يمتلك الفنان سيد حسن الساري، تجربة فنية متميزة، استطاعت أن تطرح لونها الخاص؛ بعد سنوات من التجريب والاطلاع. تميل مجموعاته الفنية التي اشترك بها في عدة معارض خاصة ومشتركة؛ في الداخل والخارج، وحصد بها كثيراً من الجوائز، للمدارس الحديثة أكثر من المدارس الأكاديمية، وهو أمر يرجعه الساري؛ إلى سنوات قضاها في دراسات متعمقة كثيرة، أكدت له أن الفن حصيلة العمل المتراكم؛ وأن الفكرة والتقنية متلازمان. ورغم إن الساري كثيرا ما يرسم الشخوص، إلا أنه لا يخشى الرتابة، لإيمانه بأن الشخوص عنصر مهم أقرب لإيصال الفكرة من أي عنصر آخر، ولأن أمامه متسعاً من الحرية، يجده في الغوص في العمق المحير للعمل؛ تارة بالتلاعب اللوني وأخرى بجعل حالات شادة أو حالات متناقضة في التكوين. حول مجموعاته الفنية، وطابعها الخاص، كان للوطن هذا اللقاء مع سيد حسن الساري، حيث أضاء كثيراً من جوانب تجربته الفنية... فإلى هذا اللقاء...
* غم أن أغلب الفنانين ينطلقون من البيئة والتراث، إلا أنك سرعان ما تركت هذه «الثيمة»، وتوجهت للونك الخاص.. ألا تخشى المغامرة؟
- للتوضيح فقط؛ فان العوامل المؤدية لتوجه الفنان هي التأثيرات المحيطة به بشكل رئيس. فإذا اعتبرنا أن الفنانين توجهوا لرسم البيئة والبدء بها كطريق نحو المدارس الأخرى والتوجهات التي تتبعها في المدارس الحديثة؛ فهي من منطلق التأثير والتأثر، ولم تكن هي سبيل كما كان متعارفاً قبل للوصل للفنون الأخرى؛ عبر التدرج بوسائل رتيبة؛ فهنا تسقط قاعدة (الغاية تبررها لوسيلة). ويظهر على الساحة الفنية؛ أن الساري انطلق من المنطلق الذي عرضه في المعارض العامة أو الخاصة؛ من مجموعاته الفنية التي تكون أقرب للمدارس الحديثة من المدارس الأكاديمية؛ التي تتعلق برسم التراث والبيئة والخصائص المتعلقة بالبيئة المحلية. وبما إن هذا السؤال تم طرحه؛ فوجب التنويه إلى أنني لم أجازف بطرح الأساليب التي ظهرت بها؛ لأنها لم تأت عن طريق الصدفة أو العبث؛ إنما جاءت بعد دراسات متعمقة وكثيرة، امتدت لسنوات عديدة، وبعد دراسات أكاديمية، وكذلك من خلال رسم البيئة والتراث. إذ كنا نخرج للرسم المباشر في أنحاء القرى الشمالية. لكن من خلال الموجات؛ التي أثرت على المنطقة في «ثيمة» معارضها التي تأخذ المنحنى الفني الحداثي أكثر منه للواقعية و»الثيمات» لمتعلقة بالتراث، لم أعرض تلك الدراسات أو تلك المواضيع التي تم رسمها في فترات سابقة وكذلك في الفترات اللاحقة، كما إنني لا زلت أرسم الطبيعة بمرسمي، وسبق أن رسمت كثيراً من هذه المواضيع ذات الحجوم الصغيرة، وعرضت مجموعة منها في معرضي الشخصي الثاني بجامعة البحرين، عندما كنت طالباً أدرس التاريخ وقتها.
العالمية تقود خطاي
* بعيداً عن المبالغة، وكذلك لكي لا نبخسك حقك من التقدير كفنان مجتهد؛ ماذا أضاف حسن الساري، وماذا أضاف جيله؟
- مع أن هذا السؤال يفترض أن يوجه للآخرين، وليس لي، لكي لا أضطر للحديث عن نفسي، سأجيب عليه باختصار. إن دخولي الفن وحصولي على عديد من الجوائز في فترات مبكرة؛ عنى لي كثيراً من الأمور، وحمّلني كثيرا من الاهتمام الجاد للتطلع نحو التصاعد، في ظل تسارع الحركة التشكيلية العالمية والتسابق، وكذلك الدوران في نطاق يعيد نفسه أو يقارب بكثير باستعادة المواد المطروحة سابقا التي تناولها الغرب أولا ثم انتقلت للشرق، عن طريق الهجرات الفنية للمغتربين من الفنانين الذي خرجوا من بلدانهم واستقروا في دول الغرب والعراق نموذجا. وأعتقد أن المشوار لا زال في بداياته، وآمل أن أرى ثمرة جهدي يوماً.
* لماذا تركز كثيرا على الشخوص؟ ألا تخشى الرتابة؟
- إن المجموعة التي تمت معالجتها في موضوع العذراء؛ ترتبط ارتباط مباشراً بالشخوص لتكون مكملاً لتعبيرية اللون. والشخوص هي عنصر مهم وأقرب لإيصال الفكرة من أي عنصر آخر، كذلك لكونه العنصر الأكثر استخداماً عند أكثر الفنانين، وإن اختلف التوظيف أو الأسلوب المتبع. لذا فإن الشخوص هي مكون واسع في التوظيف، يكون تحد للفنان لكونه حساسا في كيفية التعامل معه وتوظيفه بشكل صحيح وفي المكان المناسب. وربما تعتمد أعمالي على الشخوص بشكل رئيس، لكن لدي عديد من التجارب لا تحوى عنصر الإنسان، وقدمت مجموعة منها العام 2007 بمعرض البحرين الذي تقيمه وزارة الإعلام، وحصلت وقتها على الجائزة التقديرية عن هذه المجموعة، كما قدمت عملين أيضاً في معرض العذراء لم يكن الإنسان حاضراً فيها غير أثره. فتوظيف أكثر من عنصر في العمل يجعل العمل شيقا أكثر بالنسبة للمتذوق، وإن كان كثير من الفنانين يعتمدون على الاختصار الشديد في توظيفهم اللوني وعدد «الثيمات» التي يتكون بها العمل. وبما أن لكل فنان توجه يجده أقرب له؛ فإن الإنسان كلما تهربت منه؛ فرض نفسه علي مرة أخرى، فهو أشبه بكابوس يتربع على عرش أعمالي. أما الرتابة فلا أخشاها مطلقاً، لأن هناك متسعاً من الحرية؛ أستطيع أن أجدها في الغوص في العمق المحير للعمل؛ تارة بالتلاعب اللوني وأخرى بجعل حالات شادة أو حالات متناقضة في التكوين، وأكون مستعداً للتخلص من أي قاعدة فنية ممكن أن تقيديني تحت وطأة قانونيتها.
«العتمة والضوء المباغت»
* «العتمة والضوء المباغت»؛ ثيمة تتكرر كثيراً في أعمالك؟ هل استقيتها من اطلاعك على الفن الغربي مباشرة؛ أم تتبعت مكانها في الفن البحريني، وطورتها إلى أسلوب خاص بك؟
- ظهرت هذه الثيمة عندي؛ عندما كنت شغوفا برسم الطبيعة. ومعظم الأعمال التي كنت أتناولها هي التي كانت تحتوي على هذين العنصرين بشكل رئيسي، وحتى الأوقات التي كنت أرسم فيها دراسات من خلال الرسم المباشر مع الطبيعة؛ كنت أختار الأوقات التي ترمي فيها الشمس بظلال الكتل على مساحات واسعة من الأرض، فكانت أشبه بانبثاق النور من الأرض ذاتها، عندما تغطي الكتل الزراعية ظلالها على المساحات المحيطة بها. وهذه الخاصية لم تتوفر في الفن البحريني بشكل واضح، لكنها ظهرت بالفعل في الفنون الأوروبية في الأعمال الكلاسيكية، وكذلك عند الفنانين الروس، حيث استخدام الألوان المعتمة وتسليط الضوء على كتل صغيرة في العمل شبيهة بالدراما المسرحية وألعاب الباليه. وتبرز بوضوح أيضاً في بناء المجسمات، التي يكون عرضها مباشرة في الهواء الطلق لتأخذ إحساسها المتقلب والجميل مع اختلاف الأجواء، خصوصاً عندما تكون علاقاتها مباشرة مع ضوء الشمس. لقد كان «أوغست رودان» يركز على هذه الخاصية؛ بالابتعاد عن السطح الأملس، حيث جعل به كسرات تخلق جمالاً عندما تتعرض للضوء.
العريض متابع لتجربتي
* لم يبرح الفنان الكبير عبدالكريم العريض، يثني عليك وعلى تجربة محمد المهدى.. كيف تصف العلاقة التي تربط فناناً من جيلك بفنان كبير من جيل الرواد؟
- إن ملازمتي لجمعية البحرين للفن المعاصر لأكثر من اثني عشر عاماً؛ جعلتني أكون قريباً جداً من روادها. وقد أتاح لي وجود العريض في الجمعية بشكل يومي مرتين بالنهار، أن ألتقي به مرتين يومياً، فكانت العلاقة التي جمعتنا على مدى هذه السنوات. وبما أن العريض مثقف كبير؛ يكون الحديث معه مسلياً ذا طرفة. كما إنه كان متتبعاً عن قرب لتجاربي الفنية، وكان كثيراً ما ينتقدني انتقاداً لاذعاً؛ حين أصر على مواصلة عمل ما بصيغة محددة، حتى أنتهي منه فيصل إلى الاقتناع بما قدمت، أو يحتفظ بفكرته الأولية.
إن العلاقة التي تربط فنانين من أجيال مختلفة؛ لا أجدها صعبة، خلاف آخرين يجدونها مستحيلة. وإذا كان العريض قد أثنى على تجربتي، فذلك تحقق عبر متابعته لها ولاختلافها على مدى الأعوام السابقة، وليس من منطلق العلاقة التي تربطني به، فهو لم يتوقف عند الثناء على شخص أو شخصين؛ بل أثنى على عديد من التجارب وأمسك عن أخرى. وشخصياً لا علاقات سيئة لي مع أي من الفنانين الآخرين، إنما يختلف حجمها من شخص لآخر، رغم أن العلاقات بين أجيال مختلفة تكاد تكون نادرة.
* ماذا عن العلاقة التي ربطتك ولاتزال بمحمد المهدي، هل لاتزال تشكل ثنائياً رائعاً، ماذا يجمع بينكما، ألا تفكر في الانعتاق؟
- إن ارتباطي بالمهدي كان المشوار الأول لي تقريباً في الساحة الفنية. وكانت هناك مشاركات قبل أن نتعرف على بعض، لكن عندما كنا نعمل كثنائي كانت هناك جدية أكثر، إذ سعينا لعمل معرضنا الأول بجمعية البحرين للفن المعاصر في العام 2004، ومن ثم بالرواق في المعرض الثاني العام 2006 وكذلك المعرض الثالث بدولة قطر العام 2011. ولنا مشاركات فردية لا تربطنا ببعض في كثير من الأحيان، لكن كثير من الفعاليات توجه لنا الدعوات فتجمعنا نظراً لارتباط اسمينا ببعضنا. والطريف في الأمر أن الناس لا يميزون بين اسمينا؛ ففي إحدى السنوات فاز المهدي بجائزة، ووجهت لي التبريكات، وفي أخرى فزت ووجهت له التبريكات، لذا أصبح الأمر بالنسبة لنا اعتيادياً، بمعنى آخر
“مسألة ليس لها حل”.
إن العمل بشكل ثنائي، أفضل الأعمال؛ إذا كان هناك توافق، نظراً لأن كثيراً من الأمور؛ تحتاج إلى يد مساعدة. والتوافق بين شخصين يكون أكبر، وكذلك الترتيب بين حلقة قريبة؛ على عكس ما إذا كانت هناك أعداد أكبر. ورغم نجاح هذه التجربة؛ إلا أنه لا يوجد هذا الثاني؛ إلا فيما ندر، عباس يوسف وجبار الغضبان نموذجاً، وسوى هذين لا أجد ارتباطاً بين اسمين.
تراجع مستوى الاطلاع
* هل تعد فناني جيلك من المطلعين على روافد الفن العالمي؟
- يعد الفن العالمي هو نقطة الارتكاز التي انطلقت منها الفنون من محيطها القريب؛ حتى اتسعت دائرتها لتغزو جميع أنحاء العالم منذ اختلاف مراحله. وإن كانت في بداياتها تعتمد على التصوير الكلاسيكي والديني في الكنائس؛ إلا أنه سرعان ما أحس الفنانين الأوائل بالاجتهاد والحاجة للخروج نحو تجارب أكثر جرأة، ومنهم بيكاسو مثلاً.
الفنانون الذين ظهروا بعد عمالقة الفن كانت لهم اجتهادات كانت محل الإعجاب، إذ إنهم وظفوا الفنون السابقة وعالجوها بلمساتهم التي تأخذ حساً خاصاً وإن كان مقارباً إلا أنه يمتاز بشيء مختلف يختص به الفنان. ولما أخذت تجارب بيكاسو تنتشر بين أساليب الفنانيين الآخرين؛ استفادوا منها كمرفد مهم وعالجوها بخصيتهم. هناك أيضاً تجارب الانطباعيين على غرار بول سيزان، وكذلك التأثيرية في نموذج فان جوخ، وتمازج الاتجاهات التي أخذت الفن إلى عالم ليس له خاصية الاستقرار في نمط، ما جعل من الفنانيين اللاحقين يقعون تحت رحمة هيجانهم، فلا يجد الفنان نفسه إلا بين تلك الأمواج العاتية، محاولاً الجمع بين خصوصيات عدة في نماذجه الفنية.
إذا نظرنا إلى الأجيال السابقة، فسنجد أن هناك دلائل تشي بوجود تراجع بهذا الخصوص. فإذا عبرنا إلى فترة الرواد في الستينات، مروراً بالجيل الثاني، وصولاً للجيل الثالث عند نهاية التسعينات، فسنقرأ كيف أن التحولات كانت في تصاعد، لكنها نزلت بشكل أقرب للفجائي.
شخصياً اطلعت على بعض مما كتب عن الحركة التشكيلية بالبحرين وبعض دول المنطقة، وعن تجارب الفنانين الغربيين. لكن لا يوجد لدي شيء أحسد عليه، نظراً لارتباطي بالدراسة الجامعية لفترة طويلة، حيث درست دبلوم الهندسة ومن ثم بكالوريوس التاريخ، بالإضافة إلى بعض القراءات الأدبية والشعرية التي كنت أميل لها كثيراً، فكنت أربط بعض المواضيع التي أدرسها أو أقرأها بالرسم؛ ففي فترة دراستي هندسة الديكور العام 2004 طرحت موضوعاً يحاكي الأسواق والأحياء الشعبية وعمارتها، كذلك أوظف الحبكة القصصية الشيقة في غموض بعض الأعمال.
* ماذا عن التفاعل الثقافي بينكم كتشكيليين؟
- يبدو أن التفاعل ضئيل جداً بين الفنانين مع بعضهم، وإمكان التعرف على الآخر؛ لا يرتقي إلى الشيء المطلوب من حجم تبادل المعرفة والتعرف عن قرب. ويعود ذلك برأيي إلى العناصر التي تدخل دون نضج في المعرفة وتستمر أيضاً في السطحية، لتختلط الأوراق مع بعضها دون فرز الجيد من الرديء، خصوصاً وأن كثيراً من الفنانين يلتزمون الصمت.
لقد جلست مع فنانين من أجيال مختلفة وتحدثت معهم؛ لكن التبادل يكون عقيماً أكثر الأحيان، وإن جاء بفائدة محدودة، لكن ذلك لا يجعلني أقول إنه لا علاقة ثقافية عند الفنانين، لكنها علاقات للأسف، لا ترقى إلى مستوى العلاقة الثقافية المتينة، التي تشعرك بأنك موجود بالفعل في نطاق دائرة ثقافية تستطيع أن تعطيك شيئاً يثريك، ويضاف إلى رصيدك المعرفي.
ركود عالمي
* هل ترى أن الفن التشكيلي في البحرين تراجع؟
- لا أعتقد بتراجع الفن البحريني، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار؛ ما وصل إليه في الأعوام السابقة، ربما توقف عند حد معين أو أخذ في تطور بسيط جداً والتكرار، لكن ما يجعلنا ننظر له على أنه تراجع؛ هو الحركة الفنية التي أخذت بالركود بشكل واضح في العالم، وظهور كثير من المتطفلين، مما جعل لخلط الأوراق أثر سلبي.
علينا أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار أن عدد الفنانين في الجيل الأخير؛ كان قليلاً جداً، لكن في الجيل اللاحق ظهرت على السطح تجارب مختلفة كسرت التكرار، وبما أن العدد الجديد قليل، أخذ بعين الاعتبار هذا الأمر وهو بطء الحركة التشكيلية، قياساً بالعقود السابقة؛ التي كانت ساحة ساخنة وحركة نشطة، بدءاً بالستينات قبل أن تكون هناك جمعيات رسمية، ووصولاً إلى تأسيس أسرة هواة الفن والأدب، وبعدها جمعية البحرين للفن المعاصر الأولى في الخليج في العام 1971، وكذلك مشاركة الرواد في معرض “كريفن كراريز” الذي يعد الأول على مستوى المنطقة، ويعرض في أكثر من دولة، حيث برز الفنان حسين السني حينها بعمل القلاف. وجميع تلك العوامل النشطة تعطي صورة مختلفة عن حركة بطيئة، كانت نشيطة في السابق.
حسن الساري: لا أخشى الرتابة والشخوص العنصر الأقرب لإيصال الفكرة
* غم أن أغلب الفنانين ينطلقون من البيئة والتراث، إلا أنك سرعان ما تركت هذه «الثيمة»، وتوجهت للونك الخاص.. ألا تخشى المغامرة؟
- للتوضيح فقط؛ فان العوامل المؤدية لتوجه الفنان هي التأثيرات المحيطة به بشكل رئيس. فإذا اعتبرنا أن الفنانين توجهوا لرسم البيئة والبدء بها كطريق نحو المدارس الأخرى والتوجهات التي تتبعها في المدارس الحديثة؛ فهي من منطلق التأثير والتأثر، ولم تكن هي سبيل كما كان متعارفاً قبل للوصل للفنون الأخرى؛ عبر التدرج بوسائل رتيبة؛ فهنا تسقط قاعدة (الغاية تبررها لوسيلة). ويظهر على الساحة الفنية؛ أن الساري انطلق من المنطلق الذي عرضه في المعارض العامة أو الخاصة؛ من مجموعاته الفنية التي تكون أقرب للمدارس الحديثة من المدارس الأكاديمية؛ التي تتعلق برسم التراث والبيئة والخصائص المتعلقة بالبيئة المحلية. وبما إن هذا السؤال تم طرحه؛ فوجب التنويه إلى أنني لم أجازف بطرح الأساليب التي ظهرت بها؛ لأنها لم تأت عن طريق الصدفة أو العبث؛ إنما جاءت بعد دراسات متعمقة وكثيرة، امتدت لسنوات عديدة، وبعد دراسات أكاديمية، وكذلك من خلال رسم البيئة والتراث. إذ كنا نخرج للرسم المباشر في أنحاء القرى الشمالية. لكن من خلال الموجات؛ التي أثرت على المنطقة في «ثيمة» معارضها التي تأخذ المنحنى الفني الحداثي أكثر منه للواقعية و»الثيمات» لمتعلقة بالتراث، لم أعرض تلك الدراسات أو تلك المواضيع التي تم رسمها في فترات سابقة وكذلك في الفترات اللاحقة، كما إنني لا زلت أرسم الطبيعة بمرسمي، وسبق أن رسمت كثيراً من هذه المواضيع ذات الحجوم الصغيرة، وعرضت مجموعة منها في معرضي الشخصي الثاني بجامعة البحرين، عندما كنت طالباً أدرس التاريخ وقتها.
العالمية تقود خطاي
* بعيداً عن المبالغة، وكذلك لكي لا نبخسك حقك من التقدير كفنان مجتهد؛ ماذا أضاف حسن الساري، وماذا أضاف جيله؟
- مع أن هذا السؤال يفترض أن يوجه للآخرين، وليس لي، لكي لا أضطر للحديث عن نفسي، سأجيب عليه باختصار. إن دخولي الفن وحصولي على عديد من الجوائز في فترات مبكرة؛ عنى لي كثيراً من الأمور، وحمّلني كثيرا من الاهتمام الجاد للتطلع نحو التصاعد، في ظل تسارع الحركة التشكيلية العالمية والتسابق، وكذلك الدوران في نطاق يعيد نفسه أو يقارب بكثير باستعادة المواد المطروحة سابقا التي تناولها الغرب أولا ثم انتقلت للشرق، عن طريق الهجرات الفنية للمغتربين من الفنانين الذي خرجوا من بلدانهم واستقروا في دول الغرب والعراق نموذجا. وأعتقد أن المشوار لا زال في بداياته، وآمل أن أرى ثمرة جهدي يوماً.
* لماذا تركز كثيرا على الشخوص؟ ألا تخشى الرتابة؟
- إن المجموعة التي تمت معالجتها في موضوع العذراء؛ ترتبط ارتباط مباشراً بالشخوص لتكون مكملاً لتعبيرية اللون. والشخوص هي عنصر مهم وأقرب لإيصال الفكرة من أي عنصر آخر، كذلك لكونه العنصر الأكثر استخداماً عند أكثر الفنانين، وإن اختلف التوظيف أو الأسلوب المتبع. لذا فإن الشخوص هي مكون واسع في التوظيف، يكون تحد للفنان لكونه حساسا في كيفية التعامل معه وتوظيفه بشكل صحيح وفي المكان المناسب. وربما تعتمد أعمالي على الشخوص بشكل رئيس، لكن لدي عديد من التجارب لا تحوى عنصر الإنسان، وقدمت مجموعة منها العام 2007 بمعرض البحرين الذي تقيمه وزارة الإعلام، وحصلت وقتها على الجائزة التقديرية عن هذه المجموعة، كما قدمت عملين أيضاً في معرض العذراء لم يكن الإنسان حاضراً فيها غير أثره. فتوظيف أكثر من عنصر في العمل يجعل العمل شيقا أكثر بالنسبة للمتذوق، وإن كان كثير من الفنانين يعتمدون على الاختصار الشديد في توظيفهم اللوني وعدد «الثيمات» التي يتكون بها العمل. وبما أن لكل فنان توجه يجده أقرب له؛ فإن الإنسان كلما تهربت منه؛ فرض نفسه علي مرة أخرى، فهو أشبه بكابوس يتربع على عرش أعمالي. أما الرتابة فلا أخشاها مطلقاً، لأن هناك متسعاً من الحرية؛ أستطيع أن أجدها في الغوص في العمق المحير للعمل؛ تارة بالتلاعب اللوني وأخرى بجعل حالات شادة أو حالات متناقضة في التكوين، وأكون مستعداً للتخلص من أي قاعدة فنية ممكن أن تقيديني تحت وطأة قانونيتها.
«العتمة والضوء المباغت»
* «العتمة والضوء المباغت»؛ ثيمة تتكرر كثيراً في أعمالك؟ هل استقيتها من اطلاعك على الفن الغربي مباشرة؛ أم تتبعت مكانها في الفن البحريني، وطورتها إلى أسلوب خاص بك؟
- ظهرت هذه الثيمة عندي؛ عندما كنت شغوفا برسم الطبيعة. ومعظم الأعمال التي كنت أتناولها هي التي كانت تحتوي على هذين العنصرين بشكل رئيسي، وحتى الأوقات التي كنت أرسم فيها دراسات من خلال الرسم المباشر مع الطبيعة؛ كنت أختار الأوقات التي ترمي فيها الشمس بظلال الكتل على مساحات واسعة من الأرض، فكانت أشبه بانبثاق النور من الأرض ذاتها، عندما تغطي الكتل الزراعية ظلالها على المساحات المحيطة بها. وهذه الخاصية لم تتوفر في الفن البحريني بشكل واضح، لكنها ظهرت بالفعل في الفنون الأوروبية في الأعمال الكلاسيكية، وكذلك عند الفنانين الروس، حيث استخدام الألوان المعتمة وتسليط الضوء على كتل صغيرة في العمل شبيهة بالدراما المسرحية وألعاب الباليه. وتبرز بوضوح أيضاً في بناء المجسمات، التي يكون عرضها مباشرة في الهواء الطلق لتأخذ إحساسها المتقلب والجميل مع اختلاف الأجواء، خصوصاً عندما تكون علاقاتها مباشرة مع ضوء الشمس. لقد كان «أوغست رودان» يركز على هذه الخاصية؛ بالابتعاد عن السطح الأملس، حيث جعل به كسرات تخلق جمالاً عندما تتعرض للضوء.
العريض متابع لتجربتي
* لم يبرح الفنان الكبير عبدالكريم العريض، يثني عليك وعلى تجربة محمد المهدى.. كيف تصف العلاقة التي تربط فناناً من جيلك بفنان كبير من جيل الرواد؟
- إن ملازمتي لجمعية البحرين للفن المعاصر لأكثر من اثني عشر عاماً؛ جعلتني أكون قريباً جداً من روادها. وقد أتاح لي وجود العريض في الجمعية بشكل يومي مرتين بالنهار، أن ألتقي به مرتين يومياً، فكانت العلاقة التي جمعتنا على مدى هذه السنوات. وبما أن العريض مثقف كبير؛ يكون الحديث معه مسلياً ذا طرفة. كما إنه كان متتبعاً عن قرب لتجاربي الفنية، وكان كثيراً ما ينتقدني انتقاداً لاذعاً؛ حين أصر على مواصلة عمل ما بصيغة محددة، حتى أنتهي منه فيصل إلى الاقتناع بما قدمت، أو يحتفظ بفكرته الأولية.
إن العلاقة التي تربط فنانين من أجيال مختلفة؛ لا أجدها صعبة، خلاف آخرين يجدونها مستحيلة. وإذا كان العريض قد أثنى على تجربتي، فذلك تحقق عبر متابعته لها ولاختلافها على مدى الأعوام السابقة، وليس من منطلق العلاقة التي تربطني به، فهو لم يتوقف عند الثناء على شخص أو شخصين؛ بل أثنى على عديد من التجارب وأمسك عن أخرى. وشخصياً لا علاقات سيئة لي مع أي من الفنانين الآخرين، إنما يختلف حجمها من شخص لآخر، رغم أن العلاقات بين أجيال مختلفة تكاد تكون نادرة.
* ماذا عن العلاقة التي ربطتك ولاتزال بمحمد المهدي، هل لاتزال تشكل ثنائياً رائعاً، ماذا يجمع بينكما، ألا تفكر في الانعتاق؟
- إن ارتباطي بالمهدي كان المشوار الأول لي تقريباً في الساحة الفنية. وكانت هناك مشاركات قبل أن نتعرف على بعض، لكن عندما كنا نعمل كثنائي كانت هناك جدية أكثر، إذ سعينا لعمل معرضنا الأول بجمعية البحرين للفن المعاصر في العام 2004، ومن ثم بالرواق في المعرض الثاني العام 2006 وكذلك المعرض الثالث بدولة قطر العام 2011. ولنا مشاركات فردية لا تربطنا ببعض في كثير من الأحيان، لكن كثير من الفعاليات توجه لنا الدعوات فتجمعنا نظراً لارتباط اسمينا ببعضنا. والطريف في الأمر أن الناس لا يميزون بين اسمينا؛ ففي إحدى السنوات فاز المهدي بجائزة، ووجهت لي التبريكات، وفي أخرى فزت ووجهت له التبريكات، لذا أصبح الأمر بالنسبة لنا اعتيادياً، بمعنى آخر
“مسألة ليس لها حل”.
إن العمل بشكل ثنائي، أفضل الأعمال؛ إذا كان هناك توافق، نظراً لأن كثيراً من الأمور؛ تحتاج إلى يد مساعدة. والتوافق بين شخصين يكون أكبر، وكذلك الترتيب بين حلقة قريبة؛ على عكس ما إذا كانت هناك أعداد أكبر. ورغم نجاح هذه التجربة؛ إلا أنه لا يوجد هذا الثاني؛ إلا فيما ندر، عباس يوسف وجبار الغضبان نموذجاً، وسوى هذين لا أجد ارتباطاً بين اسمين.
تراجع مستوى الاطلاع
* هل تعد فناني جيلك من المطلعين على روافد الفن العالمي؟
- يعد الفن العالمي هو نقطة الارتكاز التي انطلقت منها الفنون من محيطها القريب؛ حتى اتسعت دائرتها لتغزو جميع أنحاء العالم منذ اختلاف مراحله. وإن كانت في بداياتها تعتمد على التصوير الكلاسيكي والديني في الكنائس؛ إلا أنه سرعان ما أحس الفنانين الأوائل بالاجتهاد والحاجة للخروج نحو تجارب أكثر جرأة، ومنهم بيكاسو مثلاً.
الفنانون الذين ظهروا بعد عمالقة الفن كانت لهم اجتهادات كانت محل الإعجاب، إذ إنهم وظفوا الفنون السابقة وعالجوها بلمساتهم التي تأخذ حساً خاصاً وإن كان مقارباً إلا أنه يمتاز بشيء مختلف يختص به الفنان. ولما أخذت تجارب بيكاسو تنتشر بين أساليب الفنانيين الآخرين؛ استفادوا منها كمرفد مهم وعالجوها بخصيتهم. هناك أيضاً تجارب الانطباعيين على غرار بول سيزان، وكذلك التأثيرية في نموذج فان جوخ، وتمازج الاتجاهات التي أخذت الفن إلى عالم ليس له خاصية الاستقرار في نمط، ما جعل من الفنانيين اللاحقين يقعون تحت رحمة هيجانهم، فلا يجد الفنان نفسه إلا بين تلك الأمواج العاتية، محاولاً الجمع بين خصوصيات عدة في نماذجه الفنية.
إذا نظرنا إلى الأجيال السابقة، فسنجد أن هناك دلائل تشي بوجود تراجع بهذا الخصوص. فإذا عبرنا إلى فترة الرواد في الستينات، مروراً بالجيل الثاني، وصولاً للجيل الثالث عند نهاية التسعينات، فسنقرأ كيف أن التحولات كانت في تصاعد، لكنها نزلت بشكل أقرب للفجائي.
شخصياً اطلعت على بعض مما كتب عن الحركة التشكيلية بالبحرين وبعض دول المنطقة، وعن تجارب الفنانين الغربيين. لكن لا يوجد لدي شيء أحسد عليه، نظراً لارتباطي بالدراسة الجامعية لفترة طويلة، حيث درست دبلوم الهندسة ومن ثم بكالوريوس التاريخ، بالإضافة إلى بعض القراءات الأدبية والشعرية التي كنت أميل لها كثيراً، فكنت أربط بعض المواضيع التي أدرسها أو أقرأها بالرسم؛ ففي فترة دراستي هندسة الديكور العام 2004 طرحت موضوعاً يحاكي الأسواق والأحياء الشعبية وعمارتها، كذلك أوظف الحبكة القصصية الشيقة في غموض بعض الأعمال.
* ماذا عن التفاعل الثقافي بينكم كتشكيليين؟
- يبدو أن التفاعل ضئيل جداً بين الفنانين مع بعضهم، وإمكان التعرف على الآخر؛ لا يرتقي إلى الشيء المطلوب من حجم تبادل المعرفة والتعرف عن قرب. ويعود ذلك برأيي إلى العناصر التي تدخل دون نضج في المعرفة وتستمر أيضاً في السطحية، لتختلط الأوراق مع بعضها دون فرز الجيد من الرديء، خصوصاً وأن كثيراً من الفنانين يلتزمون الصمت.
لقد جلست مع فنانين من أجيال مختلفة وتحدثت معهم؛ لكن التبادل يكون عقيماً أكثر الأحيان، وإن جاء بفائدة محدودة، لكن ذلك لا يجعلني أقول إنه لا علاقة ثقافية عند الفنانين، لكنها علاقات للأسف، لا ترقى إلى مستوى العلاقة الثقافية المتينة، التي تشعرك بأنك موجود بالفعل في نطاق دائرة ثقافية تستطيع أن تعطيك شيئاً يثريك، ويضاف إلى رصيدك المعرفي.
ركود عالمي
* هل ترى أن الفن التشكيلي في البحرين تراجع؟
- لا أعتقد بتراجع الفن البحريني، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار؛ ما وصل إليه في الأعوام السابقة، ربما توقف عند حد معين أو أخذ في تطور بسيط جداً والتكرار، لكن ما يجعلنا ننظر له على أنه تراجع؛ هو الحركة الفنية التي أخذت بالركود بشكل واضح في العالم، وظهور كثير من المتطفلين، مما جعل لخلط الأوراق أثر سلبي.
علينا أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار أن عدد الفنانين في الجيل الأخير؛ كان قليلاً جداً، لكن في الجيل اللاحق ظهرت على السطح تجارب مختلفة كسرت التكرار، وبما أن العدد الجديد قليل، أخذ بعين الاعتبار هذا الأمر وهو بطء الحركة التشكيلية، قياساً بالعقود السابقة؛ التي كانت ساحة ساخنة وحركة نشطة، بدءاً بالستينات قبل أن تكون هناك جمعيات رسمية، ووصولاً إلى تأسيس أسرة هواة الفن والأدب، وبعدها جمعية البحرين للفن المعاصر الأولى في الخليج في العام 1971، وكذلك مشاركة الرواد في معرض “كريفن كراريز” الذي يعد الأول على مستوى المنطقة، ويعرض في أكثر من دولة، حيث برز الفنان حسين السني حينها بعمل القلاف. وجميع تلك العوامل النشطة تعطي صورة مختلفة عن حركة بطيئة، كانت نشيطة في السابق.
حسن الساري: لا أخشى الرتابة والشخوص العنصر الأقرب لإيصال الفكرة