "العقل الكوني".
"أزمة الأسس"
يقول الجابري: "لقد كانت استراتيجية المأمون قائمة كلها، كما بينا ذلك في الفصل السابق، على تأسيس "البيان" على "البرهان" ضدا على "العرفان". وها هي هذه الاستراتيجية تصل إلى عنق الزجاجة. إن نمو "البيان" وتبلوره كنظام معرفي مُقنَّن من جهة واكتمال حضور المنطق الأرسطي في الثقافة العربية بترجمة كتاب البرهان والتركيز بالتالي على الطبيعة البرهانية لهذا المنطق – الشيء الذي ابرز وضعه statut الابستيمولوجي بوصفه نظاما معرفيا خاصا ومتميزا – من جهة ثانية قد كشفا عن التعارض العميق بين "البيان" و"البرهان" وبالتالي استحالة الاستمرار في محاولات تأسيس الأول على الثاني دون التضحية بما هو جوهري في أحدهما، ولربما في كليهما معا... ذلك مظهر من مظاهر "أزمة الأسس" في الثقافة العربية، الأزمة التي بدأت تتكشف بعد انتهاء عصر التدوين مباشرة." ( ت.ع.ع، ص 260)
ولسنا ندري هل أدرك الجابري أن "فشل" المأمون في محاولته تأسيس البيان على البرهان يناقض أطروحته حول "المعقول الديني": فلو كان "المعقول الديني" معقولا حقا لما انكشف "التعارض العميق بين "البيان" و"البرهان" وبالتالي استحالة الاستمرار في تأسيس الأول على الثاني دون التضحية بما هو جوهري في أحدهما، ولربما في كلاهما معا..."؟ وهذا يبين لنا كيف أن أطروحة الجابري اصطدمت بوقائع تناقضها (وإن كانت "وقائع" من وضعه) ، فليست محاولة المأمون هي التي وصلت "إلى عنق الزجاجة"، بل أطروحة الجابري.
وبما أن الأمر يتعلق بمحاربة العرفان، فإن السؤال المطروح يتعلق بطبيعة هذا "العرفان" الذي أراد المأمون محاربته ب"البيان" و"البرهان" معا؟ والجواب يقدمه لنا الجابري نفسه على لسان فوستجيير، يقول الجابري.
"لنختم إذن بإبراز هذه الخاصية العامة التي أولاها فيستوجيير أهمية خاصة في خاتمة الجزء الأول من كتابه، إنها ستجعلنا نلمس مرة أخرى موقعا آخر من المواقع التي احتلتها الهرمسية في الثقافة العربية الإسلامية: الموقع الذي يندمج فيه التصوف في الكيمياء والكيمياء في التصوف، وبكيفية عامة: العلم في الدين والدين في العلم.
يقول فيستوجيير: "إن أبرز سمات الفكر الهرمسي هو أنه فكر لم يعد فيه الفصل بين العلم والدين كما كان من قبل. "وكما هو معروف فإن الفصل الصارم بين هذين الميدانين (=ميدان العلم وميدان الدين) والتمييز الواضح بين ما يؤول أمره إلى المعرفة بالعالم وما يرجع أمره إلى المعرفة بالله وانتشال نظام المعقولية من الشوائب الميتولوجية، تلك كانت إحدى المنجزات العظيمة للفلسفة الإغريقية منذ فلاسفة ما قبل سقراط". أما هنا، في الفكر الهرمسي "فإن هذين الميدانين قد اختلطا من جديد. لقد اختلطا في مبدئهما ومصدرهما نفسه. ذلك لأنه لم يعد من الممكن الطموح إلى الحصول على المعرفة، أية معرفة، إلا من عند إله أو عند نبي يوحى إليه ويقدم المعرفة للناس وحيا (= لا بالبرهان) تلك هي الواقعة الأساسية التي يتوقف عليها كل ما سواها" . "(ت.ع.ع، ص 183)
يقول النص أن الدين والعلم "اختلطا من جديد" في الهرمسية، لكن هل هذا "الخلط" وقف على الهرمسية؟ أليس كل دين يفترض وجود توافق بين عقيدته و نظام الكون؟ ثم اليس الدين أصلا تفسيرا للكون؟ وما هو "المعقول" الديني عند الجابري إن لم يكن خلطا بين العلم (نظام الكون) والدين؟ وهل أن الفلسفة اليونانية – وسليلتها الفلسفة العربية الإسلامية – انتشلت، حقا، نظام المعقولية من الشوائب الميثولوجية؟
ومرة أخرى نلاحظ، على المستوى المنهجي، أن مصدر الخلط عند الجابري يكمن في كونه أراد أن يقيم تراتبية على أساس درجة العقلانية بين ما سماه كانط Kant ب"الأوهام المتعالية" illusions transcendantales؛ ويندرج تحت هذه التسمية كل فكر يخرج موضوعه عن عالم الظواهر، من أسطورة ودين وحتى الميتافيزيقا.
إن دحض الهرمسية – رمز "العقل المستقيل" عند الجابري - إما أنه يستند إلى معتقدات دين آخر، وفي هذه الحال فإن الأمر يتعلق بسجال ديني يكتفي فيه كل مساجل بالدفاع عن عقيدته وتهفيت عقيدة خصومه. وإما أن الدحض يستند إلى براهين عقلية، وهو بذلك لا يمكنه الخروج عن النقد الوضعي أو الإنسي أو المادي للدين، وهذا النقد لا يفرق بين الأديان لأنه يستهدف أسسها قبل كل شيء، وليس تمظهراتها الجزئية فحسب. ولهذا فإن نقد الهرمسية من وجهة نظر إسلامية ليس إلا مجرد سجال ديني – أي مقارعة بيان ببيان - ولا يمكنه أن يكون بأي حال من الأحوال سجالا بين العقل واللاعقل.
وإذا كانت الهرمسية تشكل خطرا ما، فذلك ليس لأنها "عقلا مستقيلا"، بل لوجود خصم يوظفها في صراعه السياسي مع الدولة الإسلامية.
لكن الجابري لا يبحث عن مصادر قوة هذا الخصم في كونه يقاوم من أجل البقاء، أو في كونه خصم سياسي يطمح إلى السلطة، أو في كونه يستغل التناقضات الاجتماعية والسياسية، بل يدعي أن استراتيجية المأمون لبناء البيان على البرهان – لمواجهة العرفان - وصلت إلى طريق مسدود بسبب "التعارض العميق" بينهما. وهذا حسب رأيه يعكس أزمة الأسس في الثقافة العربية الإسلامية التي تعود إلى أوائل نشأتها في "عصر التدوين". وسبب هذه الأزمة انقسام الثقافة العربية الإسلامية إلى ثلاثة نظم معرفية، وعجزها عن تجاوز هذا الانقسام. وهذا يعني أن النجاح أو الفشل يقعان على المستوى الميتافيزيقي وليس على مستوى التاريخ ! ولتشخيص مظاهر هذه الأزمة يبدأ الجابري بالتعريف بمضمون اللقاء بين النظام المعرفي البياني العربي والنظام المعرفي البرهاني اليوناني.
ويستهل الجابري بالكندي (185- 252هج /801-873 م)، قائلا: "إن الكندي صريح في نفي التراتب الهرمي الذي تقيمه الهرمسية والأفلاطونية المحدثة وكل الاتجاهات الغنوصية في عالم الألوهية والذي تصل بواسطته المعرفة الإلهية بالمعرفة البشرية جاعلة من هذه امتدادا لتلك "واحد مرسل" معناه: ليس هناك إلى جانب الله أي كائن إلهي آخر مثل "العقل الكلي" أو "العقل العاشر" – الفعال – تتم عنده المشاركة في الغنوص وتُعبَر بواسطته الهوة التي تفصل الله بالعالم معرفيا وأنطولوجيا. إن الكندي يرفض كل "الوسائط" التي تقيمها الهرمسية والأفلاطونية المحدثة بين الله والعالم ويتصور العلاقة بينهما، أنطولوجيا ومعرفيا، تصورا إسلاميا محضا، وعلى طريقة المعتزلة خاصة، وهو يكرس هذا التصور بخطاب فلسفي المضمون أرسطي النزعة، ضدا على التصورات الغنوصية بمختلف اتجاهاتها." (ت.ع. ع، ص 238)
لكن الكندي "فشل" في مسعاه في رأي الجابري: ل "أن عملية تنصيب العقل في الثقافة العربية الإسلامية لم تكن بالأمر الهين، إذ كان لا بد من مواجهة الغنوص المانوي والعرفان الهرمسي- الشيعي من جهة، والتصدي من جهة أخرى لردود الفعل السلبية التي كان لا بد أن تصدر عن الفقهاء والمتكلمين الذين كانوا قد اتخذوا موقفا معاديا ل "علوم الأوائل" جملة وتفصيلا لأسباب شرحناها قبل". ويرجع الجابري "فشل" الكندي إلى كون "الطابع السجالي الذي فرضته عليه هذه المعركة قد جعل خطابه العقلاني يبقى خطابا جدليا، خطابا تقريريا وليس خطابا برهانيا" (ت.ع.ع، ص 240). ويزيد قائلا: "والواقع أن هذا النقص الذي شاب مؤلفات الكندي المنطقية لم تكن باخياره، فلقد كان المتداول من المنطق في عصره خاليا من "كتاب البرهان"، الكتاب الذي لم يترجم إلى العربية إلا في عصر الفارابي [...]" (ت.ع.ع، ص 241)
إذن – وحسب الجابري – "فشل" الكندي لأن "كتاب البرهان" لم يكن قد ترجم بعد إلى العربية ! وكأن المنطق الأرسطي مجموعة من القوانين العلمية التي توصل إلى الحقيقة المطلقة. وكأن هذا المنطق ليس في متناول تيارات فكرية متضادة تستعمله لعقلنة عقائدها والرد على خصومها. وأن هذه العقلنة إن ساهمت في ترسيخ إيمان أتباع دين أو مذهب ما، فهي بدون مفعول على أتباع دين أو مذهب آخر. وبما أن الجابري كتب بعد أزيد من ألف سنة من عصر الكندي، فإنه يعرف أنه بإمكان الفلسفة الاستغناء عن المنطق الأرسطي لأنه بكامله مصادرة على المطلوب.
ثم ينتقل الجابري إلى الفارابي عارضا الظروف السياسية التي عاش فيها، إذ يقول: "جاء الفاربي إذن في ظروف تميزت بالتمزق الفكري والسياسي والاجتماعي فجعل قضيته الأساسية إعادة الوحدة إلى الفكر وإلى المجتمع معا: إعادة الوحدة للفكر بالدعوة إلى تجاوز الخطاب "الكلامي" السجالي، الجدلي والسفسطائي، والأخذ بخطاب "العقل الكوني"، الخطاب البرهاني. وإعادة الوحدة إلى المجتمع ببناء العلاقة داخله على نظام جديد يحاكي النظام الذي يسود الكون ويحكم أجزاءه ومراتبه. ومن هنا انصرف الفارابي باهتمامه إلى المنطق من جهة، وإلى الفلسفة السياسية من جهة أخرى. وإذا كانت المدينة الفاضلة التي بشر بها قد نظر إليها، في الثقافة العربية الإسلامية، على أنها مجرد حلم فلم يعمل أحد على إعادة التفكير، وحتى ابن خلدون الذي عني بدراسة العمران البشري وأنظمة الحكم اعتبرها "بعيدة الوقوع" واعتبر الكلام فيها "على جهة الفرض والتقدير" لا غير...إذا كان ذلك هو مصير فلسفة الفارابي السياسية، فإن مصير أعماله المنطقية يختلف تماما." (ت.ع.ع، ص 241-242)
وعن العلاقة بين الدين والفلسفة، يلخص الجابري رأي الفارابي قائلا: " الحكماء يتصورون الحقائق كما هي، والمؤمنون ترتسم في نفوسهم خيالاتها ومثالاتها، فيكون ما يقرره الدين محاكيا لما تبرهن عليه الفلسفة تماما كما تحاكي المدينة الفاضلة نظام الكون وتراتبه وترابطه. وإذن فلا تناقض بين الدين والفلسفة إذ هما يعبران عن حقيقة واحدة. الفلسفة تعبر عنها تعبيرا مباشرا برهانيا، والدين يعبر عنها بمثالاتها ومحاكياتها. الفيلسوف يستفيدها بالعقل، أي بالصناعة البرهانية التي وحدها تمكن من الارتفاع به إلى درجة الاتصال ب"العقل الفعال"، أما النبي فيتقبلها من نفس المصدر ولكن بمخيلته فقط [...]." ( ت.ع.ع، ص 246)
ويختم الجابري هذا الفصل قائلا: "وإذا نحن نظرنا إلى خطاب الكندي وخطاب الفارابي من زاوية الأساس الأيبيستيمولوجي، أو النظام المعرفي، الذي يؤسسهما وجدناهما خطابا واحدا، خطابا جديدا على الثقافة العربية الإسلامية يسجل لحظة جديدة في تاريخ تكون العقل العربي. لقد كانت الثقافة العربية الإسلامية والعقل العربي ذاته يتقاسمهما، قبل الكندي-الفارابي، خطابان مختلفان تماما: خطاب يعتمد "البيان" والذي تحمله اللغة العربية أصلا، والذي قننته علوم الموروث العربي الإسلامي "الخالص" علوم اللغة وعلوم الدين، وخطاب يعتمد "العرفان" الذي يدعيه "العقل المستقيل" الذي انتقل إلى الثقافة العربية من الموروث القديم واحتل فيها مواقع أساسية عبر التشيع والتصوف والكيمياء والتنجيم وما ارتبط بهما من علوم "سرية" أخرى... وها نحن الآن أمام خطاب جديد، خطاب ينتمي بمفاهيمه ونظرياته العلمية الفلسفية إلى طبيعيات أرسطو وميتافيزيقا[ه]، كما استعادهما جزئيا فيلسوف العرب الكندي، وتشرح الياته وقوانينه الصناعة المنطقية التي انضجها أرسطو المعلم الأول واستعادها منه كاملة الفارابي المعلم الثاني. إنه خطاب "العقل الكوني" الذي يؤسسه نظام معرفي خاص يقوم على "البرهان"، ولذلك سندعوه ها هنا بالنظام المعرفي البرهاني."
"ولكننا إذا نظرنا إلى الخطابين، خطاب الكندي وخطاب الفارابي، من زاوية الاستراتيجية التي توجه كلا منهما وجدناهما يختلفان تماما ليس في الإتجاه وحسب بل وفي المضمون كذلك: لقد قصر الكندي في "البرهان" لأنه كان مشدودا إلى "البيان" ومشغولا بالرد على "العرفان"، وأهمل الفلسفة السياسية لأنه كان يمارس الفلسفة من أجل السياسة، أعني أنه كان يوظف الفلسفة لدعم سياسة قائمة، سياسة "دولة العقل" البياني المعتزلي التي أظلته ووظفته. أما الفارابي فقد اتجه إلى "البرهان" لا ليعزز به "البيان"، كما حاول الكندي أن يفعل، بل ليتجاوزه به على أساس أن ما في "البيان"، مثالات لما في "البرهان". أما "العرفان" فقد احتفظ به الفارابي، ولكن لا كمصدر أولي للمعرفة بل كنتيجة لها.. لقد جعل منه لا بديلا عن البرهان بل ثمرة له. وهكذا، وتحت ضغط هاجس "الوحدة" الذي هيمن على الفارابي، وحدة الفكر ووحدة المجتمع، عمد أبو نصر إلى ممارسة السياسة في الفلسفة: جمع بين أفلاطون وأرسطو من أجل إقرار وحدة العقل، وبين الملة والحكمة من أجل بناء وحدة المجتمع. ولم يكن من الممكن لعملية "الجمع" المضاعفة هذه أن تتم بدون توظيف جوانب من الهرمسية. إن القول بوحدة الدين والفلسفة وباتصال الموجودات بعضها مع بعض من قمة الهرم (=السبب الأول) إلى قاعدته (= العناصر الأربعة)، وهو القول الذي بنى عليه الفارابي حلمه الفلسفي السياسي، يقع في صميم الهرمسية، وهو يستتبع مباشرة القول بإمكانية الانتقال على جسم الهرم من مراتب دنيا إلى مراتب عليا، على الصعيدين المادي والروحي، ومن هنا "الكيمياء"، من جهة و"العرفان" من جهة ثانية، وكلاهما من دعائم الهرمسية كما رأينا. أما الكيمياء فقد الف الفارابي فيها رسالة بعنوان "وجوب صناعة الكيمياء"، وهو عنوان يغني عن كل تعليق. وأما "العرفان" فعلى الرغم من أن الفارابي لا يقول به كمنطلق وبداية فقد قبله كثمرة ونهاية، وذلك حينما جعل المعرفة تنتهي، في أسمى درجاتها إلى "الاتصال" ب "العقل الفعال" آخر مراتب العقول السماوية الفائضة عن السبب الأول (= الله)."
"واضح إذن ان تنصيب "العقل الكوني" في الثقافة العربية الإسلامية لم يكن بالأمر الهين: لقد كانت الثقافة يتقاسمها نظامان معرفيان متباينان يرتبطان بتيارين أيديولوجيين متصارعين تاريخيا: النظام البياني والأيديولوجية السنية من جهة، والنظام العرفاني والأيديولوجية الشيعية من جهة ثانية. ومن هنا سيكون النظام البرهاني في الثقافة العربية الإسلامية محكوما في طبيعته وتطوره بالصراع بين "البيان" و"العرفان"، كما سنوضح ذلك في الفصل التالي." (ت.ع.ع، ص 248-249)
ولنا عدة ملاحظات على الفقرات السابقة:
أولا: يقول الجابري: "وها نحن الآن أمام خطاب جديد، خطاب ينتمي بمفاهيمه ونظرياته العلمية الفلسفية إلى طبيعيات أرسطو وميتافيزيقا[ه]، كما استعادهما جزئيا فيلسوف العرب الكندي، وتشرح آلياته وقوانينه الصناعة المنطقية التي انضجها أرسطو المعلم الأول واستعادها منه كاملة الفارابي المعلم الثاني. إنه خطاب "العقل الكوني" الذي يؤسسه نظام معرفي خاص يقوم على "البرهان"، ولذلك سندعوه ها هنا بالنظام المعرفي البرهاني". فالجابري يعد "طبيعيات أرسطو وميتافيزيقاه" نتاجا ل"العقل الكوني" القائم على البرهان، وهو بذلك يرفع الميتافيزيقا إلى مرتبة العلم كما فعل ذلك مع "المعقول الديني" !
ونود هنا أن نذكر ما قاله هانز ريشنباخ عن فلسفة أرسطو: "وإني لعلى استعداد للاعتراف بأنه لا ينبغي الحكم على أهمية أرسطو التاريخية بمقياس نقدي هو نتاج للتفكير العلمي الحديث، ولكننا لو قسنا ميتافيزيقاه، حتى بالمعايير العلمية لعصره، أو على أساس ما أنجزه في ميادين علم الحياة والمنطق، لما بدت لنا معرفة ولا تفسيرا، بل لكانت ذات طابع تشبيهي، أعني هروبا إلى اللغة المجازية. وهكذا فإن النزوع إلى كشف التعميمات يؤدي بالفيلسوف إلى نسيان المبادئ التي يطبقها بنجاح في ميادين للبحث أضيق حدودا، ويجعله ينقاد للألفاظ حيث لا تكون المعرفة قد توافرت بعد. وهنا نجد الأساس النفسي لذلك المزيج العجيب من الملاحظة والميتافيزيقا، الذي جعل هذا الباحث البارز في ميدان جمع المواد التجريبية، مفكرا ذا نزعة نظرية قطعية، يرضي رغبته في التفسير بنحت ألفاظ وإقامة مبادئ لا يمكن ترجمتها إلى تجارب قابلة للتحقيق."
كما يمكننا أن نذكر بما قاله ابن خلدون في موضوع لا جدوى إلهيات وطبيعيات الفلسفة (وميزتها الوحيدة عنده كونها "تشحذ الذهن")، لنقول أن الفلسفة الرسمية الإسلامية استنفذت قواها في كثير من الأسئلة العقيمة. فعكس ما يقوله الجابري، لم يكن "تنصيب العقل الكوني"هو الصعب، بل استنبات البيان اليوناني في بيئة ثقافية مرجعيتها الدينية مختلفة عن المرجعية الدينية اليونانية. ويكفينا مثالا نظرية العقل: فنظرية العقل اليونانية تحكمها كوسمولوجيا تقوم على دور النجوم وتأثيرها، وعندما طرحت هذه المسألة في الثقافة الإسلامية ظهرت بمظهر الإشكالية الدخيلة. ونظرية العقل كما كانت مطروحة لم تكن مسأة ابستيمولوجية محض، بل كانت تباطنها اعتبارات دينية اختفت مع نهاية الفلسفة القروسطية الأوروبية، لتظهر من جديد كسؤال ابستمولوجي متجدد عبر العصور، ألا وهو سؤال العلاقة بين العقل والمعرفة.
أما تنصيب العقل الكوني فهو، في صيغته العلمية، لم يجد اي عائق في طريقه في الثقافة الإسلامية، ويكفي دليلا على ذلك تطور كل العلوم – من علوم اللغة إلى الرياضيات - بدون عائق سياسي أو أيديولوجي يذكر، فلا عالم اضطهد بسبب آرائه العلمية. وهذا العقل الكوني كان بإمكانه التعايش مع الدين لأن مجاليهما مختلفان. ويعود هذا أيضا إلى كون العلم القديم لم يكن يصادم الدين كما هو شان العلم الحديث الذي بإمكانه إعطاء نظرة للكون تستغني عن الدين. وإذا كان هذا هو شأن العلم فإن الأمر مختلف تماما مع العقل الكوني في صيغته النقدية التي يمثلها الذين نعتوا بالزنادقة، فقد كان مصيرهم غير مصير الفلاسفة الذين شملتهم عناية الحكام.
ثانيأ: يقول الجابري: "جاء الفارابي إذن في ظروف تميزت بالتمزق الفكري والسياسي والاجتماعي فجعل قضيته الأساسية إعادة الوحدة إلى الفكر وإلى المجتمع معا: إعادة الوحدة للفكر بالدعوة إلى تجاوز الخطاب "الكلامي" السجالي، الجدلي والسفسطائي، والأخذ بخطاب "العقل الكوني"، الخطاب البرهاني. وإعادة الوحدة إلى المجتمع ببناء العلاقة داخله على نظام جديد يحاكي النظام الذي يسود الكون ويحكم أجزاءه ومراتبه". فإذا كانت هذه هي "قضية [الفارابي] الأساسية" فهي في الواقع قضية كثير من المشاريع الفلسفية قديما (مع أفلاطون الذي طرد الشعراء من جمهوريته لأنهم يدخلون الذاتية في الفكر، وأرسطو الذي اراد توحيد الفكر بالمنطق) أو حديثا. وهو ما يسمى بالإنطوثيولوجيا ontothéologieالتي تنعت الفلسفات التي يتساوق فيها الخطاب الأنطولوجي مع الخطاب الديني (أي تساوق تفسير الكون مع الأخلاق). وهو – على سبيل المثال – مشروع أوغست كونت الذي أراد توحيد الفكر والمجتمع بفضل فلسفته الوضعية التي تتجاوز الخطاب اللاهوتي والميتافيزيقي.
وحتى لو سلمنا مع الجابري أن الفارابي كان يطمح إلى وحدة الفكر والمجتمع، فإن الفشل لا يمكن رده إلى تعارض الأنظمة المعرفية وإلى التمزق السياسي والاجتماعي لأن التعارض من صميم الجدلية الاجتماعية، وهي جدلية لا يمكن إيقافها. ولا من مجتمع إلا ويعاني من تمزق فكري واجتماعي. ويكفينا دليلا تاريخ أوروبا الذي شهد تعارضا للأنظمة المعرفية والسياسية كان محركا للنهضة والتقدم الذي عرفته.
ثالثا: لقد قضى الجابري ب"الفشل السياسي للمأمون" وبالفشل الفلسفي للكندي والفارابي، أو ما سماه الجابري ب "الفشل الأيديولوجي العام"؛ وقد وصل إلى هذه الخلاصة لأنه وضع البيان السني في طرف ووضع مقابله العرفان الذي يجمع بين التشيع والتصوف.
والسؤال المطروح يتعلق بطبيعة العلاقة بين التشيع والتصوف.
فلا شك في أن بين التصوف والتشيع أوجه تشابه بنيوية تتمثل في القول بالظاهر والباطن، والتأويل الباطني أو الرمزي، والإمامة والولاية، وتقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة عند الصوفية وإلى تنزيل وتأويل عند الشيعة، والمبالغة من قبل "غلاة" كلا الطرفين في تقديس الأئمة والأولياء. لكن هذا لا يكفي ليجعل من كل شيعي متصوف ومن كل متصوف شيعي، ولو بالقوة. مع العلم أنه كما يوجد لدى السنة من يرفض التصوف فكذلك يوجد مقابلهم لدى الشيعة. وبما أن درجة "الغلو" عند كلا الطرفين قد تختلف من تيار لآخر ومن شخصية لأخرى فإن المقارنة بين الطرفين تستلزم الحذر من السقوط في التعميمات المتعسفة. وما يمكن قوله هو أن الذاكرة التاريخية هي التي تميز الشيعة قبل كل شيء، واشتراك التشيع في بعض الخصائص مع الصوفية لا يكفي ليجعل منهما حزبا واحدا ولو تحت راية العرفان.
ومما يزيد الأمر غموضا كون الجابري وضع مقولة "العقل المستقيل" التي تضم ما لا حصر له من الشخصيات والتيارات التي لا يجمع بينها إلا اتهامه لها بأنها تأثرت بالعرفان. وعندما نعلم أن الغزالي – أحد ممثلي "العقل المستقيل" عند الجابري إن لم يكن أبرزهم - ألف كتابا يدل عنوانه - "فضائح الباطنية" - على مضمونه، يصير من الضروري الفرز بين مختلف مذاهب الشيعة (سبئية، زيدية، جعفرية، اسماعيلية...) ومختلف مذاهب التصوف حتى نفهم لماذا تمكن بعضها من التعايش مع الأغلبية السنية ولماذا كان الصراع هو الذي هيمن على العلاقة مع بعضها الآخر. وكتاب الغزالي يحدد بشكل ما السقف الذي يفصل بين التيارات التي تتسم ب"الغلو" (وهي: الباطنية والقرامطة والقرمطية والخرمية والخرَّمدينية والاسماعيلية والسبعية والبابكية والمحمرة والتعليمية ) وما ينتمي إلى التصوف السني. وكل ما يمكن ملاحظته هو أن أعلام التصوف في بداية نشأته كانوا من أعلام السنة والجماعة (كما بينا ذلك سابقا) وأن التصوف والطرقية، بصفة عامة، ازدهرا في رحاب الدولة السنية. أي أن "العرفان" و "المعقول الديني" تعايشا تحت سلطة سياسية واحدة ! ويكفي النظر إلى خارطة انتشار الطرق الصوفية في العالم الإسلامي لندرك مدى تهافت أطروحة الجابري.
دور الفرس في الصراع بين البيان والعرفان
يخصص الجابري الفصل الحادي عشر، الذي عنوانه "أزمة الأسس... وتأسيس الأزمة"، للصراع بين "البيان" و"العرفان". وقد كان مناسبة للجابري ليكيل التهم لابن سينا والغزالي بصفتهما ممثلان ل"العرفان" ول "العقل المستقيل". إلا أننا نفضل أن ننتقل إلى "العقل الأخلاقي العربي"، وبالضبط الباب الثالث منه، والذي عنوانه "الموروث الصوفي: أخلاق الفناء.. وفناء الأخلاق"، لأنه يعطينا نظرة مكتملة عن موقف الجابري من التصوف .
يقول الجابري: "قد لا نحتاج إلى إطالة الكلام حول الحقيقة التالية، التي يشهد لها التاريخ والنصوص، حقيقة أن "أخلاق الفناء"، بل وفكرة "الفناء" نفسها، هي أبعد ما تكون من "أخلاق الحياة" كما قررها القرآن بآياته والنبي بسلوكه وحديثه والصحابة بممارستهم المختلفة، التعبدية منها والدنيوية. هذا إلى جانب أن فكرة "الفناء" لا تستقيم قط مع عقيدة التوحيد كما قررها القرآن، والتي تعني بكل بساطة نقيض الشرك، سواء بمعنى الشريك أو بمهنى الاشتراك. فالتوحيد الإسلامي معناه: وحدانية الله وتنزهه من أية مماثلة أو مشابهة مع أي شيء آخر. وبالتالي فهناك مسافة لا نهائية، لا يمكن قطعها بأية طريقة ولا بأي شكل، بين الله ومخلوقاته بما فيها الملائكة الذين هم من طبيعة نورانية، لا ينقطعون لحظة عن عبادته. أما الإنسان، وهو من طين، فهو منحدر روحيا من آدم الجنة الذي كان واحدا من الملائكة، مخلوقا من مخلوقات الله، تفصله عنه اللانهاية التي تفصل جميع المخلوقات عنه. وإذن فالمعنى الذي يريد المتصوفة إعطاءه ل "التوحيد" أو "الاتحاد" أو "الوحدة" – وتتضمن جميعا معنى "الفناء" – لا أصل له عند عرب ما قبل الإسلام الذي جعلوا المسافة بينهم وبين الله غير قابلة لأي اتصال معه، حتى على مستوى الدعاء والعبادة، إلا بتوسط الأصنام. إنه الشرك نقيض التوحيد."
"وإذن، فإذا كانت فكرة "الفناء"، لا أصل لها، لا في مرجعية الموروث الإسلامي "الخالص" ولا في مرجعية الموروث العربي "الخالص"، فإنها هي و "أخلاق الفناء"، لا بد أن تكون من الأمور الوافدة، إما من الموروث الفارسي وإما من الموروث اليوناني."
"أما ما يدعيه بعض المتصوفة المتكلمين من "أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة (...) نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما عملوه من أحكامها (...) وأن من تبحر في علم الشريعة أدرك بذوقه أن علم التصوف تفرع عن علم الشريعة ، أما مثل هذا الادعاء الذي يمثل قمة عملية "التأصيل" السني البعدي للتصوف، إذا جاز القول به في المراحل المتأخرة من تاريخ التصوف في الإسلام، فهو أبعد ما يكون عن الحقيقة التاريخية فيما يخص أصول التصوف، النظري منه والعملي."
هذه الفقرات الثلاث التي استشهدنا بها تبين لنا أن الجابري يرى في التصوف جسما غريبا عن الموروث العربي/الإسلامي "الخالص"، ولهذا خصص باقي الفصل للأسباب التي جعلته ينفذ إلى الثقافة العربية الإسلامية ولمضمونه الذي يتنافى مع التوحيد الإسلامي.
وفيما يخص أسباب "الوفود" فإن الجابري يلجأ إلى قراءته المفضلة، ألا وهي القراءة الأيديولوجية التي تلخصها الفقرة التالية:
"يمكن للمرء إذن أن يفترض أنه كما تبنت الدولة الأموية سلاح القيم الكسروية وأخلاق الطاعة لتحارب به الحركات المعارضة الثائرة عليها، بعد أن ألبسته لباسا إسلاميا، عمدت بعض هذه الحركات من جهتها إلى تبني نفس السلاح الذي قاومت به المعارضة في إيران النظام الكسروي، وعملت هي الأخرى على إلباس هذا السلاح لباسا إسلاميا، فجعلت من "أخلاق الفناء" أخلاقا "إسلامية" بالتأويل، بهدف توظيفها ضد الحكام الأمويين إن لم يكن ضد "دولة العرب" ككل !" (ع.أ.ع، ص 431-432)
هذه القراءة الأيديولوجية تربط، من جهة، بين التشيع والتصوف بصفتهما ممثلان للعرفان؛ وتعتبرهما، من جهة أخرى، "من الأسلحة التي حارب بها الفرس العرب للقضاء عليهم" . (ع. أ. ع، ص 432). وهي في الواقع قراءة سياسية، تطرح مشكلة على مستوى الصحة التاريخية. وقد عدنا إلى المراحل الأولى للإسلام نتتبع فيها نشأة المذاهب وعلاقتها بالأحداث السياسية، و المعطيات المتوفرة لدينا وإن كانت لا تعطينا أجوبة قاطعة إلا أنها لا تؤكد أطروحة الجابري :
1) يوجد غموض فيما يتعلق بنشأة المذهب الشيعي، وما يزيد في هذا الغموض الجمع تحت تسمية واحدة بين فرق شديدة الاختلاف، كالزيدية والسبئية. كما أن هناك فارقا نوعيا بين الشيعة السياسية (وهم أنصار علي) والشيعة المذهبية. والمصادر التاريخية لا تشهد على أن الخلاف على السلطة بين علي وأبنائه وخصومهم السياسيين كان يكتسي الصبغة المذهبية التي اسقطت عليه فيما بعد. ولو كان الأمر خلافا بين مذاهب متنافرة – كما صار الحال فيما بعد – لما قبل علي بالتحكيم إثر معركة صفين (والتحكيم يعني من حيث المبدأ أن الطرفان ملزمان بالخضوع لنتيجته والاقرار بشرعية حكم الخصم إذا اقتضى الأمر ذلك)، ولما تنازل الحَسن بن علي عن الخلافة لمعاوية.
2) لا يوجد اتفاق بين الشيعة حول خلافة الأئمة، وكلما مات إمام من أئمتهم إلا وكانت مناسبة للنزاع حول من يخلفه. فالشيعة لم يشكلوا حزبا موحدا له موقف محدد من الأحداث.
3) لم تظهر الصوفية كتيار قائم بذاته إلا في القرن الثاني الهجري، أي أنها لم تتزامن مع الدولة الأموية (41/132 هـ - 662/750م) حتى توظف ضدها.
4) جل أعلام التصوف في القرنين الثاني والثالث سُنة، وإن كانوا في غالبيتهم فرس (كما ذكرنا ذلك سابقا). ولا تذكر المصادر أن الصوفية شكلوا فريقا سياسيا يطمح إلى السلطة. ولا تذكر المصادر أن الصوفية وظفت في صراع سياسي ما.
5) حارب علي بن أبي طالب السبئية رغم أنها تجرأت له حتى أنها جعلت منه نبيا، بل إلها.
6) لاتوجد علاقة حصرية بين التشيع والفرس، ولا بين شعب من الشعوب التي شملتها الدولة الإسلامية ومذهب معين، فما من مذهب إلا وضم أعلاما وأنصارا من كل الشعوب. (ويكفي للدليل على ذلك ما حدث في الغرب الإسلامي)
7) جل الثورات التي تنسب للشيعة هي في الواقع ثورات علوية، وجلها كان زيديا، والزيدية أقرب إلى المذاهب السنية منها إلى الجعفرية الإثنى عشرية أو الإسماعيلية. وأول دولة استطاع العلويون تأسيسها هي دولة الأدارسة (788 م – 974 م) في المغرب. (البغدادي ينسب ادريس إلى فرقة المحمدية: الفرق... ص 58)
8) يقول هنري لاووست Henri laoust، نقلا عن البغدادي، أن المختار الثقفي، الذي ثار انتقاما لمقتل الحسين، تأثر بالسبئية .ويقول المصدر نفسه أنه اعتمد في ثورته أساسا على العنصر العربي وبعده العنصر الفارسي.
9) محمد بن الحنفية (ابن علي بن أبي طالب من غير فاطمة) ساند ثورة المختار لكنه تبرأ من نزعته السبئية. (التي عرفت أيضا باسم الكيسانية)
10) الشيعة الذين يطعنون في خلافة أبي بكر وعمر لم يناصروا زيد بن علي لأنه كان يخالفهم الرأي في في هذه المسألة.
11) السنة يعدون جل أئمة الشيعة (الإثنى عشرية) من أئمة السنة وأعلامها ويعتبرونهم أهلا للخلافة !
12) السيرة المتداولة لجعفر الصادق (80 هـ/699 م – 148هـ/765 م، وهو الإمام السادس الذي تنسب إليه الشيعة الإمامية الجعفرية) تشهد بأنه نأى بنفسه عن الصراعات السياسية، وكان شخصية متفتحة إذ تتلمذ عليه كثير من أعلام السنة كأبي حنيفة (80 هـ/699 م – 150 هـ/767 م) وقيل مالك بن أنس (93 هـ/711 م – 179 هـ/795 م). وهو من المصادر الموثوقة في رواية الحديث عند السنة، مثل أبيه محمد الباقر (الإمام الخامس).
13) هذا التجايل والاتصال بين أحد أئمة الشيعة ومؤسسي مذهبين سنيين يعني أن الصراع المذهبي بين السنة والشيعة لم يكن بالحدة التي صار عليها فيما بعد (عدا الموقف من "غلاة" السبئية والكيسانية).
14) لا تورد المصادر وجود خلافات جوهرية بين جعفر الصادق وكل من أبي حنيفة ومالك بن أنس. ولربما أن الخلافات بينهم كانت تدخل في إطار الاختلاف في الرأي فحسب، خاصة وأن أبي حنيفة ومالك بن أنس كانا من أهل الرأي.
15) ما كان يؤاخذ عليه مالك بن أنس الشيعة هو سبهم للصحابة وعائشة. ولا تذكر المصادر أنه كان يؤاخذهم على عصمة الإمام؛ فهل هذا يعني أن هذا المبدأ لم يكن مطروحا في عصره؟ وما كان يؤجج الصراع بين السنة والشيعة هو سب الصحابة وليس عصمة الإمام.
16) أحمد بن حنبل كان يقر بأن علي بن ابي طالب كان أحق بالخلافة من معاوية. وروي عنه: "... إنّ الخلافـة لم تزيّن عليّاً بـل عـلي زيّنها".
17) الإمام الباقر كان متزوجا من أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهي أم جعفر الصادق. ولهذا من المستبعد أن يسب الأب أحد أجداد زوجته ويسب الابن أحد أجداده. وكان جعفر الصادق يروي عن أبيه: " من لا يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة".
18) تذكر بعض المصادر أن الإمام علي الرضا ( الإمام الثامن ) أنكر مبدأ عصمة الإمام: "ـ ن : تميم القرشي عن أبيه عن أحمد بن علي الانصاري عن الهروي قال : قلت للرضا : يا ابن رسول الله إن في الكوفة قوما يزعمون أن النبي لم يقع عليه السهو في صلاته ، فقال : كذبوا لعنهم الله إن الذي لا يسهو هو الله لا إله إلا هو." .
19) ساند أبو حنيفة ثورة زيد بن علي ضد الأمويين، وثورة محمد النفس الزكية ضد العباسيين. فكيف نفهم هذا الموقف من قبل أحد أعلام السنة، لو أن الصراع كان بين "سنة" و"شيعة" بالمعنى المذهبي الذي أسقط على الأحداث فيما بعد؟
20) الإمام مالك ساند – وإن بطريقة غير مباشرة – ثورة محمد النفس الزكية: "وورد أن مالكا استفتي في الخروج مع محمد النفس الزكية وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال : إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته". (تاريخ الطبرى 7 / 560 )
21) الملاحظتان السابقتان تحثان على الحذر من القراءة التراجعية للتاريخ المشوبة بالاسقاطات المذهبية والأيديولوجية: فمواقف ابي حنيفة ومالك – المؤيدة لثورات "شيعية" !- تناقض كثيرا من الأفكار المسبقة.
22) أخطر المعارضات التي واجهتها الدولة الأموية - والتي لم تعمر إلا حوالي 90 سنة (من 41هـ/662 م إلى 132 هـ/750 م) – كانت معارضات عربية، ومنها معارضة عبد الله بن الزبير(1هـ/623 م – 73هـ/692 م)، وقد دامت خلافته التي كان لها كثير من الأنصار حوالي عشر سنوات (من 64 هـ إلى 73هـ). وثورات الخوارج، التي حاربها علي بن أبي طالب أيضا. وثورة زيد بن علي (122 هـ)... وكانت نهاية الدولة الأموية على يد معارضة عربية، وهي المعارضة العباسية أي "على يد القائلين بأحقية آل البيت بِالخلافة، وبعد فشل ثورات القائلين بأحقية سلالة علي بن أبي طالب بالخلافة" ("الدولة العباسية" ويكيبديا).
23) أطروحة الجابري توحي بأن الفرس هم الذين خلقوا المذهب الشيعي ليستعملوه ضد الدولة الأموية. إلا أن المعطيات التاريخية الموثوق بها تشهد بأن بلاد فارس شهدت مثلها مثل باقي أقاليم الدولة الأموية ثورات ذات مرجعية شيعية (سبئية أو زيدية) أو خارجية، لكن هذا لا يعني أن الفرس انفردوا بالثورة على الدولة الأموية تحت لواء المذهب الشيعي.
24) أبو مسلم الخراساني - وهو صاحب الدور الحاسم في سقوط الدولة الأموية ونشأة الدولة العباسية – نجح في مسعاه لإثارة خراسان ضد الأمويين بفضل المساندة التي وجدها من قبل كل المذاهب (شيعة أو خوارج) ومن قبل الديانات المحلية (مزدكية وغيرها)، ومن قبل عرب خراسان أيضا، ولم يكن تجنيده لخراسان على أساس شيعي حصرا. وصحيح أن الطبري يتحدث في تاريخه عن "الشيعة" لكنه لا يعطينا توضيحا فيما يتعلق بالمحتوى المذهبي لهؤلاء "الشيعة" الذين ساندوا أبا مسلم .
25) الدولة العباسية نشأت على أساس أيديولوجية سياسية شيعية أساسا (وليس بتأثير عرضي من التشيع الفارسي)، ويكفينا دليلا على ذلك خطبة داود بن علي عند تولية ابن أخيه أبي العباس السفاح الخلافة: "وتكلم داود بن علي وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجاتن فحمد الله وأثنى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله على الله عليه وسلم خليفة إلا علي بن ابي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي". (الطبري... م 7، سنة 132، ص 431). ومن هذه الخطبة يتبين أن العباسيين لا يعترفون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا بخلافة الأمويين، وهذا محور الخلاف السياسي الأساس بين السنة والشيعة.
26) خراسان ليست كل العالم الفارسي، وهي منطقة شهدت هجرة كثير من القبائل العربية التي ساهمت مع الفرس في الثورة على الأمويين.
27) رغم ظهور محاولات لإعادة إحياء الدولة الفارسية على أساس الديانات الزرادشتية والمزدكية، إلا أن الفرس عندما استعادوا استقلالهم السياسي (ولو نسبيا تحت السلطة الصورية للدولة العباسية) لم يرتدوا عن الإسلام، وكانت أولى دولهم الوطنية في العصر الإسلامي (الدولة الطاهرية والصفارية والسامانية) سنية. وقد عملت هذه الدول على نشر الإسلام ومحاربة المعارضات السياسية التي قامت على أساس الديانات الفارسية القديمة أو المذاهب الشيعية (وجلها علوية). ومن أخطر الثورات التي واجهتها الدولة الطاهرية تلك التي تزعمها العلويون الزيدية في طبرستان. كما حارب السامانيون الحركة الاسماعيلية.
28) الدولة البويهية ( 932 م – 1062م ) هي أول دولة شيعية من أصول فارسية حكمت الرقعة الجغرافية التي تشمل غرب إيران والعراق. لكنها حكمت، كسابقاتها، تحت غطاء السلطة الرمزية للدولة العباسية السنية. والتاريخ يبين أنه مرت حوالي ثلاثة قرون بين انهزام الفرس في القادسية سنة 636 م ونشأة دولة فارسية شيعية سنة 932 م.
29) بموازاة مع الدولة البويهية نشأت الدولة الحمدانية (930م – 1003م)، وكانت دولة شيعية عربية.
30) في النصف الثاني للقرن العاشر الميلادي كاد يكون العالم الإسلامي بكامله تحت حكم دول شيعية (بمختلف مذاهبها)، بل يمكن القول أن القرن العاشر كان العصر الذهبي للحركة الشيعية بمختلف تياراتها: الدولة البويهية ( 932 م – 1062م ) (غرب إيران والعراق)، الدولة الحمدانية (930م – 1003م) (الشام)، الدولة القرمطية (899م-976م) (شمال شرق الجزيرة العربية)، الدولة الفاطمية (909م-1171م) (المغرب الإسلامي، مصر، غرب الشام، غرب الجزيرة العربية)، الدولة الادريسية (788م-974م) (جزء من المغرب الأقصى ومنطقة تلمسان في الجزائر)... في حين أن غالبية بلاد فارس بقيت سنية ! فإذا كان التشيع "مؤامرة فارسية" فكيف نشرح مشاركة الشعوب الأخرى في هذه "المؤامرة" وبقاء جل فارس خارجها؟
31) عرفت منطقة سوس ودرعة في المغرب الأقصى دولة اسماعيلية دامت حوالي قرنين، وهي الدولة البجلية التي قضى عليها المرابطون. قال بشأنها ابن أبي زرع الفاسي في كتابه "الأنيس المطرب..." :"وكان برودانة قوم من الروافض يقال لهم البجلية منسوبين إلى عبد الله البجلي الرافضي، كان قد قدم إلى السوس حين قدم عبيد الله الشيعي إلى إفريقية، فأشاع هناك مذهبه، فورثه بعده جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن لا يرون الحق إلا ما في أيديهم، فقاتلهم الأمير أبو بكر بن عمر وعبد الله بن ياسين حتى فتح مدينتهم عنوة، وقتل بها من الروافض خلق كثير، فرجع من بقي منهم إلى السنة وأخذ أموال من قتل منهم فجعلها فيئا للمرابطين، وأظهر الله المرابطين وأعلى كلمتهم، ففتحوا معاقل بلاد السوس، وأطاعتهم جميع قبائلها فأخرج عبد الله بن ياسين عماله على نواجيها، وأمرهم بإقامة العدل وإظهار السنة فيها وألزمهم إعطاء الزكاة والعشر".
32) يقطع الجابري بأن كل ما فعله الفرس فيه تآمر على الدولة الإسلامية وتحريف ل"المعقول الديني" لكنه يتجاهل أن "المآمرة" نفسها و"التحريف" نفسه عرفه المغرب تحت حكم الدولة البرغواطية في منطقة تامسنا (بين سلا وجنوب آسفي على الساحل الأطلسي)، وحكمها كان ثاني أطول حكم عرفته منطقة المغرب الأقصى (من 744م إلى 1058م) بعد الدولة العلوية الحالية. وكانت ديانتها مزيجا من المذاهب الإسلامية (سنة، شيعة، خوارج) واليهودية والوثنية المحلية، وكان لها "قرآن أمازيغي" من ثمانين سورة...
33) عندما فرضت الدولة الصفوية ( 1501 م- 1736 م) المذهب الشيعي الإمامي، كانت غالبية سكان إيران سنة، ولم يكن ذلك ضد العرب بل لمواجهة الدولة العثمانية السنية. وكان هذا الحدث مناسبة لانتقال كثير من الشخصيات الشيعية العربية الوازنة إلى إيران.
34) ما هو مؤكد هو أن الموالي عانوا من عنصرية الدولة الأموية، ومنهم الفرس. إلا أن هؤلاء - ورغم انهزام دولتهم في معركة القادسية - كان لهم وزن ديموغرافي كبير وحضور نوعي مؤثر في المجتمع، ومن المبالغة القول بأنهم كانوا شعبا مهزوما: أولا، لأنهم سرعان ما استرجعوا نفوذهم السياسي داخل الدولة الإسلامية؛ وثانيا – وخاصة - لو أنه قمنا بترتيب الشعوب التي كانت تعيش داخل حدود السلطة الإسلامية حسب مساهمتها في نشأة الحضارة والثقافة العربية الإسلامية، لاحتل الفرس المرتبة الأولى بدون منازع.
35) الدولة العباسية في بدايتها تعاملت بانتهازية مع الشيعة والفرس ووظفتهما عند الحاجة، وانقلبت عليهما عندما شعرت بأن نفوذهما زاد عن الحد.
36) كل أطروحات الجابري تجعل من الفرس "أصل الداء"، أتعلق الأمر بالسياسة ("أخلاق الطاعة" و "الملك العضوض") أو بالأخلاق ("أخلاق الفناء") أو بالتمذهب ( العرفان ممثل "العقل المستقيل"). والسؤال هو كيف يمكن أن تقوم حضارة كبيرة – مثل الحضارة الإسلامية – في حين أن أحد العناصر الأساسية المؤسسة لها (أي الفرس) كان كل همه هو تقويضها؟ !
والخلاصة من هذه الملاحظات – التي أوردناها بدون تبويب لأن كل واحدة منها قد تدخل في أبواب متعددة - هي أن التاريخ السياسي والمذهبي للقرون الأولى للإسلام من التعقيد والتشابك بحيث لا يمكن اختزاله في الإسقاطات الأيديولوجية للعصور الموالية، ومن أسوأها إسقاطات الجابري. والغالب أن المواقف والمفاهيم لا تكون في مراحل النشوء بالنقاوة والوضوح الذي يسقط عليها فيما بعد. ولهذا لا يمكن الجزم بعلاقة حصرية بين الفرس والتشيع، خاصة وأنهم – بفضل وزنهم الديموغرافي والثقافي – كانوا موجودين في كل ما عرفته الدولة الإسلامية من حركات فكرية أو سياسية.
ليت الجابري يعرف تاريخ بلده
وفي ختام هذه الفقرة لا يسعنا إلا أن نقول: ليت الجابري يعرف تاريخ بلده. فلو أنه تأمل في تاريخ بلده المغرب، لما كال الاتهامات المجانية للفرس ولما أخطأ في توصيف ظاهرة التصوف. فإذا كان الفرس اختلقوا التشيع والتصوف كوسيلة للقضاء على الدولة العربية فكيف نفسر:
أولا: الدول الشيعية في المغرب.
فلولا وجود تربة خصبة لما استجاب سكان المنطقة لدعاة من خارجها. والتشيع في المغرب لم ينته بانقراض الدول التي انضوت تحت لوائه (الادريسية، الفاطمية، البغلية) إذ أعاد ابن تومرت توظيف مفاهيمه لتاسيس دولة الموحدين (دولة "الثورة الظاهرية" عند الجابري). وقد ورد في مقدمة عمار الطالبي لكتاب "أعز ما يطلب"، أن الذهبي قال أن ابن تومرت "يبطن شيئا من التشيع" ، وقال عنه الشاطبي "إنه عد نفسه المهدي المنتظر، وأنه معصوم..." (أعز... مقدمة ص 18). ولا يشار في الكتاب إلى ابن تومرت إلا باسم "الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، رضي الله عنه"! ونجد في كتاب علي الإدريسي "الإمامة عند ابن تومرت، دراسة مقارنة مع الإمامية الإثنى عشرية" ، مقابلة بين التوظيف الإمامي والتوظيف التومرتي لأهم المفاهيم الشيعية:
- الإمامة: يتفق الطرفان على أنها "ركن من أركان الدين"، أي "أنها من الأصول وليست من الفروع".(الإمامة... ص 138)
- العصمة: يقول الإدريسي: "ابن تومرت اقتبس صورة العصمة من الإمامية واقتبس محتواها من أهل السنة [شروط الإمامة]. وتجنب الخوض في بحث ماهية العصمة، "فالعصمة، إذن، ضرورة سياسية لا غير، وليس لها طابع مذهبي". (الإمامة... ص 175)
- نسب الإمام: "لم يشر [ابن تومرت] إلى شرط النسب لكنه أعلى انتسابه إلى آل البيت". والإمامة عند ابن تومرت "ينقصها التواصل الزمني بين الإئمة، لأنه لم يعتقد بوجود الإمام المستور"[...]"وعنده أن الإمامة انقطعت بعد الخلفاء الراشدين. وبعدهم يقول ابن تومرت: "ثم بدت بعد ذلك أفراق وأهواء، ونزاع واختلاف، وقلوب منكرة، وشح مطاع، وهوى متبع، ودنيا مؤثرة، وإعجاب بكل ذي رأي برأيه" (أعز ما يطلب ص 232). ويضيف الإدريسي أن "ابن تومرت أشعري من حيث النظرة التاريخية إلى نشأة الإمامة، فالإمام بعد النبي هو أبو بكر، وهو يستعمل الأدلة الأشعرية نفسها في إثبات إمامته وذلك حين يقول: "اختاره لهم الرسول للصلاة، ورضيه لهم إماما في دينهم...". أما من حيث الوسائل فشيعي، لأنه يصور استحالة الكون والحياة والدين في غياب الإمام. أما من حيث الأسلوب فتومرتي متميز، يدعو إلى نصرة نفسه، كإمام مهدي يخلص الإيمان بالله من التجسيم، ويحارب الابتداع في الدين، ويخلص الناس من الظلم." (الإمامة... ص 144)
- المهدوية: يقول الإدريسي: "وإذا كانت مهمة المهدي عند الإمامية الاثني عشرية مهمة عقدية ومذهبية، وعند أهل السنة مهمة نفسية تربوية، فإن مهمتها عند ابن تومرت مهمة سياسية؛ فالمهدي يمثل الحاكم الكامل الذي ينبغي على الأمة أن تؤمن به لكي يقودها إلى العزة، وهو وحده القادر على ذلك، لأنه "معصوم فيما دعا إليه من الحق، لا يجوز عليه الخطأ فيه، وأنه لا يكابر، ولا يضاد، ولا يدافع، ولا يعاند، ولا يخالف، ولا ينازع وأنه فرد في زمانه، صادق في قوله ".(الإمامة...ص 184)
نستنتج مما سبق أن ابن تومرت وظف المفاهيم الشيعية لأغراض مكيافيلية، لكن ما يهمنا – من وجهة نظر تاريخ الفكر – هو أن هذه المفاهيم كان لها صدى قوي في عقول وضمائر الناس – يتجاوز الدائرة الشيعية - ما جعل منها روافع فعالة في العمل السياسي.
والمعروف أن الدولة الموحدية اضطهدت الصوفية، ولكنها ردت الاعتبار للغزالي !
والسؤال المطروح هو هل أن هذا التوظيف للتشيع مجرد حالة عرضية أم أنه يستجيب لضرورة بنيوية في الثقافة المغربية؟ فالتشيع يمكن ان يحضر بشكله المذهبي العالم كفرقة قائمة بذاتها أو أيديولوجية دولة؛ كما يمكنه أن يحضر بشكل جزئي ومموه، أتعلق الأمر بميدان السياسة مع دور النسب الشريف أو على مستوى المعتقدات الشعبية. وهذا ما حاول أن يُنظِّره ادريس هني في مقال له تحت عنوان: التشيع كمكون سوسيوثقافي مغربي ، إذ يقول: "أن التسنن نفسه في المغرب حينما يعبر عن نفسه سوسيوثقافيا، فلا يسعه إلاّ أن يعبر عنها برموز التشيع ومظاهره وطقوسه . إذ يصل الأمر بهذا التعبير حدّ المفارقة أحيانا بما لا نظير له في ما مضى وفيما تلا من تجارب الدعوات والدول في التاريخ الإسلامي مشرقا ومغربا. وهذا سيتضح جليا مع تجربة ابن تومرت صاحب الدعوة الموحدية. وحدها دعوته السنية من بين كل الدعوات التي شاهدنا في تاريخنا كانت كلما تشددت في تسننها عبرت عن نفسها شيعيا من خلال مفاهيم لا تستقيم إلا بالاستناد إلى الكلام الشيعي ونظيمته العقائدية. إن الدعوة الموحدية هي نموذج فريد يعكس ما ذهبنا إليه: أن قدر التسنن المغربي أن يعبر عن نفسه شيعيا. وهذا النمط يستمر في عصرنا ويتجلّى في الخصوصية الدستورانية المغربية . إذ لا أحد ينفي استنادها إلى الإسلام السني ، غير أنها تعبر عن نفسها شيعيا من الناحية الشكلانية. وهنا لا بد من القول أن استعارة رموز التشيع وشكلانيته في التعبيرات الوظيفية لا يعني أن المحتوى هو حتما وفيّ للتصور الشيعي . إن التشيع هنا حاضر بوصفه احتياط يتم اللجوء إليه متى لم يعد في مكنة الإسلام السني أن يفي بالغرض. فداخل الإسلام السني يصبح للتعبيرية الشيعية خصوصية وظيفية محض." هذا على المستوى السياسي.
أما على مستوى التدين الشعبي فإنه يقول: "كان المغاربة يضعون على الأبواب قطعة من حديد منحوتة على شكل يد ، يسمونها يد فاطمة الزهراء. وهي في اعتقادهم تدفع عن البيت وعن ساكنيه كل صنوف الأذى و خطر العين. وكذلك مثلها الخميسة التي تتخللها قلادة توضع حول عنق الصبيّ للغرض نفسه. والخميسة هنا ليس ما ترمز إليه اليد في مجمل تاريخ المغرب القديم. فقد وجدت لليد دلالات خاصة في حضارة الإنسان المغربي القديم ، أي الحضارة الليبية القديمة ـ بالتعبير الاسطرغرافي الإغريقي ـ كما خلدتها الرسوم والآثار على صفحات الصخور ولوحات القبور. وهذا لا يعنينا هنا . لأن الطقوس في نظري لا تبدع وإنما يعاد تركيبها شأن الهوية المركبة. فقد يفقد طقس ما دلالاته وجذوره المرجعية ومحتواه العقائدي ، لكنه يبقي على أشكالها ويمنحها من ثقافته المستحدثة روحا جديدا وتأويلا مختلفا. فكما عند لا فوازييه في قوانين الفيزياء ، هنا أيضا في مجال الثقافة لا شيء يكتسب ولا شيء يخسر ولكن الكل يتحول. يبدو ثمة الكثير من الفوضى يوحي بأن الثقافة تخبط خبط عشواء. غير أن التأويل يفك كل هذه الرموز ليقبض على منطقها الخفي... هنا فقط تجد عنوان الحزن في ما يبدو أهازيج وأفراح.. والعكس يصحّ. وعموما لقد سماها المغاربة يد فاطمة ، مما منحها معنى إسلاميا، وليس مجرد معنى أحفوري منبعث من رماد تاريخ غير مكتوب. كما منحوها معنى شيعيا ، لأن فاطمة في التراث السني الأرتذكسي تكاد تكون ـ على مكانتها ـ مهملة ، إذ لا يروى عنها إلا الناذر في المدونات الأخبارية المعتبرة، ولا يقام لها طقس. هنا نجد أم المؤمنين عائشة في التراث السني تغطي على السيدة فاطمة. بينما لفاطمة حظور في التراث الشيعي يغطي على عائشة . وهو كذلك في الاسلام الشعبي المغربي ، فلفاطمة هنا حضور أشد . ولا شك أن ترميز فاطمة لم يكن في يوم من الأيام إلا ترميزا شيعيا . "
"وكذلك وجد المغاربة أفضل ما يطلق على التوأمين إسمي: الحسن والحسين. وأفضل الأسماء المباركة التي تسمى بها المولودة: فاطمة الزهراء. والمغاربة لا سيما الأمازيغ منهم يكاد يعدم عندهم التسمية إلا بأسماء أهل البيت من محمد وعلي وفاطمة الزهراء والبتول والحسن والحسين والمهدي وزينب وسكينة وزهرا ... ومن تقاليدهم أنهم يسّيدون إسم محمد وعلي وفاطمة ، وقلّ ما يفعلون في غيرها. وأحيانا جمعوا بين إسم محمد وعلي."
"وهي أسماء مرفوضة عند خصوم الشيعة وتعتبر بدعية وشركية ، مثل "عبد النبي". وتكثر أسماء أهل البيت وتتكرر في البيت الواحد ولا يصار إلى غيرها من الأسماء الإسلامية الرائجة ، وهي من العوائد المتعارفة عند بعض القبائل والمناطق. ولا نستغرب أن يسمي المغاربة اليد المنحوتة من حديد أو فضة ـ الخميسة ـ "يد فاطمة الزهراء" ، فإنهم استعملوا هذا الإسم في ظواهر طبيعية أخرى ، كأن يسموا البرد ـ التبروري ـ "دموع للاّ فاطم الزهرا" . لقد كانت الروايات المروية عن أهل البيت تكره أن يسمى القوس الذي يظهر في الأفق ويعكس ألوان الطيف في فصل الشتاء: قوس قزح ، باعتبار أن إسم قزح هو إسم الشيطان ، والتأكيد على أن إسمه المناسب هو قوس الرحمن ، كما ذكروا ومنهم الطبرسي في الاحتجاج ، وكما ذكر الفيروز أبادي في القاموس المحيط ، حينما قال :" العامَّةُ تقولُ قَوْسُ قُزَحَ، وقد نُهِيَ أن يقال" ؛ فإن المغاربة سمّوه: "حزام للاّفاطم الزهراء". وهما قرينتان على أن إطلاق يد فاطمة يقصد به هذا المغزى حتى لو كان لهذه الظواهر آثار في قديم الحضارات.. لأن المعول عليه هو رمزيتها الوظيفية في الثقافة اللاحقة لا في الآثار الغابرة. فتأمل! "
ويذهب ادريس هني إلى القول: "أن المغرب هو بلد شيعي ، أي نعم . لكن بأي معنى هو كذلك؟ إنه في تقديري: سنيّ في النظر شيعي في العمل.. سني في الترسيمة المذهبية ، شيعي في التعبير عنها.. سني في الصورة، شيعي في الجوهر.. سنيّ في المذهب، شيعي في الثقافة.. سنيّ في الجغرافيا ، شيعي في التاريخ.. سنّي في الأحكام ، شيعي في الامتثال.. سنّي في الوعي ، شيعي في اللاوعي.. سنّي المدعى ، شيعي المتخيّل ... هناك ما لم يسلم للإسلام السني في عموم المغارب من تلك الطقوس والسلوكات الثقافية التي لا تتطلب من الباحث الموضوعي كثير التفات. فدائما هناك شيء ما ظل يتعايش إلى جانب الإسلام السني ، متحايلا ضد سطوته الارتذكسية . أي ما دام هناك الكثير مما سلّم به الإسلام السني أو سكت عنه أو امتنع عن التفكير فيه وإن لم يقبله ، فعلينا أن لا نتحدث عن الهوية الخالصة الطهرانية. تلك هي ميزة الهوية المغربية الواضحة ـ وإن كانت حقا سمة كافة الثقافات ـ وذاك قدرنها الاجتماعي . إذ حتى لمّا يريد أن يدافع عن سنيته ويحارب الشيعة يستند إلى شيعيته، فتراه في مواقع الحجاج السني ـ الشيعي يزايد على الشيعة بشيعيته. باختصار: إنّه شيعي رغما عنه !"
"وحينما يحاول المغرب أن يواجه التشيع ، فإنه لن يجد مستنده في الإسلام الظاهري، بل سيضطر إلى استنهاض الإسلام المغربي الأصيل: إسلام طرقي صوفي تحتل فيه ثقافة الأضرحة والطقوس مكانة خاصة؛ طقوس في مواجهة طقوس.. شكل من التشيع مقابل آخر... وقبل قرون، كان بنو مرين على ذكاء كبير في محاربة آثار الدعوة الموحدية الظاهرية/الباطنية ، وحتى لا يكرروا خطأ الدعوة المرابطية بالدعوة إلى مالكية سلفية تحرق إحياء علوم الدين [كتاب الغزالي] ، عملوا على الدعوة إلى مالكية متصوفة أشعرية رقيقة ، فأحيوا الطقوس."
الكاتب شيعي مغربي، وهو بلا شك ينافح عن المذهب الشيعي وهذا شأنه، إلا أن مقاله الكثيف والغني يجب أن يحظى بالأهمية التي يستحقها لأنه يجدد النظرة لتاريخ المغرب العقدي والسياسي.
ثانيا: دور التصوف في تاريخ المغرب.
من اليسير على المطلع على الفكر المغربي المعاصر أن يفهم لماذا يرفض الجابري التصوف . فالثقافة السحرية التي كانت مهيمنة على المجتمع كانت محل رفضين: رفض من قبل السلفية الإصلاحية لأنها بدع منافية للدين، ورفض من قبل النخبة العَلمانية لأنها ممثلة للفكر الخرافي (الذي شمل الدين نفسه عند البعض خاصة وأن الماركسية كانت مهيمنة لدى المثقفين الحداثيين). وقد كانت هذه الذهنية السحرية تعد من الأسباب الداخلية الأساسية التي أدت إلى الانحطاط. وقد كانت الحياة اليومية للمغربي (وما زالت عند البعض) مجال تعايش للإنس والجن، ولا توجد منطقة في المغرب خالية من ضريح ولي يتبرك به الناس؛ و "المجذوب" كانت شخصية مألوفة في المجتمع المغربي. والمشكلة مع شخصية "الولي" و "المجذوب" هي أننا لا يمكن أن نفصل فيها بين ما ينتمي إلى الزهد والصوفية الحقة وما هو مجرد خرافة بل احتيال على الناس واستغلال لغفلتهم. ... ومن أفضل مجالات البحث في هذه الظواهر مجالات الأنتروبولوجيا أو التحليل النفسي لأنها تستند إلى البحث الميداني ، أما تاريخ الفكر فإنه يتوقف حيث تتوقف الوثائق المكتوبة.
إلا أن ما يتميز به الجابري هو كونه لا يميز بين هذه الظواهر - التي يمكن نعتها حقا بأنها ممثلة للعقل المستقيل ولو أن لديها مفعول البلاسبو placebo لدى أشخاص لا حيلة لهم أمام الفقر والمرض ومشاق الحياة - والعرفان العالم، معتقدا أن محاربة العرفان العالم كفيل بالقضاء على الثقافة السحرية. ولو أنه قرأ تاريخ الفكر العربي الإسلامي متجردا من اسقاطاته الأيديولوجية لرأى أن التصوف ظهر في القرون الأولى للإسلام كمجال من مجالات الثقافة الناشئة. وأن ممثلي العرفان العالم جايلوا كبار المفكرين الذين انجبتهم الحضارة العربية الإسلامية. وأن العرفان ليس سببا في الانحطاط، لأن الانحطاط طال العرفان كما طال مجالات الابداع الثقافي الأخرى. والمقابلة المشهورة بين ابن رشد وابن عربي جمعت بين أكبر ممثلي الفلسفة الأرسطية العربية الإسلامية وأكبر ممثلي العرفان الإسلامي !
وشأن العرفان هو شأن الميتافيزيقا، فهما من جهة ممثلان للثقافة العالمة الراقية، إلا أنه من الممكن الطعن فيهما لأن ما يشيدانه من صروح فكرية يمكن أن تنهار أمام الفكر النقدي. وقراءة كتب ابن عربي تترك لدى القارئ الانطباع نفسه الذي قد تتركه قراءة بعض المؤلفات الفلسفية (ككتاب "العقل في التاريخ" لهيجل)، وكمثال على ذلك نورد الفقرة الأولى من الفصل الأول لكتاب هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية: "فيما يلي فقرة مأخوذة من كتابات فيلسوف مشهور [لعله هيجل]: "العقل هو الجوهر، فضلا عن كونه قوة لا متناهية، إذ أن مادته اللامتناهية الخاصة تكمن من وراء الحياة الطبيعية والروحية كلها، فضلا عن الصورة اللامتناهية التي تبعث الحركة في تلك المادة. فالعقل هو الجوهر الذي تستمد منه الأشياء وجودها." ويعلق هانز ريشننباخ على هذا الشاهد قائلا: "إن قراء كثيرين لا يطيقون صبرا على هذا النوع من النواتج اللغوية. وحين يخفقون في إدراك أي معنى لها، فقد يشعرون بالميل إلى الإلقاء بالكتاب في النار." ويزيد ريشنباخ قائلا: "وإنا لنجد العقل الفلسفي، طوال تاريخ الفلسفة، مقترنا بخيال الشاعر: فحينما كان الفيلسوف يسأل، كان الشاعر هو الذي يجيب." (نشأة... ص 39). "ومما يغري إلى إقحام الشعر في مجال المعرفة على هذا النحو، الميل إلى تشييد عالم خيالي من الصور، وهو ميل يمكن أن يصبح أقوى من السعي إلى الحقيقة." (نشأة... ص 41) "وعندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة." (نشأة... ص 45).
هذا رأي أحد أبرز ممثلي التجريبية المنطقية في الفلسفة التأملية والتي لا يميز بينها وبين الشعر والتصوف، وحتى لو سلمنا معه أن الفلسفة والتصوف مجرد خيال، فإن هذا "الخيال" – ورغم كل الطعون المنطقية التي يمكن أن توجه له - لعب دورا كبيرا في تاريخ الفكر الذي لا يمكن أن نختزله في تاريخ العلوم. وخطأ الجابري يكمن في كونه رفع جزء من هذا "الخيال" إلى سماء العلم (الفلسفة الأرسطية مع امتدادها الرشدي و"المعقول الديني") ورمى بالباقي في جحيم "العقل المستقيل".
وعندما نعود إلى مسار التاريخ الفكري للمغرب مع الدولة المرينية، فإننا نلاحظ أن التصوف الذي كان محل اضطهاد الدولة الموحدية قد تم "إدماجه" من قبل النخبة السياسية والثقافية، حسب تعبير عبد السلام الشدادي في الفصل الذي خصه للحياة الثقافية في الغرب الإسلامي في عصر ابن خلدون . ومن الشخصيات العلمية والدينية النموذجية التي عرفها ذاك العصر ابن البناء المعروف بكتبه في الرياضيات والفلك والتصوف (ص 65 وما بعدها). وأحمد بن عاشر (توفي عام 1364 م) الذي عده "أكبر شخصية دينية في بلدان المغرب في القرن الرابع عشر" (ص 77)، وقد تميز بورعه وتواضعه وابتعاده عن أصحاب السلطة (ص 70 وما بعدها). ومن الكتب التي كانت متداولة في محيط ابن عاشر: كتاب النصائح و كتاب الرعاية للمحاسبي؛ وقوت القلوب لأبي طالب المكي؛ و الإحياء للغزالي. (ص 73).
وقد عدنا إلى أحد مراجع الشدادي وهو: السلسل العذب والمنهل الأحلى لمحمد بن أبي بكر الحضرمي . وهوكتاب أهداه إلى أبي فارس عبد العزيز المريني (ولد 749هـ / حوالي 1349م - تُوفي 774هـ / حوالي 1372م) وفيه تراجم أهم الشخصيات الدينية لتلك الفترة. وما همَّنا في هذا الكتاب – زيادة على الكتب السابقة الذكر - الشخصيات الصوفية التي استشهد بها، وهي: القشيري، أبو علي الدقاق، إبراهيم بن شيبان، أبو بكر الشبلي (صاحب الحلاج !)، ذو النون المصري، الترمذي، المحاسبي، الجنيد، أبو عثمان الصوفي، ابن عطاء الله، سهل بن عبد الله (التستري). ومن الذين استشهد بهم أيضا الأسترابادي وهو فقيه شيعي من فقهاء الشيعة الإثني عشريَّة !
الكتب والاستشهادات السالفة الذكر تعطينا عينة عن الشخصيات الصوفية الحاضرة في الحقل الثقافي المريني، والغزالي يعطينا "سقف" هذا الحضور. وهي تدل على أن التصوف اندمج مع الفقه المالكي وعقيدة الأشعري لتتكون الملامح المعروفة للإسلام المغربي. وهو ما عبر عنه عبد الواحد بن عاشر (990هـ/1582م – 1040هـ/1631م)، وهو حفيد أحمد بن عاشر، بقوله في "المرشد المعين":
فـي عقـد الأشعـري وفقـه مـالـك وفـي طـريقـة الجنـيـد السـالـك.
وبما أن الجنيد صار هو المرجع الرسمي للتصوف في المغرب، نود أن نذكر بان ما يتميز به ضمن المدرسة البغدادية (وهو أحد أعلامها) هو "الاعتدال" و"الحذر" لأنه كان واعيا بأن المفاهيم الصوفية قد تؤدي إلى الخروج عن العقيدة. وأنه كان "شيخ" الحلاج الذي لم يكن إلا "ثمرة" لما سبقه ! فلربما أن ما أوصل الحلاج إلى التهلكة هو عدم التزامه بالحذر في طريقة التعبير عن أفكاره وليس محتوى الأفكار في ذاته.
وإذا انتقلنا إلى المستوى المؤسساتي، فإننا نكتشف دور الزوايا التي كانت في بدايتها رباطات للعبادة والجهاد والتي تحولت في مرحلة نضجها إلى مؤسسة شاملة نهضت بكل الوظائف المنوطة بالدولة: الوظائف الدينية والعلمية، الوظائف الإجتماعية، الوظائف السياسية (التحكيم في الخلافات والجهاد ضد الهجومات المسيحية على السواحل). ولم تستعمل للنهوض بهذه الوظائف إلا سلطتها المعنوية.
وهنا نكتفي بإعطاء نبذة عن الزاوية الدلائية – وهي شاذلية المذهب - كما هو وارد في ويكيبديا:
"تم تأسيسها في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، حوالي عام 974 هـ/ 1566م. على يد أبو بكر الدلائي بإشارة من شيخه أبو عمرو القسطلي، لذلك تدعى أيضا بالزاوية البكرية، نسبة إلى اسم مؤسسها"..." عمل مؤسسها في البداية على إطعام الطعام على نحو ما يفعله شيخه القسطلي بمراكش، حتى ذاع صيتها، وتزايد قاصدوها مما دفع مؤسسها إلى الإجتهاد، فعمل الشيخ أبو بكر الدلائي على تشييد المباني حول هذا المسجد الذي أسسه، وحفر العيون وأجرى ماءها، ووسع الأودية، واشترى الرباع في غالب البلاد وحبسها على الطلبة والضعفاء والمساكين. وتحولت إلى جامعة علمية ضخمة احتضنت خلال القرن 16 م أكثر من 5000 عالم في مختلف التخصصات من فقه وحديث ومنطق وجبر وكمياء."...
"... وكان دورها حاسما في الحفاظ على العلم المغربي متوهجا رغم الأزمات التي عمت البلاد، وكان توجهها ثقافيا أكثر من ما هو صوفيا، وقد كان عنصر الموسوعية حاضرا بقوة في منهج التدريس، بحيث تم الجمع بين علوم المقال وعلوم الحال، وتم التركيز بالأساس على الرياضيات والفلك والهندسة والطب والمنطق والتاريخ، إضافة إلى علوم الشرع والأدب، فتخرج منها عدد كبير من العلماء، أمثال أحمد بن يعقوب الولالي وعلى رأسهم الحسن اليوسي،الذي قضى ما يزيد عن عشرين سنة في الزاوية الدلائية تلميذا ثم مدرسا بعد ذلك. ومن أسباب إشعاعها العلمي، هدوء الزاوية وبعدها عن ضجيج الإضطرابات السياسية الحادة التي كانت تعاني منها باقي حواضر المغرب في تلك الفترة. كما وفرت الزاوية المأكل والمسكن للطلبة، حيث كانت تحتوي على 1400 مسكن للطلبة، والتي لم تكن تستوعب وتكفي جميع الطلبة. وكان لكرم رؤساء الزاوية الدلائية واعتنائهم بطلاب العلم والضيوف، سبب في جلب عدد من الأساتذة من مختلف أنحاء المغرب. وعزز مكانتها وجود مكتبة علمية ضخمة، بلغ عددها أكثر من عشرة آلاف سفر".
نستنتج من كل ما عرضناه أن "العقل المستقيل" (التصوف على مذهب الجنيد) اندمج مع "المعقول الديني" (الفقه المالكي والأشعرية) ! وأن "العقل المستقيل"، الممثل في الشاذلية، ألهم إحدى أبرز الزوايا التي عرفها المغرب، والتي لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يقال عنها أنها كانت تعكس الذهنية الاتكالية ل"العقل المستقيل"، بل العكس هو الصحيح. وهكذا يتبين لنا أن الواقع – وليس تحليل النصوص فحسب – يصادم أطروحة الجابري. خاصة إذا زدنا أن الغرب الإسلامي لم يكن مستوردا للمذاهب الصوفية بل مصدرا لها أيضا: الشاذلية، ابن عربي، ابن سبعين...
إننا واعون بأننا قدمنا قراءة مختزلة للتاريخ الديني للمغرب، فتاريخ التصوف والزوايا والمذاهب الفقهية والحركات السياسية أعقد مما عرضناه، ودور الزوايا لم يكن دائما في مستوى مثالية الزاوية الدلائية، لكن اختزالنا لا يعارض الاتجاه العام للتيارات السالفة الذكر. إلا أن كل هذه التيارات، وحتى ولو كان منشؤها في الشرق الإسلامي، تفاعلت مع واقع الغرب الإسلامي وصارت تعبر عن إشكالياته الخاصة.
التصوف و"أخلاق الفناء"
إن القراءة الأيديولوجية قد تشرح لنا الأسباب الظرفية التي أدت إلى توظيف هذه القيم أو تلك، لكنها عاجزة عن إعطاء تفسير لانتشار الصوفية في كل أرجاء العالم الإسلامي رغم أنها ليست لا من الموروث العربي "الخالص" ولا من الموروث الإسلامي "الخالص". وهذا الانتشار لا يعود إلى مؤامرة أجنبية بل إلى الوظيفة النفسية للدين، أي إلى مطلب وجودي نابع من وضع الإنسان في الكون ككائن متناه. فالدين يهدف إلى طمأنة الإنسان، وهذه الطمأنة تتم من خلال وسائط تربط الإنسان بالمتعالي، أي بتلك القوة الكونية التي يتوسل إليها الإنسان والتي يرجو أن ترعاه بعنايتها.
وحتى لو أن "هناك [في الإسلام] مسافة لا نهائية، لا يمكن قطعها بأية طريقة ولا بأي شكل، بين الله ومخلوقاته"، فإن الحاجة إلى التقريب بين الله ومخلوقاته فعلت مفعولها. ولا يجدي القول بأن هذا الشكل من التدين أو ذاك بعيد عن التنزيه الإسلامي، فهذه الأشكال موجودة ومنتشرة، أتعلق الأمر بالطرق الصوفية أو ببقايا الوثنية والإحيائية في معتقدات الناس.
إلا أن الجابري يفضل أن يعطينا تفسيرا أحاديا لظاهرة التصوف، إذ يقول: "وإذا نحن استعرضنا أسماء الأشخاص الذين تزعموا هذه الحركة في أول أمرها، باسم "التصوف"، فإننا سنجد أبرزهم حبيب العجمي الفارسي الذي تسمى ب "القطب الغوث" قبل شيوع هذا المفهوم في الفكر الصوفي "العربي" بوقت طويل". ويزيد قائلا: "وما يهمنا هنا من هذا الشخص ليس ما يروى عنه أو يقال بشأنه، بل ما يهمنا منه هو كونه يجسد نموذجا فارسيا معروفا، نموذج الشخصية التي تترك الترف والمال والإمارة والجاه وتصطنع الزهد والتصوف طلبا لمنزلة أكبر وجاه أوسع. فإذا حدث أن الواحد من هؤلاء، لم يجد مبتغاه كاملا "في زاد الدنيا" تحول إلى "زاد الآخرة" يوظفه لنفس الغرض. وهذه هي الدلالة الحقيقية لتلك العبارة التي وردت في كليلة ودمنة، والتي نقرأ فيها: "وقد قالت العلماء في الرجل الفاضل والمروءة، إنه لا يرى في مكانين ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرما أو مع النساك متبتلا". (ع. أ. ع ، ص 433)
ولنا ثلاث ملاحظات على هذا النص:
أولا: وهي ملاحظة تتعلق بشخصية حبيب العجمي (المتوفي عام 119 هج)، فهو وإن كان يذكر كثيرا ضمن أعلام الصوفية، إلا أن المصادر لا تذكر أن لأصوله الفارسية تأثير في مواقفه. والمعروف عنه أنه كان من تلامذة الحسن البصري في البصرة. فهو، إذن، ممثل لمدرسة الحسن البصري التي تتميز بالزهد في السلوك والاعتدال من الناحية المذهبية والنأي عن الصراعات السياسية. وعندما يقول الجابري: "وما يهمنا هنا من هذا الشخص ليس ما يروى عنه أو يقال بشأنه، بل ما يهمنا منه هو كونه يجسد نموذجا فارسيا معروفا..."، فهل هذا يعني أن كل ما يقال بشأنه لا قيمة له أمام كونه كان فارسيا؟ أي أن كونه كان فارسيا يجعل من زهده سلوكا مشبوها حتى ولو كانت سيرته تشهد له !
ثانيا: يرجع الجابري ظاهرة الزهد - وهي نزعة عامة في معتقدات البشرية: من البوذية والهندوسية والمانوية والرواقية والمسيحية... إلى القرآن الذي تحث كثير من الآيات فيه على الزهد في الحياة الدنيا - إلى مجرد رد فعل نفسي من قبل الفرس على هزيمتهم !
ثالثا: يستنتج الجابري أن تزعم الفرس لحركة التصوف في أول أمرها دليل على أن التصوف ظاهرة دخيلة على الإسلام، وبما أن كل ما جاء من عند الفرس فهو سلبي في محتواه ونواياه، فالتصوف لا يمكن أن يكون إلا عامل هدم في الثقافة الإسلامية. وقياسا على هذا المبدأ يمكن أن تطال الشبهة الثقافة الإسلامية برمتها لأنه لا يوجد فرع من فروعها لم يبدع فيه الفرس، وكأن نبوغ سيبويه في النحو أو جابر بن حيان في الكمياء أو ابن سينا في الطب كفيل بإلقاء الشبهة على هذه العلوم !
ويخصص الجابري الباب الثالث من العقل الأخلاقي العربي للموروث الصوفي . والعنوان الكامل لهذا الباب: "الموروث الصوفي. أخلاق الفناء.. وفناء الأخلاق! "، وبما أن "الفناء" هو المفهوم الذي يوجه الجابري في قراءته للتصوف، فإن السؤال المطروح هو ما طبيعة هذا "الفناء"، وما هي طبيعة الأخلاق التي افنتها الصوفية والتي يخصص لها الجابري الفصل الثامن عشر من الفكر الأخلاقي العربي، والذي عنوانه "فناء الأخلاق! "؟
وقبل التطرق إلى المفاهيم الأخلاقية للصوفية قام الجابري بعرض مفاهيمها الأساسية. وما يثير الانتباه هو أن الجابري يعتبر كل مفهوم لا يطابق الموروث الإسلامي "الخالص"، مفهوما دخيلا ومشبوها. ومن هذه المفاهيم "الخطيئة الأولى" (وتسمى أيضا الخطيئة الأصلية) ووحدة الوجود.
وحول "الخطيئة الأولى" يقول الجابري: " هنا يخطر على الذهن السؤال التالي: بما أن التوبة هي، أصلا، توبة عن ذنب سبق اقترافه، فإنها لا تخص إلا أصحاب الذنوب. فكيف يمكن دعوة المسلم المؤمن الذي لم يقترف ذنبا إلى التوبة؟ إن الآيات التي تدعو المؤمنين إلى التوبة كانت - حين نزولها – تخاطب أناسا كانوا قبل إسلامهم يأتون الذنوب، أما الذين ولدوا في الإسلام وساروا على نهجه من صغرهم فكيف نطالبهم بالتوبة؟ وبما أن التوبة هي المدخل إلى التصوف، فالسؤال سيصبح كما يلي: هل التصوف مطلوب من الجميع أم فقط من الذين اقترفوا ذنوبا؟"
"لعل هذا ما حدا بالمتصوفين المتكلمين عموما، إلى توسيع مجال التوبة بالصورة التي تجعلها تتعلق بالجميع، وبالتالي تفتح الباب لمطالبة الجميع بالانضمام إلى المتصوفة ! ويمعن الهجويري في توسيع مجال التوبة ليجعل منها ليس فقط الرجوع عن الذنب، الكبير أو الصغير، بل أيضا الرجوع إلى الله. يقول: "اعلم أن التوبة أول مقام سالكي طريق الحق، كما أن الطهارة أولى درجات طالبي الخدمة (=العبادة). وللتوبة مقامات ثلاثة: التوبة خوفا من العقاب، والإنابة لطلب الثواب، والأوبة لرعاية الأمر. فالتوبة مقام عامة المؤمنين وتكون من الكبيرة، والإنابة مقام الأولياء والمقربين، والأوبة مقام الأنبياء والمرسلين. "فالتوبة الرجوع عن الكبائر إلى الطاعة، والإنابة الرجوع عن الصغائر إلى المحبة، والأوبة الرجوع عن النفس إلى الله" . وهذا المعنى الأخير هو في الحقيقة الأصل الهرمسي/المسيحي للتوبة، المعنى الذي يربطها بفكرة "السقوط" و "الخطيئة الأولى"، وبالتالي يكون التصوف وتكون التوبة، كما في أصلها الهرمسي هما طريق الخلاص من خطيئة آدم، وهو شيء مطلوب من البشر جميعا. وهذا مخالف لعقيدة الإسلام المبنية على سقوط "الخطيئة الأصلية" بتوبة آدم، ففي القرآن أن آدم طلب التوبة وقد تاب الله عليه: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم" (البقرة 37). واللافت للنظر حقا أن المؤلفين في التصوف يتجاهلون في الأعم الأغلب توبة آدم !" (ع. أ. ع، ص 467-468)
إلا أن ما يتجاهله الجابري هو ان التوبة و الخوف (الذي تطرق إليه بعد التوبة) لا يرتبطان بالضرورة، وحصرا، ب "الخطيئة الأصلية"، بل بكون النفس الإنسانية أمارة بالسوء، أي أن هناك نزوع طبيعي لدى الإنسان لفعل الشر. والقرآن نفسه يشير في كثير من آياته لهذا النزوع السلبي للإنسان:
"كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6)" (العلق).
"وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40)" (النازعات)
"وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)" (يوسف)
"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) (آل عمران)...
صحيح أن الله تاب على آدم، أي أن القرآن يُسقط الخطيئة الميتافزيقية، إلا أنه لم يسقط النزوع إلى الخطيئة. ولهذا فالتوبة والخوف لا يرجعان إلى تأثير دخيل على "المعقول الديني"، بل إلى التجاذب في نفس الإنسان بين ميله إلى خرق القواعد الأخلاقية ومقاومة هذه القواعد من خلال تأنيب الضمير، إن لم يكن الخوف من العقاب. وهو ما يحيل إلى صراع ال"هو" و"الأنا الأعلى" في التحليل النفسي.
و فيما يتعلق ب"وحدة الوجود"، فإن الجابري يتناول هذا المفهوم من زاوية ضيقة جدا، ألا وهي مفهوم "الفناء" (ع. أ. ع، ص 479 و484). وبما أن هذا المفهوم سلبي في منظوره فإن "وحدة الوجود" لا يمكن أن تكون إلا مفهوما سلبيا. إلا أن "وحدة الوجود" – وإن تعددت أسماؤها - اشكالية صاحبت تاريخ الفلسفة إلى يومنا هذا. فهي محاولة لردم الهوة التي تفصل الله المتعالي عن العالم، قد تصل أحيانا إلى إلغاء أحدهما، ليتحد العالم إما في الله وإما في الطبيعة. وهي إشكالية نجدها في فلسفة سبينوزا (الذي يوحد الكون في الطبيعة) وهيجل (الذي يوحد الكون في العقل).
مجمل القول أن كثيرا من المفاهيم والمواقف التي اعتبرها الجابري دخيلة على "المعقول الديني" للثقافة العربية الإسلامية – الزهد، التصوف، التوبة، الخوف، الفناء، الخطيئة الأصلية، وحدة الوجود... – ليست إلا ردود فعل وجدانية وفكرية تكاد تكون مشتركة بين كل البشر، وإن تعددت تسمياتها. وإذا استعرنا تشبيها من مجال الفلاحة، فإن الأمر يشبه من زرع نباتا في حقل بعد أن اجتث كل نبات فيه، ولكنه فوجئ بأن كل البذور التي كانت ثاوية في التراب أنتشت وترعرعت حول نباته.
سقوط التكاليف الشرعية
يقول الجابري: "وقد عرض ابن عربي في موسوعته الصوفية – الفتوحات المكية – لمسألة "المحبة" بتفصيل، فكان اكثر صراحة في تقرير سقوط التكاليف الشرعية، مستندا في ذلك إلى النصوص الدينية من قرآن وحديث، يؤولها حسب مراده منها. فتحت عنوان: "نعت المحب بأنه جاوز الحدود بعد حفظها"، ويقصد المتصوف الذي بلغ أعلى درجة في المحبة، درجة الكشف/العلم، متجاوزا بذلك الحدود التي تشد إليها صاحب الحال، يقول ما يلي: "وقد عين الحق صنفهم (المحبين) فهو في ذكر الله سبحانه في قوله: أذنب عبد ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، فقال..: اعمل ما شئت فقد غفرت لك ، فأباح له وأخرجه من التحجير في الدنيا إذ كان الله لا يأمر بالفحشاء. فما عصى الله صاحب هذه الصفة (صفة العلم/الكشف)، بل تصرف فيما أباحه الله له، وقد كان قبل هذه الصفة من أهل الحدود (= الذي تطبق عليه الشريعة) فجاوزها بعد حفظها. فهذا أعطاه شرف العلم مع وجود عقل التكليف، بخلاف صاحب الحال (= الذي لم يصل مرتبة الكشف). فإن حكم صاحب الحال حكم المجنون الذي ارتفع عنه القلم، فلا يكتب لا له ولا عليه، وهذا (= المحب) يكتب له، ولا عليه. ذلك أن "الحب مزيل للعقل، وما يؤاخذ الله إلا العقلاء، لا المحبين، فإنهم في أسره، وتحت حكم سلطان الحب". وأيضا: "المحب غير مطالب بالآداب، إنما يطالب بالأدب من كان له عقل. وصاحب الحب ولهان مدله العقل، لا تدبير له، فهو غير مؤاخذ في كل ما يصدر عنه". (ع. أ. ع، ص 481)
وفي فقرة أخرى يقول الجابري: "يميز ابن عربي بين "الأمر التكويني" ويقصد به إيجاد الله الشيء بقوله: "كن" (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن، فيكون" – البقرة 117)، فالأمر التكويني عنده هو الإرادة الإلهية، أو العناية الإلهية، وهو الطبع الذي عليه الكون. وبما أن كل ما في الوجود من فعل الله، فما نسميه الخير والشر والقبح والحسن هي أمور مقدرة جعلها الله من طبيعة الوجود. والإنسان يأتي الخير أو الشر بطبعه، بمقتضى الأمر التكويني أي المشيئة الإلهية، أي الطبيعة التي طبع عليها، ويسميها ابن عربي العين الثابتة. ومفهوم "الأعيان الثابتة" أساسي في فلسفته ويقصد به صور الأشياء في علم الله قبل ظهورها إلى الوجود المشخص، وهي فكرة هرمسية، كما سبق أن بينا في مكان آخر . والأعيان الثابتة – أو لنقل الأشياء كما هي في طبيعتها الذاتية – ليست في الحقيقة خيرا ولا شرا. فالخير لذاته والشر لذاته لا وجود لهما ولا معنى لوصف الشيء بهما على مستوى الوجود، أي "الأمر التكويني". وإنما يوصف الشيء بأنه خير أو شر بناء على نوع آخر من "الأمر" يسميه ابن عربي ب "الأمر التكليفي"، أي الأوامر الدينية والخلقية. وهكذا فالناس يفعلون الشر مثلا استجابة لطبعهم الذي تقتضيه أعيانهم الثابتة، أي بمقتضى الأمر التكويني، وهو قضاء وقدر . ولكنهم يخالفون بذلك مقتضيات الأمر التكليفي، أي أوامر الشرع. وهكذا ففعل الشر طاعة للأمر التكويني وفي نفس الوقت عصيان للأمر التكليفي. وبما أن الأمر التكويني هو السابق المتقدم فإن الحكم في النهاية له. وهذا يعني أن الناس جميعا يسيرون على هدى من الله بمقتضى الأمر التكويني، وأنه بالتالي فلا عقاب ولا عذاب. وأما المعصية فهي – كالطاعة – أسماء لوصف السلوك، ولا يترتب عنها في الحقيقة عذاب لأن رحمة الله وسعت كل شيء. (ع. أ. ع، ص 484-485)
مجمل ما ورد في النصين السابقين هو: سقوط التكاليف الشرعية وانتفاء العذاب لأن رحمة الله وسعت كل شيء.
يأسف الجابري لسقوط التكاليف الشرعية، فما هي طبيعة هذه التكاليف التي أسقطها ابن عربي وغيره من الصوفية؟ والجواب هي تكاليف "المعقول الديني"، أي الفقه، وهي أخلاق الرجم والقطع والجلد والتعزير !
وعندما يُسقط ابن عربي – وغيره – التكاليف الشرعية وما يصاحبها من عنف، فإنه يسقط صورة الإله "الشديد العقاب" ليحل محله "الرحمان الرحيم". وهذا انقلاب جذري في تصور الدين، ينتقل به من "ميتافيزيقا للجلاد" كما قال فردريك نتشه بخصوص المسيحية إلى بعد روحاني خالص. إن سقوط التكاليف الشرعية لا يفني الأخلاق بمعناها الإنسي (الحث على فعل الخير وتحريم السرقة والاعتداء...) ، بل يفني بعض التكاليف التي لا تحمل قيمة أخلاقية في ذاتها كالصلاة والصوم والحج... فهذه التكاليف ليست لها دلالة خارج الدين الذي سنها.
وبغض النظر عن الخلفية الفلسفية لأفكار ابن عربي - والفلسفة كالدين لا يمكن أن نحسم في خلافاتها كما يتم الحسم في القضايا العلمية - فإن الأهم في مواقف ابن عربي – أتعلق الأمر بوحدة الوجود أو سقوط التكاليف الشرعية أو انتفاء العذاب – هو بعدها الإنسي. فهي تتميز بالانفتاح على كل الديانات، وتركز على البعد الروحي للدين، وتقرأ التكاليف قراءة روحية غير القراءة القانونية الجنائية. وكمثال على ذلك تفسيره للآيتين:
- " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)" (البقرة)
وتفسيره أن: "القصاص قانون من قوانين العدالة، فُرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهوظل من ظلال عدله تعالى، فإنه إذا تصرف في عبده بإفنائه فيه عوضه عن حرّ روحه روحا موهوما خيرا منه، وعن عبد قلبه قلبا موهوبا، وعن أنثى نفسه نفسا موهوبة كاملة."
- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)" (البقرة)
وتفسيره أن: "الصيام قانون آخر مما فرض لإزالة عدوان القوة البهيمية وتسلطها" [...] "وصيامهم هو الإمساك عن كل قول وفعل وحركة وسكون ليس بالحق للحق."
إن فهم التأويل الرمزي قد يسقط في دور تأويل التأويل، إلا أن قصد ابن عربي في التفسيرين السابقين على قدر من الوضوح يجعلنا لا نخطئ الفهم. فالقصاص العيني (النفس بالنفس والعين بالعين...) تعويض نفسي يشفي الرغبة في الانتقام (التشفي)، في حين أن ابن عربي يرى أن العوض الروحي أرقى من العوض المادي. وأن الصيام الحق ليس هو صيام الجسد فحسب، بل هو صيام النفس.
ونختم هذه الفقرة بالإشارة إلى أن القول بسقوط التكاليف الشرعية ليس مقصورا على "غلاة" المتصوفة، فعن إبراهيم النظام "قوله في الإيمان إنه اجتناب الكبيرة فحسب"؛ كما أنه "زعم أن الصلاة ليست من الإيمان" (البغدادي: الفرق... ص 131). فهذا أحد ممثلي "المعقول الديني" يقول بمثل ما يقول به ممثلو "العقل المستقيل" !
"كل شيء في أخلاق الفناء... ينتهي إلى عكسه !"
إذا كانت هناك ميزة منهجية عند الجابري فهي كونه يعطي في الغالب خاتمة لفصول كتبه، بحيث أنه يذكر القارئ بصميم إشكاليته حتى لا يخطئ الفهم. وهكذا يقول الجابري في خاتمة الباب الثالث الذي عنوانه : "الموروث الصوفي: أخلاق الفناء.. وفناء الأخلاق !":
"أخلاق الفناء التي تحكم الموروث الصوفي في الثقافة العربية تجد أصولها فيما قبل الإسلام: في التصوف الفارسي من جهة، والتصوف الهرمسي في الإسكندرية وإنطاكية من جهة أخرى. أما قابلتها في المجتمع العربي الإسلامي فهي أزمة القيم التي نجمت عن "الفتنة الكبرى".
"تلك هي الأصول الرئيسية.
"أما القيم الأساسية التي في هذه الأخلاق فهي القيم الكسروية (الطاعة) كما رأيناها تتشخص في علاقة الشيخ بالمريد من جهة، والتوكل الذي يؤسسه الخوف من الآخرة، أي من الموت، وبالتالي ترك التدبير للشأن الدنيوي. أما القيمة المركزية فهي الفناء عن أوصاف البشرية، وفي مقدمتها "العبودية"، والارتماء بالتالي في "بحبوحة" الحرية."
"أما خطاب أخلاق الفناء هذه فيتميز بظاهرة فريدة غريبة، وهي أن جميع "المقدمات" أو المنطلقات في "الكلام الصوفي" تنتهي في النهاية إلى عكسها. وحقا إن "أخلاق الفناء" ينتهي إلى "فناء الأخلاق".
- ينطلق المريد من الشعور الهائج بالذنب لينتهي إلى استثنائه من الذنب !
- من الخوف من العذاب، عذاب الآخرة.. لينتهي إلى وضعية "الاستثناء" من العقاب !
- من الخوف من الله في البداية لينتهي إلى رضا الله ومحبته في النهاية !
- من الفردية التي لا ترتاح إلا للخلوة والعزلة... لينتهي إلى "الطريقة" التي تحيا حياة القطيع !
- ينطلق من الثورة على رسوم الفقهاء... لينتهي إلى الانغلاق في رسوم الطريقة، وهي أكثر وأكبر !
- ينطلق من الإقرار بالعبودية لله والتزام العبادة، ولا شيء غير العبادة، لينتهي [إلى] الفناء في الله أو الاتحاد به، والمعنى واحد، فيتخلص من العبودية والعبادة معا ويدخل فضاء الحرية الكاملة فيتحرر من "رق" التكليف، الديني والأخلاقي.
- بعضهم ينطلق من الشكوى من استبداد الحكام، ومن التمرد على كل سلطة... ليتحول إلى حاكم (ولي، شيخ) يمارس سلطة أكثر استبدادا !
هل نضيف أن كثيرا منهم يؤكد أفضلية "التجريد" أي الامتناع عن الزواج.. وأن بعضهم يصاب بآفة "صحبة الأحداث"؟
شيئان، فقط، لا يتغيران، لا ينقلبان إلى عكسهما ولا يتحولان، وهما في الحقيقة الركنان اللذان تقوم عليهما "أخلاق التصوف"، هما: القول بجبرية صارمة، وترك التدبير أي ما يسمونه: التوكل... وهما في الحقيقة مترابطان متداخلان: فبدون الجبيرية لا يستقر التوكل ولا يستقيم.
من هنا كانت أخلاق الفناء هي أخلاق اللاعمل، مبدؤها: ترك التدبير، عدم التفكير في المستقبل ! فليس غريبا إذن أن ينتهي انتشار "التصوف" في العالم العربي والإسلامي منذ الغزالي إلى صرف أهله عن التفكير في المستقبل والعمل من أجله. لقد نظروا إلى الغزو الصليبي على أنه عقاب من الله لأن "المسلمين ضيعوا طريق الله"، أي أخلاق الفناء. وكذلك قال كثير منهم عند اكتساح الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين ! والحق أن أخلاق الفناء لا تنتهي إلى فناء الأخلاق وحسب، بل وإلى فناء الأمم. ولم يكن مصادفة أن قامت حركة الإصلاح في العصر الحديث على محاربة الطرقية." (ع. أ. ع، ص 487-488)
والحال أن الجملة الأخيرة في هذا النص تعطينا نقطة الانطلاق التي صعد الجابري ابتداء منها مجرى التاريخ الفكري.
والسؤال المطروح هو هل الطرقية سالمت الغزو الأجنبي؟ والجواب هو أن المعطيات التاريخية تشهد بأن المقاومة أو المهادنة أو التواطؤ كانت مواقف مشتركة بين كل القوى الاجتماعية. فالنخبة الحاكمة والنخبة التجارية والعلماء والزوايا والقبائل... لم يكن لهم موقف ثابت من الغزو الأجنبي: ففي الغالب قاوموه، وتارة تواطؤوا معه... وعندما استتب له الأمر سالموه. والطرقية لم تشذ عن هذه القاعدة، بل يمكن القول أنها لعبت دورا كبيرا في مقاومة الغزو الأجنبي عندما عجزت الدولة القائمة أو تقاعست على ذلك.
أما القول بأن الصوفية نَظَّروا للهزيمة على أنها عقاب من الله، فهو تخصيص لما هو عام، لأن التفسير ذاته نجده في كل الديانات كآلية للتحكم في الأتباع بواسطة عقدة الذنب.
وإذا انتقلنا من المستوى التاريخي إلى المستوى النظري، فإن السؤال المطروح هو: هل حقا "أن جميع "المقدمات" أو المنطلقات في "الكلام الصوفي" تنتهي في النهاية إلى عكسها"؟
- أليس الشعور بالذنب والخوف من الآليات النفسية التي يوظفها الدين (والشعور الأخلاقي عموما)؟ فيكون بذلك الموقف الصوفي – الذي يريد علاقة بالله خالية من الخوف - نقيضا، لا لمقدماته هو، بل لمقدمات الدين نفسه؟
- أليست "حياة القطيع" هي ما يميز الحياة الدينية، بل الحياة الاجتماعية بشكل عام؟
- هل "الانغلاق في رسوم الطريقة" مختلف عن الانغلاق في رسوم عقيدة ما (دينية أو فلسفية أو سياسية) أو حزب سياسي ما؟
- هل حقا أن سلطة الشيخ في مستوى استبداد الحاكم؟
- أليس "التخلص من العبادة والعبودية" رفض للطقوس التي فقدت بعدها الروحي؟
- أليس التوكل – كيفما كانت أوجهه - من صميم الظاهرة الدينية؟ فلو كان الإنسان يتحكم في مصيره لما سلم أمره لقوى تتجاوزه عندما تنقطع به السبل.
الحل في الأندلس والمغرب
لقد وجد الجابري "الحل" عند ثلاثة فلاسفة أندلسيين وهم ابن حزم وابن باجة وابن رشد، وفي تجربة سياسية تتمثل في الدولة الموحدية ومؤسسها ابن تومرت. لكننا سنكتفي في هذا المقال بابن حزم وابن رشد، فهما كافيان لبيان موقف الجابري.
يلخص الجابري موقف ابن حزم قائلا: "وإذا بطل الإلهام والقول بالإمام وبطل التقليد لم يبق إلا العقل والحس كمصدر للمعرفة. يقول ابن حزم:" لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين: أحدهما ما أوجبته بديهة العقل والحس، والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس"، ومن هذه المقدمات ومنها وحدها يمكن بناء المعرفة الصحيحة، ولا بد في صدق هذه المعرفة من مراعاة قواعد المنطق وشروط الاستدلال الصحيح. وعلى هذا الأساس يبني ابن حزم مذهبه في العقيدة والشريعة معا: إنه ينطلق من العقل أولا فيثبت ب "الدليل العقلي" وجود الله ووحدانيته ونبوة محمد وصدق رسالته، حتى إذا تم له ذلك يكون قد اثبت صدق القرآن والسنة فيعتمدهما وحدهما ويأخذ بظاهر نصوصهما جاعلا من اللغة العربية وحدها إطاره المرجعي في فهم مضمونهما، ولا يبيح صرف معنى كلمة من المعنى اللغوي الظاهر المعروف إلى معنى آخر إلا إذا أوجب ذلك نص أو إجماع أو بديهة حس أو عقل كما اشرنا إلى ذلك من قبل." (ت.ع.ع، ص 309)
أما في ما يتعلق بموقف ابن رشد فإننا نفضل العودة إلى "مدخل إلى القرآن الكريم" لنورد ما قاله الجابري في فقرة تحت عنوان: " ابن رشد: دليل النبوة الاتيان بشريعة صالحة ". وهذه خلاصة لها بعناوينها في الأصل:
1- "عود على بدء !
"فعلا، لقد أخرنا الحديث عن ابن رشد ليس فقط لأنه جاء في مرحلة زمنية متأخرة بالنسبة إلى من ذكرناهم، بل لأنه يضرب صفحا، وبقوة، عن فكرة الفيض وما شيد عليها، سواء على مستوى فهم العلاقة بين الدين والفلسفة أو على مستوى العلاقة بين النبوة والإمامة والولاية. لقد درس ابن رشد فلسفة أرسطو (المتوفي عام 322 قبل ميلاد المسيح) وهي خالية تماما من هاجس التوفيق بين الدين والفلسفة، كما درس العلوم العربية وتضلع من العلوم الإسلامية فوجد أنه لا علاقة إطلاقا بين الفلسفة (أرسطو) والدين (الإسلام)، لأن الأمر يتعلق في نظره ببناءين مستقلين لكل منهما أصوله ومبادئه، وأن امتحان صدق أية قضية في أي منهما يجب أن يكون داخله، وليس خارجه." (ص 141)
2- نظرية الفيض تخرص وهوس وخرافات !
"أما نظرية الفيض، التي اعتمدها كل من الفارابي وابن سينا والتيارات الباطنية، في دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين، فهي دخيلة على كل من الفلسفة (الأرسطية) والدين (الإسلامي) معا. ولذلك فهي في نظره: كلها "تخرص على الفلاسفة من ابن سينا وأبي نصر (الفارابي) وغيرهما" (ص 141) [...] وأنها "نتيجة "تعمق هؤلاء في الهوس" وأنها "كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين، وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة ليست جارية على أصولهم (الفلاسفة). وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي فضلا عن الجدلي" "(ص 142)
"لم يناقش ابن رشد، إذا، ما قاله الفارابي عن النبي والفيلسوف ولا ما ذهبت إليه التيارات الباطنية بمختلف منازعها في موضوع النبوة والإمامة والولاية، فالأمر بالنسبة إليه يصدق عليه القول المشهور "ما بني على فاسد فهو فاسد". والمذهب الوحيد الذي ناقشه فيلسوف قرطبة في موضوع النبوة هو مذهب الأشاعرة. ذلك لأن هؤلاء قد بنوا مذهبهم في إثبات النبوة على الإتيان بمعجزة. والمعجزة تعني عندهم "خرق العادة" أي تعطيل مفعول السببية." (ص 142)
3- من رفع الأسباب فقد رفع العقل !
"يناقش ابن رشد هذا الاتجاه بتفصيل، في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة، ويبين ضعف استدلاله. هو يرى أن النبوة هي وحي من الله إلى الناس. فيجب أن يعترف الخصم بوجود الله أولا حتى يمكن الكلام معه في النبوة. أما إذا كان لا يؤمن بالله فيجب أن نبدأ معه من إثبات وجوده. فكيف يمكن أن نقنع الخصم بوجود الله إذا نحن ألغينا فكرة السببية؟ إننا لا نتوصل إلى إثبات وجود الله إلا من تأمل سلسلة الأسباب التي تنتظم الكون بأسره، فمن الصعود من المسببات إلى أسبابها ننتهي إلى السبب الأول الذي هو الله الخالق."[...] (ص 142)
4- الجواز في العقل ليس هو الجواز في الطبيعة.
"أما قول المتكلمين الإسلاميين في ردهم على البراهمة الذين ينكرون النبوات: "إن وجود الرسل يدل عليه العقل لكون ذلك جائزا في العقل، فإن الجواز الذين يشيرون إليه هو جهل. وليس هو الجواز الذي في طبيعة الموجودات، مثل قولنا: إن المطر جائز أن ينزل أو لا ينزل. وذلك أن "الجواز" هو من طبيعة الموجود هو أن يحس أن الشيء يوجد مرة ويفقد أخرى، كالحال في نزول المطر، فيقضي العقل حينئذ قضاء كليا على هذه الطبيعة بالجواز".
فلو كان الخصم (البراهمة) قد اعترف بوجود رسول واحد في وقت من الأوقات، لظهر أن الرسالة من الأمور الجائزة الوجود. أما والخصم يدعي أن ذلك لم يحس به، فالجواز الذي ندعيه إنما هو جهل بأحد المتقابلين، أعني "الإمكان والامتناع". والذين يقولون بإمكان وجود الرسل، إنما صح لديهم وجود هذا الإمكان، لأنهم ادركوا وجود الرسل منهم في الشاهد، كأن يرسل زيد عمرا إلى أناس لغرض ما. أما أن نقول إن إحساس الناس بوجود الرسل من بعضهم إلى بعض في الشاهد يدل على إمكان وجودهم من الخالق، فهذا يقتضي تساوي الطبيعتين، البشرية والإلهية، وهذا شيء عسير قبوله، لأن ما يصدق على زيد أو عمرو لا يصدق بالضرورة على الله."
5- وجود الأنبياء ظاهرة تاريخية.
"ولذلك يرى ابن رشد أن الطريق الصحيح في هذه المسألة هو كما يلي: أما إثبات بعثة الرسل، أي وجود الأنبياء، فهذا أمر لا نحتاج فيه إلى استدلالات نظرية. فوجود الأنبياء ظاهرة تاريخية: لقد تواتر الخبر عن وجود الأنبياء في الماضي، جيلا عن جيل، كما تواتر الخبر عن وجود الفلاسفة والعلماء والفاتحين...إلخ. [...] "فبماذا نعرف الأنبياء الحقيقيين؟ وكيف نميزهم من غيرهم من مدعي النبوة؟ يجيب ابن رشد: نحن نعرفهم بالشرائع التي يأتون بها والتي تستهدف الخير والفضيلة. فليس بوسع كل إنسان وضع شرائع كشرائع الأنبياء ! وإذا فكل من قال عن نفسه إنه نبي رسول من الله، وجاء بشريعة من جنس شرائع الأنبياء تتفوق في العادة على ما يمكن أن يأتيه مطلق الناس في عصره، مما يشبهها، فهو نبي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فبما أن الناس ليسوا جميعا من الذكاء والعقل والفضل بحيث يمكن ان نتصورهم يلتزمون الفضيلة من عند أنفسهم، فإن الأنبياء والرسل هم من هذه الناحية ضرورة اجتماعية، تماما مثلما هو ضروري في كل أمة وجود قاسم مشترك يوحد الرؤى والآفاق الفكرية فيها، وقانون ملزم ينظم سلوك افرادها." (ص 143-144)
6- برهان نبوة محمد هو القرآن، وليس خرق العادة !
"أما إثبات نبوة محمد صلى اللهعليه وسلم فابن رشد يعتمد على القرآن [...]. ويحتج ابن رشد بمقارنة القرآن بالكتب السماوية الأخرى (التوراة والإنجيل) فيقول: "وبالجملة فإن كانت ها هنا كتب واردة في شرائع، استأهلت أن يقال إنها كلام الله لغرابتها وخروجها عن جنس كلام البشر ومفارقته بما تضمنت من العلم والعمل، فظاهر أن الكتاب العزيز الذي هو القرآن هو أولى بذلك وأحرى أضعافا مضاعفة. وأنت فيلوح لك هذا جدا إن كنت وقفت على الكتب، أعني التوراة والإنجيل. فإنه ليس يمكن أن تكون كلها قد تغيرت". ولو قارنا بينها وبين القرآن لاتضح "فضل الشريعة المشروعة لنا، على سائر الشرائع المشروعة لليهود والنصارى، وفضل التعليم الموضوع لنا في معرفة الله ومعرفة المعاد وما بينهما". (الكشف... ص 179)
"ويضيف ابن رشد: ويتبين فضل شريعة الإسلام على الشرائع الأخرى على مستوى طريقة الإقناع أيضا، ذلك أن دلالة القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست هي مثل دلالة انقلاب العصا حية على نبوة موسى عليه السلام، ولا إحياء الموتى على نبوة عيسى، وإبراء الأكمه والأبرص. إن تلك وإن كانت أفعالا لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء، وهي مقنعة عند الجمهور، فليست تدل دلالة قطعية إذا انفردت، إذ كانت ليست فعلا من أفعال الصفة التي بها سمي النبي نبيا. أما القرآن فدلالته على هذه الصفة هي مثل دلالة الإبراء على الطب. ومثال ذلك لو أن شخصين ادعيا الطب، فقال أحدهما: الدليل على أني طبيب أني أسير على الماء، وقال الآخر الدليل على أني طبيب أني أبرئ المرضى. فمشى ذلك على الماء، وأبرأ هذا المرضى، لكان تصديقنا بوجود الطب لدى الذي ابرأ المرضى ببرهان، وتصديقنا بوجود الطب لدى الذي مشى على الماء مقنعا، ومن طريق الأولى والأحرى". (الكشف... ص 183) (ص 145)
"هكذا يعود بنا ابن رشد إلى القرآن للبحث عن أجوبة للمسائل التي تطرح بصدده، مسلحا بالتحليل المنطقي ليس غير. أما الأطروحات الفلسفية، أيا كانت فقد تركها جانبا، وذلك وفاقا مع أطروحته الأساسية في هذا المجال، وهي ان الدين والفلسفة بناءان مستقل كل منهما عن الآخر، وأن مسائل كل منهما يجب أن يفحص عنها في البناء الذي تنتمي إليه، لأن لكل منهما أصوله ومبادئه.
ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن أحدهما يناقض الأخر ! كلا فالهدف يجمعهما. وهذا الهدف المشترك لهما هو نشر الفضيلة. ومن هنا كانت "الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة"، "وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة". يقول ابن رشد: "نحن معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع: فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".
"هل نحتاج لخاتمة لهذا الفصل؟
لنترك الأمر للقارئ، فقد وضعنا بين يديه ما يمكنه من استخلاص النتيجة التي يرتئيها !" (ص 144-146)
طول هذا الاستشهاد كان مقصودا وهو، مع الشاهد الذي سبقه والمتعلق بابن حزم، يمثل الإشكالية الفلسفية التي أراد الجابري أن يجعلها معاصرة لنا ! والجابري يتماهى مع موقف ابن رشد إلى درجة يسأل معها: "هل نحتاج لخاتمة لهذا الفصل؟"
وبما ان الجابري "ترك الأمر للقارئ" ليستخلص النتيجة التي يرتئيها، فإن ما ارتأيناه فهو أن الجابري لا ينتبه إلى أن نص ابن رشد يشتمل على كثير من المصادرات على المطلوب، ومنها قوله:
1) "فبماذا نعرف الأنبياء الحقيقيين؟ وكيف نميزهم من غيرهم من مدعي النبوة؟ يجيب ابن رشد: نحن نعرفهم بالشرائع التي يأتون بها والتي تستهدف الخير والفضيلة. فليس بوسع كل إنسان وضع شرائع كشرائع الأنبياء ! "
2) "أما إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فابن رشد يعتمد على القرآن [...]."
3) "فضل الشريعة المشروعة لنا، على سائر الشرائع المشروعة لليهود والنصارى، وفضل التعليم الموضوع لنا في معرفة الله ومعرفة المعاد وما بينهما".
فكل هذه القضايا مبنية على مقدمات غير مبرهنة. ففي القضية الأولى كان عليه أن يبرهن على وجود "الخير والفضيلة" التي أتت بها الشرائع، وعلى أنه لا جود لشرائع بدون أنبياء. وفي القضية الثانية يجعل من القرآن دليلا على صدق نبوة محمد، وكان عليه البرهنة على صدق القرآن. في القضية الثالثة يقرر بأن الإسلام أفضل من الشرائع الأخرى بناء على القضايا السابقة وكأنها مسلمات ليست في حاجة لبرهان.
هذا النقد لا يتوجه لابن رشد - فهو ابن عصره - بقدر ما يتوجه إلى الجابري الذي يريد أن يجعل إشكاليات قديمة ومتجاوزة معاصرة لنا.
إن الجابري يقدم لنا "الحل" الذي وجده الفلاسفة الأندلسيون لفشل المحاولة السابقة "لبناء البيان على البرهان". فهل وجد هذا "الحل" مخرجا ل "التعارض العميق بين "البيان" و"البرهان" وبالتالي استحالة الاستمرار في محاولة تأسيس الأول على الثاني دون التضحية بما هو جوهري في أحدهما، ولربما في كليهما معا"؟
ونقول "برهان" مسايرة لاصطلاحات الجابري، لأن "برهان" الفلاسفة المسلمين ليس في الواقع إلا بيانا منقولا عن الكسمولوجيا والطبيعيات والنفسانيات اليونانية !
الحاصل هو أنه لا فرق جوهري بين الفلاسفة المسلمين فيما يتعلق بالعلاقة بين "البرهان" والبيان. فكلهم حاولوا التوفيق بين البيان اليوناني والبيان الإسلامي، وكان ذلك هو الثمن الذي كان على الفلسفة أن تدفعه لتجد لها موضع قدم في ثقافة يهيمن فيها البيان الإسلامي بالقوة الاجتماعية للدين وسيف السلطة. فأي استقلال لفلسفة كان كل همها هو الاستشهاد على وجود الله، وعلى صدق نبوة محمد، وعلى أن الشريعة التي أتى بها هي أفضل الشرائع؟
وهذا الاستسلام للاشكالية الدينية لم يشفع للفلسفة في أعين أعدائها، وحججهم لا تخلو من معقولية، كما سنلاحظه في النص التالي الذي يسوقه الجابري نفسه:
"يذكر أبو حيان التوحيدي أنه عرض على أبي سليمان المنطقي السجستاني (توفي سنة 391 قيل 400 هج) بعض رسائل إخوان الصفا ليطالعها ويبدي رأيه فيها. وبعد أيام ردها إليه وقال: إنهم، أي إخوان الصفا،: "تعبوا وما أغنوا (...) ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع: ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة (...) في الشريعة وأن يضموا الشريعة إلى الفلسفة، وهذا مرام دونه حَدد. وقد توفر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنيابا وأحضر أسبابا (...) فلم يتم لهم ما ارادوه ولا بلغوا منه ما أملوه" (ربما يشير إلى الفلسفة الهرمسية). ويرجع أبو سليمان المنطقي السبب في ذلك إلى اختلاف النظام المعرفي الذي يؤسس الشريعة عن النظام المعرفي الذي يؤسس الفلسفة. يقول – حسب ما حكاه عنه التوحيدي - : "إن الشريعة مأخوذة من الله عز وجل بواسطة السفير بينه وبين الخلق عن طريق الوحي وباب المناجاة وشهادة الآيات وظهور المعجزات على ما يوجبه العقل تارة ويجوزه، تارة أخرى، لمصالح عامة مقننة ومراشد تامة مبينة، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوص فيه، ولا بد من التسليم الداعي إليه والمنبه عليه، وهناك يسقط "لِمَ؟" ويبطل "كيف؟" ويزول "هلا؟" ويذهب "لو" و"ليت" في الريح، لأن هذه المواد عنها محسومة واعتراضات المعترضين عليها مردودة وارتياب المرتابين فيها ضار وسكون الساكنين إليها نافع، وجملتها مشتملة على الخير وتفصيلها موصول بها على حسن التقبل، وهي متداولة بين متعلق بظاهر مكشوف ومحتج بتأويل معروف وناصر باللغة الشائعة وحام بالجدل المبين وذاب بالعمل الصالح وضارب للمثل السائر وراجع إلى البرهان الواضح ومتفقه في الحلال والحرام ومستند إلى الأثر والخبر المشهورين بين أهل الملة وراجع إلى اتفاق الأمة (...) ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب (...) ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر إلى آثارها (...) ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء (...) ولا فيها حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال (...) فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفا أن ينصبوا من القاء أنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة؟". ويضيف أبو حيان التوحيدي قائلا: " ان أبا سليمان يقول أن الفلسفة حق لكنها ليست من الشريعة في شيء والشريعة حق ولكنها ليست من الفلسفة في شيء. وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، واحدهما مخصوص بالوحي والآخر مخصوص ببحثه، والأول مكفي والثاني كادح (...) ومن أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الديانات، ومن اختار التدين فيجب عليه أن يُعَرِّد بعنايته عن الفلسفة، ويتحلى بهما مفترقتين في مكانين على حالين مختلفين، ويكون بالدين متقربا إلى الله تعالى على ما أوضحه له صاحب الشريعة عن الله تعالى، ويكون بالحكمة متصفحا لقدرة الله تعالى في هذا العالم الجامع للزينة الباهرة لكل عين، المحيرة لكل عقل ولا يهدم أحدهما بالآخر". وبعد أن يبرز أبو سليمان كيف أن القرآن يدعو الناس إلى التدبر والاعتبار وبالتالي إلى استخدام العقل، يشير إلى أن الآفة – ويقصد ما وقع من ردود فعل سلبية ضد الفلسفة في الإسلام – إنما "دخلت من قوم دهريين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل (...) منهم صالح بن عبد القدوس وابن أبي العرجاء ومطر بن أبي الغيث وابن الراوندي والصيرمي" – ومعروف أن هؤلاء متهمون بالزندقة ونشر المانوية ومعارضة الإسلام وإنكار النبوة – بعد أن يحمِّل أبو سليمان هؤلاء مسؤولية ردود الفعل السلبية التي تعرضت لها الفلسفة في الإسلام من طرف أهل السنة، يعود فيهاجم "الذين جمعوا بين الفلسفة والديانة ووصلوا هذه بهذه على طريق الظاهر والباطن والخفي والجلي والبادي والمكتوم" . (ص 261-262)
وما تجدر الإشارة له في هذا النص هو كونه سمى فئة من الفلاسفة لم يكن همها التوفيق بين الدين والفلسفة، وهم من نعتهم ب "قوم دهريين ملحدين". والملفت للنظر أن الجابري لا يعير اهتماما لهؤلاء وكأن الفلسفة يجب أن تكون في خدمة الدين أو لا تكون.
أما على المستوى السياسي للصراع المزعوم بين البيان المدعم بالبرهان وبين العرفان، فإن الجابري لا يقول لنا ما هو الفارق النوعي بين دولة المأمون ودولة ابن تومرت من جهة، والدولة الفاطمية من جهة ثانية؟ إذ أنه كان من اللازم – في منطق الجابري - أن تتميز دولة "المعقول الديني" المأمونية ودولة "الثورة الظاهرية" الموحدية، عن دولة "العقل المستقيل" الإسماعيلية.
أطروحة الجابري وصلت إلى "عنق الزجاجة"
لقد وصلت أطروحة الجابري إلى "عنق الزجاجة"، كما قال بشأن المأمون، لعدة أسباب:
1) تهافت المنطلق بسبب هشاشة المسلمة المؤسِّسة ("المعقول الديني") ومغالطات استنتاجاته المنطقية.
2) إلزام الدين ما لا يلزمه، وقد فصلنا هذه النقطة في معرض ردنا على "العقل الأخلاقي العربي".
3) سوء فهم الظاهرة الدينية الذي جعله يسقط عليها مقولة "المعقول" و"اللامعقول"، في حين أن ما يهم في الدين ليس معقولية المنطلق بل "أسراره" وما بني عليها من ثقافة ومؤسسات وحضارة، فهذه هي "حقيقته". ولهذا تعامل بشكل سطحي تماما مع الوثنية و المانوية و فكرة التثليث المسيحية... وعندما يقول: " والحق أن ما يميز الإسلام، رسولا وكتابا، من غيره من الديانات هو خلوه من ثقل "الأسرار" (mystères) التي تجعل المعرفة ب "الدين" تقع خارج تناول العقل..." (ص 429). فإن السؤال المطروح هو: هل حقا أن الإسلام خال من الأسرار؟ والجواب هو أن للإسلام أيضا أسراره، وهي من صنفين:
- أسرار ورثها من اليهودية والمسيحية، وهو ما يجعل من الولاية العذرية لعيسى – مثلا - أكثر الأسرار انتشارا في الكون، لأنه من أسرار المسيحية والإسلام معا.
- أسرار إسلامية محضة، وتتمثل أساسا في الوحي، والوحي معجزة كباقي المعجزات.
4) قطع الجسور مع "الموروث القديم" الذي يستحق أكثر من النعت التبخيسي الذي اطلقه عليه: "العقل المستقيل".
5) هجومه على العرفان لا يخدم إلا أعداء الفكر الحر، لأن العرفان – بتأويله الحر الخارج عن الاجماع - يفتح آفاق جديدة للروحانية الدينية.
6) لم ينتبه إلى أن ما يجمع الفلسفة (البرهان) بالعرفان هو حرية النظر، ولهذا ينظر إليهما الفقيه بعين الريبة.
7) شخص "أزمة أسس" في الثقافة العربية منذ نشاتها، في حين أن الأمر يتعلق صراعات بين رؤى مختلفة لمذاهب وفلسفات من إنتاج الحضارة العربية الإسلامية نفسها أو موروثة من عند الشعوب التي دخلت الإسلام (وهي بذلك ليست دخيلة على هذه الحضارة بما في ذلك الثقافة اليونانية). وهذه الصراعات الناتجة عن الجدلية الداخلية قد تكتسي طابعا سياسيا.
8) خدمته لأكثر التيارات الدينية نكوصا.
9) غفل عن أن "نقد الدين هو بداية كل كل نقد"، كما قال ماركس. والنقد هنا لا يعني بالضرورة التعامل مع الدين كأيديولوجيا متجاوزة، بل إعادة النظر في الأسس والمسار.
10) نزه الإسلام عما آلت إليه الحضارة الإسلامية، في حين أن القراءة الثقفانية - التي اعتمدها - كانت تفترض أن يقوم بالربط بين العقيدة وما نتج عنها.
11) ترويجه في الساحة الثقافية لإشكاليات متجاوزة على أنها قابلة لأن تكون معاصرة لنا.
12) ولهذا عجز عن تأسيس فلسفة دينية تستجيب لروح العصر وإشكالياته.
***
بعد عرضنا السابق للأطروحات العامة التي أرادها الجابري تمهيدا لتفسيره للقرآن، ننتقل إلى الموضوع المباشر لهذه الدراسة.
1) "مدخل إلى القرآن الكريم"
ليس غرضنا هنا أن نعطي ملخصا للكتاب، بل سنكتفي بعرض منهجية الجابري في التعامل مع مجمل الأسئلة التي طرحت بخصوص البعثة المحمدية والقرآن، وبعرض بعض الخلاصات التي استنتجها هو نفسه.
يقول الجابري بخصوص علوم القرآن: "ولا شك أن الذي ينظر إلى الموضوع نظرة من يحمل منظار الثقافة العربية، كما ورثها جيلنا والأجيال السابقة، سيحكم بأن الكلام في النص القرآني، من هذه الجهة، قد استوفاه الأقدمون في تلك المؤلفات الجامعة. والحق أنهم طرحوا – تقريبا – "جميع" الأسئلة المتعلقة بالموضوع وناقشوها وقدموا إجابات عنها حتى ليخيل للمرء اليوم أنه لم يعد هناك مجال للمزيد ! أما المستشرقون، الذين يعتمدون في الغالب منهج المقارنة، فهم يطرحون أسئلة تجد مرجعيتها الصريحة أو المضمرة في ثقافتهم الخاصة بهم، وهي أسئلة قد تثير قضايا جديدة لم تكن من مجال "المفكر فيه" في الثقافة العربية الإسلامية. ومع أن طرح مثل هذه الأسئلة المتولدة في ثقافة بعينها على ساحة ثقافة أخرى لم يكن فيها ما يدفع إلى طرحها، قد يغني التفكير داخل هذه الأخيرة، فإنه ينطوي على نوع من ممارسة السلطة عليها، سلطة السائل على المسؤول، مهما كان وضع أحدهما بالنسبة للآخر. فالسائل "فاعل"، قد لا تخلو أسئلته من إزعاج وإحراج حتى عندما يكون وراءها براءة وحسن نية، كما هو الشأن في أسئلة الأطفال." (ص 20-21)
والجابري لا يشكك في صحة المصادر، إذ يقول: "والمصادر الإسلامية مادتها الأساسية هي الروايات. وهي، في جملتها، يطبعها الاختلاف إلى حد التناقض أحيانا. ومع أن اختلافها قد يدفع بعض الباحثين إلى الشك في صحة ما ترويه، كلا أو بعضا، فإننا نرى، بالعكس من ذلك، أن هذه الاختلافات دليل على صحتها ككل." (ص 25)
وتقييم الروايات عند الجابري يتم على أساس " اعتبار خصوصيات لغة العرب ومعطيات معهودهم"، إذ يقول: "وإذا نحن انطلقنا في فهمنا للظاهرة القرآنية من هذا المنطلق، أعني من اعتبار خصوصيات لغة العرب ومعطيات معهودهم أمكننا التغلب على كثير من الشكوك التي قد تثار في وجه صدق الروايات التي تتحدث عنها هذه الظاهرة، حتى عندما يتعلق الأمر بأدق لحظاتها، أعني لحظة البداية. على أن اعتبار معهود العرب بكل جوانبه أمر ضروري لنا لجعل القرآن "معاصرا" لنفسه، تماما مثلما أن تعاملنا مع هذا المعهود بكل ما نستطيع من الحياد والموضوعية، هو الطريق السليم – في نظرنا – لجعل القرآن معاصرا لنا أيضا، لا على صعيد التجربة الدينية فذلك ما هو قائم دوما، بل أيضا على صعيد الفهم والمعقولية." (ص 28)
ليس لدينا اعتراض على هذه المنهجية، لكن السؤال المطروح هو: هل بإمكان هذه المنهجية تحييد التحيز le biais الذي لا محالة ستمارسه أطروحات الجابري على القضايا التي سيتناولها؟
هذا التحيز لا يشمل كل القضايا المطروحة، إذ هناك قضايا اكتفى فيها بتلخيص الأخبار التي تخصها، كمسألة جمع القرآن والقراءات الخ. وهناك قضايا اتخذ فيها موقفا مخالفا لما هو متداول في الأوساط الفقهية، كمسألة أمية الرسول... كما أنه التزم مقاربة وضعية تتفق مع المبدأ الذي أقره وهو أنه ليس في الإسلام معجزات وأسرار، إذ رفض كل الأخبار والتفسيرات التي تتنافى مع هذا المبدأ. وكمثال على ذلك تقديمه لسورة القمر، إذ يقول: "اهتم كثير من المفسرين بتتبع روايات "انشقاق القمر"، لدى تفسيرهم الآية التي افتتحت بها هذه السورة: "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ". فذهب معظمهم إلى أن الانشقاق حدث فعلا في مكة. وهناك من قال إن رؤية انشقاق القمر لم تكن عامة [...] وقال آخرون إن انشقاق القمر هو حسب القرآن، مظهر من مظار قيام الساعة، وبما أن الساعة لم تقم بعد، فإن الآية يجب أن تفهم كما يلي: "اقتربت الساعة وسينشق القمر".[...] أما الرواية التي تقول: طلبت قريش من النبي معجزة، وذلك بأن ينشق القمر ويرونه بأعينهم، فلا تؤخذ بعين الاعتبار لأن القرآن كرر مرارا أنه لا فائدة في مثل هذه المعجزات ما دام قد كذب بها أقوام أنبياء سابقين، وأن المعجزة الحقيقية التي جاء بها الرسول محمد عليه السلام هي القرآن، وهذا ما تقرره السورة". (فهم... (ق 1) ص 187)
أما مفعول أطروحاته فسنلمسه فيما جمعه من "شتات حقائق تاريخية" – كما يقول – اعتبرها أساسية لفهم القرآن والإسلام عموما. وتعطينا الخلاصة التالية مفتاح المنطق الذي جمع به الجابري شتات الأخبار:
"ومن دون الذهاب إلى استخلاص نتائج، ما زالت تحتاج إلى مزيد من بحث وحفر، نسجل هنا شعورنا بأننا قد تمكنا من جمع شتات حقائق تاريخية على قدر كبير من الأهمية نعتبرها ضرورية في أي فهم للقرآن، وبالتالي للإسلام، يريد أن يؤسس نظرة معاصرة بالمعنيين اللذين شرحناهما في كتابنا نحن والتراث: أقصد رؤية معاصرة للدعوة المحمدية، أعني لزمانيتها وفضائها الثقافي من جهة، ومعاصرة لنا نحن أبناء القرن الواحد والعشرين على صعيد الفهم والمعقولية." (ص 72)
"... أما الآن، وبعد هذا الذي قدمنا في هذه الجولة، فيمكن القول أن كثيرا من الغموض الذي كان يلف هذه المسائل قد زال، وأن كثيرا من الشكوك التي كانت تحوم حولها لم يعد هناك ما يبررها. وهكذا:
- فمسألة التبشير بالنبي محمد في الفكر الديني السابق على الإسلام [...] لم تعد تحتمل التكذيب بالطريقة التي كانت سابقة من قبل [...] ذلك أنه قد اتضح الآن أن المسألة لم تكن مجرد تبشير ب"الأمي" الذي اسمه "احمد" أو "محمد" بل أن المسألة كانت تتعلق، في الواقع، بوجود تيار ديني توحيدي قام في وجه نظرية التثليث التي رسمتها المجامع الكنسية برعاية أعلى السلطات في الإمبراطورية البيزنطية، تيار توحيدي اكتسى طابع المعارضة السياسية والفكرية، وبالتالي الدينية، لدولة الاحتلال البيزنطي ومذهبها الديني، من طرف شعوب الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لقد انطلقت هذه المعارضة، كما بينا في صورة رد فعل ديني على فكرة "التثليث" التي بنى عليها القديس بولس وغيره العقيدة المسيحية، بعد أزيد من نصف قرن على وفاة عيسى عليه السلام." (ص 73)
- "... وبما أن الكنيسة، وبالتالي الدولة، قد رفضت في مجامع مسكونية رسمية نظرية آريوس وأصحابه والمتأثرين به [...] فقد كان من الطبيعي، وهذا ما يحدث عادة، أن يقفز أصحاب المذهب المرفوض قفزة إلى الأمام يتجاوزون بها النقاش حول طبيعة المسيح عيسى عليه السلام. وهكذا طرحوا فكرة النبي "المنتظر" الذي بشرت به نصوص بعض الأناجيل تصريحا أو تلميحا، أو على سبيل التأويل – لا فرق، لأن الإيمان بعقيدة دينية يكفي نفسه بنفسه، فلا يحتاج إلى برهان عقلي أو تاريخي !" (ص 73)
- "في هذا الإطار، إذا، تقع تلك الروايات المتعددة التي تنقل إلينا أخبارا وتفاصيل عن تصريحات كثير من الرهبان "النصارى" بقرب ظهور نبي جديد ! وفي هذا الإطار نفسه يجب أن نضع تلك الحركة الواسعة التي انتشرت في جميع أنحاء الجزيرة العربية – تقريبا- والتي كانت تبحث عن "الدين الحق"، دين إبراهيم، والتي عرف أصحابها باسم "الحنفاء"،..." (ص 74)
- "أما علاقة الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية فهي – كما تتحدد بنص القرآن وليس كما يفهمها المفسرون والدعاة الواقعون تحت تأثير الصراع التاريخي، السياسي العسكري، الذي شهده تاريخ الديانات الثلاث – علاقة تحكمها شجرة نسب واحد: جذعها المشترك إبراهيم الخليل [...] هل ندعو إلى نوع من رجوع المياه إلى مجراها؟ إلى قيام مصالحة تاريخية بين حفدة إبراهيم الخليل ! على كل حال هناك مثل مغربي يقول: "لا يختصم إلا الإخوة". والحق أن الغريب لا يختصم مع الغريب لأن لا شيء يربط بينهما !" (ص 76)
هذه الخلاصة تشتمل على فكرتين أساسيتين:
الفكرة الأولى تعود بنا إلى الفصل الأول الذي عنوانه: "حول وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث". وفيه خاض الجابري سجالا حول مسألة التبشير ببعثة الرسول محمد، وهو سجال قديم بين المسلمين والمسيحيين. وسجال الجابري كان مع "خائض في الشأن" لم يذكر اسمه، إذ اكتفى بالاحالة إلى موقع (w.w.w. mutenasserin.net).
ينطلق الجابري من الآيتين:
- "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف: 157 )
- "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ" (الصف: 6)
ليؤكد أن "الآيتان صريحتان في كون التوراة والإنجيل قد بشرا بقدوم النبي الأمي، أي من غير اليهود، اسمه أحمد." (ص 34). والواقع أن محتوى السجال هزيل جدا، إذ تمحور حول بعض التعابير وهي:
- "النبي الأمي"، التي ينكر صاحب المقال وجودها في التوراة، مدعيا أن التوراة تقول: "النبي الآتي" بعد موسى أي عيسى (وليس "النبي الأمي")، وهو ما ينكره الجابري. (ص 34-35)
- "المُنحَمنا" الذي يعني بالسريانية "محمد"، ومقابله "بالرومية البرقليطس (=الفارقليط). أما "الخائض في الشأن" فإنه يرى أن أصل هذه اللفظة في اليونانية هو paracletos، وهي صيغة "صفة لم تستعمل قط كاسم علم"، وتعني "المعزي"، "المشير"، "المدافع"، "الروح القدس"... وهي مخالفة ل periklutos التي تعني "المحمود"، "المجيد"، "النبيل"... (ص 36-37)
هذا هو ملخص السجال الذي قال عنه الجابري أنه أزال الغموض حول المسألة ورفع الشكوك عنها ! وهذا السجال، كغيره من السجالات بين أتباع الديانات المختلفة، لا جدوى من ورائه، فكل يأول النصوص حسب ما يوافق معتقداته، ومن المستحيل التوافق على موقف فيه نسف لمعتقدات أحد الطرفين.
أما الفكرة الثانية فإنها تقدم الإسلام كوارث لأحد التيارات التي عرفتها المسيحية، والذي يعارض عقيدة التثليث. وهنا يسقط الجابري، كعادته، في شرك القراءة الأيديولوجية الذي يلخصه الشاهد التالي:
"ابرزنا في الفقرة السابقة كيف أن شمال الجزيرة العربية كان قد صار، بعد ترسيم عقيدة التثليث، ملجأ للفرق الدينية المحرمة تدعو فيه لمذاهبها وتمارس نوعا من المعارضة للمحتل: الإمبراطورية البيزنطية. ونضيف الآن ظاهرة أخرى وهي ما تتيحه الجزيرة العربية من إمكانيات للتواصل والدعاية بسبب خلوها من دولة مركزية من جهة، وبفضل طرق التجارة العالمية التي كانت تشقها من الشمال إلى الجنوب ومن والغرب إلى الشرق، من جهة أخرى. وإذا اضفنا على ذلك وجود مراكز دينية مهمة – لم تكن مكة إلا واحدا منها – تحج إليها القبائل العربية وتقيم حولها الأسواق، ليس فقط لتبادل السلع بل أيضا ل "الأشعار والأفكار والقصص والأخبار"، فقد أدركنا كيف أن الجزيرة العربية في "الجاهلية" لم تكن تقع خارج العالم، بل لربما يمكن القول أنها كانت تشكل مجالا لتلاقي الموجات التي كانت تنبعث باستمرار من "قطبي" العالم يومئذ." (ص 49)
"تؤكد الروايات التي جمعها مؤرخو السيرة النبوية انشغال الناس، قبل قيام الدعوة المحمدية، بترقب نبي جديد، مع ظهور ميول توحيدية في مختلف أجزاء جزيرة العرب، لدى كثير من الرهبان والقساوسة وغيرهم ممن تصنفهم مصادرنا بكونهم "حنفاء" يبحثون عن الدين الحنيف دين إبراهيم عليه السلام. وقد قام بعضهم برحلات وسياحات من أجل ذلك. والقول بنبي جديد معناه التنبؤ بقرب نهاية النظام الديني/السياسي الذي قام على أساس دعوة نبي سابق. وبعبارة أخرى معناه التبشير بقرب سقوط الإمبراطورية التي تبني كيانها على تفسير الدين السابق. النبي الجديد سيأتي ليصحح الدين، ولكن أيضا ليبشر بسقوط الدولة التي انحرفت بالدين." (ص 50)
من الواضح أن الجابري يقرأ الأحداث بشكل تراجعي، أي أنه ينطلق مما حدث بعد البعثة المحمدية (وهو هنا "سقوط الإمبراطورية التي تبني كيانها على تفسير الدين السابق") ليقرأ الأحداث السابقة ويعطيها وزنها النوعي ودلالتها. لكن هذه القراءة تجعل القرآن غير مفهوم، فخصم المسلمين في القرآن كان مشركو قريش وليس "الروم" (وهم من المسيحية المثلثة) الذين نزلت فيهم الآية:
"الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)" (الروم)
والجابري يعود إلى علاقة المسلمين بالروم في القسم الثاني من "فهم القرآن الحكيم..." ، ليقول: "غير ما أغفل المفسرون والرواة ذكره هو أن تعاطف القرآن في هذه الآيات يتجاوز بكثير مجرد التعاطف المفترض بين الفرس ومشركي مكة. ذلك أن من النصارى التابعين للإمبراطورية البيزنطية من كان يتعاطف مع الدعوة المحمدية. فوفد نصارى الشام الذين جاؤوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليستمعوا إليه ويتعرفوا على حقيقة دعوته، أظهروا من التعاطف ما أشاد به القرآن؛ ويجب أن لا ننسى النجاشي (ملك الحبشة وهو مع الروم) الذي كان يأوي المسلمين يتوصية من الرسول (صلى الله عليه وسلم) [...] وهكذا فليس تعاطف السورة مع الروم راجعا فقط إلى أنهم "أهل كتاب" بينما الفرس ليسوا كذلك، بل إن هذا التعاطف الذي بلغ درجة اعتبرت فيها السورة انتصار الروم هو أيضا انتصارا للمؤمنين المسلمين يرجع إلى ما ذكرناه من الموقف الإيجابي لنصارى الشام وملك الحبشة، وكانوا جميعا منضوين تحت إمبراطورية الروم البيزنطيين. ويجب أن نتذكر كذلك الموقف الإيجابي الذي وقفه لاحقا كل من هرقل الروم ومقوقس الإسكندرية والنجاشي، من رسائل النبي (صلى الله عليه وسلم) إليهم إثر صلح الحديبية".(فهم... (2) ص 353)
ويوضح الجابري في الهامش: "الجامع بينهم هو انحدارهم جميعا من الأريوسية" (فهم... (2) هامش ص 353).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو مدى الصدقية التاريخية لهذا التعاطف المزعوم للقوى المسيحية المجاورة مع البعثة المحمدية. وللجواب على هذا السؤال يجب وضع خارطة لمختلف الفرق المسيحية مثلثة (وهي الغالبة) وغير مثلثة، ثم جرد العلاقات التي كانت تربط بعضها ببعض، والعلاقات التي كانت تربطها بالدولتين اليزنطية والإسلامية. والأمر على قدر كبير من التعقيد نظرا لكثرة الفرق ولتقلب المواقف. إلا أن أهم الفرق المسيحية التي وجدت نفسها ضمن حدود الدولة الإسلامية، لكونها كانت عربية (الغساسنة كانوا يعاقبة واللخميون (المناذرة) كانوا نساطرة) أو بسبب جوارها لجزيرة العرب، هي النسطورية واليعقوبية والملكانية ؛ وكل هذه الفرق - رغم خلافاتها - مثلثة.
وبعد مشركي قريش يأتي اليهود بسبب انعدام الثقة الذي شاب العلاقة بينهم وبين المسلمين:
"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) " (المائدة)
وبعض المصادر تذهب إلى أن "النصارى" الذين ورد ذكرهم في الآية هم أولئك الذين رفضوا عقيدة التثليث، وهو ما يوضحه الجابري قائلا:
"وفي مقابل النزعة التثليثة المتفلسفة التي ما لبثت أن أصبحت هي العقيدة المسيحية الرسمية، كان المسيحيون الأول، وهم المقصودون ب "النصارى"، يستندون في تصورهم للدين الجديد على ما ورد في التوراة. كانوا يقولون بان المسيح هو المخلص الذي بشرت به التوراة وأنه رسول وإنسان كسائر البشر، ولدته مريم، كما يولد سائر الناس، ولكن من دون أب بل بنفخة من روح الله، وأنه جاء لتطبيق تعاليم التوراة سواء على مستوى العقيدة أو السلوك الديني، ومن هنا حرصهم على الختان وإقامة السبت وتحريم أكل الخنزير...الخ. هؤلاء تنصروا "قالوا إنا نصارى" ولكن من دون قطيعة مع اليهودية، معتبرين عيسى هو المسيح الذي بشرت به التوراة."(مدخل... ص 41-42)
"وهكذا تراجع الاسم الحقيقي لهذه الفرقة، أعني "النصارى"، أمام حملات خصومهم عليهم وإلصاق لقب "الأبيونيين" بهم [وهو حسب الجابري اسم تحقيري يعني "الفقراء" بمعنى الفقر الفكري ]، فعرفوا في الأدبيات الدينية وغير الدينية في العالم المسيحي بهذا اللقب، منذ ذلك الوقت إلى اليوم. ومما يلفت النظر هو ان جل المتعرضين لهذه الفرقة، سواء في الموسوعات الدينية أو الفلسفية أو في الكتابات البحثية، يؤكدون غموض هذا الاسم ("الأبيونية"). أما في التراث العربي الإسلامي فلم يرد على اللفظ، لا بصيغة الفرقة (الأبيونية) ولا بصيغة اللغة (الأبيوني، الأبيونيون)، مع أن كتب الفرق في الثقافة العربية الإسلامية أوردت ما لا يحصى من أسماء الفرق، المسيحية وغيرها...لكن لم ترد فيها أدنى إشارة إلى هذا الاسم. " (مدخل... ص 42)
"كل ذلك يرجح لدينا ما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين من ان الفرقة الأبيونية ليست شيئا آخر غير فرقة النصارى Nazarenes، لكن ليس بمعنى المنتسبين لمدينة الناصرة (حيث نشا السيد المسيح) كما هو شائع، بل بمعنى الذين نصروا عيسى." (مدخل... ص 42)
"بعد هذا التحديد الذي كان لا بد منه (خصوصا وقد ذهب بعض الكتاب العرب المعاصرين إلى حد القول بأن هذه الفرقة هي التي حضرت لظهور محمد صلى الله عليه وسلم في صورة نبي، بتخطيط وتدبير من القس ورقة بن نوفل عم خديجة زوج الرسول، الأمر، الذي يضعنا إزاء "نظرية المؤامرة" مرة أخرى !)" (مدخل... ص 43)
هذا التوضيح له أهميته، لكن هذا لا يقيم البرهان على أن هدف الحركات الدينية التي عرفتها الجزيرة العربية قبل الإسلام كان هو القضاء على دولة الروم ومنافستها الدولة الساسانية. والقرآن نفسه لا يشتمل على أي مشروع سياسي يهدف إلى قيام دولة لمحاربة الدول التي ترفض الدخول في الإسلام، بل يترك الأمر لله:
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)" (الحج)
كل ما هنالك هو أن الحيثيات و المصادفات التاريخية جعلت المسلمين مضطرين إلى تنظيم أنفسهم فيما يشبه الدولة، وانتهت هذه الدولة إلى فرض منطقها (كما هو شأن كل دولة) على طريقة تعاملهم مع خصومهم (مواثيق، أحلاف، حروب، هدنة... فرضتها الواقعية السياسية وموازين القوى قبل كل شيء). ومن الخطأ القول أن المسلمين أسسوا دولة لأن الإسلام "دين ودولة"، فكل الدول المجاورة كانت لها ديانة رسمية تمنح للدولة شرعيتها وفي المقابل تضع الدولة سلطتها في خدمتها. مع العلم أن الدين كان يصبغ كل جوانب الحياة في المجتمعات القديمة. فكل ما فعله المسلمون أنهم قلدوا جيرانهم من الناحية السياسية. وانهزام البزنطيين والساسانيين أمام الجيوش الإسلامية لم يكن مكتوبا في مسار حتمي للتاريخ.
والمشكلة التي تطرحها هذه الغائية التي يقرأ بها الجابري التاريخ هو كونها تفرض تأويلا ممغنطا بنتائج تاريخية معينة، وهوبذلك يتجاهل ما تشتمل عليه الأحداث والأفكار من احتمالات متعددة، قد تكون مخالفة لمجرى التاريخ. فلأن الإسلام أسس دولة فذلك ليس دليلا على أنه في طبيعته "دين ودولة"، والقيام بالشعائر الدينية لا يحتاج لدولة. وشعار أن "الإسلام دين ودولة" لا سند له في القرآن الذي يخلو تماما من السياسة، كل ما هنالك أنه ما من عقيدة تحولت إلى قوة اجتماعية إلا وتحولت - لا محالة - إلى قوة سياسية.
وبما أن الجابري يريد أن يجعل التراث مقروءا لنا، فإن هذه المقروئية لا تمكن إلا إذا فتح مجال الاحتمال الذي يشتمل عليه التراث، تاريخيا وعقديا. إلا أن الجابري جمد تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بقراءته الأيديولوجية له، وجمد العقيدة بما سماه ب "المعقول الديني".
وفتح مجال الاحتمال يتطلب تجاوز "علوم القرآن" المتوارثة، فإذا كان السلف قد بذلوا جهدا جبارا في مجال علوم القرآن سيبقى قاعدة لا يمكن الاستغناء عنها لفهم البعثة المحمدية، غير أن علومهم كانت أجوبة على إشكالياتهم؛ فلا يمكن لنا أن نجعل القرآن معاصرا لنا إلا إذا نظرنا إليه بإشكاليات العلوم و الثقافة المعاصرة لنا، أتعلق الأمر بميدان اللسانيات أو التاريخ العام أو تاريخ الأديان أو الميثولوجيا أو القانون أوالسياسة أو الآقتصاد أو الديموغرافيا أو الانتروبولجيا... ورب قائل ان هذا هو ما فعله بعض المستشرقين، وبالفعل لقد أسدى كثير منهم خدمات جلى لعلوم القرآن الحديثة بفضل تجديدهم للأسئلة المطروحة (ولو أن أسئلتهم "مزعجة" كما قال الجابري)، إلا أن غرضهم ليس هو غرض المثقف العربي الذي يريد خلق ثقافة عربية حديثة، من شروطها وتنائجها تجديد النظرة إلى الماضي. وهذا لا يعني أن كل ما يقوله المستشرقون منزه عن الشطط، فبعضهم من كثرة "التشريح" (أي فكه إلى عناصره المكونة له) و"التذويب" (أي رد هذه العناصر إلى مصادر خارجية) نسوا أنهم يتعاملون مع جسم حي وأن فهم هذه الحياة (أي دلالته بالنسبة لاتباعه) هو الأهم.
2) تفسير القرآن حسب ترتيب النزول
وهنا ننتقل إلى الجزء الثاني الذي يتناول تفسير القرأن حسب ترتيب النزول. وما يمكن قوله حول هذا التفسير هو أنه بقي في منأى عن القراءات الأيديولوجية المعهودة للجابري، إذ التزم فيه منهجية إجرائية ملتصقة بموضوعها لرصد التساوق بين السور و تاريخ البعثة وقصدها. ولم يعتمد على "أسباب النزول" المتداولة إلا إذا توافقت مع المنطق الداخلي لتسلسل الآيات والسور وتساوقها مع مجرى الأحداث.
وفي ما يتعلق بهذه المنهجية الإجرائية يقول الجابري:
"كيف يمكن إذا، من الناحية المنهجية، التعامل مع القرآن بوصفه معاصرا لنفسه ومعاصرا لنا في نفس الوقت؟ [...] ولما كان الأمر يتعلق هنا بالقرآن فإن أحسن طريق لتطبيق هذا المنهج/الرؤية هو التعامل معه هو، في نظرنا، ذلك المبدأ الذي نادى به كثير من علماء الإسلام، مفسرين وغيرهم، وهو أن "القرآن يشرح بعضه بعضا".
"سنعتمد هذا المبدأ، إذا، ولكن من دون إقصاء الروايات التي يعتمدها "التفسير" بالمأثور إقصاء كليا، بل سنتعامل إيجابيا مع كل اجتهاد أو رواية نجد في القرآن ما يشهد لهما بالصحة، من قريب أو بعيد. ذلك هو سلاحنا ضد الوضع، سواء كان بدافع "الترغيب والترهيب" أو بدوافع مذهبية أو سياسية، وهو سلاحنا أيضا ضد الإسرائليات وأنواع الموروث القديم السابق عن الإسلام."
"ومن أجل تطبيق هذا المبدأ نرى أنه ينبغي التمييز منهجيا بين أمرين: النص القرآني كما هو مجموع في المصحف من جهة، والقرآن كما نزل مفرقا، أي حسب ترتيب النزول من جهة أخرى، ومن ثم التعامل مع كل موضوع نطرحه، بشأن القرآن، بحسب طبيعته. فإن كان مما ينتمي إلى النسبي والتاريخي رجعنا به إلى ترتيب النزول، وإن كان مما ينتمي إلى المطلق واللازمني طرحناه على مستوى القرآن ككل بوصفه يشرح بعضه بعضا ويكون الحكم فيه هو "قصد الشارع" وليس الزمن والتاريخ. وهذا لا يمنع من استعمال المستويين معا حين يقتضي الموضوع ذلك." (مدخل... ص 28-29)
ويعود الجابري إلى مقولة أن "القرآن يشرح بعضه بعضا" في معرض تفسيره لسورة "إبراهيم" ليوضح: "غير أن منهج "القرآن يشرحه القرآن" لا يعني أنه منهج يقع على مستوى "العام" وحده، وإلا كانت هذه المقولة فارغة من المعنى، أي مجرد تكرار لفظ القرآن. القرآن يشرحه القرآن معناه القرآن أنواع من الأقاويل ينتظمها معنى كلي، منه تستقي الأجزاء ما فيها من المعنى الكلي، باعتبار أن في كل جزء أو في كل خاص شيء من الكل (الشجرة مفهوم كلي، وهذه النخلة أحد أفراد هذا الكلي وفيها "معنى الشجرة" وليس معنى الزرافة مثلا)، هذا جانب. لكن، ثمة جانب آخر، وهو أن في جميع الأقاويل – بما فيها الخطاب القرآني – ما هو متشابه، وفي هذه الحالة فالمعنى الخاص في كل عبارة قد يعبر عنه خاص آخر يشبهه، وبالتالي فقولنا: "القرآن يشرحه القرآن" معناه أن بعض القرآن يجد معناه في بعض آخر منه. وهذا في الحقيقة هو معنى وصفه تعالى للقرآن بكونه "متشابها مثاني" (الزمر: 23): يشبه بعضه بعضا ويثنيه، أي يكون بعضه بمنزلة "الثاني" بالنسبة إلى بعض آخر منه، يكون بمنزلة "الأول" له." (فهم... (ق 3)، ص 245)
وفي موضوع التساوق بين ترتيب السور ومسيرة الدعوة، يوضح الجابري في الكتاب الأول ل "فهم القرآن الحكيم..." ، قائلا: "... لا بد من الإشارة إلى أننا ميزنا في تسلسل السور حسب ترتيب النزول بين مراحل، راعينا فيها التطابق، النسبي على الأقل، بين مسار التنزيل ومسيرة الدعوة، وسيلمس القارئ بنفسه أن ما قمنا به في المجال لا يعدو أن يكون مجرد وضع عناوين لكل مرحلة. وهكذا نتبين بكل وضوح أنه، مع أن القرآن نزل منجما وخلال أزيد من عشرين سنة، فإن تسلسل سوره – حسب ترتيب النزول – يباطنه تسلسل منطقي سرعان ما نكتشفه عندما نتنبه إلى الموضوع الذي تركز عليه هذه المجموعة من السور أو تلك في تسلسلها؛ وبالرجوع إلى وقائع السيرة نكتشف أن ذلك المنطق، الذي يباطن تسلسل السور داخل كل مجموعة، يتطابق في مضمونه مع تسلسل هذه الوقائع؛ الشيء الذي نتبين منه بوضوح أن مسار التنزيل مساوق فعلا لمسيرة الدعوة." (فهم... (ق 1)، ص 17)
وهذا التطابق بين مسار التنزيل ومسيرة الدعوة هو ما جعل الجابري يرفض بعض "أسباب النزول" المأثورة لأنها لا تطابق هذا التساوق. كما أن التسلسل المنطقي للسور جعله يرفض مبدأ الناسخ والمنسوخ، إذ يقول:
"وواضح أنه يترتب على قولنا إن لا دليل في القرآن على النسخ بالمعنى الفقهي، أن ليس في القرآن الذي في المصحف آيات – أحكام أو أخبار – منسوخة، بمعنى أنها ألغتها آيات أو أحكام أخرى ! كلا، ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ. كل ما هناك هو وجود أنواع من التدرج في الأحكام: من العام إلى الخاص، ومن المطلق إلى المقيد، ومن المجمل إلى المبين، ومن المبهم إلى المعين، هذا فضلا عن ملاءمة الأحكام مع مقتضيات الأحوال، كأن يأتي حكم يراعي حالة المسلمين من الضعف وغيره، ثم عندما تتحسن أحوالهم يأتي تعديل في الحكم نفسه ليتلاءم مع المستجدات. وهذا لا يعني إزالة الحكم الأول ولا إبطاله بالمرة، وإنما يعني إعماله بصورة معدلة." ( فهم...(ق 3) ص 109)
وبخصوص الغاية التي ما لبث الجابري يكررها، ألا وهي: "...جعل المقروء معاصرا لنفسه، ومعاصرا لنا في الوقت نفسه" فإنه يوضح:
- "معاصرا لنفسه بمحاولة فهمه في إطار زمانه ومعهود المخاطبين به، الشيء الذي يعني بالنسبة إلى "فهم القرآن" ضرورة استحضار المرويات التي تساعد عليه وتحمل الحد الأدنى من الصدقية، مع تحري المساوقة بين مسار التنزيل ومسيرة الدعوة."
- ومعاصرا لنا بمحاولة تطبيق ذلك الفهم، في مجال العقيدة والشريعة، بالتمييز فيه بين "العام المطلق" و"العام المقيد"، والتزام الأول كخطاب معاصر لنا لتطبيقه، والتزام الثاني كخطاب أخلاقي لأخذ العبرة واستلهام الحلول." (فهم... (3)، ص 37)
وكخلاصة لمشروعه هذا يقول الجابري: "يمكن القول، دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكنا عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضا، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري. وقد أمكن ذلك باعتماد خطوات منهجية لم يسبق أن طبقت في أي نوع من أنواع التفاسير السابقة..." (فهم... (2) ص 391)
وهنا نتفق مع الجابري فيما يتعلق بمنهجه، وجزئيا مع خلاصته. فمن حيث المنهج التزم "الالتصاق" بالنص وسياقه وبالأحداث وسياقها. وهذا ما جعله يعارض في بعض الأحيان ما ورد في "أسباب النزول". كما حاول أن يجد لكل سورة منطقا داخليا يعطي مسوغا لوضع الآيات وتسلسلها في السورة؛ علما بأن الآيات وضعت في السور بأمر من الرسول (ولهذا يعد موقعها في السورة توقيفيا)، فتتابعها في السور لا يعني انها متتابعة في ترتيب النزول؛ ولهذا يكون على الباحث أن يأخذ بعين الاعتبار ترتيبين: ترتيب نزول الآيات (وهو السابق) ثم ترتيب نزول السور. كما نتفق جزئيا مع الجابر في موضوع "فخره"، إذ أنه لأول مرة (حسب علمنا) يقدم باحث عربي تفسيرا مفصلا للقرآن حسب ترتيب النزول. لكن تفسير الجابري سبقه "تاريخ القرآن" لتيودور نولدكه زيادة على ترجمات إلى الفرنسية حسب ترتيب النزول نذكر منها ترجمة ريجيس بلاشير وسامي عوض أبي سحلية . وتكمن أهمية عمل نولدكه في كونه عمل موسوعي كثيف وضخم، إذ أن ترجمته العربية تشتمل على 838 صفحة؛ طرح كل الأسئلة التي طرحتها علوم القرآن، وقد يكون تجاهل الجابري لهذا المرجع عائدا لكونه لم ينشر إلا في سنة 2008. ويتبين لنا من هذا الكتاب أن أول من طرح "الأسئلة المزعجة" لم يكن المستشرقين بل أعلام علوم القرآن المسلمين أنفسهم !
صحيح ان غرض نولدكه غير غرض الجابري، لهذا كان عمل الأول عملا "تشريحيا" على درجة من الدقة تثير الإعجاب، أما غرض الثاني فهو أن يجد في النص دلالة. وإن كان "التشريح" قد يقيم مسافة مع الموضوع تؤدي أحيانا إلى عدم الإحساس بحياة الموضوع المشرح، ولهذا نستغرب حكم نولدكة على الرسول إذ يقول: "يضاف إلى ذلك أمر يود المسلمون بالطبع أن يخفوه، ألا وهو أن محمدا كان بطبعه ضعيف العزم. أجل، لقد كان يخاف إلى درجة أنه لم يتجرأ في البدء على المجاهرة برسالته. لكن الصوت الداخلي أقض مضجعه: لقد وجب عليه أن يعظ، وأن يتشجع من حين لآخر كلما خانته الشجاعة، وذلك رغم التعييرات والإهانات التي وجهها إليه أصدقاؤه السابقون". ويزيد قائلا في الصفحة نفسها: "ففيما كان يتمتع بذكاء عملي كبير، لم يكن له من دونه أن ينتصر على كل اعدائه، أعوزته القدرة على التجريد المنطقي إعوازا شبه تام ." وهذا الحكم يبين حدود المقاربة الخارجية المحضة، إذ أنه من الصعب موضوعيا نعت شخص أسس إحدى أكبر الحضارات الإنسانية بأنه "ضعيف العزم"، كما أننا لا نفهم أن يطلب من رسول ما يطلب من فيلسوف . لكن الاستشهادان يشكلان استثناء لأن باقي الكتاب على درجة كبيرة من الموضوعية، إذ كثيرا ما رد نولدكه تاويلات سلبية لبعض المستشرقين لإجحافها في تأويل النصوص.
وإذا قارنا بين عمل نولدكه وعمل الجابري، فإن الأول يتفوق بدون منازع على الثاني على مستوى المنهج وسعة الاطلاع؛ لكن تفسير الجابري فيه "حياة" لا نجدها في الأول. وصحيح أن الجابري يظهر تعاطفه مع موضوعه، وهو أمر ضروري عندما يتعلق الأمر بالبحث عن الدلالة، وهذا قد يؤثر لا محالة في تأويل الأحداث، لكن مجال هذا التحيز بقي محدودا. وأهم شيء في المنهج الذي اتبعه الجابري – بعد كل النقد الذي وجهناه لأطروحاته – هو كونه لم يعكس هذه الأطروحات إلا بشكل هامشي لأنه بقي "لصيقا" بموضوعه. إلا أنه لم يجدد فهمنا للقرآن لأنه تعامل مع النص القرآني كمتكلم سني، وهو بذلك وضع سقفا لتعامله مع القرآن. ولا يمكن تجديد فهم القرآن – حتى من منظور إسلامي محض – إن لم يجدد الكلام.
يبقى أن تفسير الجابري عمل قيم يستحق التنويه.
وهنا هو ردنا على السؤال الذي طرحناه في بداية المقال: إلى أي مدى جدد الجابري التفكير في الأسئلة القديمة؟
[1] محمد عابد الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول في التعريف بالقرآن، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006
[2] البغدادي : الفرق بين الفرق...، دراسة ونحقيق محمد عثمان الخشت، مكتبة ابن سينا، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 153
[3] البغدادي : الفرق بين الفرق...، دراسة ونحقيق محمد عثمان الخشت، مكتبة ابن سينا، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 12
[4] الشهرستاني: الملل والنحل، صححه وعلق عليه الأستاذ احمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1992 ، ص 71
[5] Big Bang, in Wikipédia
[6] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، الطبعة الثالثة، توزيع المكز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
[7] كارل هينرش بكر: تراث الأوائل في الشرق والغرب ضمن كتاب عبد الرحمان بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، ص 11
[8] تتناقض الآراء فيما يخص البسطامي، فالبعض يعده من القائلين بوحدة الوجود في حين أن غاردي وقنواتي ينفيان ذلك، وبعد أن كان حنفيا معتزليا تحول إلى المذهب السني.
G. C. Anawati et Louis Gardet, Mystique musulmane, Vrin Paris, p. 32
[9] Les schismes…, p. 122
[10] Les schismes…, p. 120
[11] الملل والنحل، المقدمة الرابعة ص 10 وما بعدها.
[12] Gnose, Wikipédia
[13] لاحظنا هذا في تعليقات مترجمي كتاب إيجناس جولدتسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2013.
[14] هنري كوربان : تاريخ الفلسفة الإسلامية ص 198-199، ترجمة نصير مروة وحسن قبيسي، منشورات عويدات، بيروت 1966
[15] هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار الوفاء للطباعة والنشر، الإسكندرية (بدون تاريخ)، ص 29-30
[16] الغزالي: فضائح الباطنية، حققه وقدم له عبد الرحمان بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، ص 11
[17] يعود الجابري إلى موضوع التصوف في "مدخل إلى القرآن الكريم"، لكننا نفضل الرجوع إلى الكتب السابقة التي أسهب فيها حول الموضوع.
[18] عبد الوهاب الشعراني (المتوفي 973 هـ): الطبقات الكبرى. طبعة محمد علي صبيح. القاهرة د-ت. ج 1 ص 4
[19] محمد عابد الجابري: العقل الأخلاقي العربي، الطبعة الخامسة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012، ص 428-429
[20] مصطفى كامل الشيبي: الصلة بين التشيع والتصوف. دار المعارف. القاهرة. 1969. ص 321-323 نقلا عن د. قاسم غني: (تاريخ تصوف در إسلام ترجمة)
[21] لقد حاولنا استيضاح الأمور، إلا أن التحزب المذهبي للمراجع التي عدنا إليها لم يسمح لنا بالخروج بأجوبة تاريخية موضوعية. ولهذا قررنا أن نطرح الأسئلة – وهي أسئلة أحيانا مباشرة وأحيانا ضمنية - ونترك الجواب عليها لأهل الاختصاص.
[22] Henri Laoust, Les schismes dans l’islam, Payot Paris 1965, p. 28-29
[23] Ibid, p. 29
[24] هذا مجرد افتراض من قبلنا والبت فيه يتطلب مطالعة أوسع لما كتب في ذلك العصر.
[25] المجلسي: بحار الأنوار، ج 25، ص 350 (النزاهة العلمية تقتضي منا القول أننا عدنا إلى هذا المرجع بعد قراءتنا لأحد المواقع السنية. فالشاهد صحيح لكننا لسنا متيقنين من تأويله لأن هدف الموقع السني هو إظهار تناقض الشيعة)
[26] محمد بن جرير الطبري: تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، المحقق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر المكتة الوقفية، السنة 130 وما بعدها.
[27] يوسف الدحماني: تاريخ الشيعة في المغرب، مقال في أربع حلقات منشور في موقع صحيفة بلادي الالكترونية. وورد في المقال أيضا:
"يذكر الرحالة العراقي ابن حوقل الذي زار المغرب في حدود سنة 350 هجرية أن الصلاة كانت تقام مرتين بمسجد تارودانت، حيث يقيم المالكية صلاتهم، ثم يفسحون المجال للشيعة، وأشار أيضا إلى أن الحروب والصراعات بينهم كانت مستمرة".
[28] محمد بن تومرت: أعز ما يطلب، تقديم وتحقيق د. عمار الطالبي، صدر عن وزارة الثقافة بمناسبة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007"، ص 17
[29] علي الإدريسي: الإمامة عند ابن تومرت، دراسة مقارنة مع الإمامة الإثنى عشرية، ديوان المطبوعات الجزائرية 1991
[30] ابن تومرت،أعز ما يطلب، مرجع سابق، ص: 238-239
[31] ادريس هني: التشيع كمكون سوسيوثقافي مغربي، هسبريس (الأربعاء 2 شتنبر 2009)
[32] موقف الجابري هو موقف محمد عزيز الحبابي (اول فيلسوف مغربي في العصر الحاضر) الذي خصصنا له بحثا تحت عنوان: الشخصانية الواقعية عند محمد عزيز الحبابي، منشور على موقع ملفات | الأنطولوجيا
[33] من أشهر الباحثين في هذا الميدان Georges Devereux
[34] هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار الوفاء للطباعة والنشر، الإسكندرية (بدون تاريخ)، ص 21
[35] Abdesselam Cheddadi, Ibn Khaldoun, L’homme et le théoricien de la civilisation, Gallimard, Paris 2006, p. 63
[36] تحقيق محمد الفاسي، مجلة المخطوطات العربية لجامعة الدول العربية، المجلد 10، الجزء 1
[37] G. C. Anawati et Louis Gardet, Mystique musulmane...op. cit. p.34
[38] Ibid, p. 35
[39] ما سنقوله في الفقرات التالية يمكن أن نضمه إلى المقال الذي خصصناه من قبل لنقد العقل الأخلاقي العربي.
[40] الهجويري: كشف المحجوب. دار النهضة العربية. بيروت 1980. ص536
[41] حديث رواه البخاري وغيره
[42] ابن عربي: الفتوحات المكية. دار صادر. بيروت د – ت ج 1 ص 357-359
[43] بنية العقل العربي، قسم العرفان. الفصل الرابع. الفقرة 4
[44] القضاء عند ابن عربي هو حكم الله في الأشياء قبل أن تكون على ما هي عليه في ذاتها أي كأعيان ثابتة أي حسب الأمر التكويني، واما القدر فهو توقيت حصول الشيء كما تقتضيه طبيعة عينه الثابتة.
[45] ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة... مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998، ص 175 وما بعدها
[46] ابن رشد : فصل المقال... مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1997، ص 96
[47] أبو حيان التوحيدي: "الإمتاع والمؤانسة" ج 2 الليلة السابعة عشرة ص 6-20، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. القوسين يشيران إلى ما حذفه الجابري.
[48] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، القسم الثاني، الطبعة الرابعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012
[49] مقال ويكيبديا يشير إلى أن النصارى Nazôreens هم الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "الفقراء" ébionites، عكس ما يقوله الجابري، وكانت كنيسة القدس تسمى "كنيسة الفقراء": « Nazôreens » , in Wikipédia
[50] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول (القسم الثاني)، الطبعة الرابعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012
[51] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول (القسم الأول)، الطبعة الثالثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2010
[52] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول (القسم الثالث)، الطبعة الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2010
[53] حبذا لو أن هذا الباحث توسع أكثر في الهوامش التي تشتمل على معلومات مهمة.
[54] تيودور نولدكه : تاريخ القرآن، تعديل فريدريش شفالي، نقله على العربية د. جورج تامر بالتعاون مع فريق عمل مؤلف من السيدة عبلة معلوف-تامر، د. خير الدين عبد الهادي، د. نقولا أبو مراد، منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا) – بغداد 2008، ص 5
وبهذا المشروع تكتمل قراءة الجابري لمجمل الثقافة العربية الإسلامية. أما غرضه المباشر من هذا الكتاب فهو- حسب قوله - تجديد التفكير في الأسئلة القديمة: و"ذلك لأنه بغير تجديد التفكير في الأسئلة القديمة وطرح أخرى جديدة لن يتأتى لنا الارتفاع بمستوى فهمنا "للظاهرة القرآنية" إلى الدرجة التي تجعلنا معاصرين لها وتجعلها معاصرة لنا." (مدخل... ص 23)
وقد كان هذا الكتاب مناسبة أعاد فيها الجابري التذكير بما قاله في الكتب السابقة، بحيث أن "تجديد التفكير في الأسئلة القديمة" تم على ضوء الأطروحات نفسها التي هيكلت مشروعه الفكري. ورغم أن الجابري لم يخصص ل"الأسئلة القديمة" إلا فصلا مباشرا واحدا وقصيرا (أقل من عشرين صفحة)، وهو الفصل الخامس الذي عنوانه : "حقيقة النبوة... وآراء في الإمامة والولاية"، زيادة على بعض الإشارات المنتشرة في كل الكتاب، إلا أن نقد هذا الفصل القصير وهذه الإشارات اضطرنا إلى العودة إلى الأصل الذي فصل فيه الجابري أطروحاته؛ بحيث أن الحيز الذي خصصناه لها يحتل ثلاثة أرباع هذه الدراسة.
وبما أن الجابري لم يحد عن خط سيره فإن السؤال الذي وجه قراءتنا هو: إلى أي مدى جدد الجابري التفكير في الأسئلة القديمة؟
ونود قبل الدخول في صميم الموضوع أن نوضح غايتنا من هذا الدراسة والمنهجية التي وجهتنا في كتابتها.
غايتنا ليست إعطاء ملخص للكتب المذكورة أعلاه، خاصة وأن علوم القرآن ميدان شاسع جدا. والجابري نفسه اكتفى في كثير من القضايا بتلخيص الأخبار والآراء المتداولة حولها. فغايتنا – كما في المقالات السابقة - هي مساءلة أطروحات الجابري على مستوى تناسقها الداخلي وعلى محك تاريخ الأحداث والأفكار. وبما أن قراءته المفضلة هي القراءة الأيديولوجية، كان علينا ربط تاريخ الأفكار بالتاريخ العام. فهذه القراءة لا تستقيم إلا بوجود تساوق بين المذاهب الفكرية والأحداث التاريخية، وهو تساوق بالتزامن أو التعاقب: وكمثال على ذلك تساوق أفكار عصر الأنوار مع الثورات الأمريكية والفرنسية، أو الأفكار الاشتراكية للقرن التاسع عشر مع الثورات الاشتراكية للقرن العشرين. وهذا التساوق هو مثل تساوق المشتقة مع دالتها الأصلية في الرياضات، فالمشتقة وإن لخصت الدالة إلا أنها تعطي منحاها، وهذا أمر غير مضمون عندما يتعلق الأمر بعلوم الإنسان. ورصد هذا التساوق فيما يتعلق بالقرنين الأولين للإسلام صعب لعدة أسباب: فمن جهة لا تعطينا المصادر المتوفرة أخبارا بدرجة الدقة التي يتواخاها البحث العلمي، وهي في الغالب ليست مصادر مباشرة لأنها ألفت في القرون اللاحقة؛ وهي، من جهة أخرى، مشحونة بالتحزب المذهبي، فالبغدادي في "الفرق بين الفرق" يصف مخالفيه ب"أبناء الزنا"! (قال هذا في ثمامة بن أشرس النميري) وهو – حسب قول محقق الكتاب - "يجادل خصومه بما هو أسوأ، فيسبهم ويسخر منهم ويشمت فيهم" ؛ إلا أنها – ورغم هذه الشوائب التي ما زالت تلوث المقالات إلى اليوم - تعطينا ما فيه الكفاية من الأخبار لتكوين نظرة على درجة مقبولة من الوضوح والموضوعية. كما أن على الباحث الحذر مما تحمله تسميات الفرق والمذاهب من مضمون، فالتسمية المشتركة قد تجمع بين فرق بينها من الخلاف أكثر مما بين بعضها والمذاهب الأخرى، وأحيانا قد نجد تطابقا جزئيا في الرؤى يجسر بين فرق يُعتقد أنه ليس بينها جامع، كما هو الشأن بين الأزارقة الخوارج والواصلية المعتزلية، إذ "زعم هؤلاء أن أطفال المشركين مشركون، ولذلك استحلوا قتل اطفال مخالفيهم وقتل نسائهم." (البغدادي: الفرق... ص 107)
ولهذا تعاملنا مع الأخبار والنصوص بكثير من الحذر المنهجي. وسيلاحظ القارئ أننا لم نذكر إلا القليل من المراجع، والسبب هو أننا اعتمدنا على الأخبار التاريخية المتداولة الموثوقة (خاصة في التاريخ السياسي) الواردة في أكثر من مرجع، وكذلك على ما هو موثوق من مواقف الشخصيات التي ذكرناها على المستويين السياسي أو العقدي. وعندما لم نجد جوابا على سؤالنا تركناه مفتوحا. لكن هذا لا يعني أننا اكتفينا بالخلاصات المدرسية المتداولة، فهذه الخلاصات تعطي نظرة إجمالية عن المذاهب والأحداث قد تؤدي إلى استنتاجات خاطئة. فالجابري، وغيره، يتحدث – مثلا- عن "الشيعة" دون تمييز بين فرقها، ويوظف هذه التسمية في قراءته الأيديولوجية؛ والمعروف أن تحت هذه التسمية نجد فرقا عديدة، منها السبئية والكيسانية والزيدية والجعفرية والإسماعيلية... والخلاف المذهبي بين هذه الفرق قد يتجاوز خلاف بعضها مع السنة. والاستنتاجات الخاطئة تطال المعتزلة أيضا، خاصة فيما يتعلق بالمواقف التي قد تكون لها انعكاسات سياسية، كما هو الشأن في الموقف من الإمامة كما ورد ذلك بقلم الشهرستاني: "وأما كلام جميع المعتزلة في النبوات والإمامة (فإنه) يخالف كلام البصريين، فإن من شيوخهم من يميل إلى الروافض، ومنهم من يميل إلى الخوارج، والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة..." .
فالأحداث السياسية والمذاهب ليست بالوضوح الذي تظهر به في الكتب المدرسية أوالمقالات التعميمية، فهي تشكل شبكة متداخلة تجعل توظيفها في قراءة أيديولوجية أمرا صعبا.
القرآن يدعو إلى "دين العقل"
يقدم لنا الجابري في ختام "مدخل إلى القرآن الكريم" خلاصة لإشكالية الكتاب، قائلا: "الآن، وقد شاءت الأقدار أن يأتي هذا الكتاب بعد "رباعية نقد العقل العقل العربي"، نستطيع القول إننا قد دشنا به عملية قراءة حقل آخر من حقول ثقافتنا العربية الإسلامية." (مدخل... ص 427)
"فعلا، قدمنا، في ما نعتقد، تعريفا بالقرآن الكريم بددنا فيه كثيرا من الضباب الذي كان – وما يزال – يحول دون التعامل العقلاني مع هذا النص الديني الذي لم يُشِد بشيء إشادته بالعقل، وذلك إلى درجة يمكن القول معها إن القرآن يدعو إلى دين العقل، أعني إلى الدين الذي يقوم فيه الاعتقاد على أساس استعمال العقل، انطلاقا من الاعتقاد في وجود الله إلى ما يرتبط بذلك من عقائد وشرائع."
" والحق أن ما يميز الإسلام، رسولا وكتابا، من غيره من الديانات هو خلوه من ثقل "الأسرار" (mystères) التي تجعل المعرفة ب "الدين" تقع خارج تناول العقل..." (مدخل... ص 429)
هذه، إذن، هي الأطروحة التي تلخص فهم الجابري وتعامله مع ذلك الحقل المؤسس للثقافة العربية الإسلامية. وكما هو الشأن مع جل أطروحات الجابري، علينا أن نعيد فك كل خيوط النسيج الذي خاطه للوصول إلى هذه الخلاصة التي تجعل من الإسلام "دين العقل" .
وأول خيوط هذا النسيج مصطلحا "الدين" و "العقل". وكما سبق لنا أن بينا التباس بعض المصطلحات الأساسية التي استعملها الجابري في الكتب السابقة، فإن الالتباس هنا مصدره الجمع بين المصطلحين. فالطبيعة المتباينة للمفهومين لا تسمح بحمل صفة أحدهما على الآخر، إذ عندما يتحول الدين إلى علم – وهو جوهر العقل – فإنه لا يبقى دينا (نظرا لانتفاء الحاجة إلى الإيمان)، وعندما يتحول العقل إلى دين فإنه يفقد طبيعته العلمية (وفي هذه الحالة لا يكون علما بل مجرد أيديولوجيا عِلموية). واستعمال البراهين العقلية للدفاع عن المعتقدات - وهو شائع في كل الديانات - ليس إلا مجرد عملية عَقلنة لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى العلم، وهي لا تقنع إلا المؤمن أصلا.
ونظرا لتعدد الظواهر التي تدخل ضمن مفهوم الدين (وهذا ما يلاحظه القارئ في المعاجم)، فإننا سنكتفي هنا بالمنظور الإسلامي الذي سبق لنا أن قلنا عنه (في الدراسة حول "العقل الأخلاقي العربي") بأنه يتمحور حول مفهوم "الغيب" وما يترتب عنه من معتقدات تُجمِلها، على سبيل المثال، الآيات التالية:
"إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "(57) . (الأعراف)
فالآيات الأربع السابقة تحدثنا عن خلق الله للسماوات والأرض في ستة آيام (تفسير الكون)؛ وفيها الدعاء لله ورحمته (الوظيفة النفسية للدين)؛ وفيها النهي عن الفساد (الوظيفة الأخلاقية والاجتماعية)؛ وفيها إحياء الموتى (أي كل ما يتعلق بالآخرة)... وهذه كلها أجوبة على الأسئلة الوجودية للإنسان. وهي أجوبة عن أسئلة لماذائية (من لماذا)، أي أنها أسئلة تبحث عن الدلالة وليس عن التفسير الكيفي فحسب. وعندما تتحول هذه الأجوبة إلى عقيدة يؤمن بها الناس ويهتدون بها، فإنها تتحول إلى حقيقة ثقافية واجتماعية وحضارية وتاريخية. ولهذا فإن مواجهة الدين، أو محاولة إفحامه، بالحقائق الموضوعية يخطئ هدفه لأن حقيقة الدين لا تكمن في مدى مطابقته لما اكتشفه العلم أو في عقلانيته، بل في مطابقة أجوبته لأسئلة الإنسان الوجودية. وبما أن الديانات ظهرت في مرحلة كانت فيها المعارف العلمية جد بسيطة فإن تفسيرها للكون تشوبه الأساطير التي نشأت على تربها. وإذا كان بإمكان الدين أن يجدد ويصحح نظرته ليجعلها مطابقة للعلم، إلا أن أسئلته لا يمكن أن تتحول إلى مجرد أسئلة علمية، لأنه بذلك يفقد هويته كدين.
أما العلم، وخاصة العلم الحديث، فهو لا يحتاج لمفهوم الإله لتفسير الكون، لأن الكون يفسر نفسه بنفسه لأنه يطرح سؤال الكيف وليس سؤال اللماذا. وهو عندما يتطرق إلى الأخلاق فهو يكتفي بوصف الأنظمة السائدة بصفتها ظواهر اجتماعية، ويترك التأمل في القيم للفلسفة والدين. وهو لا رأي له في الآخرة لأن هذه مسألة تخرج عن عالم الظواهر.
ولهذا عندما يقول الجابري أن "نظام الكون وبيان القرآن متساويان" - كما سنرى ذلك لاحقا - فإنه يخلط بين مجال الحقيقة ومجال الدلالة، وهذا أمر مستغرب من قبل مفكر عرف كاختصاصي في الابستيمولوجيا. وهو أكثر من ذلك "يساوي" بين مجالين لغتهما غير متكافئة، إذ ان لغة العلم تجريبية / رياضية ولغة الدين رمزية / غائية. فالقرآن يقول حول خلق الكون:
"أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) " (الأنبياء)
أما العلم فإنه يشرح بداية الكون ونشأته استنادا إلى نظرية "الانفجار العظيم" Big Bang، وهي نظرية تقوم على قوانين فيزيائية وكميائية وعلى وملاحظات فلكية. وكلمة "سماء" لا محتوى لها من الناحية العلمية فهي اسم أطلق على ظاهرة ضوئية تعطي الانطباع بأن الأرض محاطة بسقف أزرق في النهار وأسود في الليل؛ وهي بذلك تدخل في مجال الانطباعات التي كونها الإنسان عن الكون، مثل كون الأرض مسطحة والشمس تدور حول الأرض...
واختيارنا لموضوع خلق الكون لم يكن اعتباطا، فالآية 30 من سورة الأنبياء كثيرا ما قدمت من قبل المشتغلين بالاعجاز العلمي في القرآن كبرهان على أن القرآن كان سباقا في الإعلان عن النتائج التي توصل إليها العلم الحديث. إلا أنه إذا كان من الممكن إيجاد مقابلة بين "رتقا ففتقناهما" وبين "الانفجار العظيم" (وهذا المصطلح غير دقيق لأن ما حدث ليس في الواقع انفجارا بل بداية امتداد الكون )، رغم اختلاف لغتهما، فإنه من الصعب إعطاء مقابل علمي للآية التي تقول:
"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7)" (هود). فهذه الآية تعلن أن وجود الماء كان سابقا عن خلق السماوات والأرض، وفيها ضرب من التجسيم (العرش على الماء)، وكلا الأمرين في منطوقهما الظاهر غيب لا يتوافق مع معارفنا العلمية الراهنة. والماء، كمادة أولية للكون، من الأفكار التي كانت متداولة في بعض المعتقدات القديمة !
والقرأن، من جهة أخرى، يؤكد: "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )11)" (الشورى).
ألآية الأولى تقول: "وكان عرشه على الماء"، أما الثانية فإنها تقول: "ليس كمثله شيء" ! وبما أن تأويل الآيات التي تتحدث عن صفات لله كان محل خلاف بين المتكلمين المسلمين، بين مُعطِلة ومُشبِهة ومُؤوِلة... فهذا يعني أنهم كانوا واعين بأن الآيات التي تتحدث عن صفات الله تطرح مشكلة ليس فحسب على مستوى المعقولية - بمعنى "نظام الكون" - كما كانوا يشاهدونه ويفهمونه؛ بل حتى على مستوى القابلية للتصور، لأنه لا يمكن تشبيهه بشيء في الكون. فكيف يمكن للجابري أن يجزم بأن "نظام الكون وبيان القرآن متساويان"؟
والحاصل هو أن "نظام الكون" لا يمكن أن يتساوى مع "بيان القرآن": ف"نظام الكون" مصطلح لا يمكن أن نفهمه إلا بمعنى القوانين الفيزيائية والكميائية والبيولوجية التي تحكم الظواهر الطبيعية. وحتى يكون "بيان الكون وبيان القرآن متساويان" يجب أن يكون القرآن كتاب علوم ! وهذا إلزام للدين بما لا يلزمه.
علاقات تعدي غير مشروعة
يقول الجابري أنه دشن عملية قراءة حقل جديد من حقول الثقافة العربية الإسلامية، إلا أن هذا "الحقل" يتميز بكون الجزء فيه (القرآن) يستغرق الكل (الإسلام)؛ فهو يستنتج من إشادة النص الديني بالعقل، أن الإسلام "دين العقل" ! أو كما قال في معرض تعليقه على فلسفة ابن حزم: "وبعبارة هيجلية: "كل ما هو قرآني فهو معقول، وكل ما هو معقول فهو قرآني" " (ت.ع.ع، ص 304) . وكأن الإشادة بالعقل في القرآن تكفي لتزكية كل التراث الإسلامي - باستثناء ما تأثر منه بالعرفان - وترفعه إلى مقام البرهان !
وهذه الطبيعة العلمية للقرآن تدعمها طبيعته الإلهية، وهو ما يؤكده الجابري حين يقول: "لقد أكدنا مرارا أننا لا نعتبر القرآن جزءا من التراث. وهذا شيء نؤكده هنا من جديد، وفي نفس الوقت نؤكد أيضا ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من اننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن، سواء كظاهرة بالمعنى الذي حددناه هنا، أو كأخبار وأوامر ونواه، هي كلها تراث، لأنها تنتمي لما هو بشري." ( مدخل... ص 26)
إننا لا ننازع الجابري حقه في أن يكون مؤمنا، لكننا لا نفهم لماذا يصر على أن يُخرج القرآن من التراث؟ وحتى لو سلمنا معه أن القرآن وحي إلهي، فإن هذا الوحي تجسد في نص مكتوب كما هو شأن باقي التراث. وهو بذلك قابل وعرضة لأن يخضع لما يخضع له، لا محالة، كل نص مكتوب: السؤال عن نشأته وتأويله، وبالوسائل نفسها التي تستعمل في تحليل كل وثيقة تاريخية، وهو ما فعله الجابري نفسه في تفسيره للقرآن!
وترفيع القرآن عن التراث موقف لا يشارك فيه الجابري إلا أكثر الفقهاء تزمتا. ولهذا- وعلى خلاف المؤلَّفَين السابقين الذين ركزنا فيهما على المنهج بالنسبة للأول، وعلى المنهج والمحتوى بالنسبة للثاني - فإن ما استوقفنا في هذا المؤلَّف هو تموقع الجابري ضمن حقول الثقافة العربية الإسلامية. فهذا المؤلف الأخير يلقي إنارة جديدة على البداية، ويبين الدلالة الفعلية لنظم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية - أي البرهان والبيان والعرفان - عند الجابري. وهذا يعود بنا إلى أول كتاب في سلسلة "نقد العقل العربي"، وهو "تكوين العقل العربي".
يقول الجابري في الفصل السابع من تكوين العقل العربي، والذي عنوانه " "المعقول" الديني واللامعقول "العقلي" ":
"الواقع أن البيان العربي بوصفه "الكلام" الإسلامي، وبعبارة أخرى الخطاب العربي في العقيدة الإسلامية، لا يبدأ مع "المتكلمين" الذين ردوا على ما انبعث من المعتقدات القديمة التي تدخل تحت الدائرة الكبرى للموروث القديم كما حددناه قبل، بل أن البيان العربي بهذا المعنى إنما يجد بدايته الفعلية، وفي ذات الوقت أعلى مراتبه وأكملها، في القرآن: الكتاب العربي المبين: وإذن فالمعقولية في البيان العربي إنما تتحدد أولا وقبل كل شيء داخل "الكلام" القرآني، وبالضبط في جدلية المعقول واللامعقول في خطابه." (ت.ع.ع، ص 135-136)
"الكون ونظامه القرآن وبيانه هما العنصران الرئيسيان في الإطار المرجعي الذي يستند إليه "العقل" في القرآن في صراعه مع "اللاعقل": مع المشركين الذين يطلبون حضور ما وراء الطبيعة في الطبيعة صادرين عن نفس المنطق الذي يؤسس عبادتهم للكواكب والأصنام والذي يقوم على وضع وسائط بين الله والناس تمارس نوعا من التأثير الإلهي. إن القرآن يرفض هذا المنطق من أساسه ويوجه انتباه الناس وجهة أخرى:
- إلى الكون لتنبيه عقولهم إلى أن النظام السائد فيه دليل على وجود خالق صانع له، وإن هذا الخالق الصانع لا يمكن أن يكون له شريك وإلا حصل التنازع بينهما وفسد النظام وانهار العالم.
- إلى القرآن لإثارة انتباههم إلى بيانه المعجز الذي هو آية محمد، الآية التي لا تقل إعجازا عن آيات الأنبياء السابقين: ذلك لأنه إذا كانت المعجزة هي "خرق العادة" وإذا كانت معجزات الأنبياء قد خرقت العادة على مستوى الطبيعة فإن معجزة محمد تخرق العادة على مستوى اللغة والبيان، وهذا أكبر تحد لقوم كانت اللغة والبيان عندهم مجالا للمفاضلة والامتحان."
"نظام الكون وبيان القرآن متساويان إذن، من حيث الدلالة: نظام الكون دليل وجود الله ودليل وحدانيته، وبيان القرآن دليل نبوة محمد ودليل صدق رسالته، وهما معا في ارتباطهما وتكاملهما يؤسسان "المعقول" الديني ضدا على اللامعقول "العقلي"، الذي يعني، على مستوى الخطاب القرآني الشرك بالله وإنكار النبوة."
"يتحدد "المعقول" الديني العربي، إذن، بثلاثة عناصر أساسية:
1- القول بإمكانية – بل بوجوب – معرفة الله من خلال تأمل الكون ونظامه، (دلالة الشاهد على الغائب).
2- القول بوحدانية الله أي نفي الشريك عنه، وبالتالي فلا خالق ولا مدبر للكون إلا هو (الشيء الذي يعني عدم الاعتراف بأي تأثير سواء للكواكب أو السحر الخ...)
3- القول بالنبوة، بمعنى أن الاتصال بالله، وبالتالي بالحقيقة، ليس ميسرا لكل الناس، بل أن الله يصطفي من بين عباده من يشاء ليبعثه رسولا إلهم. والنبي الرسول محمد هو خاتم الأنبياء والمرسلين (وإذن فالاتصال بالحقيقة العليا، الله، لم يعد ممكنا قط، ولذلك يجب أن ينصرف الاهتمام إلى القرآن فهو وحده مستودع الحقيقة: عقيدة وشريعة)."
"هذه العناصر الثلاثة التي يتحدد بها "المعقول" الديني يتحدد بها عكسيا اللامعقول "العقلي" الذي يجره معه الموروث القديم." ( ت.ع.ع، ص 139-140)
ويوضح الجابري في الفقرة التالية الفترة التاريخية والمجال الجغرافي الذي ازدهر فيه هذا "المعقول" الديني، قبل أن يحتد الصراع بينه وبين "الموروث القديم" الذي يشمل في كتابات الجابري كلا من الأفلاطونية المحدثة والغنوصية والهرمسية والباطنية والمانوية... يقول الجابري:
"هكذا يمكن القول بكيفية عامة إن "المعقول" الديني كان وحده السائد في كل من الجزيرة العربية وشمال افريقيا والأندلس وأن حضوره في مصر كان قويا منذ الفتح وبقي كذلك حتى عهد الخلافة الفاطمية التي استندت في أيديولوجيتها الدينية-السياسية، كبقية الفرق الشيعية والتيارات الباطنية، على الموروث القديم كما سنبين لاحقا. أما في سورية والعراق وإيران الكبرى فلقد ظل الموروث القديم فيها يواصل الحياة في بنية المعتقدات الدينية الجديدة التي جاء بها الإسلام، إما كعناصر مستترة لا واعية، وإما كتيارات تتنازع البقاء مع "المعقول" الديني، البياني العربي، إلى أن تم اندماجها في صيغة واحدة هي الفكر الشيعي وما يرتبط به من تيارات باطنية كالتصوف والفلسفة الاشراقية، وما تفرع منه من تيارات فكرية أخرى جانبية." (ت.ع.ع، ص 143- 144)
وبهذه الاستشهادات تكتمل صورة الأطروحة المؤسِّسة التي وجهت كل كتابات الجابري، وهذا ما يدفعنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة:
- ما هي مشروعية طرح مسألة البت في الخلاف بين الديانات والمذاهب على أساس مقولة "المعقول" و"اللامعقول"؟ خاصة من قبل مفكر يزعم أنه اختصاصي في الإبستيمولوجيا !
- هل العناصر الثلاثة المؤسسة ل "المعقول" الديني الإسلامي (معرفة الله من خلال تأمل الكون، وحدانية الله، النبوة) قابلة لجواب عقلي قطعي، وكأن الأمر يتعلق بقضية علمية يمكن الحسم فيها بصفة نهائية بواسطة معادلة رياضية أو تجربة ميدانية؟
- هل العناصر السابقة الذكر غائبة عن "الموروث القديم" ومتنافية معه بحيث لا يمكن التوفيق بينها وهذا الموروث، أو على الأقل بعضه؟
- هل الشيعة والباطنية مجرد ممثل ل"اللامعقول" الدخيل على "المعقول" الديني؟ ألا يعود الشرخ السني/الشيعي إلى "الفتنة الكبرى" أي إلى الخلافات الفكرية والصراعات السياسية الداخلية التي شهدها الإسلام، والتي احتدت مباشرة بعد وفاة الرسول، خاصة وأن التنازع حول خلافته كان أحد محركاتها؟
ومن الناحية المنطقية، فإن برهان الجابري يقوم على علاقات تعدي غير مشروعة، فهو ينطلق من مسلمة أن "نظام الكون وبيان القرآن متساويان..."؛ وهي مسلمة غير مبرهنة - لأن برهانها أن يشتمل القرآن على تفسير للكون مطابق تماما للقوانين العلمية - ويستنتج من ذلك:
- أنه بما أن نظام الكون عقلي فإن القرآن "معقول" ، وكأنه يكفي إقرار القرآن بنظام الكون، ويحث على استعمال العقل، ليصير "معقولا".
- وبما أن القرآن معقول فذلك دليل على صدق نبوة محمد وصدق رسالته، وهذا كفيل بتزكية كل الشريعة الإسلامية ! (كما سبق لنا القول)
- وبذلك فإن كل ما يخالف الإسلام يخالف العقل أيضا، وما يخالف العقل يخالف الإسلام !
- وبهذا يتماهي "المعقول" الديني الإسلامي مع "العقل الكوني" ! (كما سنرى ذلك فيما بعد)
وهكذا يتضح لنا التهافت المنطقي للأطروحة المؤسسة للجابري.
وعندما يقول الجابري ان "المعقول" الديني بقي سائدا "منذ الفتح...حتى عهد الخلافة الفاطمية"، فهل هذا يعني أن الثقافة العربية الإسلامية كانت "معقولة" من بداية البعثة المحمدية (حوالي 610 ميلادية، بما ان الهجرة كانت في 622 م) إلى ظهور الدولة الفاطمية (909 م في افريقيا و 969 م في مصر)، أي لحوالي ثلاثة قرون ونصف؛ وهي المرحلة التي يقول لنا الجابري – في غير ما موضع - أنها مصدر الداء الذي تعاني منه الحضارة العربية الإسلامية إلى اليوم، إذ خلالها تكرس "الملك العضوض" و"أخلاق الطاعة" وهيمنة "القبيلة" و"الغنيمة" و"الريع"...؛ وإن كان يتناسى أنها عرفت أيضا تضخم المدونة الحديثية والفقهية التي مازالت الثقافة الإسلامية ترزح تحت ثقلها إلى اليوم؟ ولا محالة أن يُطرح سؤال مشروع آخر: ألا توجد علاقة بين مصادر الداء هذه وبين الإسلام؟ وكان من المفترض أن يَطرح هذا السؤال مهووسٌ بالأسباب البعيدة العابرة للقرون وبالقراءة الأيديولوجية مثل الجابري. أم أن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة – دون الحضارات الأخرى – التي لا توجد فيها صلة بين عقيدتها المُؤسِّسة وما نشأ عن هذه العقيدة من فكر ومؤسسات اجتماعية وسياسية؟ فهل هو انفصام في الحضارة الإسلامية، أم انفصام في نظرة الجابري؟
أسئلة تصير أكثر إلحاحا عندما نعرف أن الجابري يؤكد بأن الحضارة الإسلامية "حضارة فقه" (ت.ع.ع، ص 96 وما بعدها)، والفقه أكثر منتجات الفكر التصاقا بالواقع لأنه يقنن كل أوجه الحياة. فهل كل الفقه الإسلامي – أو على الأقل ما أنتج منه في القرون الثلاثة الأولى – "معقول"؟ وبأي معنى يكون "معقولا" بصفته انتاجا معياريا تشريعيا؟ فبأي معنى – مثلا - تكون المصنفات حول الرق "معقولة"؟ وبأي صفة يريد أن يكون هذا "المعقول" معاصرا لنا؟
إن الجابري يكتب بمنطق "الفرقة الناجية" وكأن تاريخ الفكر بقي راكدا منذ البغدادي (صاحب "الفرق بين الفرق") وابن حوقل (صاحب "الملل والنحل") وغيرهم. كل ما هنالك أن "الفرقة الناجية" أي "أهل السنة والجماعة" صارت فرقة "المعقول الديني".
وهنا يجب أن نذكر أن الجابري ابتدأ مشواره الفكري في صفوف الماركسية، فكريا وسياسيا وحزبيا؛ وفي مجال الاختصاص والانتماء الأيديولوجي، كان يضع نفسه في صف الفلسفة النقدية البرهانية. وإذا بنا نكتشف أن الجابري لم يكن في الموقع الذي كنا نتوهمه فيه، فهو أقرب إلى المتكلم السني منه إلى الفيلسوف البرهاني النقدي. ولا يشفع له أنه وضع "معقول" بين مزدوجين.
وبما أن المسألة تطرح العلاقة بين نظم المعرفة الثلاثة التي عرفتها الثقافة العربية - أي البرهان والبيان والعرفان - نود أن نوضح ما يميز كل واحد منها قبل أن ننتقل إلى بيان الخلل الذي يحدثه الجابري في هذه العلاقة:
- البرهان ينطلق من مقدمات عقلية ليستنتج منها بواسطة الاستقراء أو الاستنباط نتائج عقلية. وهو مجال العلم والفلسفة مع الفرق النوعي الموجود بينهما. إلا أن الجابري يجعل من البرهان مرادفا للعقل الكوني، وهوبذلك يرفعه إلى مستوى الحقيقة المطلقة في حين أنه ليس إلا مجرد أداة.
- البيان ينطلق من مقدمات إيمانية (أي أنها تختلف من دين لدين ومن فرقة لفرقة) ليبين ما ينتج عن هذه المقدمات من نتائج، وقد يستعين في ذلك بوسائط منطقية، كالقياس مثلا، وإن كانت وسيلته المثلى هي علوم اللغة. وهو بذلك قد يشترك مع البرهان في الوسيلة (المنطق). وهو مجال الفقه وعلم الكلام.
- العرفان يحتمل وجهين، فإما أنه بيان لعقيدة سابقة (هرمسية، غنوصية، أفلاطونية محدثة، باطنية، فيثاغورية...)؛ وإما أنه تأويل حر لأركان العقيدة (بمعنى انه قد يخرج عن التفسير السني، والسني بمعنى القويم) كما هو شأن بعض المتصوفة؛ دون الالتزام بمنهج محدد، فقد يكون قياسا أو "إلهاما" أو "كشفا" أو "رؤية" أو "ذوقا" أو خيالا وحتى "وحيا".
إلا أن الأمور ليست بهذا الوضوح في الواقع، فالبيان والعرفان من طبيعة واحدة، كل ما هنالك أن البيان لا يقر إلا بعرفان الأنبياء (وحيهم) الذي هو منطلقه، ويرفض عرفان باقي البشر (خاصة "الغلاة" منهم). أما البرهان فلا يخلو فكر منه بما فيه العرفان، إذ أنه انطلاقا من مقدمات عرفانية يمكن بناء صرح لا يتناقض مع مسلماته. وكمثال على ذلك كتابات روني غينون René Guénon (عبد الواحد يحيى) (1886/1951) أحد أبرز ممثلي الباطنية في القرن العشرين، فهو ينطلق من مسلمة وجود سُنَّة أولية La Tradition primordiale ليوجه نقدا جذريا للحضارة العصرية. وما يقوله في كتابه Reigne de la quantité et signes des temps (هيمنة الكم وعلامات الزمان) عن هيمنة الكم في الحضارة العصرية ومخاطر هذه الهيمنة يسائل حتى من لا يشاركه مسلماته.
وعلى المستوى الفلسفي يمكن التوفيق بين بيان الديانات الابراهيمية وبرهان الفلسفة الأرسطية، وبين إلهها وإله أرسطو؛ كما يمكن التوفيق بين وجود إله متعال ومبدأ السببية، لأن الله هو خالق الكون وواضع قوانينه. لكن هذا لا يُجيز الخطوة النوعية التي قطعها الجابري: فهو عندما يجعل من مقدمات البيان ومسلماته "معقولا" فهو يساوي بينه وبين والبرهان (العقل الكوني)، وبما أن الديني "معقول" فإنه يرتقي إلى مصاف البرهان (العلم)، ويصير الاستنتاج من المقدمات – بالقياس أوغيره – بمثابة الاستنتاج العلمي. فتصير الشريعة علما كما كان أتباع الأيدولوجية الماركسية يعدون المادية التاريخية علما، ومن يخالفها يخالف العلم ذاته !
"تنصيب العقل في الإسلام"
إن هذه المقارنة بالأيديولوجية الماركسية تبرهن على إجرائيتها عندما نحلل الطريقة التي عرض بها الجابري الصراع السياسي في الدولة العباسية في الفصل العاشر من "تكوين العقل العربي"، المعنون ب "تنصيب العقل في ... الإسلام". يقول الجابري:
"لقد اتجه المأمون، إذن، إلى أرسطو لمقاومة الغنوص المانوي والعرفان الشيعي وهما من طبيعة واحدة، فكلاهما يريد أن يؤسس معارضته للدولة العباسية على سلاح لا يملكه العباسيون الذين يتزعمون الخلافة السنية التي تؤمن بانتهاء النبوة وتوقف الوحي نهائيا مع خاتم النبيين والمرسلين. فكان لا بد من سلاح يقف صامدا في وجه "العقل المستقيل" وأطروحاته المانوية والشيعية. ولم يكن هناك من سلاح آخر غير "العقل الكوني" خصمه التاريخي. ومن هنا لجأت الدولة العباسية على عهد المأمون إلى العمل على تنصيب هذا العقل في الثقافة العربية الإسلامية وإقامة التحالف بينه وبين "المعقول" الديني العربي لصد الهجمات الغنوصية التي كانت تهدد ليس فقط العباسيين كدولة بل الفكر الديني "الرسمي" بشقيه المعتزلي والسني. وفي هذا الصدد يقول هنرش بكر: "الغنوص إذن كان يحارب الإسلام دينيا وسياسيا، وفي هذا النضال استعان الإسلام بالفلسفة اليونانية وعُني بإيجاد عالم من العلوم الدينية العقلية يشبه عالم العصر المدرسي في أوروبا في العصور الوسطى. فكان الإسلام الرسمي قد تحالف إذن مع التفكير اليوناني والفلسفة اليونانية ضد الغنوص (...) ومن هنا نستطيع أن نفسر حماسة الخليفة المأمون للعمل على ترجمة أكبر عدد ممكن من مؤلفات الفلاسفة اليونانيين إلى العربية، وهي حماسة غير مفهومة ولا معهودة في الشرقيين. وقد أعتاد الناس أن يفسروا هذا حتى الآن بإرجاعه إلى ميل هذا الطاغية (=المأمون) المستنير إلى العلم وحبه له. ولكن إذا كانت الرغبة في ترجمة كتب الأطباء القدماء قد نشأت عما اشتهرت به المدارس الطبية الكبرى من حاجة عملية كذلك إلى هذه الكتب فلعل ترجمة كتب أرسطو أن تكون نشأت بالضرورة عن حاجة عملية كذلك، وإلا فإنه إذا كانت المسألة مسألة حماسة للعلم ورغبة خاصة في تحصيله فحسب لكان هوميروس أو أصحاب المآسي من بين من ترجمت كتبهم أيضا. لكن الواقع هو أن الناس لم يحفلوا بها ولم يشعروا بحاجة ما إليها" . (ت.ع.ع، ص 231)
ولنا على هذا النص عدة ملاحظات:
1) يقول الجابري في بداية النص: "لقد اتجه المأمون، إذن، إلى أرسطو لمقاومة الغنوص المانوي والعرفان الشيعي وهما من طبيعة واحدة". لكن المعروف تاريخيا هو أن المأمون زوج ابنته للإمام علي الرضا وأراد أن تنتقل الخلافة إليه بعده (وإن كانت بعض المصادر تقول أنه انقلب عليه وسممه)، وبعض المصادر تذهب إلى أنه كان ذا ميول علوية، بل كان شيعيا ! واستبدل لون العباسيين الأسود بلون العلويين الأخضر. وقد عرفت خلافته تصاعد نفوذ الفرس لأنه اعتمد عليهم لاغتيال أخيه الأمين للوصول إلى السلطة. واتخذ من مرو في خراسان (في تركستان حاليا) عاصمة له لمدة ست سنوات قبل أن ينتقل إلى بغداد. وهذان العاملان (ميوله للعلويين وللفرس) يناقضان أطروحة الجابري، لكنهما لا يتنافيان مع انفتاح المأمون – مثل العديد من الخلفاء - على العلوم والفلسفة اليوناية.
2) يجمع الجابري بين الاعتزال والسنة تحت تسمية "الإسلام الرسمي"، في حين أن المأمون اصطف إلى جانب المعتزلة في مسألة خلق القرآن واضطهد أهل الحديث من السنة. وقد التزم الشيعة الحياد في هذا الصراع، إذ اكتفوا بالجهر بأن "القرآن كلام الله" دون الافصاح عن موقفهم الحقيقي الذي لا يختلف عن أهل الحديث، ألا وهو أن القرآن غير مخلوق. ولا يمكن على كل حال – بناء على المصادر المتوفرة – الحديث عن تحالف بين المعتزلة والسنة، في حين أن المصادر التاريخية تحدثت عن تصارع بينهما (وكان بعضهم يكفر بعضا)، كانت الغلبة فيه للمعتزلة طوال عصر المأمون (198-218هـ)، ثم المعتصم (218-227هـ)، ثم الواثق (227-232هـ)، إلى أن حدث الانقلاب المتوكلي الذي مكن السنة من أخذ ثأرها من المعتزلة.
3) المأمون وظف الاعتزال - وهو ممثل العقل في الإسلام - ضد أهل الحديث، أي في صراع داخلي بين المذاهب الإسلامية.
4) المعتزلة عبوا من منابع مختلفة، كما هو شأن إبراهيم النظام (185هـ/777م – 222هـ/836م) الذي يقول بشانه البغدادي: "النظام عاشر قوما من الثنوية وقوما من السُّمَنِية (فرقة من الهند دهرية تقول بالتناسخ)"..."و خالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة؛ ثم خالط هشام بن الحكم الرافضي"..."واعجب بقول البراهمة" (الفرق... ص 117). وهذا يعني أن بعض ممثلي "المعقول الديني" تأثروا أيضا بتيارات "العقل المستقيل" ! و أن جسورا عديدة كانت تربط بين المذاهب والمعتقدات الحاضرة في الساحة الثقافية، إسلامية كانت أوغير إسلامية، وهو ما يبين تعسف تصنيف الجابري. وتجدر الإشارة إلى أن العلاف كَفَّر النظام ! (الفرق... ص 120)
5) لم يكن للمعتزلة تحالف حصري مع مذهب معين من المذاهب، ولهذا نود أن نعيد التذكير بما قاله الشهرستاني: "وأما كلام جميع المعتزلة في النبوات والإمامة (فإنه) يخالف كلام البصريين، فإن من شيوخهم من يميل إلى الروافض، ومنهم من يميل إلى الخوارج، والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة...".
6) أقرب المذاهب إلى الاعتزال هو المذهب الزيدي (الشيعي) ! (والحنفية من السنة). وهذا يعني أن أقرب مذهب لممثلي العقل مذهب ينتمي في تصنيف الجابري إلى العرفان و "العقل المسقيل" !
7) يُطرح سؤال حول هوية الحركات الغنوصية المانوية والعرفانية الشيعية التي كان على المأمون محاربتها. فالمعروف تاريخيا أن الدولة العباسية في عصر المأمون واجهت نوعين من الثورات: ثورات ذات مرجعية معادية للإسلام وأخطرها ثورة بابك الخرمي، وثورات ذات مرجعية إسلامية وهي إما خارجية أو شيعية، وغالبية الثورات الشيعية علوية (وتسمى أيضا طالبية)؛ أما الثورات التي يمكن أن تنعت ب "العرفانية الشيعية" فهي تلك التي اندلعت تحت راية السبئية أو الكيسانية. ومحاربة هذه الحركات لا يستدعي استيراد "البرهان" كسلاح أيديولوجي لمحاربتها، فالبيان السني كاف للتجنيد ضد الخرمية؛ في حين أن الصراع ضد الزيدية العلوية صراع سياسي داخلي قد يشكل خطرا على الأسرة الحاكمة وليس على الدولة الإسلامية.
8) الثورات المعادية للدولة الإسلامية هي – وقبل كل شيء – حركات تحرر وطني (هي أشبه بظاهرة الردة ضمن القبائل العربية بعد وفاة الرسول)؛ وهو بعد لا يجوز طمسه بادعاء أنها ممثلة ل"الغنوص المانوي والعرفان الشيعي". والدليل على ذلك أن بابك الخرمي ما زال يعتبر بطلا وطنيا في العالم الفارسي، ووضعه لا يختلف عن وضع كسيلة أو الملكة ديهية (الكاهنة) اللذان قاوما الفتح الإسلامي في الغرب الإسلامي.
9) ما مدى الصحة التاريخية لهذا "التحالف" الحصري بين الإسلام "الرسمي" والفلسفة اليونانية؟ فعندما انتقلت الفلسفة اليونانية إلى الثقافة العربية استحوذ عليها أيضا خصوم الإسلام السني ووظفوها لأغراضهم، ومنهم إخوان الصفاء "الإسماعيليين"، حسب قراءة الجابري نفسه (وهو ما يفنده طرابيشي). أما ما هو يقين فهو أن موقف الإسلام السني من الفلسفة كان يشوبه دائما كثير من العداء. أما الصراع بين السنة والشيعة فهو صراع داخل البيان الإسلامي، ولسنا ندري كيف يمكن ل"العقل الكوني" أن يبت في الصراع بين المذهبين؟ أي كيف يمكن له الفصل – مثلا – في مسألة الإمامة والعصمة، أو في شرعية الخلفاء الراشدين؟ والسجال مع الديانات الأخرى، سجال بين بيانات هذه الديانات؛ ولسنا ندري – مثلا - كيف يمكن الحسم على أساس "العقل الكوني" بين من يُؤَلِّه عيسى ومن ينكر ذلك، وهما يؤمنان معا بميلاده العذري (المسيحية والإسلام) !؟ اما الصراع مع المانوية، وغيرها من الديانات القديمة، فهو صراع مع أمم مغلوبة لم تستسلم للأمر الواقع، والصراع معها صراع أيديولوجي وسياسي وليس صراعا بين "العقل الكوني" واللاعقل؛ إلا أن يبرهن لنا الجابري على أن للعرب المسلمين الحق - من وجهة نظر "العقل الكوني" دائما - في السيطرة على الشعوب الأخرى.
10) لا يمكن أن نقول أن الصراع مع من يدعون بالزنادقة صراع مع اللاعقل، بل العكس هو الصحيح، فكثير ممن نعت بالزندقة ونُكِّل به يعد من ممثلي الفكر الحر في الحضارة العربية الإسلامية.
11) وهذه ملاحظة تاريخية صرف. فالجابري يعطينا توصيفا للصراعات الأيديولوجية لا يتطابق مع عصر المـأمون، بل مع العصور التالية له. ف"العرفان الشيعي" لم يظهر بشكل يهدد أركان الدولة العباسية إلا مع حركة الزنج (التي تأثرت بالخوارج أيضا) والإسماعيلية والقرامطة.
12) وهي أيضا ملاحظة من طبيعة تاريخية. فالمقارنة مع تاريخ الدولة الأموية تبين أن الحركات المعارضة التي واجهتها هذه الدولة هي نفسها التي واجهتها الدولة العباسية في بدايتها:1- ثورات الشعوب التي أخضعها الفتح الإسلامي إما تحت لواء عقائدها الأصلية أو تحت لواء مذاهب إسلامية. 2- ثورات ذات طبيعة مذهبية (شيعية أو خارجية). 3- ثورات أقاليم على السلطة المركزية. 4- ثورات سياسية محضة يحركها التنافس على الحكم (كثورة عبد الله بن الزبير). ومواجهة هذه الثورات لم تكن تحتاج إلى استيراد المنطق الأرسطي.
13) راجعنا سيرة أعلام التصوف في القرنين الثاني والثالث للهجرة الواردين في "قائمة أعلام التصوف" (ويكيبديا)، ومن بين الأعلام التسعة للقرن الثاني والستة والثلاثين للقرن الثالث، لم نجد إلا الحلاج الذين يقول بوحدة الوجود مع اختلاف فيما يتعلق بالبسطامي ، أما الآخرون فيعدون من أعلام التصوف السني. وهذا ما يتفق مع الخلاصة التي خرج بها هنري لاووست في ختام فصله عن التصوف في كتابه حول الفرق الإسلامية، إذ يقول أن التصوف نشأ وتطور في صلة وثيقة « symbiose » مع الحديث والفقه والكلام . وما تجدر الإشارة إليه هو أن ذو النون المصري (179-245 هـ) هو أول من أدخل العرفان في التصوف وكان في الوقت نفسه مالكيا ، وهذا يعني أن العرفان لا يتنافى بالضرورة مع السنة.
14) جل أعلام التصوف الواردين في "قائمة أعلام التصوف" من الفرس، وهذا يدل على أن ليس كل متصوف فارسي عرفاني أوشيعي، بل جلهم كان سنيا.
15) تعامل الدولة العباسية مع الشيعة والفرس كانت تحكمه الحسابات السياسية، فهو تعامل انتهازي صرف.
أما فيما يتعلق بالمذاهب الإسلامية والديانات التي عرفها عصر المأمون فهي نفسها تلك المذاهب التي ظهرت في عصر الدولة الأموية (زيادة على تفريعات منها)؛ وبوادر هذه المذاهب ظهرت منذ عصر الرسول والخلفاء الراشدين، كما يؤكد ذلك الشهرستاني . وهي الديانات نفسها التي عرفتها الرقعة الجغرافية التي سيطرت عليها الدولة الإسلامية. والجابري عندما يعتبر بعضها بمثابة طابور خامس دخيل كل همه هو تقويض أركان الدولة الإسلامية، فهو يغفل عن كون هذه التيارات لها حق المواطنة، لسبب بديهي ألا وهو كونها موجودة في الأرض التي شهدت ميلادها: فالهرمسية نشأت في مصر؛ أما الغنوصية فهو اسم يطلق على مجموعة من التيارات المختلفة، لا يجمع بينها إلا كونها نشأت في منطقة الشرق الأوسط، ومن بينها المسيحية والأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة والثنائية وعبادات الأسرار ؛ أما المانوية فقد كانت من أكثر الديانات انتشارا في العالم، إذ أن نفوذها كان يمتد من الصين إلى كل حوض البحر الأبيض المتوسط، قبل أن تتراجع بضغط من المسيحية ثم الإسلام. وما ساهم في هذا الإنتشار هو كونها كانت تركيبا من عدة ديانات، من بينها الزرادشتية والمسيحية والبوذية. هذا يعني أن هذه الديانات المغلوبة بقيت حاضرة في ضمير وثقافة الشعوب التي اعتنقتها في فترة من تاريخها. وما يساعد على استمرار هذا الحضور هو كون الديانات ليست عوالم منفصلة بل بينها جسور عديدة، بما فيها الجسور مع الأساطير القديمة، رغم التشنج الذي تظهره كل واحدة منها في الدفاع عن خصوصيتها، وادعائها الانفراد بالحقيقة.
أما الزرادشتية فإنها تستحق معاملة أفضل مما هو شائع عنها في المقالات الإسلامية تحت اسم المجوسية: فهي من أقدم الديانات المعروفة، وهي أقدم ديانة توحيدية وكثير من معتقداتها انتقلت إلى الديانات الابراهيمية. وترجح المصادر أن اليهودية تأثرت بالزرادشتية أثناء المنفى البابلي. ومن معتقداتها أن أحورا مازدا (الإله الواحد) خلق الكون والعناصر الأربعة: الماء والتراب والنار والهواء، وخلق الإنسان. ومن معتقداتها: القول بالبعث وبحياة بعد الموت ومحاسبة الأرواح حسب افعالها؛ والاعتقاد بوجود الملائكة؛ والأمر بالطهارة؛ وإقامة خمس صلوات في اليوم؛ وفرض الصيام؛ وتحريم المشروبات المسكرة...
ولربما أن هذا القرب البنيوي من الديانات الابراهيمية هو الذي سهل انتشار الإسلام في فارس، في حين أن الإسلام وجد صعوبة في التجذر في الهند رغم خضوعها للحكم الإسلامي لعدة قرون، أو الصين التي بقي الإسلام فيها هامشيا رغم أنه وصل إليها في القرن الأول للهجرة.
والأساطير ليست مجرد خرافات لا معنى لها، ففي الأساطير القديمة جذور للمعتقدات المؤسسة للديانات الابراهيمية، ومنها - على سبيل المثال - قصة الطوفان وقصة سرجون الأكدي التي تشبه قصة موسى... والمطلع على الفكر الغربي الحديث يدرك الدلالات العديدة التي يمكن إيجادها في الأساطير القديمة. وأطروحات الجابري لا تساعد على استغلال هذا المنجم الكبير لخبايا النفس الإنسانية.
من الملاحظات السابقة يتبين لنا أن القراءة الأيديولوجية للجابري تقوم على قراءة متعسفة للمذاهب والأحداث. وهي تطرح مسألة منهجية المقارنة بين المذاهب والديانات. فالجابري يدعي أنه يعتمد التحليل التاريخي والبنيوي، ولو أنه اعتمد حقا هذا المنهج لما أقام تراتبية على أساس العقلانية بين الديانات والمذاهب. فما يميز الديانات عن بعضها هو الطريقة التي وظفت بها كثيرا من العناصر التي تنتمي إلى الظاهرة الدينية عموما، ولو أن هذه العناصر اتخذت في كل ديانة أشكالا مختلفة، بحيث يصعب أحيانا التعرف عليها. والمقاربة البنيوية تتجاوز السجال العقيم حول سؤال الأسبقية الذي يفترض وجود بداية مطلقة لفكرة أو عقيدة ما موثقة توثيقا لا جدال فيه، في حين أن تاريخ المعتقدات يضرب بجذوره فيما قبل التاريخ وفي ما لم تذكره المراجع المكتوبة. وهذه المقاربة تتجاوز فكرة النقل المرتبط بسؤال الأسبقية. وهذا موضوع سجال بين بعض المستشرقين الذين يذيبون الإسلام فيما قبله، ومعارضيهم من المسلمين الذين يريدونه بداية مطلقة . فأصالة كل دين أو مذهب تكمن في الطريقة التي ولف بها العناصر المقتبسة، والتي تعطيه هويته التي تميزه عن غيره.
والجابري – من جهة أخرى - يقرأ التاريخ من جانب المنتصرين وبمنطقهم، ولهذا فإن عرضه لسياسة الدولة العباسية يشبه الطريقة التي كانت تبرر بها الدول الاستعمارية سياستها: فهي ممثلة للعقل والعلم والأخلاق السامية المعقولة والحضارة، في مواجهة التعصب والخرافة والتخلف، أي "العقل المستقيل" حسب تعبير الجابري نفسه ! وهذا موقف الماركسية نفسها، إلا أنها كانت تغلفه باعتبارات أيديولوجية مختلفة، فهي كانت ترى في الاستعمار وسيلة لتحديث البنى في المجتمعات القبل رأسمالية.
وقد يكون تبرير "حق المنتصرين" مبنيا على أساس وجهة نظر هيجلية للتاريخ، أي أن "التاريخ هو الحكم النهائي على التاريخ"، لكن الجابري لا يبرر "حق" الدولة الإسلامية من منظور هيجلي بل من منظور البيان السني المرفوع إلى مستوى "العقل الكوني".
"أزمة الأسس"
يقول الجابري: "لقد كانت استراتيجية المأمون قائمة كلها، كما بينا ذلك في الفصل السابق، على تأسيس "البيان" على "البرهان" ضدا على "العرفان". وها هي هذه الاستراتيجية تصل إلى عنق الزجاجة. إن نمو "البيان" وتبلوره كنظام معرفي مُقنَّن من جهة واكتمال حضور المنطق الأرسطي في الثقافة العربية بترجمة كتاب البرهان والتركيز بالتالي على الطبيعة البرهانية لهذا المنطق – الشيء الذي ابرز وضعه statut الابستيمولوجي بوصفه نظاما معرفيا خاصا ومتميزا – من جهة ثانية قد كشفا عن التعارض العميق بين "البيان" و"البرهان" وبالتالي استحالة الاستمرار في محاولات تأسيس الأول على الثاني دون التضحية بما هو جوهري في أحدهما، ولربما في كليهما معا... ذلك مظهر من مظاهر "أزمة الأسس" في الثقافة العربية، الأزمة التي بدأت تتكشف بعد انتهاء عصر التدوين مباشرة." ( ت.ع.ع، ص 260)
ولسنا ندري هل أدرك الجابري أن "فشل" المأمون في محاولته تأسيس البيان على البرهان يناقض أطروحته حول "المعقول الديني": فلو كان "المعقول الديني" معقولا حقا لما انكشف "التعارض العميق بين "البيان" و"البرهان" وبالتالي استحالة الاستمرار في تأسيس الأول على الثاني دون التضحية بما هو جوهري في أحدهما، ولربما في كلاهما معا..."؟ وهذا يبين لنا كيف أن أطروحة الجابري اصطدمت بوقائع تناقضها (وإن كانت "وقائع" من وضعه) ، فليست محاولة المأمون هي التي وصلت "إلى عنق الزجاجة"، بل أطروحة الجابري.
وبما أن الأمر يتعلق بمحاربة العرفان، فإن السؤال المطروح يتعلق بطبيعة هذا "العرفان" الذي أراد المأمون محاربته ب"البيان" و"البرهان" معا؟ والجواب يقدمه لنا الجابري نفسه على لسان فوستجيير، يقول الجابري.
"لنختم إذن بإبراز هذه الخاصية العامة التي أولاها فيستوجيير أهمية خاصة في خاتمة الجزء الأول من كتابه، إنها ستجعلنا نلمس مرة أخرى موقعا آخر من المواقع التي احتلتها الهرمسية في الثقافة العربية الإسلامية: الموقع الذي يندمج فيه التصوف في الكيمياء والكيمياء في التصوف، وبكيفية عامة: العلم في الدين والدين في العلم.
يقول فيستوجيير: "إن أبرز سمات الفكر الهرمسي هو أنه فكر لم يعد فيه الفصل بين العلم والدين كما كان من قبل. "وكما هو معروف فإن الفصل الصارم بين هذين الميدانين (=ميدان العلم وميدان الدين) والتمييز الواضح بين ما يؤول أمره إلى المعرفة بالعالم وما يرجع أمره إلى المعرفة بالله وانتشال نظام المعقولية من الشوائب الميتولوجية، تلك كانت إحدى المنجزات العظيمة للفلسفة الإغريقية منذ فلاسفة ما قبل سقراط". أما هنا، في الفكر الهرمسي "فإن هذين الميدانين قد اختلطا من جديد. لقد اختلطا في مبدئهما ومصدرهما نفسه. ذلك لأنه لم يعد من الممكن الطموح إلى الحصول على المعرفة، أية معرفة، إلا من عند إله أو عند نبي يوحى إليه ويقدم المعرفة للناس وحيا (= لا بالبرهان) تلك هي الواقعة الأساسية التي يتوقف عليها كل ما سواها" . "(ت.ع.ع، ص 183)
يقول النص أن الدين والعلم "اختلطا من جديد" في الهرمسية، لكن هل هذا "الخلط" وقف على الهرمسية؟ أليس كل دين يفترض وجود توافق بين عقيدته و نظام الكون؟ ثم اليس الدين أصلا تفسيرا للكون؟ وما هو "المعقول" الديني عند الجابري إن لم يكن خلطا بين العلم (نظام الكون) والدين؟ وهل أن الفلسفة اليونانية – وسليلتها الفلسفة العربية الإسلامية – انتشلت، حقا، نظام المعقولية من الشوائب الميثولوجية؟
ومرة أخرى نلاحظ، على المستوى المنهجي، أن مصدر الخلط عند الجابري يكمن في كونه أراد أن يقيم تراتبية على أساس درجة العقلانية بين ما سماه كانط Kant ب"الأوهام المتعالية" illusions transcendantales؛ ويندرج تحت هذه التسمية كل فكر يخرج موضوعه عن عالم الظواهر، من أسطورة ودين وحتى الميتافيزيقا.
إن دحض الهرمسية – رمز "العقل المستقيل" عند الجابري - إما أنه يستند إلى معتقدات دين آخر، وفي هذه الحال فإن الأمر يتعلق بسجال ديني يكتفي فيه كل مساجل بالدفاع عن عقيدته وتهفيت عقيدة خصومه. وإما أن الدحض يستند إلى براهين عقلية، وهو بذلك لا يمكنه الخروج عن النقد الوضعي أو الإنسي أو المادي للدين، وهذا النقد لا يفرق بين الأديان لأنه يستهدف أسسها قبل كل شيء، وليس تمظهراتها الجزئية فحسب. ولهذا فإن نقد الهرمسية من وجهة نظر إسلامية ليس إلا مجرد سجال ديني – أي مقارعة بيان ببيان - ولا يمكنه أن يكون بأي حال من الأحوال سجالا بين العقل واللاعقل.
وإذا كانت الهرمسية تشكل خطرا ما، فذلك ليس لأنها "عقلا مستقيلا"، بل لوجود خصم يوظفها في صراعه السياسي مع الدولة الإسلامية.
لكن الجابري لا يبحث عن مصادر قوة هذا الخصم في كونه يقاوم من أجل البقاء، أو في كونه خصم سياسي يطمح إلى السلطة، أو في كونه يستغل التناقضات الاجتماعية والسياسية، بل يدعي أن استراتيجية المأمون لبناء البيان على البرهان – لمواجهة العرفان - وصلت إلى طريق مسدود بسبب "التعارض العميق" بينهما. وهذا حسب رأيه يعكس أزمة الأسس في الثقافة العربية الإسلامية التي تعود إلى أوائل نشأتها في "عصر التدوين". وسبب هذه الأزمة انقسام الثقافة العربية الإسلامية إلى ثلاثة نظم معرفية، وعجزها عن تجاوز هذا الانقسام. وهذا يعني أن النجاح أو الفشل يقعان على المستوى الميتافيزيقي وليس على مستوى التاريخ ! ولتشخيص مظاهر هذه الأزمة يبدأ الجابري بالتعريف بمضمون اللقاء بين النظام المعرفي البياني العربي والنظام المعرفي البرهاني اليوناني.
ويستهل الجابري بالكندي (185- 252هج /801-873 م)، قائلا: "إن الكندي صريح في نفي التراتب الهرمي الذي تقيمه الهرمسية والأفلاطونية المحدثة وكل الاتجاهات الغنوصية في عالم الألوهية والذي تصل بواسطته المعرفة الإلهية بالمعرفة البشرية جاعلة من هذه امتدادا لتلك "واحد مرسل" معناه: ليس هناك إلى جانب الله أي كائن إلهي آخر مثل "العقل الكلي" أو "العقل العاشر" – الفعال – تتم عنده المشاركة في الغنوص وتُعبَر بواسطته الهوة التي تفصل الله بالعالم معرفيا وأنطولوجيا. إن الكندي يرفض كل "الوسائط" التي تقيمها الهرمسية والأفلاطونية المحدثة بين الله والعالم ويتصور العلاقة بينهما، أنطولوجيا ومعرفيا، تصورا إسلاميا محضا، وعلى طريقة المعتزلة خاصة، وهو يكرس هذا التصور بخطاب فلسفي المضمون أرسطي النزعة، ضدا على التصورات الغنوصية بمختلف اتجاهاتها." (ت.ع. ع، ص 238)
لكن الكندي "فشل" في مسعاه في رأي الجابري: ل "أن عملية تنصيب العقل في الثقافة العربية الإسلامية لم تكن بالأمر الهين، إذ كان لا بد من مواجهة الغنوص المانوي والعرفان الهرمسي- الشيعي من جهة، والتصدي من جهة أخرى لردود الفعل السلبية التي كان لا بد أن تصدر عن الفقهاء والمتكلمين الذين كانوا قد اتخذوا موقفا معاديا ل "علوم الأوائل" جملة وتفصيلا لأسباب شرحناها قبل". ويرجع الجابري "فشل" الكندي إلى كون "الطابع السجالي الذي فرضته عليه هذه المعركة قد جعل خطابه العقلاني يبقى خطابا جدليا، خطابا تقريريا وليس خطابا برهانيا" (ت.ع.ع، ص 240). ويزيد قائلا: "والواقع أن هذا النقص الذي شاب مؤلفات الكندي المنطقية لم تكن باخياره، فلقد كان المتداول من المنطق في عصره خاليا من "كتاب البرهان"، الكتاب الذي لم يترجم إلى العربية إلا في عصر الفارابي [...]" (ت.ع.ع، ص 241)
إذن – وحسب الجابري – "فشل" الكندي لأن "كتاب البرهان" لم يكن قد ترجم بعد إلى العربية ! وكأن المنطق الأرسطي مجموعة من القوانين العلمية التي توصل إلى الحقيقة المطلقة. وكأن هذا المنطق ليس في متناول تيارات فكرية متضادة تستعمله لعقلنة عقائدها والرد على خصومها. وأن هذه العقلنة إن ساهمت في ترسيخ إيمان أتباع دين أو مذهب ما، فهي بدون مفعول على أتباع دين أو مذهب آخر. وبما أن الجابري كتب بعد أزيد من ألف سنة من عصر الكندي، فإنه يعرف أنه بإمكان الفلسفة الاستغناء عن المنطق الأرسطي لأنه بكامله مصادرة على المطلوب.
ثم ينتقل الجابري إلى الفارابي عارضا الظروف السياسية التي عاش فيها، إذ يقول: "جاء الفاربي إذن في ظروف تميزت بالتمزق الفكري والسياسي والاجتماعي فجعل قضيته الأساسية إعادة الوحدة إلى الفكر وإلى المجتمع معا: إعادة الوحدة للفكر بالدعوة إلى تجاوز الخطاب "الكلامي" السجالي، الجدلي والسفسطائي، والأخذ بخطاب "العقل الكوني"، الخطاب البرهاني. وإعادة الوحدة إلى المجتمع ببناء العلاقة داخله على نظام جديد يحاكي النظام الذي يسود الكون ويحكم أجزاءه ومراتبه. ومن هنا انصرف الفارابي باهتمامه إلى المنطق من جهة، وإلى الفلسفة السياسية من جهة أخرى. وإذا كانت المدينة الفاضلة التي بشر بها قد نظر إليها، في الثقافة العربية الإسلامية، على أنها مجرد حلم فلم يعمل أحد على إعادة التفكير، وحتى ابن خلدون الذي عني بدراسة العمران البشري وأنظمة الحكم اعتبرها "بعيدة الوقوع" واعتبر الكلام فيها "على جهة الفرض والتقدير" لا غير...إذا كان ذلك هو مصير فلسفة الفارابي السياسية، فإن مصير أعماله المنطقية يختلف تماما." (ت.ع.ع، ص 241-242)
وعن العلاقة بين الدين والفلسفة، يلخص الجابري رأي الفارابي قائلا: " الحكماء يتصورون الحقائق كما هي، والمؤمنون ترتسم في نفوسهم خيالاتها ومثالاتها، فيكون ما يقرره الدين محاكيا لما تبرهن عليه الفلسفة تماما كما تحاكي المدينة الفاضلة نظام الكون وتراتبه وترابطه. وإذن فلا تناقض بين الدين والفلسفة إذ هما يعبران عن حقيقة واحدة. الفلسفة تعبر عنها تعبيرا مباشرا برهانيا، والدين يعبر عنها بمثالاتها ومحاكياتها. الفيلسوف يستفيدها بالعقل، أي بالصناعة البرهانية التي وحدها تمكن من الارتفاع به إلى درجة الاتصال ب"العقل الفعال"، أما النبي فيتقبلها من نفس المصدر ولكن بمخيلته فقط [...]." ( ت.ع.ع، ص 246)
ويختم الجابري هذا الفصل قائلا: "وإذا نحن نظرنا إلى خطاب الكندي وخطاب الفارابي من زاوية الأساس الأيبيستيمولوجي، أو النظام المعرفي، الذي يؤسسهما وجدناهما خطابا واحدا، خطابا جديدا على الثقافة العربية الإسلامية يسجل لحظة جديدة في تاريخ تكون العقل العربي. لقد كانت الثقافة العربية الإسلامية والعقل العربي ذاته يتقاسمهما، قبل الكندي-الفارابي، خطابان مختلفان تماما: خطاب يعتمد "البيان" والذي تحمله اللغة العربية أصلا، والذي قننته علوم الموروث العربي الإسلامي "الخالص" علوم اللغة وعلوم الدين، وخطاب يعتمد "العرفان" الذي يدعيه "العقل المستقيل" الذي انتقل إلى الثقافة العربية من الموروث القديم واحتل فيها مواقع أساسية عبر التشيع والتصوف والكيمياء والتنجيم وما ارتبط بهما من علوم "سرية" أخرى... وها نحن الآن أمام خطاب جديد، خطاب ينتمي بمفاهيمه ونظرياته العلمية الفلسفية إلى طبيعيات أرسطو وميتافيزيقا[ه]، كما استعادهما جزئيا فيلسوف العرب الكندي، وتشرح الياته وقوانينه الصناعة المنطقية التي انضجها أرسطو المعلم الأول واستعادها منه كاملة الفارابي المعلم الثاني. إنه خطاب "العقل الكوني" الذي يؤسسه نظام معرفي خاص يقوم على "البرهان"، ولذلك سندعوه ها هنا بالنظام المعرفي البرهاني."
"ولكننا إذا نظرنا إلى الخطابين، خطاب الكندي وخطاب الفارابي، من زاوية الاستراتيجية التي توجه كلا منهما وجدناهما يختلفان تماما ليس في الإتجاه وحسب بل وفي المضمون كذلك: لقد قصر الكندي في "البرهان" لأنه كان مشدودا إلى "البيان" ومشغولا بالرد على "العرفان"، وأهمل الفلسفة السياسية لأنه كان يمارس الفلسفة من أجل السياسة، أعني أنه كان يوظف الفلسفة لدعم سياسة قائمة، سياسة "دولة العقل" البياني المعتزلي التي أظلته ووظفته. أما الفارابي فقد اتجه إلى "البرهان" لا ليعزز به "البيان"، كما حاول الكندي أن يفعل، بل ليتجاوزه به على أساس أن ما في "البيان"، مثالات لما في "البرهان". أما "العرفان" فقد احتفظ به الفارابي، ولكن لا كمصدر أولي للمعرفة بل كنتيجة لها.. لقد جعل منه لا بديلا عن البرهان بل ثمرة له. وهكذا، وتحت ضغط هاجس "الوحدة" الذي هيمن على الفارابي، وحدة الفكر ووحدة المجتمع، عمد أبو نصر إلى ممارسة السياسة في الفلسفة: جمع بين أفلاطون وأرسطو من أجل إقرار وحدة العقل، وبين الملة والحكمة من أجل بناء وحدة المجتمع. ولم يكن من الممكن لعملية "الجمع" المضاعفة هذه أن تتم بدون توظيف جوانب من الهرمسية. إن القول بوحدة الدين والفلسفة وباتصال الموجودات بعضها مع بعض من قمة الهرم (=السبب الأول) إلى قاعدته (= العناصر الأربعة)، وهو القول الذي بنى عليه الفارابي حلمه الفلسفي السياسي، يقع في صميم الهرمسية، وهو يستتبع مباشرة القول بإمكانية الانتقال على جسم الهرم من مراتب دنيا إلى مراتب عليا، على الصعيدين المادي والروحي، ومن هنا "الكيمياء"، من جهة و"العرفان" من جهة ثانية، وكلاهما من دعائم الهرمسية كما رأينا. أما الكيمياء فقد الف الفارابي فيها رسالة بعنوان "وجوب صناعة الكيمياء"، وهو عنوان يغني عن كل تعليق. وأما "العرفان" فعلى الرغم من أن الفارابي لا يقول به كمنطلق وبداية فقد قبله كثمرة ونهاية، وذلك حينما جعل المعرفة تنتهي، في أسمى درجاتها إلى "الاتصال" ب "العقل الفعال" آخر مراتب العقول السماوية الفائضة عن السبب الأول (= الله)."
"واضح إذن ان تنصيب "العقل الكوني" في الثقافة العربية الإسلامية لم يكن بالأمر الهين: لقد كانت الثقافة يتقاسمها نظامان معرفيان متباينان يرتبطان بتيارين أيديولوجيين متصارعين تاريخيا: النظام البياني والأيديولوجية السنية من جهة، والنظام العرفاني والأيديولوجية الشيعية من جهة ثانية. ومن هنا سيكون النظام البرهاني في الثقافة العربية الإسلامية محكوما في طبيعته وتطوره بالصراع بين "البيان" و"العرفان"، كما سنوضح ذلك في الفصل التالي." (ت.ع.ع، ص 248-249)
ولنا عدة ملاحظات على الفقرات السابقة:
أولا: يقول الجابري: "وها نحن الآن أمام خطاب جديد، خطاب ينتمي بمفاهيمه ونظرياته العلمية الفلسفية إلى طبيعيات أرسطو وميتافيزيقا[ه]، كما استعادهما جزئيا فيلسوف العرب الكندي، وتشرح آلياته وقوانينه الصناعة المنطقية التي انضجها أرسطو المعلم الأول واستعادها منه كاملة الفارابي المعلم الثاني. إنه خطاب "العقل الكوني" الذي يؤسسه نظام معرفي خاص يقوم على "البرهان"، ولذلك سندعوه ها هنا بالنظام المعرفي البرهاني". فالجابري يعد "طبيعيات أرسطو وميتافيزيقاه" نتاجا ل"العقل الكوني" القائم على البرهان، وهو بذلك يرفع الميتافيزيقا إلى مرتبة العلم كما فعل ذلك مع "المعقول الديني" !
ونود هنا أن نذكر ما قاله هانز ريشنباخ عن فلسفة أرسطو: "وإني لعلى استعداد للاعتراف بأنه لا ينبغي الحكم على أهمية أرسطو التاريخية بمقياس نقدي هو نتاج للتفكير العلمي الحديث، ولكننا لو قسنا ميتافيزيقاه، حتى بالمعايير العلمية لعصره، أو على أساس ما أنجزه في ميادين علم الحياة والمنطق، لما بدت لنا معرفة ولا تفسيرا، بل لكانت ذات طابع تشبيهي، أعني هروبا إلى اللغة المجازية. وهكذا فإن النزوع إلى كشف التعميمات يؤدي بالفيلسوف إلى نسيان المبادئ التي يطبقها بنجاح في ميادين للبحث أضيق حدودا، ويجعله ينقاد للألفاظ حيث لا تكون المعرفة قد توافرت بعد. وهنا نجد الأساس النفسي لذلك المزيج العجيب من الملاحظة والميتافيزيقا، الذي جعل هذا الباحث البارز في ميدان جمع المواد التجريبية، مفكرا ذا نزعة نظرية قطعية، يرضي رغبته في التفسير بنحت ألفاظ وإقامة مبادئ لا يمكن ترجمتها إلى تجارب قابلة للتحقيق."
كما يمكننا أن نذكر بما قاله ابن خلدون في موضوع لا جدوى إلهيات وطبيعيات الفلسفة (وميزتها الوحيدة عنده كونها "تشحذ الذهن")، لنقول أن الفلسفة الرسمية الإسلامية استنفذت قواها في كثير من الأسئلة العقيمة. فعكس ما يقوله الجابري، لم يكن "تنصيب العقل الكوني"هو الصعب، بل استنبات البيان اليوناني في بيئة ثقافية مرجعيتها الدينية مختلفة عن المرجعية الدينية اليونانية. ويكفينا مثالا نظرية العقل: فنظرية العقل اليونانية تحكمها كوسمولوجيا تقوم على دور النجوم وتأثيرها، وعندما طرحت هذه المسألة في الثقافة الإسلامية ظهرت بمظهر الإشكالية الدخيلة. ونظرية العقل كما كانت مطروحة لم تكن مسأة ابستيمولوجية محض، بل كانت تباطنها اعتبارات دينية اختفت مع نهاية الفلسفة القروسطية الأوروبية، لتظهر من جديد كسؤال ابستمولوجي متجدد عبر العصور، ألا وهو سؤال العلاقة بين العقل والمعرفة.
أما تنصيب العقل الكوني فهو، في صيغته العلمية، لم يجد اي عائق في طريقه في الثقافة الإسلامية، ويكفي دليلا على ذلك تطور كل العلوم – من علوم اللغة إلى الرياضيات - بدون عائق سياسي أو أيديولوجي يذكر، فلا عالم اضطهد بسبب آرائه العلمية. وهذا العقل الكوني كان بإمكانه التعايش مع الدين لأن مجاليهما مختلفان. ويعود هذا أيضا إلى كون العلم القديم لم يكن يصادم الدين كما هو شان العلم الحديث الذي بإمكانه إعطاء نظرة للكون تستغني عن الدين. وإذا كان هذا هو شأن العلم فإن الأمر مختلف تماما مع العقل الكوني في صيغته النقدية التي يمثلها الذين نعتوا بالزنادقة، فقد كان مصيرهم غير مصير الفلاسفة الذين شملتهم عناية الحكام.
ثانيأ: يقول الجابري: "جاء الفارابي إذن في ظروف تميزت بالتمزق الفكري والسياسي والاجتماعي فجعل قضيته الأساسية إعادة الوحدة إلى الفكر وإلى المجتمع معا: إعادة الوحدة للفكر بالدعوة إلى تجاوز الخطاب "الكلامي" السجالي، الجدلي والسفسطائي، والأخذ بخطاب "العقل الكوني"، الخطاب البرهاني. وإعادة الوحدة إلى المجتمع ببناء العلاقة داخله على نظام جديد يحاكي النظام الذي يسود الكون ويحكم أجزاءه ومراتبه". فإذا كانت هذه هي "قضية [الفارابي] الأساسية" فهي في الواقع قضية كثير من المشاريع الفلسفية قديما (مع أفلاطون الذي طرد الشعراء من جمهوريته لأنهم يدخلون الذاتية في الفكر، وأرسطو الذي اراد توحيد الفكر بالمنطق) أو حديثا. وهو ما يسمى بالإنطوثيولوجيا ontothéologieالتي تنعت الفلسفات التي يتساوق فيها الخطاب الأنطولوجي مع الخطاب الديني (أي تساوق تفسير الكون مع الأخلاق). وهو – على سبيل المثال – مشروع أوغست كونت الذي أراد توحيد الفكر والمجتمع بفضل فلسفته الوضعية التي تتجاوز الخطاب اللاهوتي والميتافيزيقي.
وحتى لو سلمنا مع الجابري أن الفارابي كان يطمح إلى وحدة الفكر والمجتمع، فإن الفشل لا يمكن رده إلى تعارض الأنظمة المعرفية وإلى التمزق السياسي والاجتماعي لأن التعارض من صميم الجدلية الاجتماعية، وهي جدلية لا يمكن إيقافها. ولا من مجتمع إلا ويعاني من تمزق فكري واجتماعي. ويكفينا دليلا تاريخ أوروبا الذي شهد تعارضا للأنظمة المعرفية والسياسية كان محركا للنهضة والتقدم الذي عرفته.
ثالثا: لقد قضى الجابري ب"الفشل السياسي للمأمون" وبالفشل الفلسفي للكندي والفارابي، أو ما سماه الجابري ب "الفشل الأيديولوجي العام"؛ وقد وصل إلى هذه الخلاصة لأنه وضع البيان السني في طرف ووضع مقابله العرفان الذي يجمع بين التشيع والتصوف.
والسؤال المطروح يتعلق بطبيعة العلاقة بين التشيع والتصوف.
فلا شك في أن بين التصوف والتشيع أوجه تشابه بنيوية تتمثل في القول بالظاهر والباطن، والتأويل الباطني أو الرمزي، والإمامة والولاية، وتقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة عند الصوفية وإلى تنزيل وتأويل عند الشيعة، والمبالغة من قبل "غلاة" كلا الطرفين في تقديس الأئمة والأولياء. لكن هذا لا يكفي ليجعل من كل شيعي متصوف ومن كل متصوف شيعي، ولو بالقوة. مع العلم أنه كما يوجد لدى السنة من يرفض التصوف فكذلك يوجد مقابلهم لدى الشيعة. وبما أن درجة "الغلو" عند كلا الطرفين قد تختلف من تيار لآخر ومن شخصية لأخرى فإن المقارنة بين الطرفين تستلزم الحذر من السقوط في التعميمات المتعسفة. وما يمكن قوله هو أن الذاكرة التاريخية هي التي تميز الشيعة قبل كل شيء، واشتراك التشيع في بعض الخصائص مع الصوفية لا يكفي ليجعل منهما حزبا واحدا ولو تحت راية العرفان.
ومما يزيد الأمر غموضا كون الجابري وضع مقولة "العقل المستقيل" التي تضم ما لا حصر له من الشخصيات والتيارات التي لا يجمع بينها إلا اتهامه لها بأنها تأثرت بالعرفان. وعندما نعلم أن الغزالي – أحد ممثلي "العقل المستقيل" عند الجابري إن لم يكن أبرزهم - ألف كتابا يدل عنوانه - "فضائح الباطنية" - على مضمونه، يصير من الضروري الفرز بين مختلف مذاهب الشيعة (سبئية، زيدية، جعفرية، اسماعيلية...) ومختلف مذاهب التصوف حتى نفهم لماذا تمكن بعضها من التعايش مع الأغلبية السنية ولماذا كان الصراع هو الذي هيمن على العلاقة مع بعضها الآخر. وكتاب الغزالي يحدد بشكل ما السقف الذي يفصل بين التيارات التي تتسم ب"الغلو" (وهي: الباطنية والقرامطة والقرمطية والخرمية والخرَّمدينية والاسماعيلية والسبعية والبابكية والمحمرة والتعليمية ) وما ينتمي إلى التصوف السني. وكل ما يمكن ملاحظته هو أن أعلام التصوف في بداية نشأته كانوا من أعلام السنة والجماعة (كما بينا ذلك سابقا) وأن التصوف والطرقية، بصفة عامة، ازدهرا في رحاب الدولة السنية. أي أن "العرفان" و "المعقول الديني" تعايشا تحت سلطة سياسية واحدة ! ويكفي النظر إلى خارطة انتشار الطرق الصوفية في العالم الإسلامي لندرك مدى تهافت أطروحة الجابري.
دور الفرس في الصراع بين البيان والعرفان
يخصص الجابري الفصل الحادي عشر، الذي عنوانه "أزمة الأسس... وتأسيس الأزمة"، للصراع بين "البيان" و"العرفان". وقد كان مناسبة للجابري ليكيل التهم لابن سينا والغزالي بصفتهما ممثلان ل"العرفان" ول "العقل المستقيل". إلا أننا نفضل أن ننتقل إلى "العقل الأخلاقي العربي"، وبالضبط الباب الثالث منه، والذي عنوانه "الموروث الصوفي: أخلاق الفناء.. وفناء الأخلاق"، لأنه يعطينا نظرة مكتملة عن موقف الجابري من التصوف .
يقول الجابري: "قد لا نحتاج إلى إطالة الكلام حول الحقيقة التالية، التي يشهد لها التاريخ والنصوص، حقيقة أن "أخلاق الفناء"، بل وفكرة "الفناء" نفسها، هي أبعد ما تكون من "أخلاق الحياة" كما قررها القرآن بآياته والنبي بسلوكه وحديثه والصحابة بممارستهم المختلفة، التعبدية منها والدنيوية. هذا إلى جانب أن فكرة "الفناء" لا تستقيم قط مع عقيدة التوحيد كما قررها القرآن، والتي تعني بكل بساطة نقيض الشرك، سواء بمعنى الشريك أو بمهنى الاشتراك. فالتوحيد الإسلامي معناه: وحدانية الله وتنزهه من أية مماثلة أو مشابهة مع أي شيء آخر. وبالتالي فهناك مسافة لا نهائية، لا يمكن قطعها بأية طريقة ولا بأي شكل، بين الله ومخلوقاته بما فيها الملائكة الذين هم من طبيعة نورانية، لا ينقطعون لحظة عن عبادته. أما الإنسان، وهو من طين، فهو منحدر روحيا من آدم الجنة الذي كان واحدا من الملائكة، مخلوقا من مخلوقات الله، تفصله عنه اللانهاية التي تفصل جميع المخلوقات عنه. وإذن فالمعنى الذي يريد المتصوفة إعطاءه ل "التوحيد" أو "الاتحاد" أو "الوحدة" – وتتضمن جميعا معنى "الفناء" – لا أصل له عند عرب ما قبل الإسلام الذي جعلوا المسافة بينهم وبين الله غير قابلة لأي اتصال معه، حتى على مستوى الدعاء والعبادة، إلا بتوسط الأصنام. إنه الشرك نقيض التوحيد."
"وإذن، فإذا كانت فكرة "الفناء"، لا أصل لها، لا في مرجعية الموروث الإسلامي "الخالص" ولا في مرجعية الموروث العربي "الخالص"، فإنها هي و "أخلاق الفناء"، لا بد أن تكون من الأمور الوافدة، إما من الموروث الفارسي وإما من الموروث اليوناني."
"أما ما يدعيه بعض المتصوفة المتكلمين من "أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة (...) نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما عملوه من أحكامها (...) وأن من تبحر في علم الشريعة أدرك بذوقه أن علم التصوف تفرع عن علم الشريعة ، أما مثل هذا الادعاء الذي يمثل قمة عملية "التأصيل" السني البعدي للتصوف، إذا جاز القول به في المراحل المتأخرة من تاريخ التصوف في الإسلام، فهو أبعد ما يكون عن الحقيقة التاريخية فيما يخص أصول التصوف، النظري منه والعملي."
هذه الفقرات الثلاث التي استشهدنا بها تبين لنا أن الجابري يرى في التصوف جسما غريبا عن الموروث العربي/الإسلامي "الخالص"، ولهذا خصص باقي الفصل للأسباب التي جعلته ينفذ إلى الثقافة العربية الإسلامية ولمضمونه الذي يتنافى مع التوحيد الإسلامي.
وفيما يخص أسباب "الوفود" فإن الجابري يلجأ إلى قراءته المفضلة، ألا وهي القراءة الأيديولوجية التي تلخصها الفقرة التالية:
"يمكن للمرء إذن أن يفترض أنه كما تبنت الدولة الأموية سلاح القيم الكسروية وأخلاق الطاعة لتحارب به الحركات المعارضة الثائرة عليها، بعد أن ألبسته لباسا إسلاميا، عمدت بعض هذه الحركات من جهتها إلى تبني نفس السلاح الذي قاومت به المعارضة في إيران النظام الكسروي، وعملت هي الأخرى على إلباس هذا السلاح لباسا إسلاميا، فجعلت من "أخلاق الفناء" أخلاقا "إسلامية" بالتأويل، بهدف توظيفها ضد الحكام الأمويين إن لم يكن ضد "دولة العرب" ككل !" (ع.أ.ع، ص 431-432)
هذه القراءة الأيديولوجية تربط، من جهة، بين التشيع والتصوف بصفتهما ممثلان للعرفان؛ وتعتبرهما، من جهة أخرى، "من الأسلحة التي حارب بها الفرس العرب للقضاء عليهم" . (ع. أ. ع، ص 432). وهي في الواقع قراءة سياسية، تطرح مشكلة على مستوى الصحة التاريخية. وقد عدنا إلى المراحل الأولى للإسلام نتتبع فيها نشأة المذاهب وعلاقتها بالأحداث السياسية، و المعطيات المتوفرة لدينا وإن كانت لا تعطينا أجوبة قاطعة إلا أنها لا تؤكد أطروحة الجابري :
1) يوجد غموض فيما يتعلق بنشأة المذهب الشيعي، وما يزيد في هذا الغموض الجمع تحت تسمية واحدة بين فرق شديدة الاختلاف، كالزيدية والسبئية. كما أن هناك فارقا نوعيا بين الشيعة السياسية (وهم أنصار علي) والشيعة المذهبية. والمصادر التاريخية لا تشهد على أن الخلاف على السلطة بين علي وأبنائه وخصومهم السياسيين كان يكتسي الصبغة المذهبية التي اسقطت عليه فيما بعد. ولو كان الأمر خلافا بين مذاهب متنافرة – كما صار الحال فيما بعد – لما قبل علي بالتحكيم إثر معركة صفين (والتحكيم يعني من حيث المبدأ أن الطرفان ملزمان بالخضوع لنتيجته والاقرار بشرعية حكم الخصم إذا اقتضى الأمر ذلك)، ولما تنازل الحَسن بن علي عن الخلافة لمعاوية.
2) لا يوجد اتفاق بين الشيعة حول خلافة الأئمة، وكلما مات إمام من أئمتهم إلا وكانت مناسبة للنزاع حول من يخلفه. فالشيعة لم يشكلوا حزبا موحدا له موقف محدد من الأحداث.
3) لم تظهر الصوفية كتيار قائم بذاته إلا في القرن الثاني الهجري، أي أنها لم تتزامن مع الدولة الأموية (41/132 هـ - 662/750م) حتى توظف ضدها.
4) جل أعلام التصوف في القرنين الثاني والثالث سُنة، وإن كانوا في غالبيتهم فرس (كما ذكرنا ذلك سابقا). ولا تذكر المصادر أن الصوفية شكلوا فريقا سياسيا يطمح إلى السلطة. ولا تذكر المصادر أن الصوفية وظفت في صراع سياسي ما.
5) حارب علي بن أبي طالب السبئية رغم أنها تجرأت له حتى أنها جعلت منه نبيا، بل إلها.
6) لاتوجد علاقة حصرية بين التشيع والفرس، ولا بين شعب من الشعوب التي شملتها الدولة الإسلامية ومذهب معين، فما من مذهب إلا وضم أعلاما وأنصارا من كل الشعوب. (ويكفي للدليل على ذلك ما حدث في الغرب الإسلامي)
7) جل الثورات التي تنسب للشيعة هي في الواقع ثورات علوية، وجلها كان زيديا، والزيدية أقرب إلى المذاهب السنية منها إلى الجعفرية الإثنى عشرية أو الإسماعيلية. وأول دولة استطاع العلويون تأسيسها هي دولة الأدارسة (788 م – 974 م) في المغرب. (البغدادي ينسب ادريس إلى فرقة المحمدية: الفرق... ص 58)
8) يقول هنري لاووست Henri laoust، نقلا عن البغدادي، أن المختار الثقفي، الذي ثار انتقاما لمقتل الحسين، تأثر بالسبئية .ويقول المصدر نفسه أنه اعتمد في ثورته أساسا على العنصر العربي وبعده العنصر الفارسي.
9) محمد بن الحنفية (ابن علي بن أبي طالب من غير فاطمة) ساند ثورة المختار لكنه تبرأ من نزعته السبئية. (التي عرفت أيضا باسم الكيسانية)
10) الشيعة الذين يطعنون في خلافة أبي بكر وعمر لم يناصروا زيد بن علي لأنه كان يخالفهم الرأي في في هذه المسألة.
11) السنة يعدون جل أئمة الشيعة (الإثنى عشرية) من أئمة السنة وأعلامها ويعتبرونهم أهلا للخلافة !
12) السيرة المتداولة لجعفر الصادق (80 هـ/699 م – 148هـ/765 م، وهو الإمام السادس الذي تنسب إليه الشيعة الإمامية الجعفرية) تشهد بأنه نأى بنفسه عن الصراعات السياسية، وكان شخصية متفتحة إذ تتلمذ عليه كثير من أعلام السنة كأبي حنيفة (80 هـ/699 م – 150 هـ/767 م) وقيل مالك بن أنس (93 هـ/711 م – 179 هـ/795 م). وهو من المصادر الموثوقة في رواية الحديث عند السنة، مثل أبيه محمد الباقر (الإمام الخامس).
13) هذا التجايل والاتصال بين أحد أئمة الشيعة ومؤسسي مذهبين سنيين يعني أن الصراع المذهبي بين السنة والشيعة لم يكن بالحدة التي صار عليها فيما بعد (عدا الموقف من "غلاة" السبئية والكيسانية).
14) لا تورد المصادر وجود خلافات جوهرية بين جعفر الصادق وكل من أبي حنيفة ومالك بن أنس. ولربما أن الخلافات بينهم كانت تدخل في إطار الاختلاف في الرأي فحسب، خاصة وأن أبي حنيفة ومالك بن أنس كانا من أهل الرأي.
15) ما كان يؤاخذ عليه مالك بن أنس الشيعة هو سبهم للصحابة وعائشة. ولا تذكر المصادر أنه كان يؤاخذهم على عصمة الإمام؛ فهل هذا يعني أن هذا المبدأ لم يكن مطروحا في عصره؟ وما كان يؤجج الصراع بين السنة والشيعة هو سب الصحابة وليس عصمة الإمام.
16) أحمد بن حنبل كان يقر بأن علي بن ابي طالب كان أحق بالخلافة من معاوية. وروي عنه: "... إنّ الخلافـة لم تزيّن عليّاً بـل عـلي زيّنها".
17) الإمام الباقر كان متزوجا من أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهي أم جعفر الصادق. ولهذا من المستبعد أن يسب الأب أحد أجداد زوجته ويسب الابن أحد أجداده. وكان جعفر الصادق يروي عن أبيه: " من لا يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة".
18) تذكر بعض المصادر أن الإمام علي الرضا ( الإمام الثامن ) أنكر مبدأ عصمة الإمام: "ـ ن : تميم القرشي عن أبيه عن أحمد بن علي الانصاري عن الهروي قال : قلت للرضا : يا ابن رسول الله إن في الكوفة قوما يزعمون أن النبي لم يقع عليه السهو في صلاته ، فقال : كذبوا لعنهم الله إن الذي لا يسهو هو الله لا إله إلا هو." .
19) ساند أبو حنيفة ثورة زيد بن علي ضد الأمويين، وثورة محمد النفس الزكية ضد العباسيين. فكيف نفهم هذا الموقف من قبل أحد أعلام السنة، لو أن الصراع كان بين "سنة" و"شيعة" بالمعنى المذهبي الذي أسقط على الأحداث فيما بعد؟
20) الإمام مالك ساند – وإن بطريقة غير مباشرة – ثورة محمد النفس الزكية: "وورد أن مالكا استفتي في الخروج مع محمد النفس الزكية وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال : إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته". (تاريخ الطبرى 7 / 560 )
21) الملاحظتان السابقتان تحثان على الحذر من القراءة التراجعية للتاريخ المشوبة بالاسقاطات المذهبية والأيديولوجية: فمواقف ابي حنيفة ومالك – المؤيدة لثورات "شيعية" !- تناقض كثيرا من الأفكار المسبقة.
22) أخطر المعارضات التي واجهتها الدولة الأموية - والتي لم تعمر إلا حوالي 90 سنة (من 41هـ/662 م إلى 132 هـ/750 م) – كانت معارضات عربية، ومنها معارضة عبد الله بن الزبير(1هـ/623 م – 73هـ/692 م)، وقد دامت خلافته التي كان لها كثير من الأنصار حوالي عشر سنوات (من 64 هـ إلى 73هـ). وثورات الخوارج، التي حاربها علي بن أبي طالب أيضا. وثورة زيد بن علي (122 هـ)... وكانت نهاية الدولة الأموية على يد معارضة عربية، وهي المعارضة العباسية أي "على يد القائلين بأحقية آل البيت بِالخلافة، وبعد فشل ثورات القائلين بأحقية سلالة علي بن أبي طالب بالخلافة" ("الدولة العباسية" ويكيبديا).
23) أطروحة الجابري توحي بأن الفرس هم الذين خلقوا المذهب الشيعي ليستعملوه ضد الدولة الأموية. إلا أن المعطيات التاريخية الموثوق بها تشهد بأن بلاد فارس شهدت مثلها مثل باقي أقاليم الدولة الأموية ثورات ذات مرجعية شيعية (سبئية أو زيدية) أو خارجية، لكن هذا لا يعني أن الفرس انفردوا بالثورة على الدولة الأموية تحت لواء المذهب الشيعي.
24) أبو مسلم الخراساني - وهو صاحب الدور الحاسم في سقوط الدولة الأموية ونشأة الدولة العباسية – نجح في مسعاه لإثارة خراسان ضد الأمويين بفضل المساندة التي وجدها من قبل كل المذاهب (شيعة أو خوارج) ومن قبل الديانات المحلية (مزدكية وغيرها)، ومن قبل عرب خراسان أيضا، ولم يكن تجنيده لخراسان على أساس شيعي حصرا. وصحيح أن الطبري يتحدث في تاريخه عن "الشيعة" لكنه لا يعطينا توضيحا فيما يتعلق بالمحتوى المذهبي لهؤلاء "الشيعة" الذين ساندوا أبا مسلم .
25) الدولة العباسية نشأت على أساس أيديولوجية سياسية شيعية أساسا (وليس بتأثير عرضي من التشيع الفارسي)، ويكفينا دليلا على ذلك خطبة داود بن علي عند تولية ابن أخيه أبي العباس السفاح الخلافة: "وتكلم داود بن علي وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجاتن فحمد الله وأثنى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله على الله عليه وسلم خليفة إلا علي بن ابي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي". (الطبري... م 7، سنة 132، ص 431). ومن هذه الخطبة يتبين أن العباسيين لا يعترفون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا بخلافة الأمويين، وهذا محور الخلاف السياسي الأساس بين السنة والشيعة.
26) خراسان ليست كل العالم الفارسي، وهي منطقة شهدت هجرة كثير من القبائل العربية التي ساهمت مع الفرس في الثورة على الأمويين.
27) رغم ظهور محاولات لإعادة إحياء الدولة الفارسية على أساس الديانات الزرادشتية والمزدكية، إلا أن الفرس عندما استعادوا استقلالهم السياسي (ولو نسبيا تحت السلطة الصورية للدولة العباسية) لم يرتدوا عن الإسلام، وكانت أولى دولهم الوطنية في العصر الإسلامي (الدولة الطاهرية والصفارية والسامانية) سنية. وقد عملت هذه الدول على نشر الإسلام ومحاربة المعارضات السياسية التي قامت على أساس الديانات الفارسية القديمة أو المذاهب الشيعية (وجلها علوية). ومن أخطر الثورات التي واجهتها الدولة الطاهرية تلك التي تزعمها العلويون الزيدية في طبرستان. كما حارب السامانيون الحركة الاسماعيلية.
28) الدولة البويهية ( 932 م – 1062م ) هي أول دولة شيعية من أصول فارسية حكمت الرقعة الجغرافية التي تشمل غرب إيران والعراق. لكنها حكمت، كسابقاتها، تحت غطاء السلطة الرمزية للدولة العباسية السنية. والتاريخ يبين أنه مرت حوالي ثلاثة قرون بين انهزام الفرس في القادسية سنة 636 م ونشأة دولة فارسية شيعية سنة 932 م.
29) بموازاة مع الدولة البويهية نشأت الدولة الحمدانية (930م – 1003م)، وكانت دولة شيعية عربية.
30) في النصف الثاني للقرن العاشر الميلادي كاد يكون العالم الإسلامي بكامله تحت حكم دول شيعية (بمختلف مذاهبها)، بل يمكن القول أن القرن العاشر كان العصر الذهبي للحركة الشيعية بمختلف تياراتها: الدولة البويهية ( 932 م – 1062م ) (غرب إيران والعراق)، الدولة الحمدانية (930م – 1003م) (الشام)، الدولة القرمطية (899م-976م) (شمال شرق الجزيرة العربية)، الدولة الفاطمية (909م-1171م) (المغرب الإسلامي، مصر، غرب الشام، غرب الجزيرة العربية)، الدولة الادريسية (788م-974م) (جزء من المغرب الأقصى ومنطقة تلمسان في الجزائر)... في حين أن غالبية بلاد فارس بقيت سنية ! فإذا كان التشيع "مؤامرة فارسية" فكيف نشرح مشاركة الشعوب الأخرى في هذه "المؤامرة" وبقاء جل فارس خارجها؟
31) عرفت منطقة سوس ودرعة في المغرب الأقصى دولة اسماعيلية دامت حوالي قرنين، وهي الدولة البجلية التي قضى عليها المرابطون. قال بشأنها ابن أبي زرع الفاسي في كتابه "الأنيس المطرب..." :"وكان برودانة قوم من الروافض يقال لهم البجلية منسوبين إلى عبد الله البجلي الرافضي، كان قد قدم إلى السوس حين قدم عبيد الله الشيعي إلى إفريقية، فأشاع هناك مذهبه، فورثه بعده جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن لا يرون الحق إلا ما في أيديهم، فقاتلهم الأمير أبو بكر بن عمر وعبد الله بن ياسين حتى فتح مدينتهم عنوة، وقتل بها من الروافض خلق كثير، فرجع من بقي منهم إلى السنة وأخذ أموال من قتل منهم فجعلها فيئا للمرابطين، وأظهر الله المرابطين وأعلى كلمتهم، ففتحوا معاقل بلاد السوس، وأطاعتهم جميع قبائلها فأخرج عبد الله بن ياسين عماله على نواجيها، وأمرهم بإقامة العدل وإظهار السنة فيها وألزمهم إعطاء الزكاة والعشر".
32) يقطع الجابري بأن كل ما فعله الفرس فيه تآمر على الدولة الإسلامية وتحريف ل"المعقول الديني" لكنه يتجاهل أن "المآمرة" نفسها و"التحريف" نفسه عرفه المغرب تحت حكم الدولة البرغواطية في منطقة تامسنا (بين سلا وجنوب آسفي على الساحل الأطلسي)، وحكمها كان ثاني أطول حكم عرفته منطقة المغرب الأقصى (من 744م إلى 1058م) بعد الدولة العلوية الحالية. وكانت ديانتها مزيجا من المذاهب الإسلامية (سنة، شيعة، خوارج) واليهودية والوثنية المحلية، وكان لها "قرآن أمازيغي" من ثمانين سورة...
33) عندما فرضت الدولة الصفوية ( 1501 م- 1736 م) المذهب الشيعي الإمامي، كانت غالبية سكان إيران سنة، ولم يكن ذلك ضد العرب بل لمواجهة الدولة العثمانية السنية. وكان هذا الحدث مناسبة لانتقال كثير من الشخصيات الشيعية العربية الوازنة إلى إيران.
34) ما هو مؤكد هو أن الموالي عانوا من عنصرية الدولة الأموية، ومنهم الفرس. إلا أن هؤلاء - ورغم انهزام دولتهم في معركة القادسية - كان لهم وزن ديموغرافي كبير وحضور نوعي مؤثر في المجتمع، ومن المبالغة القول بأنهم كانوا شعبا مهزوما: أولا، لأنهم سرعان ما استرجعوا نفوذهم السياسي داخل الدولة الإسلامية؛ وثانيا – وخاصة - لو أنه قمنا بترتيب الشعوب التي كانت تعيش داخل حدود السلطة الإسلامية حسب مساهمتها في نشأة الحضارة والثقافة العربية الإسلامية، لاحتل الفرس المرتبة الأولى بدون منازع.
35) الدولة العباسية في بدايتها تعاملت بانتهازية مع الشيعة والفرس ووظفتهما عند الحاجة، وانقلبت عليهما عندما شعرت بأن نفوذهما زاد عن الحد.
36) كل أطروحات الجابري تجعل من الفرس "أصل الداء"، أتعلق الأمر بالسياسة ("أخلاق الطاعة" و "الملك العضوض") أو بالأخلاق ("أخلاق الفناء") أو بالتمذهب ( العرفان ممثل "العقل المستقيل"). والسؤال هو كيف يمكن أن تقوم حضارة كبيرة – مثل الحضارة الإسلامية – في حين أن أحد العناصر الأساسية المؤسسة لها (أي الفرس) كان كل همه هو تقويضها؟ !
والخلاصة من هذه الملاحظات – التي أوردناها بدون تبويب لأن كل واحدة منها قد تدخل في أبواب متعددة - هي أن التاريخ السياسي والمذهبي للقرون الأولى للإسلام من التعقيد والتشابك بحيث لا يمكن اختزاله في الإسقاطات الأيديولوجية للعصور الموالية، ومن أسوأها إسقاطات الجابري. والغالب أن المواقف والمفاهيم لا تكون في مراحل النشوء بالنقاوة والوضوح الذي يسقط عليها فيما بعد. ولهذا لا يمكن الجزم بعلاقة حصرية بين الفرس والتشيع، خاصة وأنهم – بفضل وزنهم الديموغرافي والثقافي – كانوا موجودين في كل ما عرفته الدولة الإسلامية من حركات فكرية أو سياسية.
ليت الجابري يعرف تاريخ بلده
وفي ختام هذه الفقرة لا يسعنا إلا أن نقول: ليت الجابري يعرف تاريخ بلده. فلو أنه تأمل في تاريخ بلده المغرب، لما كال الاتهامات المجانية للفرس ولما أخطأ في توصيف ظاهرة التصوف. فإذا كان الفرس اختلقوا التشيع والتصوف كوسيلة للقضاء على الدولة العربية فكيف نفسر:
أولا: الدول الشيعية في المغرب.
فلولا وجود تربة خصبة لما استجاب سكان المنطقة لدعاة من خارجها. والتشيع في المغرب لم ينته بانقراض الدول التي انضوت تحت لوائه (الادريسية، الفاطمية، البغلية) إذ أعاد ابن تومرت توظيف مفاهيمه لتاسيس دولة الموحدين (دولة "الثورة الظاهرية" عند الجابري). وقد ورد في مقدمة عمار الطالبي لكتاب "أعز ما يطلب"، أن الذهبي قال أن ابن تومرت "يبطن شيئا من التشيع" ، وقال عنه الشاطبي "إنه عد نفسه المهدي المنتظر، وأنه معصوم..." (أعز... مقدمة ص 18). ولا يشار في الكتاب إلى ابن تومرت إلا باسم "الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، رضي الله عنه"! ونجد في كتاب علي الإدريسي "الإمامة عند ابن تومرت، دراسة مقارنة مع الإمامية الإثنى عشرية" ، مقابلة بين التوظيف الإمامي والتوظيف التومرتي لأهم المفاهيم الشيعية:
- الإمامة: يتفق الطرفان على أنها "ركن من أركان الدين"، أي "أنها من الأصول وليست من الفروع".(الإمامة... ص 138)
- العصمة: يقول الإدريسي: "ابن تومرت اقتبس صورة العصمة من الإمامية واقتبس محتواها من أهل السنة [شروط الإمامة]. وتجنب الخوض في بحث ماهية العصمة، "فالعصمة، إذن، ضرورة سياسية لا غير، وليس لها طابع مذهبي". (الإمامة... ص 175)
- نسب الإمام: "لم يشر [ابن تومرت] إلى شرط النسب لكنه أعلى انتسابه إلى آل البيت". والإمامة عند ابن تومرت "ينقصها التواصل الزمني بين الإئمة، لأنه لم يعتقد بوجود الإمام المستور"[...]"وعنده أن الإمامة انقطعت بعد الخلفاء الراشدين. وبعدهم يقول ابن تومرت: "ثم بدت بعد ذلك أفراق وأهواء، ونزاع واختلاف، وقلوب منكرة، وشح مطاع، وهوى متبع، ودنيا مؤثرة، وإعجاب بكل ذي رأي برأيه" (أعز ما يطلب ص 232). ويضيف الإدريسي أن "ابن تومرت أشعري من حيث النظرة التاريخية إلى نشأة الإمامة، فالإمام بعد النبي هو أبو بكر، وهو يستعمل الأدلة الأشعرية نفسها في إثبات إمامته وذلك حين يقول: "اختاره لهم الرسول للصلاة، ورضيه لهم إماما في دينهم...". أما من حيث الوسائل فشيعي، لأنه يصور استحالة الكون والحياة والدين في غياب الإمام. أما من حيث الأسلوب فتومرتي متميز، يدعو إلى نصرة نفسه، كإمام مهدي يخلص الإيمان بالله من التجسيم، ويحارب الابتداع في الدين، ويخلص الناس من الظلم." (الإمامة... ص 144)
- المهدوية: يقول الإدريسي: "وإذا كانت مهمة المهدي عند الإمامية الاثني عشرية مهمة عقدية ومذهبية، وعند أهل السنة مهمة نفسية تربوية، فإن مهمتها عند ابن تومرت مهمة سياسية؛ فالمهدي يمثل الحاكم الكامل الذي ينبغي على الأمة أن تؤمن به لكي يقودها إلى العزة، وهو وحده القادر على ذلك، لأنه "معصوم فيما دعا إليه من الحق، لا يجوز عليه الخطأ فيه، وأنه لا يكابر، ولا يضاد، ولا يدافع، ولا يعاند، ولا يخالف، ولا ينازع وأنه فرد في زمانه، صادق في قوله ".(الإمامة...ص 184)
نستنتج مما سبق أن ابن تومرت وظف المفاهيم الشيعية لأغراض مكيافيلية، لكن ما يهمنا – من وجهة نظر تاريخ الفكر – هو أن هذه المفاهيم كان لها صدى قوي في عقول وضمائر الناس – يتجاوز الدائرة الشيعية - ما جعل منها روافع فعالة في العمل السياسي.
والمعروف أن الدولة الموحدية اضطهدت الصوفية، ولكنها ردت الاعتبار للغزالي !
والسؤال المطروح هو هل أن هذا التوظيف للتشيع مجرد حالة عرضية أم أنه يستجيب لضرورة بنيوية في الثقافة المغربية؟ فالتشيع يمكن ان يحضر بشكله المذهبي العالم كفرقة قائمة بذاتها أو أيديولوجية دولة؛ كما يمكنه أن يحضر بشكل جزئي ومموه، أتعلق الأمر بميدان السياسة مع دور النسب الشريف أو على مستوى المعتقدات الشعبية. وهذا ما حاول أن يُنظِّره ادريس هني في مقال له تحت عنوان: التشيع كمكون سوسيوثقافي مغربي ، إذ يقول: "أن التسنن نفسه في المغرب حينما يعبر عن نفسه سوسيوثقافيا، فلا يسعه إلاّ أن يعبر عنها برموز التشيع ومظاهره وطقوسه . إذ يصل الأمر بهذا التعبير حدّ المفارقة أحيانا بما لا نظير له في ما مضى وفيما تلا من تجارب الدعوات والدول في التاريخ الإسلامي مشرقا ومغربا. وهذا سيتضح جليا مع تجربة ابن تومرت صاحب الدعوة الموحدية. وحدها دعوته السنية من بين كل الدعوات التي شاهدنا في تاريخنا كانت كلما تشددت في تسننها عبرت عن نفسها شيعيا من خلال مفاهيم لا تستقيم إلا بالاستناد إلى الكلام الشيعي ونظيمته العقائدية. إن الدعوة الموحدية هي نموذج فريد يعكس ما ذهبنا إليه: أن قدر التسنن المغربي أن يعبر عن نفسه شيعيا. وهذا النمط يستمر في عصرنا ويتجلّى في الخصوصية الدستورانية المغربية . إذ لا أحد ينفي استنادها إلى الإسلام السني ، غير أنها تعبر عن نفسها شيعيا من الناحية الشكلانية. وهنا لا بد من القول أن استعارة رموز التشيع وشكلانيته في التعبيرات الوظيفية لا يعني أن المحتوى هو حتما وفيّ للتصور الشيعي . إن التشيع هنا حاضر بوصفه احتياط يتم اللجوء إليه متى لم يعد في مكنة الإسلام السني أن يفي بالغرض. فداخل الإسلام السني يصبح للتعبيرية الشيعية خصوصية وظيفية محض." هذا على المستوى السياسي.
أما على مستوى التدين الشعبي فإنه يقول: "كان المغاربة يضعون على الأبواب قطعة من حديد منحوتة على شكل يد ، يسمونها يد فاطمة الزهراء. وهي في اعتقادهم تدفع عن البيت وعن ساكنيه كل صنوف الأذى و خطر العين. وكذلك مثلها الخميسة التي تتخللها قلادة توضع حول عنق الصبيّ للغرض نفسه. والخميسة هنا ليس ما ترمز إليه اليد في مجمل تاريخ المغرب القديم. فقد وجدت لليد دلالات خاصة في حضارة الإنسان المغربي القديم ، أي الحضارة الليبية القديمة ـ بالتعبير الاسطرغرافي الإغريقي ـ كما خلدتها الرسوم والآثار على صفحات الصخور ولوحات القبور. وهذا لا يعنينا هنا . لأن الطقوس في نظري لا تبدع وإنما يعاد تركيبها شأن الهوية المركبة. فقد يفقد طقس ما دلالاته وجذوره المرجعية ومحتواه العقائدي ، لكنه يبقي على أشكالها ويمنحها من ثقافته المستحدثة روحا جديدا وتأويلا مختلفا. فكما عند لا فوازييه في قوانين الفيزياء ، هنا أيضا في مجال الثقافة لا شيء يكتسب ولا شيء يخسر ولكن الكل يتحول. يبدو ثمة الكثير من الفوضى يوحي بأن الثقافة تخبط خبط عشواء. غير أن التأويل يفك كل هذه الرموز ليقبض على منطقها الخفي... هنا فقط تجد عنوان الحزن في ما يبدو أهازيج وأفراح.. والعكس يصحّ. وعموما لقد سماها المغاربة يد فاطمة ، مما منحها معنى إسلاميا، وليس مجرد معنى أحفوري منبعث من رماد تاريخ غير مكتوب. كما منحوها معنى شيعيا ، لأن فاطمة في التراث السني الأرتذكسي تكاد تكون ـ على مكانتها ـ مهملة ، إذ لا يروى عنها إلا الناذر في المدونات الأخبارية المعتبرة، ولا يقام لها طقس. هنا نجد أم المؤمنين عائشة في التراث السني تغطي على السيدة فاطمة. بينما لفاطمة حظور في التراث الشيعي يغطي على عائشة . وهو كذلك في الاسلام الشعبي المغربي ، فلفاطمة هنا حضور أشد . ولا شك أن ترميز فاطمة لم يكن في يوم من الأيام إلا ترميزا شيعيا . "
"وكذلك وجد المغاربة أفضل ما يطلق على التوأمين إسمي: الحسن والحسين. وأفضل الأسماء المباركة التي تسمى بها المولودة: فاطمة الزهراء. والمغاربة لا سيما الأمازيغ منهم يكاد يعدم عندهم التسمية إلا بأسماء أهل البيت من محمد وعلي وفاطمة الزهراء والبتول والحسن والحسين والمهدي وزينب وسكينة وزهرا ... ومن تقاليدهم أنهم يسّيدون إسم محمد وعلي وفاطمة ، وقلّ ما يفعلون في غيرها. وأحيانا جمعوا بين إسم محمد وعلي."
"وهي أسماء مرفوضة عند خصوم الشيعة وتعتبر بدعية وشركية ، مثل "عبد النبي". وتكثر أسماء أهل البيت وتتكرر في البيت الواحد ولا يصار إلى غيرها من الأسماء الإسلامية الرائجة ، وهي من العوائد المتعارفة عند بعض القبائل والمناطق. ولا نستغرب أن يسمي المغاربة اليد المنحوتة من حديد أو فضة ـ الخميسة ـ "يد فاطمة الزهراء" ، فإنهم استعملوا هذا الإسم في ظواهر طبيعية أخرى ، كأن يسموا البرد ـ التبروري ـ "دموع للاّ فاطم الزهرا" . لقد كانت الروايات المروية عن أهل البيت تكره أن يسمى القوس الذي يظهر في الأفق ويعكس ألوان الطيف في فصل الشتاء: قوس قزح ، باعتبار أن إسم قزح هو إسم الشيطان ، والتأكيد على أن إسمه المناسب هو قوس الرحمن ، كما ذكروا ومنهم الطبرسي في الاحتجاج ، وكما ذكر الفيروز أبادي في القاموس المحيط ، حينما قال :" العامَّةُ تقولُ قَوْسُ قُزَحَ، وقد نُهِيَ أن يقال" ؛ فإن المغاربة سمّوه: "حزام للاّفاطم الزهراء". وهما قرينتان على أن إطلاق يد فاطمة يقصد به هذا المغزى حتى لو كان لهذه الظواهر آثار في قديم الحضارات.. لأن المعول عليه هو رمزيتها الوظيفية في الثقافة اللاحقة لا في الآثار الغابرة. فتأمل! "
ويذهب ادريس هني إلى القول: "أن المغرب هو بلد شيعي ، أي نعم . لكن بأي معنى هو كذلك؟ إنه في تقديري: سنيّ في النظر شيعي في العمل.. سني في الترسيمة المذهبية ، شيعي في التعبير عنها.. سني في الصورة، شيعي في الجوهر.. سنيّ في المذهب، شيعي في الثقافة.. سنيّ في الجغرافيا ، شيعي في التاريخ.. سنّي في الأحكام ، شيعي في الامتثال.. سنّي في الوعي ، شيعي في اللاوعي.. سنّي المدعى ، شيعي المتخيّل ... هناك ما لم يسلم للإسلام السني في عموم المغارب من تلك الطقوس والسلوكات الثقافية التي لا تتطلب من الباحث الموضوعي كثير التفات. فدائما هناك شيء ما ظل يتعايش إلى جانب الإسلام السني ، متحايلا ضد سطوته الارتذكسية . أي ما دام هناك الكثير مما سلّم به الإسلام السني أو سكت عنه أو امتنع عن التفكير فيه وإن لم يقبله ، فعلينا أن لا نتحدث عن الهوية الخالصة الطهرانية. تلك هي ميزة الهوية المغربية الواضحة ـ وإن كانت حقا سمة كافة الثقافات ـ وذاك قدرنها الاجتماعي . إذ حتى لمّا يريد أن يدافع عن سنيته ويحارب الشيعة يستند إلى شيعيته، فتراه في مواقع الحجاج السني ـ الشيعي يزايد على الشيعة بشيعيته. باختصار: إنّه شيعي رغما عنه !"
"وحينما يحاول المغرب أن يواجه التشيع ، فإنه لن يجد مستنده في الإسلام الظاهري، بل سيضطر إلى استنهاض الإسلام المغربي الأصيل: إسلام طرقي صوفي تحتل فيه ثقافة الأضرحة والطقوس مكانة خاصة؛ طقوس في مواجهة طقوس.. شكل من التشيع مقابل آخر... وقبل قرون، كان بنو مرين على ذكاء كبير في محاربة آثار الدعوة الموحدية الظاهرية/الباطنية ، وحتى لا يكرروا خطأ الدعوة المرابطية بالدعوة إلى مالكية سلفية تحرق إحياء علوم الدين [كتاب الغزالي] ، عملوا على الدعوة إلى مالكية متصوفة أشعرية رقيقة ، فأحيوا الطقوس."
الكاتب شيعي مغربي، وهو بلا شك ينافح عن المذهب الشيعي وهذا شأنه، إلا أن مقاله الكثيف والغني يجب أن يحظى بالأهمية التي يستحقها لأنه يجدد النظرة لتاريخ المغرب العقدي والسياسي.
ثانيا: دور التصوف في تاريخ المغرب.
من اليسير على المطلع على الفكر المغربي المعاصر أن يفهم لماذا يرفض الجابري التصوف . فالثقافة السحرية التي كانت مهيمنة على المجتمع كانت محل رفضين: رفض من قبل السلفية الإصلاحية لأنها بدع منافية للدين، ورفض من قبل النخبة العَلمانية لأنها ممثلة للفكر الخرافي (الذي شمل الدين نفسه عند البعض خاصة وأن الماركسية كانت مهيمنة لدى المثقفين الحداثيين). وقد كانت هذه الذهنية السحرية تعد من الأسباب الداخلية الأساسية التي أدت إلى الانحطاط. وقد كانت الحياة اليومية للمغربي (وما زالت عند البعض) مجال تعايش للإنس والجن، ولا توجد منطقة في المغرب خالية من ضريح ولي يتبرك به الناس؛ و "المجذوب" كانت شخصية مألوفة في المجتمع المغربي. والمشكلة مع شخصية "الولي" و "المجذوب" هي أننا لا يمكن أن نفصل فيها بين ما ينتمي إلى الزهد والصوفية الحقة وما هو مجرد خرافة بل احتيال على الناس واستغلال لغفلتهم. ... ومن أفضل مجالات البحث في هذه الظواهر مجالات الأنتروبولوجيا أو التحليل النفسي لأنها تستند إلى البحث الميداني ، أما تاريخ الفكر فإنه يتوقف حيث تتوقف الوثائق المكتوبة.
إلا أن ما يتميز به الجابري هو كونه لا يميز بين هذه الظواهر - التي يمكن نعتها حقا بأنها ممثلة للعقل المستقيل ولو أن لديها مفعول البلاسبو placebo لدى أشخاص لا حيلة لهم أمام الفقر والمرض ومشاق الحياة - والعرفان العالم، معتقدا أن محاربة العرفان العالم كفيل بالقضاء على الثقافة السحرية. ولو أنه قرأ تاريخ الفكر العربي الإسلامي متجردا من اسقاطاته الأيديولوجية لرأى أن التصوف ظهر في القرون الأولى للإسلام كمجال من مجالات الثقافة الناشئة. وأن ممثلي العرفان العالم جايلوا كبار المفكرين الذين انجبتهم الحضارة العربية الإسلامية. وأن العرفان ليس سببا في الانحطاط، لأن الانحطاط طال العرفان كما طال مجالات الابداع الثقافي الأخرى. والمقابلة المشهورة بين ابن رشد وابن عربي جمعت بين أكبر ممثلي الفلسفة الأرسطية العربية الإسلامية وأكبر ممثلي العرفان الإسلامي !
وشأن العرفان هو شأن الميتافيزيقا، فهما من جهة ممثلان للثقافة العالمة الراقية، إلا أنه من الممكن الطعن فيهما لأن ما يشيدانه من صروح فكرية يمكن أن تنهار أمام الفكر النقدي. وقراءة كتب ابن عربي تترك لدى القارئ الانطباع نفسه الذي قد تتركه قراءة بعض المؤلفات الفلسفية (ككتاب "العقل في التاريخ" لهيجل)، وكمثال على ذلك نورد الفقرة الأولى من الفصل الأول لكتاب هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية: "فيما يلي فقرة مأخوذة من كتابات فيلسوف مشهور [لعله هيجل]: "العقل هو الجوهر، فضلا عن كونه قوة لا متناهية، إذ أن مادته اللامتناهية الخاصة تكمن من وراء الحياة الطبيعية والروحية كلها، فضلا عن الصورة اللامتناهية التي تبعث الحركة في تلك المادة. فالعقل هو الجوهر الذي تستمد منه الأشياء وجودها." ويعلق هانز ريشننباخ على هذا الشاهد قائلا: "إن قراء كثيرين لا يطيقون صبرا على هذا النوع من النواتج اللغوية. وحين يخفقون في إدراك أي معنى لها، فقد يشعرون بالميل إلى الإلقاء بالكتاب في النار." ويزيد ريشنباخ قائلا: "وإنا لنجد العقل الفلسفي، طوال تاريخ الفلسفة، مقترنا بخيال الشاعر: فحينما كان الفيلسوف يسأل، كان الشاعر هو الذي يجيب." (نشأة... ص 39). "ومما يغري إلى إقحام الشعر في مجال المعرفة على هذا النحو، الميل إلى تشييد عالم خيالي من الصور، وهو ميل يمكن أن يصبح أقوى من السعي إلى الحقيقة." (نشأة... ص 41) "وعندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة." (نشأة... ص 45).
هذا رأي أحد أبرز ممثلي التجريبية المنطقية في الفلسفة التأملية والتي لا يميز بينها وبين الشعر والتصوف، وحتى لو سلمنا معه أن الفلسفة والتصوف مجرد خيال، فإن هذا "الخيال" – ورغم كل الطعون المنطقية التي يمكن أن توجه له - لعب دورا كبيرا في تاريخ الفكر الذي لا يمكن أن نختزله في تاريخ العلوم. وخطأ الجابري يكمن في كونه رفع جزء من هذا "الخيال" إلى سماء العلم (الفلسفة الأرسطية مع امتدادها الرشدي و"المعقول الديني") ورمى بالباقي في جحيم "العقل المستقيل".
وعندما نعود إلى مسار التاريخ الفكري للمغرب مع الدولة المرينية، فإننا نلاحظ أن التصوف الذي كان محل اضطهاد الدولة الموحدية قد تم "إدماجه" من قبل النخبة السياسية والثقافية، حسب تعبير عبد السلام الشدادي في الفصل الذي خصه للحياة الثقافية في الغرب الإسلامي في عصر ابن خلدون . ومن الشخصيات العلمية والدينية النموذجية التي عرفها ذاك العصر ابن البناء المعروف بكتبه في الرياضيات والفلك والتصوف (ص 65 وما بعدها). وأحمد بن عاشر (توفي عام 1364 م) الذي عده "أكبر شخصية دينية في بلدان المغرب في القرن الرابع عشر" (ص 77)، وقد تميز بورعه وتواضعه وابتعاده عن أصحاب السلطة (ص 70 وما بعدها). ومن الكتب التي كانت متداولة في محيط ابن عاشر: كتاب النصائح و كتاب الرعاية للمحاسبي؛ وقوت القلوب لأبي طالب المكي؛ و الإحياء للغزالي. (ص 73).
وقد عدنا إلى أحد مراجع الشدادي وهو: السلسل العذب والمنهل الأحلى لمحمد بن أبي بكر الحضرمي . وهوكتاب أهداه إلى أبي فارس عبد العزيز المريني (ولد 749هـ / حوالي 1349م - تُوفي 774هـ / حوالي 1372م) وفيه تراجم أهم الشخصيات الدينية لتلك الفترة. وما همَّنا في هذا الكتاب – زيادة على الكتب السابقة الذكر - الشخصيات الصوفية التي استشهد بها، وهي: القشيري، أبو علي الدقاق، إبراهيم بن شيبان، أبو بكر الشبلي (صاحب الحلاج !)، ذو النون المصري، الترمذي، المحاسبي، الجنيد، أبو عثمان الصوفي، ابن عطاء الله، سهل بن عبد الله (التستري). ومن الذين استشهد بهم أيضا الأسترابادي وهو فقيه شيعي من فقهاء الشيعة الإثني عشريَّة !
الكتب والاستشهادات السالفة الذكر تعطينا عينة عن الشخصيات الصوفية الحاضرة في الحقل الثقافي المريني، والغزالي يعطينا "سقف" هذا الحضور. وهي تدل على أن التصوف اندمج مع الفقه المالكي وعقيدة الأشعري لتتكون الملامح المعروفة للإسلام المغربي. وهو ما عبر عنه عبد الواحد بن عاشر (990هـ/1582م – 1040هـ/1631م)، وهو حفيد أحمد بن عاشر، بقوله في "المرشد المعين":
فـي عقـد الأشعـري وفقـه مـالـك وفـي طـريقـة الجنـيـد السـالـك.
وبما أن الجنيد صار هو المرجع الرسمي للتصوف في المغرب، نود أن نذكر بان ما يتميز به ضمن المدرسة البغدادية (وهو أحد أعلامها) هو "الاعتدال" و"الحذر" لأنه كان واعيا بأن المفاهيم الصوفية قد تؤدي إلى الخروج عن العقيدة. وأنه كان "شيخ" الحلاج الذي لم يكن إلا "ثمرة" لما سبقه ! فلربما أن ما أوصل الحلاج إلى التهلكة هو عدم التزامه بالحذر في طريقة التعبير عن أفكاره وليس محتوى الأفكار في ذاته.
وإذا انتقلنا إلى المستوى المؤسساتي، فإننا نكتشف دور الزوايا التي كانت في بدايتها رباطات للعبادة والجهاد والتي تحولت في مرحلة نضجها إلى مؤسسة شاملة نهضت بكل الوظائف المنوطة بالدولة: الوظائف الدينية والعلمية، الوظائف الإجتماعية، الوظائف السياسية (التحكيم في الخلافات والجهاد ضد الهجومات المسيحية على السواحل). ولم تستعمل للنهوض بهذه الوظائف إلا سلطتها المعنوية.
وهنا نكتفي بإعطاء نبذة عن الزاوية الدلائية – وهي شاذلية المذهب - كما هو وارد في ويكيبديا:
"تم تأسيسها في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، حوالي عام 974 هـ/ 1566م. على يد أبو بكر الدلائي بإشارة من شيخه أبو عمرو القسطلي، لذلك تدعى أيضا بالزاوية البكرية، نسبة إلى اسم مؤسسها"..." عمل مؤسسها في البداية على إطعام الطعام على نحو ما يفعله شيخه القسطلي بمراكش، حتى ذاع صيتها، وتزايد قاصدوها مما دفع مؤسسها إلى الإجتهاد، فعمل الشيخ أبو بكر الدلائي على تشييد المباني حول هذا المسجد الذي أسسه، وحفر العيون وأجرى ماءها، ووسع الأودية، واشترى الرباع في غالب البلاد وحبسها على الطلبة والضعفاء والمساكين. وتحولت إلى جامعة علمية ضخمة احتضنت خلال القرن 16 م أكثر من 5000 عالم في مختلف التخصصات من فقه وحديث ومنطق وجبر وكمياء."...
"... وكان دورها حاسما في الحفاظ على العلم المغربي متوهجا رغم الأزمات التي عمت البلاد، وكان توجهها ثقافيا أكثر من ما هو صوفيا، وقد كان عنصر الموسوعية حاضرا بقوة في منهج التدريس، بحيث تم الجمع بين علوم المقال وعلوم الحال، وتم التركيز بالأساس على الرياضيات والفلك والهندسة والطب والمنطق والتاريخ، إضافة إلى علوم الشرع والأدب، فتخرج منها عدد كبير من العلماء، أمثال أحمد بن يعقوب الولالي وعلى رأسهم الحسن اليوسي،الذي قضى ما يزيد عن عشرين سنة في الزاوية الدلائية تلميذا ثم مدرسا بعد ذلك. ومن أسباب إشعاعها العلمي، هدوء الزاوية وبعدها عن ضجيج الإضطرابات السياسية الحادة التي كانت تعاني منها باقي حواضر المغرب في تلك الفترة. كما وفرت الزاوية المأكل والمسكن للطلبة، حيث كانت تحتوي على 1400 مسكن للطلبة، والتي لم تكن تستوعب وتكفي جميع الطلبة. وكان لكرم رؤساء الزاوية الدلائية واعتنائهم بطلاب العلم والضيوف، سبب في جلب عدد من الأساتذة من مختلف أنحاء المغرب. وعزز مكانتها وجود مكتبة علمية ضخمة، بلغ عددها أكثر من عشرة آلاف سفر".
نستنتج من كل ما عرضناه أن "العقل المستقيل" (التصوف على مذهب الجنيد) اندمج مع "المعقول الديني" (الفقه المالكي والأشعرية) ! وأن "العقل المستقيل"، الممثل في الشاذلية، ألهم إحدى أبرز الزوايا التي عرفها المغرب، والتي لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يقال عنها أنها كانت تعكس الذهنية الاتكالية ل"العقل المستقيل"، بل العكس هو الصحيح. وهكذا يتبين لنا أن الواقع – وليس تحليل النصوص فحسب – يصادم أطروحة الجابري. خاصة إذا زدنا أن الغرب الإسلامي لم يكن مستوردا للمذاهب الصوفية بل مصدرا لها أيضا: الشاذلية، ابن عربي، ابن سبعين...
إننا واعون بأننا قدمنا قراءة مختزلة للتاريخ الديني للمغرب، فتاريخ التصوف والزوايا والمذاهب الفقهية والحركات السياسية أعقد مما عرضناه، ودور الزوايا لم يكن دائما في مستوى مثالية الزاوية الدلائية، لكن اختزالنا لا يعارض الاتجاه العام للتيارات السالفة الذكر. إلا أن كل هذه التيارات، وحتى ولو كان منشؤها في الشرق الإسلامي، تفاعلت مع واقع الغرب الإسلامي وصارت تعبر عن إشكالياته الخاصة.
التصوف و"أخلاق الفناء"
إن القراءة الأيديولوجية قد تشرح لنا الأسباب الظرفية التي أدت إلى توظيف هذه القيم أو تلك، لكنها عاجزة عن إعطاء تفسير لانتشار الصوفية في كل أرجاء العالم الإسلامي رغم أنها ليست لا من الموروث العربي "الخالص" ولا من الموروث الإسلامي "الخالص". وهذا الانتشار لا يعود إلى مؤامرة أجنبية بل إلى الوظيفة النفسية للدين، أي إلى مطلب وجودي نابع من وضع الإنسان في الكون ككائن متناه. فالدين يهدف إلى طمأنة الإنسان، وهذه الطمأنة تتم من خلال وسائط تربط الإنسان بالمتعالي، أي بتلك القوة الكونية التي يتوسل إليها الإنسان والتي يرجو أن ترعاه بعنايتها.
وحتى لو أن "هناك [في الإسلام] مسافة لا نهائية، لا يمكن قطعها بأية طريقة ولا بأي شكل، بين الله ومخلوقاته"، فإن الحاجة إلى التقريب بين الله ومخلوقاته فعلت مفعولها. ولا يجدي القول بأن هذا الشكل من التدين أو ذاك بعيد عن التنزيه الإسلامي، فهذه الأشكال موجودة ومنتشرة، أتعلق الأمر بالطرق الصوفية أو ببقايا الوثنية والإحيائية في معتقدات الناس.
إلا أن الجابري يفضل أن يعطينا تفسيرا أحاديا لظاهرة التصوف، إذ يقول: "وإذا نحن استعرضنا أسماء الأشخاص الذين تزعموا هذه الحركة في أول أمرها، باسم "التصوف"، فإننا سنجد أبرزهم حبيب العجمي الفارسي الذي تسمى ب "القطب الغوث" قبل شيوع هذا المفهوم في الفكر الصوفي "العربي" بوقت طويل". ويزيد قائلا: "وما يهمنا هنا من هذا الشخص ليس ما يروى عنه أو يقال بشأنه، بل ما يهمنا منه هو كونه يجسد نموذجا فارسيا معروفا، نموذج الشخصية التي تترك الترف والمال والإمارة والجاه وتصطنع الزهد والتصوف طلبا لمنزلة أكبر وجاه أوسع. فإذا حدث أن الواحد من هؤلاء، لم يجد مبتغاه كاملا "في زاد الدنيا" تحول إلى "زاد الآخرة" يوظفه لنفس الغرض. وهذه هي الدلالة الحقيقية لتلك العبارة التي وردت في كليلة ودمنة، والتي نقرأ فيها: "وقد قالت العلماء في الرجل الفاضل والمروءة، إنه لا يرى في مكانين ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرما أو مع النساك متبتلا". (ع. أ. ع ، ص 433)
ولنا ثلاث ملاحظات على هذا النص:
أولا: وهي ملاحظة تتعلق بشخصية حبيب العجمي (المتوفي عام 119 هج)، فهو وإن كان يذكر كثيرا ضمن أعلام الصوفية، إلا أن المصادر لا تذكر أن لأصوله الفارسية تأثير في مواقفه. والمعروف عنه أنه كان من تلامذة الحسن البصري في البصرة. فهو، إذن، ممثل لمدرسة الحسن البصري التي تتميز بالزهد في السلوك والاعتدال من الناحية المذهبية والنأي عن الصراعات السياسية. وعندما يقول الجابري: "وما يهمنا هنا من هذا الشخص ليس ما يروى عنه أو يقال بشأنه، بل ما يهمنا منه هو كونه يجسد نموذجا فارسيا معروفا..."، فهل هذا يعني أن كل ما يقال بشأنه لا قيمة له أمام كونه كان فارسيا؟ أي أن كونه كان فارسيا يجعل من زهده سلوكا مشبوها حتى ولو كانت سيرته تشهد له !
ثانيا: يرجع الجابري ظاهرة الزهد - وهي نزعة عامة في معتقدات البشرية: من البوذية والهندوسية والمانوية والرواقية والمسيحية... إلى القرآن الذي تحث كثير من الآيات فيه على الزهد في الحياة الدنيا - إلى مجرد رد فعل نفسي من قبل الفرس على هزيمتهم !
ثالثا: يستنتج الجابري أن تزعم الفرس لحركة التصوف في أول أمرها دليل على أن التصوف ظاهرة دخيلة على الإسلام، وبما أن كل ما جاء من عند الفرس فهو سلبي في محتواه ونواياه، فالتصوف لا يمكن أن يكون إلا عامل هدم في الثقافة الإسلامية. وقياسا على هذا المبدأ يمكن أن تطال الشبهة الثقافة الإسلامية برمتها لأنه لا يوجد فرع من فروعها لم يبدع فيه الفرس، وكأن نبوغ سيبويه في النحو أو جابر بن حيان في الكمياء أو ابن سينا في الطب كفيل بإلقاء الشبهة على هذه العلوم !
ويخصص الجابري الباب الثالث من العقل الأخلاقي العربي للموروث الصوفي . والعنوان الكامل لهذا الباب: "الموروث الصوفي. أخلاق الفناء.. وفناء الأخلاق! "، وبما أن "الفناء" هو المفهوم الذي يوجه الجابري في قراءته للتصوف، فإن السؤال المطروح هو ما طبيعة هذا "الفناء"، وما هي طبيعة الأخلاق التي افنتها الصوفية والتي يخصص لها الجابري الفصل الثامن عشر من الفكر الأخلاقي العربي، والذي عنوانه "فناء الأخلاق! "؟
وقبل التطرق إلى المفاهيم الأخلاقية للصوفية قام الجابري بعرض مفاهيمها الأساسية. وما يثير الانتباه هو أن الجابري يعتبر كل مفهوم لا يطابق الموروث الإسلامي "الخالص"، مفهوما دخيلا ومشبوها. ومن هذه المفاهيم "الخطيئة الأولى" (وتسمى أيضا الخطيئة الأصلية) ووحدة الوجود.
وحول "الخطيئة الأولى" يقول الجابري: " هنا يخطر على الذهن السؤال التالي: بما أن التوبة هي، أصلا، توبة عن ذنب سبق اقترافه، فإنها لا تخص إلا أصحاب الذنوب. فكيف يمكن دعوة المسلم المؤمن الذي لم يقترف ذنبا إلى التوبة؟ إن الآيات التي تدعو المؤمنين إلى التوبة كانت - حين نزولها – تخاطب أناسا كانوا قبل إسلامهم يأتون الذنوب، أما الذين ولدوا في الإسلام وساروا على نهجه من صغرهم فكيف نطالبهم بالتوبة؟ وبما أن التوبة هي المدخل إلى التصوف، فالسؤال سيصبح كما يلي: هل التصوف مطلوب من الجميع أم فقط من الذين اقترفوا ذنوبا؟"
"لعل هذا ما حدا بالمتصوفين المتكلمين عموما، إلى توسيع مجال التوبة بالصورة التي تجعلها تتعلق بالجميع، وبالتالي تفتح الباب لمطالبة الجميع بالانضمام إلى المتصوفة ! ويمعن الهجويري في توسيع مجال التوبة ليجعل منها ليس فقط الرجوع عن الذنب، الكبير أو الصغير، بل أيضا الرجوع إلى الله. يقول: "اعلم أن التوبة أول مقام سالكي طريق الحق، كما أن الطهارة أولى درجات طالبي الخدمة (=العبادة). وللتوبة مقامات ثلاثة: التوبة خوفا من العقاب، والإنابة لطلب الثواب، والأوبة لرعاية الأمر. فالتوبة مقام عامة المؤمنين وتكون من الكبيرة، والإنابة مقام الأولياء والمقربين، والأوبة مقام الأنبياء والمرسلين. "فالتوبة الرجوع عن الكبائر إلى الطاعة، والإنابة الرجوع عن الصغائر إلى المحبة، والأوبة الرجوع عن النفس إلى الله" . وهذا المعنى الأخير هو في الحقيقة الأصل الهرمسي/المسيحي للتوبة، المعنى الذي يربطها بفكرة "السقوط" و "الخطيئة الأولى"، وبالتالي يكون التصوف وتكون التوبة، كما في أصلها الهرمسي هما طريق الخلاص من خطيئة آدم، وهو شيء مطلوب من البشر جميعا. وهذا مخالف لعقيدة الإسلام المبنية على سقوط "الخطيئة الأصلية" بتوبة آدم، ففي القرآن أن آدم طلب التوبة وقد تاب الله عليه: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم" (البقرة 37). واللافت للنظر حقا أن المؤلفين في التصوف يتجاهلون في الأعم الأغلب توبة آدم !" (ع. أ. ع، ص 467-468)
إلا أن ما يتجاهله الجابري هو ان التوبة و الخوف (الذي تطرق إليه بعد التوبة) لا يرتبطان بالضرورة، وحصرا، ب "الخطيئة الأصلية"، بل بكون النفس الإنسانية أمارة بالسوء، أي أن هناك نزوع طبيعي لدى الإنسان لفعل الشر. والقرآن نفسه يشير في كثير من آياته لهذا النزوع السلبي للإنسان:
"كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6)" (العلق).
"وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40)" (النازعات)
"وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)" (يوسف)
"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) (آل عمران)...
صحيح أن الله تاب على آدم، أي أن القرآن يُسقط الخطيئة الميتافزيقية، إلا أنه لم يسقط النزوع إلى الخطيئة. ولهذا فالتوبة والخوف لا يرجعان إلى تأثير دخيل على "المعقول الديني"، بل إلى التجاذب في نفس الإنسان بين ميله إلى خرق القواعد الأخلاقية ومقاومة هذه القواعد من خلال تأنيب الضمير، إن لم يكن الخوف من العقاب. وهو ما يحيل إلى صراع ال"هو" و"الأنا الأعلى" في التحليل النفسي.
و فيما يتعلق ب"وحدة الوجود"، فإن الجابري يتناول هذا المفهوم من زاوية ضيقة جدا، ألا وهي مفهوم "الفناء" (ع. أ. ع، ص 479 و484). وبما أن هذا المفهوم سلبي في منظوره فإن "وحدة الوجود" لا يمكن أن تكون إلا مفهوما سلبيا. إلا أن "وحدة الوجود" – وإن تعددت أسماؤها - اشكالية صاحبت تاريخ الفلسفة إلى يومنا هذا. فهي محاولة لردم الهوة التي تفصل الله المتعالي عن العالم، قد تصل أحيانا إلى إلغاء أحدهما، ليتحد العالم إما في الله وإما في الطبيعة. وهي إشكالية نجدها في فلسفة سبينوزا (الذي يوحد الكون في الطبيعة) وهيجل (الذي يوحد الكون في العقل).
مجمل القول أن كثيرا من المفاهيم والمواقف التي اعتبرها الجابري دخيلة على "المعقول الديني" للثقافة العربية الإسلامية – الزهد، التصوف، التوبة، الخوف، الفناء، الخطيئة الأصلية، وحدة الوجود... – ليست إلا ردود فعل وجدانية وفكرية تكاد تكون مشتركة بين كل البشر، وإن تعددت تسمياتها. وإذا استعرنا تشبيها من مجال الفلاحة، فإن الأمر يشبه من زرع نباتا في حقل بعد أن اجتث كل نبات فيه، ولكنه فوجئ بأن كل البذور التي كانت ثاوية في التراب أنتشت وترعرعت حول نباته.
سقوط التكاليف الشرعية
يقول الجابري: "وقد عرض ابن عربي في موسوعته الصوفية – الفتوحات المكية – لمسألة "المحبة" بتفصيل، فكان اكثر صراحة في تقرير سقوط التكاليف الشرعية، مستندا في ذلك إلى النصوص الدينية من قرآن وحديث، يؤولها حسب مراده منها. فتحت عنوان: "نعت المحب بأنه جاوز الحدود بعد حفظها"، ويقصد المتصوف الذي بلغ أعلى درجة في المحبة، درجة الكشف/العلم، متجاوزا بذلك الحدود التي تشد إليها صاحب الحال، يقول ما يلي: "وقد عين الحق صنفهم (المحبين) فهو في ذكر الله سبحانه في قوله: أذنب عبد ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، فقال..: اعمل ما شئت فقد غفرت لك ، فأباح له وأخرجه من التحجير في الدنيا إذ كان الله لا يأمر بالفحشاء. فما عصى الله صاحب هذه الصفة (صفة العلم/الكشف)، بل تصرف فيما أباحه الله له، وقد كان قبل هذه الصفة من أهل الحدود (= الذي تطبق عليه الشريعة) فجاوزها بعد حفظها. فهذا أعطاه شرف العلم مع وجود عقل التكليف، بخلاف صاحب الحال (= الذي لم يصل مرتبة الكشف). فإن حكم صاحب الحال حكم المجنون الذي ارتفع عنه القلم، فلا يكتب لا له ولا عليه، وهذا (= المحب) يكتب له، ولا عليه. ذلك أن "الحب مزيل للعقل، وما يؤاخذ الله إلا العقلاء، لا المحبين، فإنهم في أسره، وتحت حكم سلطان الحب". وأيضا: "المحب غير مطالب بالآداب، إنما يطالب بالأدب من كان له عقل. وصاحب الحب ولهان مدله العقل، لا تدبير له، فهو غير مؤاخذ في كل ما يصدر عنه". (ع. أ. ع، ص 481)
وفي فقرة أخرى يقول الجابري: "يميز ابن عربي بين "الأمر التكويني" ويقصد به إيجاد الله الشيء بقوله: "كن" (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن، فيكون" – البقرة 117)، فالأمر التكويني عنده هو الإرادة الإلهية، أو العناية الإلهية، وهو الطبع الذي عليه الكون. وبما أن كل ما في الوجود من فعل الله، فما نسميه الخير والشر والقبح والحسن هي أمور مقدرة جعلها الله من طبيعة الوجود. والإنسان يأتي الخير أو الشر بطبعه، بمقتضى الأمر التكويني أي المشيئة الإلهية، أي الطبيعة التي طبع عليها، ويسميها ابن عربي العين الثابتة. ومفهوم "الأعيان الثابتة" أساسي في فلسفته ويقصد به صور الأشياء في علم الله قبل ظهورها إلى الوجود المشخص، وهي فكرة هرمسية، كما سبق أن بينا في مكان آخر . والأعيان الثابتة – أو لنقل الأشياء كما هي في طبيعتها الذاتية – ليست في الحقيقة خيرا ولا شرا. فالخير لذاته والشر لذاته لا وجود لهما ولا معنى لوصف الشيء بهما على مستوى الوجود، أي "الأمر التكويني". وإنما يوصف الشيء بأنه خير أو شر بناء على نوع آخر من "الأمر" يسميه ابن عربي ب "الأمر التكليفي"، أي الأوامر الدينية والخلقية. وهكذا فالناس يفعلون الشر مثلا استجابة لطبعهم الذي تقتضيه أعيانهم الثابتة، أي بمقتضى الأمر التكويني، وهو قضاء وقدر . ولكنهم يخالفون بذلك مقتضيات الأمر التكليفي، أي أوامر الشرع. وهكذا ففعل الشر طاعة للأمر التكويني وفي نفس الوقت عصيان للأمر التكليفي. وبما أن الأمر التكويني هو السابق المتقدم فإن الحكم في النهاية له. وهذا يعني أن الناس جميعا يسيرون على هدى من الله بمقتضى الأمر التكويني، وأنه بالتالي فلا عقاب ولا عذاب. وأما المعصية فهي – كالطاعة – أسماء لوصف السلوك، ولا يترتب عنها في الحقيقة عذاب لأن رحمة الله وسعت كل شيء. (ع. أ. ع، ص 484-485)
مجمل ما ورد في النصين السابقين هو: سقوط التكاليف الشرعية وانتفاء العذاب لأن رحمة الله وسعت كل شيء.
يأسف الجابري لسقوط التكاليف الشرعية، فما هي طبيعة هذه التكاليف التي أسقطها ابن عربي وغيره من الصوفية؟ والجواب هي تكاليف "المعقول الديني"، أي الفقه، وهي أخلاق الرجم والقطع والجلد والتعزير !
وعندما يُسقط ابن عربي – وغيره – التكاليف الشرعية وما يصاحبها من عنف، فإنه يسقط صورة الإله "الشديد العقاب" ليحل محله "الرحمان الرحيم". وهذا انقلاب جذري في تصور الدين، ينتقل به من "ميتافيزيقا للجلاد" كما قال فردريك نتشه بخصوص المسيحية إلى بعد روحاني خالص. إن سقوط التكاليف الشرعية لا يفني الأخلاق بمعناها الإنسي (الحث على فعل الخير وتحريم السرقة والاعتداء...) ، بل يفني بعض التكاليف التي لا تحمل قيمة أخلاقية في ذاتها كالصلاة والصوم والحج... فهذه التكاليف ليست لها دلالة خارج الدين الذي سنها.
وبغض النظر عن الخلفية الفلسفية لأفكار ابن عربي - والفلسفة كالدين لا يمكن أن نحسم في خلافاتها كما يتم الحسم في القضايا العلمية - فإن الأهم في مواقف ابن عربي – أتعلق الأمر بوحدة الوجود أو سقوط التكاليف الشرعية أو انتفاء العذاب – هو بعدها الإنسي. فهي تتميز بالانفتاح على كل الديانات، وتركز على البعد الروحي للدين، وتقرأ التكاليف قراءة روحية غير القراءة القانونية الجنائية. وكمثال على ذلك تفسيره للآيتين:
- " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)" (البقرة)
وتفسيره أن: "القصاص قانون من قوانين العدالة، فُرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهوظل من ظلال عدله تعالى، فإنه إذا تصرف في عبده بإفنائه فيه عوضه عن حرّ روحه روحا موهوما خيرا منه، وعن عبد قلبه قلبا موهوبا، وعن أنثى نفسه نفسا موهوبة كاملة."
- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)" (البقرة)
وتفسيره أن: "الصيام قانون آخر مما فرض لإزالة عدوان القوة البهيمية وتسلطها" [...] "وصيامهم هو الإمساك عن كل قول وفعل وحركة وسكون ليس بالحق للحق."
إن فهم التأويل الرمزي قد يسقط في دور تأويل التأويل، إلا أن قصد ابن عربي في التفسيرين السابقين على قدر من الوضوح يجعلنا لا نخطئ الفهم. فالقصاص العيني (النفس بالنفس والعين بالعين...) تعويض نفسي يشفي الرغبة في الانتقام (التشفي)، في حين أن ابن عربي يرى أن العوض الروحي أرقى من العوض المادي. وأن الصيام الحق ليس هو صيام الجسد فحسب، بل هو صيام النفس.
ونختم هذه الفقرة بالإشارة إلى أن القول بسقوط التكاليف الشرعية ليس مقصورا على "غلاة" المتصوفة، فعن إبراهيم النظام "قوله في الإيمان إنه اجتناب الكبيرة فحسب"؛ كما أنه "زعم أن الصلاة ليست من الإيمان" (البغدادي: الفرق... ص 131). فهذا أحد ممثلي "المعقول الديني" يقول بمثل ما يقول به ممثلو "العقل المستقيل" !
"كل شيء في أخلاق الفناء... ينتهي إلى عكسه !"
إذا كانت هناك ميزة منهجية عند الجابري فهي كونه يعطي في الغالب خاتمة لفصول كتبه، بحيث أنه يذكر القارئ بصميم إشكاليته حتى لا يخطئ الفهم. وهكذا يقول الجابري في خاتمة الباب الثالث الذي عنوانه : "الموروث الصوفي: أخلاق الفناء.. وفناء الأخلاق !":
"أخلاق الفناء التي تحكم الموروث الصوفي في الثقافة العربية تجد أصولها فيما قبل الإسلام: في التصوف الفارسي من جهة، والتصوف الهرمسي في الإسكندرية وإنطاكية من جهة أخرى. أما قابلتها في المجتمع العربي الإسلامي فهي أزمة القيم التي نجمت عن "الفتنة الكبرى".
"تلك هي الأصول الرئيسية.
"أما القيم الأساسية التي في هذه الأخلاق فهي القيم الكسروية (الطاعة) كما رأيناها تتشخص في علاقة الشيخ بالمريد من جهة، والتوكل الذي يؤسسه الخوف من الآخرة، أي من الموت، وبالتالي ترك التدبير للشأن الدنيوي. أما القيمة المركزية فهي الفناء عن أوصاف البشرية، وفي مقدمتها "العبودية"، والارتماء بالتالي في "بحبوحة" الحرية."
"أما خطاب أخلاق الفناء هذه فيتميز بظاهرة فريدة غريبة، وهي أن جميع "المقدمات" أو المنطلقات في "الكلام الصوفي" تنتهي في النهاية إلى عكسها. وحقا إن "أخلاق الفناء" ينتهي إلى "فناء الأخلاق".
- ينطلق المريد من الشعور الهائج بالذنب لينتهي إلى استثنائه من الذنب !
- من الخوف من العذاب، عذاب الآخرة.. لينتهي إلى وضعية "الاستثناء" من العقاب !
- من الخوف من الله في البداية لينتهي إلى رضا الله ومحبته في النهاية !
- من الفردية التي لا ترتاح إلا للخلوة والعزلة... لينتهي إلى "الطريقة" التي تحيا حياة القطيع !
- ينطلق من الثورة على رسوم الفقهاء... لينتهي إلى الانغلاق في رسوم الطريقة، وهي أكثر وأكبر !
- ينطلق من الإقرار بالعبودية لله والتزام العبادة، ولا شيء غير العبادة، لينتهي [إلى] الفناء في الله أو الاتحاد به، والمعنى واحد، فيتخلص من العبودية والعبادة معا ويدخل فضاء الحرية الكاملة فيتحرر من "رق" التكليف، الديني والأخلاقي.
- بعضهم ينطلق من الشكوى من استبداد الحكام، ومن التمرد على كل سلطة... ليتحول إلى حاكم (ولي، شيخ) يمارس سلطة أكثر استبدادا !
هل نضيف أن كثيرا منهم يؤكد أفضلية "التجريد" أي الامتناع عن الزواج.. وأن بعضهم يصاب بآفة "صحبة الأحداث"؟
شيئان، فقط، لا يتغيران، لا ينقلبان إلى عكسهما ولا يتحولان، وهما في الحقيقة الركنان اللذان تقوم عليهما "أخلاق التصوف"، هما: القول بجبرية صارمة، وترك التدبير أي ما يسمونه: التوكل... وهما في الحقيقة مترابطان متداخلان: فبدون الجبيرية لا يستقر التوكل ولا يستقيم.
من هنا كانت أخلاق الفناء هي أخلاق اللاعمل، مبدؤها: ترك التدبير، عدم التفكير في المستقبل ! فليس غريبا إذن أن ينتهي انتشار "التصوف" في العالم العربي والإسلامي منذ الغزالي إلى صرف أهله عن التفكير في المستقبل والعمل من أجله. لقد نظروا إلى الغزو الصليبي على أنه عقاب من الله لأن "المسلمين ضيعوا طريق الله"، أي أخلاق الفناء. وكذلك قال كثير منهم عند اكتساح الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين ! والحق أن أخلاق الفناء لا تنتهي إلى فناء الأخلاق وحسب، بل وإلى فناء الأمم. ولم يكن مصادفة أن قامت حركة الإصلاح في العصر الحديث على محاربة الطرقية." (ع. أ. ع، ص 487-488)
والحال أن الجملة الأخيرة في هذا النص تعطينا نقطة الانطلاق التي صعد الجابري ابتداء منها مجرى التاريخ الفكري.
والسؤال المطروح هو هل الطرقية سالمت الغزو الأجنبي؟ والجواب هو أن المعطيات التاريخية تشهد بأن المقاومة أو المهادنة أو التواطؤ كانت مواقف مشتركة بين كل القوى الاجتماعية. فالنخبة الحاكمة والنخبة التجارية والعلماء والزوايا والقبائل... لم يكن لهم موقف ثابت من الغزو الأجنبي: ففي الغالب قاوموه، وتارة تواطؤوا معه... وعندما استتب له الأمر سالموه. والطرقية لم تشذ عن هذه القاعدة، بل يمكن القول أنها لعبت دورا كبيرا في مقاومة الغزو الأجنبي عندما عجزت الدولة القائمة أو تقاعست على ذلك.
أما القول بأن الصوفية نَظَّروا للهزيمة على أنها عقاب من الله، فهو تخصيص لما هو عام، لأن التفسير ذاته نجده في كل الديانات كآلية للتحكم في الأتباع بواسطة عقدة الذنب.
وإذا انتقلنا من المستوى التاريخي إلى المستوى النظري، فإن السؤال المطروح هو: هل حقا "أن جميع "المقدمات" أو المنطلقات في "الكلام الصوفي" تنتهي في النهاية إلى عكسها"؟
- أليس الشعور بالذنب والخوف من الآليات النفسية التي يوظفها الدين (والشعور الأخلاقي عموما)؟ فيكون بذلك الموقف الصوفي – الذي يريد علاقة بالله خالية من الخوف - نقيضا، لا لمقدماته هو، بل لمقدمات الدين نفسه؟
- أليست "حياة القطيع" هي ما يميز الحياة الدينية، بل الحياة الاجتماعية بشكل عام؟
- هل "الانغلاق في رسوم الطريقة" مختلف عن الانغلاق في رسوم عقيدة ما (دينية أو فلسفية أو سياسية) أو حزب سياسي ما؟
- هل حقا أن سلطة الشيخ في مستوى استبداد الحاكم؟
- أليس "التخلص من العبادة والعبودية" رفض للطقوس التي فقدت بعدها الروحي؟
- أليس التوكل – كيفما كانت أوجهه - من صميم الظاهرة الدينية؟ فلو كان الإنسان يتحكم في مصيره لما سلم أمره لقوى تتجاوزه عندما تنقطع به السبل.
الحل في الأندلس والمغرب
لقد وجد الجابري "الحل" عند ثلاثة فلاسفة أندلسيين وهم ابن حزم وابن باجة وابن رشد، وفي تجربة سياسية تتمثل في الدولة الموحدية ومؤسسها ابن تومرت. لكننا سنكتفي في هذا المقال بابن حزم وابن رشد، فهما كافيان لبيان موقف الجابري.
يلخص الجابري موقف ابن حزم قائلا: "وإذا بطل الإلهام والقول بالإمام وبطل التقليد لم يبق إلا العقل والحس كمصدر للمعرفة. يقول ابن حزم:" لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين: أحدهما ما أوجبته بديهة العقل والحس، والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس"، ومن هذه المقدمات ومنها وحدها يمكن بناء المعرفة الصحيحة، ولا بد في صدق هذه المعرفة من مراعاة قواعد المنطق وشروط الاستدلال الصحيح. وعلى هذا الأساس يبني ابن حزم مذهبه في العقيدة والشريعة معا: إنه ينطلق من العقل أولا فيثبت ب "الدليل العقلي" وجود الله ووحدانيته ونبوة محمد وصدق رسالته، حتى إذا تم له ذلك يكون قد اثبت صدق القرآن والسنة فيعتمدهما وحدهما ويأخذ بظاهر نصوصهما جاعلا من اللغة العربية وحدها إطاره المرجعي في فهم مضمونهما، ولا يبيح صرف معنى كلمة من المعنى اللغوي الظاهر المعروف إلى معنى آخر إلا إذا أوجب ذلك نص أو إجماع أو بديهة حس أو عقل كما اشرنا إلى ذلك من قبل." (ت.ع.ع، ص 309)
أما في ما يتعلق بموقف ابن رشد فإننا نفضل العودة إلى "مدخل إلى القرآن الكريم" لنورد ما قاله الجابري في فقرة تحت عنوان: " ابن رشد: دليل النبوة الاتيان بشريعة صالحة ". وهذه خلاصة لها بعناوينها في الأصل:
1- "عود على بدء !
"فعلا، لقد أخرنا الحديث عن ابن رشد ليس فقط لأنه جاء في مرحلة زمنية متأخرة بالنسبة إلى من ذكرناهم، بل لأنه يضرب صفحا، وبقوة، عن فكرة الفيض وما شيد عليها، سواء على مستوى فهم العلاقة بين الدين والفلسفة أو على مستوى العلاقة بين النبوة والإمامة والولاية. لقد درس ابن رشد فلسفة أرسطو (المتوفي عام 322 قبل ميلاد المسيح) وهي خالية تماما من هاجس التوفيق بين الدين والفلسفة، كما درس العلوم العربية وتضلع من العلوم الإسلامية فوجد أنه لا علاقة إطلاقا بين الفلسفة (أرسطو) والدين (الإسلام)، لأن الأمر يتعلق في نظره ببناءين مستقلين لكل منهما أصوله ومبادئه، وأن امتحان صدق أية قضية في أي منهما يجب أن يكون داخله، وليس خارجه." (ص 141)
2- نظرية الفيض تخرص وهوس وخرافات !
"أما نظرية الفيض، التي اعتمدها كل من الفارابي وابن سينا والتيارات الباطنية، في دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين، فهي دخيلة على كل من الفلسفة (الأرسطية) والدين (الإسلامي) معا. ولذلك فهي في نظره: كلها "تخرص على الفلاسفة من ابن سينا وأبي نصر (الفارابي) وغيرهما" (ص 141) [...] وأنها "نتيجة "تعمق هؤلاء في الهوس" وأنها "كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين، وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة ليست جارية على أصولهم (الفلاسفة). وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي فضلا عن الجدلي" "(ص 142)
"لم يناقش ابن رشد، إذا، ما قاله الفارابي عن النبي والفيلسوف ولا ما ذهبت إليه التيارات الباطنية بمختلف منازعها في موضوع النبوة والإمامة والولاية، فالأمر بالنسبة إليه يصدق عليه القول المشهور "ما بني على فاسد فهو فاسد". والمذهب الوحيد الذي ناقشه فيلسوف قرطبة في موضوع النبوة هو مذهب الأشاعرة. ذلك لأن هؤلاء قد بنوا مذهبهم في إثبات النبوة على الإتيان بمعجزة. والمعجزة تعني عندهم "خرق العادة" أي تعطيل مفعول السببية." (ص 142)
3- من رفع الأسباب فقد رفع العقل !
"يناقش ابن رشد هذا الاتجاه بتفصيل، في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة، ويبين ضعف استدلاله. هو يرى أن النبوة هي وحي من الله إلى الناس. فيجب أن يعترف الخصم بوجود الله أولا حتى يمكن الكلام معه في النبوة. أما إذا كان لا يؤمن بالله فيجب أن نبدأ معه من إثبات وجوده. فكيف يمكن أن نقنع الخصم بوجود الله إذا نحن ألغينا فكرة السببية؟ إننا لا نتوصل إلى إثبات وجود الله إلا من تأمل سلسلة الأسباب التي تنتظم الكون بأسره، فمن الصعود من المسببات إلى أسبابها ننتهي إلى السبب الأول الذي هو الله الخالق."[...] (ص 142)
4- الجواز في العقل ليس هو الجواز في الطبيعة.
"أما قول المتكلمين الإسلاميين في ردهم على البراهمة الذين ينكرون النبوات: "إن وجود الرسل يدل عليه العقل لكون ذلك جائزا في العقل، فإن الجواز الذين يشيرون إليه هو جهل. وليس هو الجواز الذي في طبيعة الموجودات، مثل قولنا: إن المطر جائز أن ينزل أو لا ينزل. وذلك أن "الجواز" هو من طبيعة الموجود هو أن يحس أن الشيء يوجد مرة ويفقد أخرى، كالحال في نزول المطر، فيقضي العقل حينئذ قضاء كليا على هذه الطبيعة بالجواز".
فلو كان الخصم (البراهمة) قد اعترف بوجود رسول واحد في وقت من الأوقات، لظهر أن الرسالة من الأمور الجائزة الوجود. أما والخصم يدعي أن ذلك لم يحس به، فالجواز الذي ندعيه إنما هو جهل بأحد المتقابلين، أعني "الإمكان والامتناع". والذين يقولون بإمكان وجود الرسل، إنما صح لديهم وجود هذا الإمكان، لأنهم ادركوا وجود الرسل منهم في الشاهد، كأن يرسل زيد عمرا إلى أناس لغرض ما. أما أن نقول إن إحساس الناس بوجود الرسل من بعضهم إلى بعض في الشاهد يدل على إمكان وجودهم من الخالق، فهذا يقتضي تساوي الطبيعتين، البشرية والإلهية، وهذا شيء عسير قبوله، لأن ما يصدق على زيد أو عمرو لا يصدق بالضرورة على الله."
5- وجود الأنبياء ظاهرة تاريخية.
"ولذلك يرى ابن رشد أن الطريق الصحيح في هذه المسألة هو كما يلي: أما إثبات بعثة الرسل، أي وجود الأنبياء، فهذا أمر لا نحتاج فيه إلى استدلالات نظرية. فوجود الأنبياء ظاهرة تاريخية: لقد تواتر الخبر عن وجود الأنبياء في الماضي، جيلا عن جيل، كما تواتر الخبر عن وجود الفلاسفة والعلماء والفاتحين...إلخ. [...] "فبماذا نعرف الأنبياء الحقيقيين؟ وكيف نميزهم من غيرهم من مدعي النبوة؟ يجيب ابن رشد: نحن نعرفهم بالشرائع التي يأتون بها والتي تستهدف الخير والفضيلة. فليس بوسع كل إنسان وضع شرائع كشرائع الأنبياء ! وإذا فكل من قال عن نفسه إنه نبي رسول من الله، وجاء بشريعة من جنس شرائع الأنبياء تتفوق في العادة على ما يمكن أن يأتيه مطلق الناس في عصره، مما يشبهها، فهو نبي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فبما أن الناس ليسوا جميعا من الذكاء والعقل والفضل بحيث يمكن ان نتصورهم يلتزمون الفضيلة من عند أنفسهم، فإن الأنبياء والرسل هم من هذه الناحية ضرورة اجتماعية، تماما مثلما هو ضروري في كل أمة وجود قاسم مشترك يوحد الرؤى والآفاق الفكرية فيها، وقانون ملزم ينظم سلوك افرادها." (ص 143-144)
6- برهان نبوة محمد هو القرآن، وليس خرق العادة !
"أما إثبات نبوة محمد صلى اللهعليه وسلم فابن رشد يعتمد على القرآن [...]. ويحتج ابن رشد بمقارنة القرآن بالكتب السماوية الأخرى (التوراة والإنجيل) فيقول: "وبالجملة فإن كانت ها هنا كتب واردة في شرائع، استأهلت أن يقال إنها كلام الله لغرابتها وخروجها عن جنس كلام البشر ومفارقته بما تضمنت من العلم والعمل، فظاهر أن الكتاب العزيز الذي هو القرآن هو أولى بذلك وأحرى أضعافا مضاعفة. وأنت فيلوح لك هذا جدا إن كنت وقفت على الكتب، أعني التوراة والإنجيل. فإنه ليس يمكن أن تكون كلها قد تغيرت". ولو قارنا بينها وبين القرآن لاتضح "فضل الشريعة المشروعة لنا، على سائر الشرائع المشروعة لليهود والنصارى، وفضل التعليم الموضوع لنا في معرفة الله ومعرفة المعاد وما بينهما". (الكشف... ص 179)
"ويضيف ابن رشد: ويتبين فضل شريعة الإسلام على الشرائع الأخرى على مستوى طريقة الإقناع أيضا، ذلك أن دلالة القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست هي مثل دلالة انقلاب العصا حية على نبوة موسى عليه السلام، ولا إحياء الموتى على نبوة عيسى، وإبراء الأكمه والأبرص. إن تلك وإن كانت أفعالا لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء، وهي مقنعة عند الجمهور، فليست تدل دلالة قطعية إذا انفردت، إذ كانت ليست فعلا من أفعال الصفة التي بها سمي النبي نبيا. أما القرآن فدلالته على هذه الصفة هي مثل دلالة الإبراء على الطب. ومثال ذلك لو أن شخصين ادعيا الطب، فقال أحدهما: الدليل على أني طبيب أني أسير على الماء، وقال الآخر الدليل على أني طبيب أني أبرئ المرضى. فمشى ذلك على الماء، وأبرأ هذا المرضى، لكان تصديقنا بوجود الطب لدى الذي ابرأ المرضى ببرهان، وتصديقنا بوجود الطب لدى الذي مشى على الماء مقنعا، ومن طريق الأولى والأحرى". (الكشف... ص 183) (ص 145)
"هكذا يعود بنا ابن رشد إلى القرآن للبحث عن أجوبة للمسائل التي تطرح بصدده، مسلحا بالتحليل المنطقي ليس غير. أما الأطروحات الفلسفية، أيا كانت فقد تركها جانبا، وذلك وفاقا مع أطروحته الأساسية في هذا المجال، وهي ان الدين والفلسفة بناءان مستقل كل منهما عن الآخر، وأن مسائل كل منهما يجب أن يفحص عنها في البناء الذي تنتمي إليه، لأن لكل منهما أصوله ومبادئه.
ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن أحدهما يناقض الأخر ! كلا فالهدف يجمعهما. وهذا الهدف المشترك لهما هو نشر الفضيلة. ومن هنا كانت "الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة"، "وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة". يقول ابن رشد: "نحن معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع: فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".
"هل نحتاج لخاتمة لهذا الفصل؟
لنترك الأمر للقارئ، فقد وضعنا بين يديه ما يمكنه من استخلاص النتيجة التي يرتئيها !" (ص 144-146)
طول هذا الاستشهاد كان مقصودا وهو، مع الشاهد الذي سبقه والمتعلق بابن حزم، يمثل الإشكالية الفلسفية التي أراد الجابري أن يجعلها معاصرة لنا ! والجابري يتماهى مع موقف ابن رشد إلى درجة يسأل معها: "هل نحتاج لخاتمة لهذا الفصل؟"
وبما ان الجابري "ترك الأمر للقارئ" ليستخلص النتيجة التي يرتئيها، فإن ما ارتأيناه فهو أن الجابري لا ينتبه إلى أن نص ابن رشد يشتمل على كثير من المصادرات على المطلوب، ومنها قوله:
1) "فبماذا نعرف الأنبياء الحقيقيين؟ وكيف نميزهم من غيرهم من مدعي النبوة؟ يجيب ابن رشد: نحن نعرفهم بالشرائع التي يأتون بها والتي تستهدف الخير والفضيلة. فليس بوسع كل إنسان وضع شرائع كشرائع الأنبياء ! "
2) "أما إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فابن رشد يعتمد على القرآن [...]."
3) "فضل الشريعة المشروعة لنا، على سائر الشرائع المشروعة لليهود والنصارى، وفضل التعليم الموضوع لنا في معرفة الله ومعرفة المعاد وما بينهما".
فكل هذه القضايا مبنية على مقدمات غير مبرهنة. ففي القضية الأولى كان عليه أن يبرهن على وجود "الخير والفضيلة" التي أتت بها الشرائع، وعلى أنه لا جود لشرائع بدون أنبياء. وفي القضية الثانية يجعل من القرآن دليلا على صدق نبوة محمد، وكان عليه البرهنة على صدق القرآن. في القضية الثالثة يقرر بأن الإسلام أفضل من الشرائع الأخرى بناء على القضايا السابقة وكأنها مسلمات ليست في حاجة لبرهان.
هذا النقد لا يتوجه لابن رشد - فهو ابن عصره - بقدر ما يتوجه إلى الجابري الذي يريد أن يجعل إشكاليات قديمة ومتجاوزة معاصرة لنا.
إن الجابري يقدم لنا "الحل" الذي وجده الفلاسفة الأندلسيون لفشل المحاولة السابقة "لبناء البيان على البرهان". فهل وجد هذا "الحل" مخرجا ل "التعارض العميق بين "البيان" و"البرهان" وبالتالي استحالة الاستمرار في محاولة تأسيس الأول على الثاني دون التضحية بما هو جوهري في أحدهما، ولربما في كليهما معا"؟
ونقول "برهان" مسايرة لاصطلاحات الجابري، لأن "برهان" الفلاسفة المسلمين ليس في الواقع إلا بيانا منقولا عن الكسمولوجيا والطبيعيات والنفسانيات اليونانية !
الحاصل هو أنه لا فرق جوهري بين الفلاسفة المسلمين فيما يتعلق بالعلاقة بين "البرهان" والبيان. فكلهم حاولوا التوفيق بين البيان اليوناني والبيان الإسلامي، وكان ذلك هو الثمن الذي كان على الفلسفة أن تدفعه لتجد لها موضع قدم في ثقافة يهيمن فيها البيان الإسلامي بالقوة الاجتماعية للدين وسيف السلطة. فأي استقلال لفلسفة كان كل همها هو الاستشهاد على وجود الله، وعلى صدق نبوة محمد، وعلى أن الشريعة التي أتى بها هي أفضل الشرائع؟
وهذا الاستسلام للاشكالية الدينية لم يشفع للفلسفة في أعين أعدائها، وحججهم لا تخلو من معقولية، كما سنلاحظه في النص التالي الذي يسوقه الجابري نفسه:
"يذكر أبو حيان التوحيدي أنه عرض على أبي سليمان المنطقي السجستاني (توفي سنة 391 قيل 400 هج) بعض رسائل إخوان الصفا ليطالعها ويبدي رأيه فيها. وبعد أيام ردها إليه وقال: إنهم، أي إخوان الصفا،: "تعبوا وما أغنوا (...) ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع: ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة (...) في الشريعة وأن يضموا الشريعة إلى الفلسفة، وهذا مرام دونه حَدد. وقد توفر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنيابا وأحضر أسبابا (...) فلم يتم لهم ما ارادوه ولا بلغوا منه ما أملوه" (ربما يشير إلى الفلسفة الهرمسية). ويرجع أبو سليمان المنطقي السبب في ذلك إلى اختلاف النظام المعرفي الذي يؤسس الشريعة عن النظام المعرفي الذي يؤسس الفلسفة. يقول – حسب ما حكاه عنه التوحيدي - : "إن الشريعة مأخوذة من الله عز وجل بواسطة السفير بينه وبين الخلق عن طريق الوحي وباب المناجاة وشهادة الآيات وظهور المعجزات على ما يوجبه العقل تارة ويجوزه، تارة أخرى، لمصالح عامة مقننة ومراشد تامة مبينة، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوص فيه، ولا بد من التسليم الداعي إليه والمنبه عليه، وهناك يسقط "لِمَ؟" ويبطل "كيف؟" ويزول "هلا؟" ويذهب "لو" و"ليت" في الريح، لأن هذه المواد عنها محسومة واعتراضات المعترضين عليها مردودة وارتياب المرتابين فيها ضار وسكون الساكنين إليها نافع، وجملتها مشتملة على الخير وتفصيلها موصول بها على حسن التقبل، وهي متداولة بين متعلق بظاهر مكشوف ومحتج بتأويل معروف وناصر باللغة الشائعة وحام بالجدل المبين وذاب بالعمل الصالح وضارب للمثل السائر وراجع إلى البرهان الواضح ومتفقه في الحلال والحرام ومستند إلى الأثر والخبر المشهورين بين أهل الملة وراجع إلى اتفاق الأمة (...) ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب (...) ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر إلى آثارها (...) ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء (...) ولا فيها حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال (...) فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفا أن ينصبوا من القاء أنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة؟". ويضيف أبو حيان التوحيدي قائلا: " ان أبا سليمان يقول أن الفلسفة حق لكنها ليست من الشريعة في شيء والشريعة حق ولكنها ليست من الفلسفة في شيء. وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، واحدهما مخصوص بالوحي والآخر مخصوص ببحثه، والأول مكفي والثاني كادح (...) ومن أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الديانات، ومن اختار التدين فيجب عليه أن يُعَرِّد بعنايته عن الفلسفة، ويتحلى بهما مفترقتين في مكانين على حالين مختلفين، ويكون بالدين متقربا إلى الله تعالى على ما أوضحه له صاحب الشريعة عن الله تعالى، ويكون بالحكمة متصفحا لقدرة الله تعالى في هذا العالم الجامع للزينة الباهرة لكل عين، المحيرة لكل عقل ولا يهدم أحدهما بالآخر". وبعد أن يبرز أبو سليمان كيف أن القرآن يدعو الناس إلى التدبر والاعتبار وبالتالي إلى استخدام العقل، يشير إلى أن الآفة – ويقصد ما وقع من ردود فعل سلبية ضد الفلسفة في الإسلام – إنما "دخلت من قوم دهريين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل (...) منهم صالح بن عبد القدوس وابن أبي العرجاء ومطر بن أبي الغيث وابن الراوندي والصيرمي" – ومعروف أن هؤلاء متهمون بالزندقة ونشر المانوية ومعارضة الإسلام وإنكار النبوة – بعد أن يحمِّل أبو سليمان هؤلاء مسؤولية ردود الفعل السلبية التي تعرضت لها الفلسفة في الإسلام من طرف أهل السنة، يعود فيهاجم "الذين جمعوا بين الفلسفة والديانة ووصلوا هذه بهذه على طريق الظاهر والباطن والخفي والجلي والبادي والمكتوم" . (ص 261-262)
وما تجدر الإشارة له في هذا النص هو كونه سمى فئة من الفلاسفة لم يكن همها التوفيق بين الدين والفلسفة، وهم من نعتهم ب "قوم دهريين ملحدين". والملفت للنظر أن الجابري لا يعير اهتماما لهؤلاء وكأن الفلسفة يجب أن تكون في خدمة الدين أو لا تكون.
أما على المستوى السياسي للصراع المزعوم بين البيان المدعم بالبرهان وبين العرفان، فإن الجابري لا يقول لنا ما هو الفارق النوعي بين دولة المأمون ودولة ابن تومرت من جهة، والدولة الفاطمية من جهة ثانية؟ إذ أنه كان من اللازم – في منطق الجابري - أن تتميز دولة "المعقول الديني" المأمونية ودولة "الثورة الظاهرية" الموحدية، عن دولة "العقل المستقيل" الإسماعيلية.
أطروحة الجابري وصلت إلى "عنق الزجاجة"
لقد وصلت أطروحة الجابري إلى "عنق الزجاجة"، كما قال بشأن المأمون، لعدة أسباب:
1) تهافت المنطلق بسبب هشاشة المسلمة المؤسِّسة ("المعقول الديني") ومغالطات استنتاجاته المنطقية.
2) إلزام الدين ما لا يلزمه، وقد فصلنا هذه النقطة في معرض ردنا على "العقل الأخلاقي العربي".
3) سوء فهم الظاهرة الدينية الذي جعله يسقط عليها مقولة "المعقول" و"اللامعقول"، في حين أن ما يهم في الدين ليس معقولية المنطلق بل "أسراره" وما بني عليها من ثقافة ومؤسسات وحضارة، فهذه هي "حقيقته". ولهذا تعامل بشكل سطحي تماما مع الوثنية و المانوية و فكرة التثليث المسيحية... وعندما يقول: " والحق أن ما يميز الإسلام، رسولا وكتابا، من غيره من الديانات هو خلوه من ثقل "الأسرار" (mystères) التي تجعل المعرفة ب "الدين" تقع خارج تناول العقل..." (ص 429). فإن السؤال المطروح هو: هل حقا أن الإسلام خال من الأسرار؟ والجواب هو أن للإسلام أيضا أسراره، وهي من صنفين:
- أسرار ورثها من اليهودية والمسيحية، وهو ما يجعل من الولاية العذرية لعيسى – مثلا - أكثر الأسرار انتشارا في الكون، لأنه من أسرار المسيحية والإسلام معا.
- أسرار إسلامية محضة، وتتمثل أساسا في الوحي، والوحي معجزة كباقي المعجزات.
4) قطع الجسور مع "الموروث القديم" الذي يستحق أكثر من النعت التبخيسي الذي اطلقه عليه: "العقل المستقيل".
5) هجومه على العرفان لا يخدم إلا أعداء الفكر الحر، لأن العرفان – بتأويله الحر الخارج عن الاجماع - يفتح آفاق جديدة للروحانية الدينية.
6) لم ينتبه إلى أن ما يجمع الفلسفة (البرهان) بالعرفان هو حرية النظر، ولهذا ينظر إليهما الفقيه بعين الريبة.
7) شخص "أزمة أسس" في الثقافة العربية منذ نشاتها، في حين أن الأمر يتعلق صراعات بين رؤى مختلفة لمذاهب وفلسفات من إنتاج الحضارة العربية الإسلامية نفسها أو موروثة من عند الشعوب التي دخلت الإسلام (وهي بذلك ليست دخيلة على هذه الحضارة بما في ذلك الثقافة اليونانية). وهذه الصراعات الناتجة عن الجدلية الداخلية قد تكتسي طابعا سياسيا.
8) خدمته لأكثر التيارات الدينية نكوصا.
9) غفل عن أن "نقد الدين هو بداية كل كل نقد"، كما قال ماركس. والنقد هنا لا يعني بالضرورة التعامل مع الدين كأيديولوجيا متجاوزة، بل إعادة النظر في الأسس والمسار.
10) نزه الإسلام عما آلت إليه الحضارة الإسلامية، في حين أن القراءة الثقفانية - التي اعتمدها - كانت تفترض أن يقوم بالربط بين العقيدة وما نتج عنها.
11) ترويجه في الساحة الثقافية لإشكاليات متجاوزة على أنها قابلة لأن تكون معاصرة لنا.
12) ولهذا عجز عن تأسيس فلسفة دينية تستجيب لروح العصر وإشكالياته.
***
بعد عرضنا السابق للأطروحات العامة التي أرادها الجابري تمهيدا لتفسيره للقرآن، ننتقل إلى الموضوع المباشر لهذه الدراسة.
1) "مدخل إلى القرآن الكريم"
ليس غرضنا هنا أن نعطي ملخصا للكتاب، بل سنكتفي بعرض منهجية الجابري في التعامل مع مجمل الأسئلة التي طرحت بخصوص البعثة المحمدية والقرآن، وبعرض بعض الخلاصات التي استنتجها هو نفسه.
يقول الجابري بخصوص علوم القرآن: "ولا شك أن الذي ينظر إلى الموضوع نظرة من يحمل منظار الثقافة العربية، كما ورثها جيلنا والأجيال السابقة، سيحكم بأن الكلام في النص القرآني، من هذه الجهة، قد استوفاه الأقدمون في تلك المؤلفات الجامعة. والحق أنهم طرحوا – تقريبا – "جميع" الأسئلة المتعلقة بالموضوع وناقشوها وقدموا إجابات عنها حتى ليخيل للمرء اليوم أنه لم يعد هناك مجال للمزيد ! أما المستشرقون، الذين يعتمدون في الغالب منهج المقارنة، فهم يطرحون أسئلة تجد مرجعيتها الصريحة أو المضمرة في ثقافتهم الخاصة بهم، وهي أسئلة قد تثير قضايا جديدة لم تكن من مجال "المفكر فيه" في الثقافة العربية الإسلامية. ومع أن طرح مثل هذه الأسئلة المتولدة في ثقافة بعينها على ساحة ثقافة أخرى لم يكن فيها ما يدفع إلى طرحها، قد يغني التفكير داخل هذه الأخيرة، فإنه ينطوي على نوع من ممارسة السلطة عليها، سلطة السائل على المسؤول، مهما كان وضع أحدهما بالنسبة للآخر. فالسائل "فاعل"، قد لا تخلو أسئلته من إزعاج وإحراج حتى عندما يكون وراءها براءة وحسن نية، كما هو الشأن في أسئلة الأطفال." (ص 20-21)
والجابري لا يشكك في صحة المصادر، إذ يقول: "والمصادر الإسلامية مادتها الأساسية هي الروايات. وهي، في جملتها، يطبعها الاختلاف إلى حد التناقض أحيانا. ومع أن اختلافها قد يدفع بعض الباحثين إلى الشك في صحة ما ترويه، كلا أو بعضا، فإننا نرى، بالعكس من ذلك، أن هذه الاختلافات دليل على صحتها ككل." (ص 25)
وتقييم الروايات عند الجابري يتم على أساس " اعتبار خصوصيات لغة العرب ومعطيات معهودهم"، إذ يقول: "وإذا نحن انطلقنا في فهمنا للظاهرة القرآنية من هذا المنطلق، أعني من اعتبار خصوصيات لغة العرب ومعطيات معهودهم أمكننا التغلب على كثير من الشكوك التي قد تثار في وجه صدق الروايات التي تتحدث عنها هذه الظاهرة، حتى عندما يتعلق الأمر بأدق لحظاتها، أعني لحظة البداية. على أن اعتبار معهود العرب بكل جوانبه أمر ضروري لنا لجعل القرآن "معاصرا" لنفسه، تماما مثلما أن تعاملنا مع هذا المعهود بكل ما نستطيع من الحياد والموضوعية، هو الطريق السليم – في نظرنا – لجعل القرآن معاصرا لنا أيضا، لا على صعيد التجربة الدينية فذلك ما هو قائم دوما، بل أيضا على صعيد الفهم والمعقولية." (ص 28)
ليس لدينا اعتراض على هذه المنهجية، لكن السؤال المطروح هو: هل بإمكان هذه المنهجية تحييد التحيز le biais الذي لا محالة ستمارسه أطروحات الجابري على القضايا التي سيتناولها؟
هذا التحيز لا يشمل كل القضايا المطروحة، إذ هناك قضايا اكتفى فيها بتلخيص الأخبار التي تخصها، كمسألة جمع القرآن والقراءات الخ. وهناك قضايا اتخذ فيها موقفا مخالفا لما هو متداول في الأوساط الفقهية، كمسألة أمية الرسول... كما أنه التزم مقاربة وضعية تتفق مع المبدأ الذي أقره وهو أنه ليس في الإسلام معجزات وأسرار، إذ رفض كل الأخبار والتفسيرات التي تتنافى مع هذا المبدأ. وكمثال على ذلك تقديمه لسورة القمر، إذ يقول: "اهتم كثير من المفسرين بتتبع روايات "انشقاق القمر"، لدى تفسيرهم الآية التي افتتحت بها هذه السورة: "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ". فذهب معظمهم إلى أن الانشقاق حدث فعلا في مكة. وهناك من قال إن رؤية انشقاق القمر لم تكن عامة [...] وقال آخرون إن انشقاق القمر هو حسب القرآن، مظهر من مظار قيام الساعة، وبما أن الساعة لم تقم بعد، فإن الآية يجب أن تفهم كما يلي: "اقتربت الساعة وسينشق القمر".[...] أما الرواية التي تقول: طلبت قريش من النبي معجزة، وذلك بأن ينشق القمر ويرونه بأعينهم، فلا تؤخذ بعين الاعتبار لأن القرآن كرر مرارا أنه لا فائدة في مثل هذه المعجزات ما دام قد كذب بها أقوام أنبياء سابقين، وأن المعجزة الحقيقية التي جاء بها الرسول محمد عليه السلام هي القرآن، وهذا ما تقرره السورة". (فهم... (ق 1) ص 187)
أما مفعول أطروحاته فسنلمسه فيما جمعه من "شتات حقائق تاريخية" – كما يقول – اعتبرها أساسية لفهم القرآن والإسلام عموما. وتعطينا الخلاصة التالية مفتاح المنطق الذي جمع به الجابري شتات الأخبار:
"ومن دون الذهاب إلى استخلاص نتائج، ما زالت تحتاج إلى مزيد من بحث وحفر، نسجل هنا شعورنا بأننا قد تمكنا من جمع شتات حقائق تاريخية على قدر كبير من الأهمية نعتبرها ضرورية في أي فهم للقرآن، وبالتالي للإسلام، يريد أن يؤسس نظرة معاصرة بالمعنيين اللذين شرحناهما في كتابنا نحن والتراث: أقصد رؤية معاصرة للدعوة المحمدية، أعني لزمانيتها وفضائها الثقافي من جهة، ومعاصرة لنا نحن أبناء القرن الواحد والعشرين على صعيد الفهم والمعقولية." (ص 72)
"... أما الآن، وبعد هذا الذي قدمنا في هذه الجولة، فيمكن القول أن كثيرا من الغموض الذي كان يلف هذه المسائل قد زال، وأن كثيرا من الشكوك التي كانت تحوم حولها لم يعد هناك ما يبررها. وهكذا:
- فمسألة التبشير بالنبي محمد في الفكر الديني السابق على الإسلام [...] لم تعد تحتمل التكذيب بالطريقة التي كانت سابقة من قبل [...] ذلك أنه قد اتضح الآن أن المسألة لم تكن مجرد تبشير ب"الأمي" الذي اسمه "احمد" أو "محمد" بل أن المسألة كانت تتعلق، في الواقع، بوجود تيار ديني توحيدي قام في وجه نظرية التثليث التي رسمتها المجامع الكنسية برعاية أعلى السلطات في الإمبراطورية البيزنطية، تيار توحيدي اكتسى طابع المعارضة السياسية والفكرية، وبالتالي الدينية، لدولة الاحتلال البيزنطي ومذهبها الديني، من طرف شعوب الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لقد انطلقت هذه المعارضة، كما بينا في صورة رد فعل ديني على فكرة "التثليث" التي بنى عليها القديس بولس وغيره العقيدة المسيحية، بعد أزيد من نصف قرن على وفاة عيسى عليه السلام." (ص 73)
- "... وبما أن الكنيسة، وبالتالي الدولة، قد رفضت في مجامع مسكونية رسمية نظرية آريوس وأصحابه والمتأثرين به [...] فقد كان من الطبيعي، وهذا ما يحدث عادة، أن يقفز أصحاب المذهب المرفوض قفزة إلى الأمام يتجاوزون بها النقاش حول طبيعة المسيح عيسى عليه السلام. وهكذا طرحوا فكرة النبي "المنتظر" الذي بشرت به نصوص بعض الأناجيل تصريحا أو تلميحا، أو على سبيل التأويل – لا فرق، لأن الإيمان بعقيدة دينية يكفي نفسه بنفسه، فلا يحتاج إلى برهان عقلي أو تاريخي !" (ص 73)
- "في هذا الإطار، إذا، تقع تلك الروايات المتعددة التي تنقل إلينا أخبارا وتفاصيل عن تصريحات كثير من الرهبان "النصارى" بقرب ظهور نبي جديد ! وفي هذا الإطار نفسه يجب أن نضع تلك الحركة الواسعة التي انتشرت في جميع أنحاء الجزيرة العربية – تقريبا- والتي كانت تبحث عن "الدين الحق"، دين إبراهيم، والتي عرف أصحابها باسم "الحنفاء"،..." (ص 74)
- "أما علاقة الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية فهي – كما تتحدد بنص القرآن وليس كما يفهمها المفسرون والدعاة الواقعون تحت تأثير الصراع التاريخي، السياسي العسكري، الذي شهده تاريخ الديانات الثلاث – علاقة تحكمها شجرة نسب واحد: جذعها المشترك إبراهيم الخليل [...] هل ندعو إلى نوع من رجوع المياه إلى مجراها؟ إلى قيام مصالحة تاريخية بين حفدة إبراهيم الخليل ! على كل حال هناك مثل مغربي يقول: "لا يختصم إلا الإخوة". والحق أن الغريب لا يختصم مع الغريب لأن لا شيء يربط بينهما !" (ص 76)
هذه الخلاصة تشتمل على فكرتين أساسيتين:
الفكرة الأولى تعود بنا إلى الفصل الأول الذي عنوانه: "حول وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث". وفيه خاض الجابري سجالا حول مسألة التبشير ببعثة الرسول محمد، وهو سجال قديم بين المسلمين والمسيحيين. وسجال الجابري كان مع "خائض في الشأن" لم يذكر اسمه، إذ اكتفى بالاحالة إلى موقع (w.w.w. mutenasserin.net).
ينطلق الجابري من الآيتين:
- "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف: 157 )
- "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ" (الصف: 6)
ليؤكد أن "الآيتان صريحتان في كون التوراة والإنجيل قد بشرا بقدوم النبي الأمي، أي من غير اليهود، اسمه أحمد." (ص 34). والواقع أن محتوى السجال هزيل جدا، إذ تمحور حول بعض التعابير وهي:
- "النبي الأمي"، التي ينكر صاحب المقال وجودها في التوراة، مدعيا أن التوراة تقول: "النبي الآتي" بعد موسى أي عيسى (وليس "النبي الأمي")، وهو ما ينكره الجابري. (ص 34-35)
- "المُنحَمنا" الذي يعني بالسريانية "محمد"، ومقابله "بالرومية البرقليطس (=الفارقليط). أما "الخائض في الشأن" فإنه يرى أن أصل هذه اللفظة في اليونانية هو paracletos، وهي صيغة "صفة لم تستعمل قط كاسم علم"، وتعني "المعزي"، "المشير"، "المدافع"، "الروح القدس"... وهي مخالفة ل periklutos التي تعني "المحمود"، "المجيد"، "النبيل"... (ص 36-37)
هذا هو ملخص السجال الذي قال عنه الجابري أنه أزال الغموض حول المسألة ورفع الشكوك عنها ! وهذا السجال، كغيره من السجالات بين أتباع الديانات المختلفة، لا جدوى من ورائه، فكل يأول النصوص حسب ما يوافق معتقداته، ومن المستحيل التوافق على موقف فيه نسف لمعتقدات أحد الطرفين.
أما الفكرة الثانية فإنها تقدم الإسلام كوارث لأحد التيارات التي عرفتها المسيحية، والذي يعارض عقيدة التثليث. وهنا يسقط الجابري، كعادته، في شرك القراءة الأيديولوجية الذي يلخصه الشاهد التالي:
"ابرزنا في الفقرة السابقة كيف أن شمال الجزيرة العربية كان قد صار، بعد ترسيم عقيدة التثليث، ملجأ للفرق الدينية المحرمة تدعو فيه لمذاهبها وتمارس نوعا من المعارضة للمحتل: الإمبراطورية البيزنطية. ونضيف الآن ظاهرة أخرى وهي ما تتيحه الجزيرة العربية من إمكانيات للتواصل والدعاية بسبب خلوها من دولة مركزية من جهة، وبفضل طرق التجارة العالمية التي كانت تشقها من الشمال إلى الجنوب ومن والغرب إلى الشرق، من جهة أخرى. وإذا اضفنا على ذلك وجود مراكز دينية مهمة – لم تكن مكة إلا واحدا منها – تحج إليها القبائل العربية وتقيم حولها الأسواق، ليس فقط لتبادل السلع بل أيضا ل "الأشعار والأفكار والقصص والأخبار"، فقد أدركنا كيف أن الجزيرة العربية في "الجاهلية" لم تكن تقع خارج العالم، بل لربما يمكن القول أنها كانت تشكل مجالا لتلاقي الموجات التي كانت تنبعث باستمرار من "قطبي" العالم يومئذ." (ص 49)
"تؤكد الروايات التي جمعها مؤرخو السيرة النبوية انشغال الناس، قبل قيام الدعوة المحمدية، بترقب نبي جديد، مع ظهور ميول توحيدية في مختلف أجزاء جزيرة العرب، لدى كثير من الرهبان والقساوسة وغيرهم ممن تصنفهم مصادرنا بكونهم "حنفاء" يبحثون عن الدين الحنيف دين إبراهيم عليه السلام. وقد قام بعضهم برحلات وسياحات من أجل ذلك. والقول بنبي جديد معناه التنبؤ بقرب نهاية النظام الديني/السياسي الذي قام على أساس دعوة نبي سابق. وبعبارة أخرى معناه التبشير بقرب سقوط الإمبراطورية التي تبني كيانها على تفسير الدين السابق. النبي الجديد سيأتي ليصحح الدين، ولكن أيضا ليبشر بسقوط الدولة التي انحرفت بالدين." (ص 50)
من الواضح أن الجابري يقرأ الأحداث بشكل تراجعي، أي أنه ينطلق مما حدث بعد البعثة المحمدية (وهو هنا "سقوط الإمبراطورية التي تبني كيانها على تفسير الدين السابق") ليقرأ الأحداث السابقة ويعطيها وزنها النوعي ودلالتها. لكن هذه القراءة تجعل القرآن غير مفهوم، فخصم المسلمين في القرآن كان مشركو قريش وليس "الروم" (وهم من المسيحية المثلثة) الذين نزلت فيهم الآية:
"الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)" (الروم)
والجابري يعود إلى علاقة المسلمين بالروم في القسم الثاني من "فهم القرآن الحكيم..." ، ليقول: "غير ما أغفل المفسرون والرواة ذكره هو أن تعاطف القرآن في هذه الآيات يتجاوز بكثير مجرد التعاطف المفترض بين الفرس ومشركي مكة. ذلك أن من النصارى التابعين للإمبراطورية البيزنطية من كان يتعاطف مع الدعوة المحمدية. فوفد نصارى الشام الذين جاؤوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليستمعوا إليه ويتعرفوا على حقيقة دعوته، أظهروا من التعاطف ما أشاد به القرآن؛ ويجب أن لا ننسى النجاشي (ملك الحبشة وهو مع الروم) الذي كان يأوي المسلمين يتوصية من الرسول (صلى الله عليه وسلم) [...] وهكذا فليس تعاطف السورة مع الروم راجعا فقط إلى أنهم "أهل كتاب" بينما الفرس ليسوا كذلك، بل إن هذا التعاطف الذي بلغ درجة اعتبرت فيها السورة انتصار الروم هو أيضا انتصارا للمؤمنين المسلمين يرجع إلى ما ذكرناه من الموقف الإيجابي لنصارى الشام وملك الحبشة، وكانوا جميعا منضوين تحت إمبراطورية الروم البيزنطيين. ويجب أن نتذكر كذلك الموقف الإيجابي الذي وقفه لاحقا كل من هرقل الروم ومقوقس الإسكندرية والنجاشي، من رسائل النبي (صلى الله عليه وسلم) إليهم إثر صلح الحديبية".(فهم... (2) ص 353)
ويوضح الجابري في الهامش: "الجامع بينهم هو انحدارهم جميعا من الأريوسية" (فهم... (2) هامش ص 353).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو مدى الصدقية التاريخية لهذا التعاطف المزعوم للقوى المسيحية المجاورة مع البعثة المحمدية. وللجواب على هذا السؤال يجب وضع خارطة لمختلف الفرق المسيحية مثلثة (وهي الغالبة) وغير مثلثة، ثم جرد العلاقات التي كانت تربط بعضها ببعض، والعلاقات التي كانت تربطها بالدولتين اليزنطية والإسلامية. والأمر على قدر كبير من التعقيد نظرا لكثرة الفرق ولتقلب المواقف. إلا أن أهم الفرق المسيحية التي وجدت نفسها ضمن حدود الدولة الإسلامية، لكونها كانت عربية (الغساسنة كانوا يعاقبة واللخميون (المناذرة) كانوا نساطرة) أو بسبب جوارها لجزيرة العرب، هي النسطورية واليعقوبية والملكانية ؛ وكل هذه الفرق - رغم خلافاتها - مثلثة.
وبعد مشركي قريش يأتي اليهود بسبب انعدام الثقة الذي شاب العلاقة بينهم وبين المسلمين:
"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) " (المائدة)
وبعض المصادر تذهب إلى أن "النصارى" الذين ورد ذكرهم في الآية هم أولئك الذين رفضوا عقيدة التثليث، وهو ما يوضحه الجابري قائلا:
"وفي مقابل النزعة التثليثة المتفلسفة التي ما لبثت أن أصبحت هي العقيدة المسيحية الرسمية، كان المسيحيون الأول، وهم المقصودون ب "النصارى"، يستندون في تصورهم للدين الجديد على ما ورد في التوراة. كانوا يقولون بان المسيح هو المخلص الذي بشرت به التوراة وأنه رسول وإنسان كسائر البشر، ولدته مريم، كما يولد سائر الناس، ولكن من دون أب بل بنفخة من روح الله، وأنه جاء لتطبيق تعاليم التوراة سواء على مستوى العقيدة أو السلوك الديني، ومن هنا حرصهم على الختان وإقامة السبت وتحريم أكل الخنزير...الخ. هؤلاء تنصروا "قالوا إنا نصارى" ولكن من دون قطيعة مع اليهودية، معتبرين عيسى هو المسيح الذي بشرت به التوراة."(مدخل... ص 41-42)
"وهكذا تراجع الاسم الحقيقي لهذه الفرقة، أعني "النصارى"، أمام حملات خصومهم عليهم وإلصاق لقب "الأبيونيين" بهم [وهو حسب الجابري اسم تحقيري يعني "الفقراء" بمعنى الفقر الفكري ]، فعرفوا في الأدبيات الدينية وغير الدينية في العالم المسيحي بهذا اللقب، منذ ذلك الوقت إلى اليوم. ومما يلفت النظر هو ان جل المتعرضين لهذه الفرقة، سواء في الموسوعات الدينية أو الفلسفية أو في الكتابات البحثية، يؤكدون غموض هذا الاسم ("الأبيونية"). أما في التراث العربي الإسلامي فلم يرد على اللفظ، لا بصيغة الفرقة (الأبيونية) ولا بصيغة اللغة (الأبيوني، الأبيونيون)، مع أن كتب الفرق في الثقافة العربية الإسلامية أوردت ما لا يحصى من أسماء الفرق، المسيحية وغيرها...لكن لم ترد فيها أدنى إشارة إلى هذا الاسم. " (مدخل... ص 42)
"كل ذلك يرجح لدينا ما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين من ان الفرقة الأبيونية ليست شيئا آخر غير فرقة النصارى Nazarenes، لكن ليس بمعنى المنتسبين لمدينة الناصرة (حيث نشا السيد المسيح) كما هو شائع، بل بمعنى الذين نصروا عيسى." (مدخل... ص 42)
"بعد هذا التحديد الذي كان لا بد منه (خصوصا وقد ذهب بعض الكتاب العرب المعاصرين إلى حد القول بأن هذه الفرقة هي التي حضرت لظهور محمد صلى الله عليه وسلم في صورة نبي، بتخطيط وتدبير من القس ورقة بن نوفل عم خديجة زوج الرسول، الأمر، الذي يضعنا إزاء "نظرية المؤامرة" مرة أخرى !)" (مدخل... ص 43)
هذا التوضيح له أهميته، لكن هذا لا يقيم البرهان على أن هدف الحركات الدينية التي عرفتها الجزيرة العربية قبل الإسلام كان هو القضاء على دولة الروم ومنافستها الدولة الساسانية. والقرآن نفسه لا يشتمل على أي مشروع سياسي يهدف إلى قيام دولة لمحاربة الدول التي ترفض الدخول في الإسلام، بل يترك الأمر لله:
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)" (الحج)
كل ما هنالك هو أن الحيثيات و المصادفات التاريخية جعلت المسلمين مضطرين إلى تنظيم أنفسهم فيما يشبه الدولة، وانتهت هذه الدولة إلى فرض منطقها (كما هو شأن كل دولة) على طريقة تعاملهم مع خصومهم (مواثيق، أحلاف، حروب، هدنة... فرضتها الواقعية السياسية وموازين القوى قبل كل شيء). ومن الخطأ القول أن المسلمين أسسوا دولة لأن الإسلام "دين ودولة"، فكل الدول المجاورة كانت لها ديانة رسمية تمنح للدولة شرعيتها وفي المقابل تضع الدولة سلطتها في خدمتها. مع العلم أن الدين كان يصبغ كل جوانب الحياة في المجتمعات القديمة. فكل ما فعله المسلمون أنهم قلدوا جيرانهم من الناحية السياسية. وانهزام البزنطيين والساسانيين أمام الجيوش الإسلامية لم يكن مكتوبا في مسار حتمي للتاريخ.
والمشكلة التي تطرحها هذه الغائية التي يقرأ بها الجابري التاريخ هو كونها تفرض تأويلا ممغنطا بنتائج تاريخية معينة، وهوبذلك يتجاهل ما تشتمل عليه الأحداث والأفكار من احتمالات متعددة، قد تكون مخالفة لمجرى التاريخ. فلأن الإسلام أسس دولة فذلك ليس دليلا على أنه في طبيعته "دين ودولة"، والقيام بالشعائر الدينية لا يحتاج لدولة. وشعار أن "الإسلام دين ودولة" لا سند له في القرآن الذي يخلو تماما من السياسة، كل ما هنالك أنه ما من عقيدة تحولت إلى قوة اجتماعية إلا وتحولت - لا محالة - إلى قوة سياسية.
وبما أن الجابري يريد أن يجعل التراث مقروءا لنا، فإن هذه المقروئية لا تمكن إلا إذا فتح مجال الاحتمال الذي يشتمل عليه التراث، تاريخيا وعقديا. إلا أن الجابري جمد تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بقراءته الأيديولوجية له، وجمد العقيدة بما سماه ب "المعقول الديني".
وفتح مجال الاحتمال يتطلب تجاوز "علوم القرآن" المتوارثة، فإذا كان السلف قد بذلوا جهدا جبارا في مجال علوم القرآن سيبقى قاعدة لا يمكن الاستغناء عنها لفهم البعثة المحمدية، غير أن علومهم كانت أجوبة على إشكالياتهم؛ فلا يمكن لنا أن نجعل القرآن معاصرا لنا إلا إذا نظرنا إليه بإشكاليات العلوم و الثقافة المعاصرة لنا، أتعلق الأمر بميدان اللسانيات أو التاريخ العام أو تاريخ الأديان أو الميثولوجيا أو القانون أوالسياسة أو الآقتصاد أو الديموغرافيا أو الانتروبولجيا... ورب قائل ان هذا هو ما فعله بعض المستشرقين، وبالفعل لقد أسدى كثير منهم خدمات جلى لعلوم القرآن الحديثة بفضل تجديدهم للأسئلة المطروحة (ولو أن أسئلتهم "مزعجة" كما قال الجابري)، إلا أن غرضهم ليس هو غرض المثقف العربي الذي يريد خلق ثقافة عربية حديثة، من شروطها وتنائجها تجديد النظرة إلى الماضي. وهذا لا يعني أن كل ما يقوله المستشرقون منزه عن الشطط، فبعضهم من كثرة "التشريح" (أي فكه إلى عناصره المكونة له) و"التذويب" (أي رد هذه العناصر إلى مصادر خارجية) نسوا أنهم يتعاملون مع جسم حي وأن فهم هذه الحياة (أي دلالته بالنسبة لاتباعه) هو الأهم.
2) تفسير القرآن حسب ترتيب النزول
وهنا ننتقل إلى الجزء الثاني الذي يتناول تفسير القرأن حسب ترتيب النزول. وما يمكن قوله حول هذا التفسير هو أنه بقي في منأى عن القراءات الأيديولوجية المعهودة للجابري، إذ التزم فيه منهجية إجرائية ملتصقة بموضوعها لرصد التساوق بين السور و تاريخ البعثة وقصدها. ولم يعتمد على "أسباب النزول" المتداولة إلا إذا توافقت مع المنطق الداخلي لتسلسل الآيات والسور وتساوقها مع مجرى الأحداث.
وفي ما يتعلق بهذه المنهجية الإجرائية يقول الجابري:
"كيف يمكن إذا، من الناحية المنهجية، التعامل مع القرآن بوصفه معاصرا لنفسه ومعاصرا لنا في نفس الوقت؟ [...] ولما كان الأمر يتعلق هنا بالقرآن فإن أحسن طريق لتطبيق هذا المنهج/الرؤية هو التعامل معه هو، في نظرنا، ذلك المبدأ الذي نادى به كثير من علماء الإسلام، مفسرين وغيرهم، وهو أن "القرآن يشرح بعضه بعضا".
"سنعتمد هذا المبدأ، إذا، ولكن من دون إقصاء الروايات التي يعتمدها "التفسير" بالمأثور إقصاء كليا، بل سنتعامل إيجابيا مع كل اجتهاد أو رواية نجد في القرآن ما يشهد لهما بالصحة، من قريب أو بعيد. ذلك هو سلاحنا ضد الوضع، سواء كان بدافع "الترغيب والترهيب" أو بدوافع مذهبية أو سياسية، وهو سلاحنا أيضا ضد الإسرائليات وأنواع الموروث القديم السابق عن الإسلام."
"ومن أجل تطبيق هذا المبدأ نرى أنه ينبغي التمييز منهجيا بين أمرين: النص القرآني كما هو مجموع في المصحف من جهة، والقرآن كما نزل مفرقا، أي حسب ترتيب النزول من جهة أخرى، ومن ثم التعامل مع كل موضوع نطرحه، بشأن القرآن، بحسب طبيعته. فإن كان مما ينتمي إلى النسبي والتاريخي رجعنا به إلى ترتيب النزول، وإن كان مما ينتمي إلى المطلق واللازمني طرحناه على مستوى القرآن ككل بوصفه يشرح بعضه بعضا ويكون الحكم فيه هو "قصد الشارع" وليس الزمن والتاريخ. وهذا لا يمنع من استعمال المستويين معا حين يقتضي الموضوع ذلك." (مدخل... ص 28-29)
ويعود الجابري إلى مقولة أن "القرآن يشرح بعضه بعضا" في معرض تفسيره لسورة "إبراهيم" ليوضح: "غير أن منهج "القرآن يشرحه القرآن" لا يعني أنه منهج يقع على مستوى "العام" وحده، وإلا كانت هذه المقولة فارغة من المعنى، أي مجرد تكرار لفظ القرآن. القرآن يشرحه القرآن معناه القرآن أنواع من الأقاويل ينتظمها معنى كلي، منه تستقي الأجزاء ما فيها من المعنى الكلي، باعتبار أن في كل جزء أو في كل خاص شيء من الكل (الشجرة مفهوم كلي، وهذه النخلة أحد أفراد هذا الكلي وفيها "معنى الشجرة" وليس معنى الزرافة مثلا)، هذا جانب. لكن، ثمة جانب آخر، وهو أن في جميع الأقاويل – بما فيها الخطاب القرآني – ما هو متشابه، وفي هذه الحالة فالمعنى الخاص في كل عبارة قد يعبر عنه خاص آخر يشبهه، وبالتالي فقولنا: "القرآن يشرحه القرآن" معناه أن بعض القرآن يجد معناه في بعض آخر منه. وهذا في الحقيقة هو معنى وصفه تعالى للقرآن بكونه "متشابها مثاني" (الزمر: 23): يشبه بعضه بعضا ويثنيه، أي يكون بعضه بمنزلة "الثاني" بالنسبة إلى بعض آخر منه، يكون بمنزلة "الأول" له." (فهم... (ق 3)، ص 245)
وفي موضوع التساوق بين ترتيب السور ومسيرة الدعوة، يوضح الجابري في الكتاب الأول ل "فهم القرآن الحكيم..." ، قائلا: "... لا بد من الإشارة إلى أننا ميزنا في تسلسل السور حسب ترتيب النزول بين مراحل، راعينا فيها التطابق، النسبي على الأقل، بين مسار التنزيل ومسيرة الدعوة، وسيلمس القارئ بنفسه أن ما قمنا به في المجال لا يعدو أن يكون مجرد وضع عناوين لكل مرحلة. وهكذا نتبين بكل وضوح أنه، مع أن القرآن نزل منجما وخلال أزيد من عشرين سنة، فإن تسلسل سوره – حسب ترتيب النزول – يباطنه تسلسل منطقي سرعان ما نكتشفه عندما نتنبه إلى الموضوع الذي تركز عليه هذه المجموعة من السور أو تلك في تسلسلها؛ وبالرجوع إلى وقائع السيرة نكتشف أن ذلك المنطق، الذي يباطن تسلسل السور داخل كل مجموعة، يتطابق في مضمونه مع تسلسل هذه الوقائع؛ الشيء الذي نتبين منه بوضوح أن مسار التنزيل مساوق فعلا لمسيرة الدعوة." (فهم... (ق 1)، ص 17)
وهذا التطابق بين مسار التنزيل ومسيرة الدعوة هو ما جعل الجابري يرفض بعض "أسباب النزول" المأثورة لأنها لا تطابق هذا التساوق. كما أن التسلسل المنطقي للسور جعله يرفض مبدأ الناسخ والمنسوخ، إذ يقول:
"وواضح أنه يترتب على قولنا إن لا دليل في القرآن على النسخ بالمعنى الفقهي، أن ليس في القرآن الذي في المصحف آيات – أحكام أو أخبار – منسوخة، بمعنى أنها ألغتها آيات أو أحكام أخرى ! كلا، ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ. كل ما هناك هو وجود أنواع من التدرج في الأحكام: من العام إلى الخاص، ومن المطلق إلى المقيد، ومن المجمل إلى المبين، ومن المبهم إلى المعين، هذا فضلا عن ملاءمة الأحكام مع مقتضيات الأحوال، كأن يأتي حكم يراعي حالة المسلمين من الضعف وغيره، ثم عندما تتحسن أحوالهم يأتي تعديل في الحكم نفسه ليتلاءم مع المستجدات. وهذا لا يعني إزالة الحكم الأول ولا إبطاله بالمرة، وإنما يعني إعماله بصورة معدلة." ( فهم...(ق 3) ص 109)
وبخصوص الغاية التي ما لبث الجابري يكررها، ألا وهي: "...جعل المقروء معاصرا لنفسه، ومعاصرا لنا في الوقت نفسه" فإنه يوضح:
- "معاصرا لنفسه بمحاولة فهمه في إطار زمانه ومعهود المخاطبين به، الشيء الذي يعني بالنسبة إلى "فهم القرآن" ضرورة استحضار المرويات التي تساعد عليه وتحمل الحد الأدنى من الصدقية، مع تحري المساوقة بين مسار التنزيل ومسيرة الدعوة."
- ومعاصرا لنا بمحاولة تطبيق ذلك الفهم، في مجال العقيدة والشريعة، بالتمييز فيه بين "العام المطلق" و"العام المقيد"، والتزام الأول كخطاب معاصر لنا لتطبيقه، والتزام الثاني كخطاب أخلاقي لأخذ العبرة واستلهام الحلول." (فهم... (3)، ص 37)
وكخلاصة لمشروعه هذا يقول الجابري: "يمكن القول، دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكنا عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضا، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري. وقد أمكن ذلك باعتماد خطوات منهجية لم يسبق أن طبقت في أي نوع من أنواع التفاسير السابقة..." (فهم... (2) ص 391)
وهنا نتفق مع الجابري فيما يتعلق بمنهجه، وجزئيا مع خلاصته. فمن حيث المنهج التزم "الالتصاق" بالنص وسياقه وبالأحداث وسياقها. وهذا ما جعله يعارض في بعض الأحيان ما ورد في "أسباب النزول". كما حاول أن يجد لكل سورة منطقا داخليا يعطي مسوغا لوضع الآيات وتسلسلها في السورة؛ علما بأن الآيات وضعت في السور بأمر من الرسول (ولهذا يعد موقعها في السورة توقيفيا)، فتتابعها في السور لا يعني انها متتابعة في ترتيب النزول؛ ولهذا يكون على الباحث أن يأخذ بعين الاعتبار ترتيبين: ترتيب نزول الآيات (وهو السابق) ثم ترتيب نزول السور. كما نتفق جزئيا مع الجابر في موضوع "فخره"، إذ أنه لأول مرة (حسب علمنا) يقدم باحث عربي تفسيرا مفصلا للقرآن حسب ترتيب النزول. لكن تفسير الجابري سبقه "تاريخ القرآن" لتيودور نولدكه زيادة على ترجمات إلى الفرنسية حسب ترتيب النزول نذكر منها ترجمة ريجيس بلاشير وسامي عوض أبي سحلية . وتكمن أهمية عمل نولدكه في كونه عمل موسوعي كثيف وضخم، إذ أن ترجمته العربية تشتمل على 838 صفحة؛ طرح كل الأسئلة التي طرحتها علوم القرآن، وقد يكون تجاهل الجابري لهذا المرجع عائدا لكونه لم ينشر إلا في سنة 2008. ويتبين لنا من هذا الكتاب أن أول من طرح "الأسئلة المزعجة" لم يكن المستشرقين بل أعلام علوم القرآن المسلمين أنفسهم !
صحيح ان غرض نولدكه غير غرض الجابري، لهذا كان عمل الأول عملا "تشريحيا" على درجة من الدقة تثير الإعجاب، أما غرض الثاني فهو أن يجد في النص دلالة. وإن كان "التشريح" قد يقيم مسافة مع الموضوع تؤدي أحيانا إلى عدم الإحساس بحياة الموضوع المشرح، ولهذا نستغرب حكم نولدكة على الرسول إذ يقول: "يضاف إلى ذلك أمر يود المسلمون بالطبع أن يخفوه، ألا وهو أن محمدا كان بطبعه ضعيف العزم. أجل، لقد كان يخاف إلى درجة أنه لم يتجرأ في البدء على المجاهرة برسالته. لكن الصوت الداخلي أقض مضجعه: لقد وجب عليه أن يعظ، وأن يتشجع من حين لآخر كلما خانته الشجاعة، وذلك رغم التعييرات والإهانات التي وجهها إليه أصدقاؤه السابقون". ويزيد قائلا في الصفحة نفسها: "ففيما كان يتمتع بذكاء عملي كبير، لم يكن له من دونه أن ينتصر على كل اعدائه، أعوزته القدرة على التجريد المنطقي إعوازا شبه تام ." وهذا الحكم يبين حدود المقاربة الخارجية المحضة، إذ أنه من الصعب موضوعيا نعت شخص أسس إحدى أكبر الحضارات الإنسانية بأنه "ضعيف العزم"، كما أننا لا نفهم أن يطلب من رسول ما يطلب من فيلسوف . لكن الاستشهادان يشكلان استثناء لأن باقي الكتاب على درجة كبيرة من الموضوعية، إذ كثيرا ما رد نولدكه تاويلات سلبية لبعض المستشرقين لإجحافها في تأويل النصوص.
وإذا قارنا بين عمل نولدكه وعمل الجابري، فإن الأول يتفوق بدون منازع على الثاني على مستوى المنهج وسعة الاطلاع؛ لكن تفسير الجابري فيه "حياة" لا نجدها في الأول. وصحيح أن الجابري يظهر تعاطفه مع موضوعه، وهو أمر ضروري عندما يتعلق الأمر بالبحث عن الدلالة، وهذا قد يؤثر لا محالة في تأويل الأحداث، لكن مجال هذا التحيز بقي محدودا. وأهم شيء في المنهج الذي اتبعه الجابري – بعد كل النقد الذي وجهناه لأطروحاته – هو كونه لم يعكس هذه الأطروحات إلا بشكل هامشي لأنه بقي "لصيقا" بموضوعه. إلا أنه لم يجدد فهمنا للقرآن لأنه تعامل مع النص القرآني كمتكلم سني، وهو بذلك وضع سقفا لتعامله مع القرآن. ولا يمكن تجديد فهم القرآن – حتى من منظور إسلامي محض – إن لم يجدد الكلام.
يبقى أن تفسير الجابري عمل قيم يستحق التنويه.
وهنا هو ردنا على السؤال الذي طرحناه في بداية المقال: إلى أي مدى جدد الجابري التفكير في الأسئلة القديمة؟
[1] محمد عابد الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول في التعريف بالقرآن، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006
[2] البغدادي : الفرق بين الفرق...، دراسة ونحقيق محمد عثمان الخشت، مكتبة ابن سينا، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 153
[3] البغدادي : الفرق بين الفرق...، دراسة ونحقيق محمد عثمان الخشت، مكتبة ابن سينا، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 12
[4] الشهرستاني: الملل والنحل، صححه وعلق عليه الأستاذ احمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1992 ، ص 71
[5] Big Bang, in Wikipédia
[6] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، الطبعة الثالثة، توزيع المكز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
[7] كارل هينرش بكر: تراث الأوائل في الشرق والغرب ضمن كتاب عبد الرحمان بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، ص 11
[8] تتناقض الآراء فيما يخص البسطامي، فالبعض يعده من القائلين بوحدة الوجود في حين أن غاردي وقنواتي ينفيان ذلك، وبعد أن كان حنفيا معتزليا تحول إلى المذهب السني.
G. C. Anawati et Louis Gardet, Mystique musulmane, Vrin Paris, p. 32
[9] Les schismes…, p. 122
[10] Les schismes…, p. 120
[11] الملل والنحل، المقدمة الرابعة ص 10 وما بعدها.
[12] Gnose, Wikipédia
[13] لاحظنا هذا في تعليقات مترجمي كتاب إيجناس جولدتسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2013.
[14] هنري كوربان : تاريخ الفلسفة الإسلامية ص 198-199، ترجمة نصير مروة وحسن قبيسي، منشورات عويدات، بيروت 1966
[15] هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار الوفاء للطباعة والنشر، الإسكندرية (بدون تاريخ)، ص 29-30
[16] الغزالي: فضائح الباطنية، حققه وقدم له عبد الرحمان بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، ص 11
[17] يعود الجابري إلى موضوع التصوف في "مدخل إلى القرآن الكريم"، لكننا نفضل الرجوع إلى الكتب السابقة التي أسهب فيها حول الموضوع.
[18] عبد الوهاب الشعراني (المتوفي 973 هـ): الطبقات الكبرى. طبعة محمد علي صبيح. القاهرة د-ت. ج 1 ص 4
[19] محمد عابد الجابري: العقل الأخلاقي العربي، الطبعة الخامسة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012، ص 428-429
[20] مصطفى كامل الشيبي: الصلة بين التشيع والتصوف. دار المعارف. القاهرة. 1969. ص 321-323 نقلا عن د. قاسم غني: (تاريخ تصوف در إسلام ترجمة)
[21] لقد حاولنا استيضاح الأمور، إلا أن التحزب المذهبي للمراجع التي عدنا إليها لم يسمح لنا بالخروج بأجوبة تاريخية موضوعية. ولهذا قررنا أن نطرح الأسئلة – وهي أسئلة أحيانا مباشرة وأحيانا ضمنية - ونترك الجواب عليها لأهل الاختصاص.
[22] Henri Laoust, Les schismes dans l’islam, Payot Paris 1965, p. 28-29
[23] Ibid, p. 29
[24] هذا مجرد افتراض من قبلنا والبت فيه يتطلب مطالعة أوسع لما كتب في ذلك العصر.
[25] المجلسي: بحار الأنوار، ج 25، ص 350 (النزاهة العلمية تقتضي منا القول أننا عدنا إلى هذا المرجع بعد قراءتنا لأحد المواقع السنية. فالشاهد صحيح لكننا لسنا متيقنين من تأويله لأن هدف الموقع السني هو إظهار تناقض الشيعة)
[26] محمد بن جرير الطبري: تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، المحقق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر المكتة الوقفية، السنة 130 وما بعدها.
[27] يوسف الدحماني: تاريخ الشيعة في المغرب، مقال في أربع حلقات منشور في موقع صحيفة بلادي الالكترونية. وورد في المقال أيضا:
"يذكر الرحالة العراقي ابن حوقل الذي زار المغرب في حدود سنة 350 هجرية أن الصلاة كانت تقام مرتين بمسجد تارودانت، حيث يقيم المالكية صلاتهم، ثم يفسحون المجال للشيعة، وأشار أيضا إلى أن الحروب والصراعات بينهم كانت مستمرة".
[28] محمد بن تومرت: أعز ما يطلب، تقديم وتحقيق د. عمار الطالبي، صدر عن وزارة الثقافة بمناسبة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007"، ص 17
[29] علي الإدريسي: الإمامة عند ابن تومرت، دراسة مقارنة مع الإمامة الإثنى عشرية، ديوان المطبوعات الجزائرية 1991
[30] ابن تومرت،أعز ما يطلب، مرجع سابق، ص: 238-239
[31] ادريس هني: التشيع كمكون سوسيوثقافي مغربي، هسبريس (الأربعاء 2 شتنبر 2009)
[32] موقف الجابري هو موقف محمد عزيز الحبابي (اول فيلسوف مغربي في العصر الحاضر) الذي خصصنا له بحثا تحت عنوان: الشخصانية الواقعية عند محمد عزيز الحبابي، منشور على موقع ملفات | الأنطولوجيا
[33] من أشهر الباحثين في هذا الميدان Georges Devereux
[34] هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار الوفاء للطباعة والنشر، الإسكندرية (بدون تاريخ)، ص 21
[35] Abdesselam Cheddadi, Ibn Khaldoun, L’homme et le théoricien de la civilisation, Gallimard, Paris 2006, p. 63
[36] تحقيق محمد الفاسي، مجلة المخطوطات العربية لجامعة الدول العربية، المجلد 10، الجزء 1
[37] G. C. Anawati et Louis Gardet, Mystique musulmane...op. cit. p.34
[38] Ibid, p. 35
[39] ما سنقوله في الفقرات التالية يمكن أن نضمه إلى المقال الذي خصصناه من قبل لنقد العقل الأخلاقي العربي.
[40] الهجويري: كشف المحجوب. دار النهضة العربية. بيروت 1980. ص536
[41] حديث رواه البخاري وغيره
[42] ابن عربي: الفتوحات المكية. دار صادر. بيروت د – ت ج 1 ص 357-359
[43] بنية العقل العربي، قسم العرفان. الفصل الرابع. الفقرة 4
[44] القضاء عند ابن عربي هو حكم الله في الأشياء قبل أن تكون على ما هي عليه في ذاتها أي كأعيان ثابتة أي حسب الأمر التكويني، واما القدر فهو توقيت حصول الشيء كما تقتضيه طبيعة عينه الثابتة.
[45] ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة... مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998، ص 175 وما بعدها
[46] ابن رشد : فصل المقال... مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1997، ص 96
[47] أبو حيان التوحيدي: "الإمتاع والمؤانسة" ج 2 الليلة السابعة عشرة ص 6-20، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. القوسين يشيران إلى ما حذفه الجابري.
[48] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، القسم الثاني، الطبعة الرابعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012
[49] مقال ويكيبديا يشير إلى أن النصارى Nazôreens هم الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "الفقراء" ébionites، عكس ما يقوله الجابري، وكانت كنيسة القدس تسمى "كنيسة الفقراء": « Nazôreens » , in Wikipédia
[50] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول (القسم الثاني)، الطبعة الرابعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012
[51] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول (القسم الأول)، الطبعة الثالثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2010
[52] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول (القسم الثالث)، الطبعة الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2010
[53] حبذا لو أن هذا الباحث توسع أكثر في الهوامش التي تشتمل على معلومات مهمة.
[54] تيودور نولدكه : تاريخ القرآن، تعديل فريدريش شفالي، نقله على العربية د. جورج تامر بالتعاون مع فريق عمل مؤلف من السيدة عبلة معلوف-تامر، د. خير الدين عبد الهادي، د. نقولا أبو مراد، منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا) – بغداد 2008، ص 5