ما أن وقفت أتأمل في الأعمال المعروضة ضمن معرض مساحة الرواق للفنون «أنا هو الآخر» بمبنى مطعم «بوهيميا» المهجور. حتى توارد إلى ذهني نص للشاعر الفنلندي أونو كيلاس؛ يقول فيه «كنت غريباً، في كل مكان وطئته قدماي. وكانوا يرشقونني بنظرات طويلة. وكنت أبتغي الفرار دوماً؛ من المكان الذي أكون فيه. وحين يمسي لي مأوى؛ فهناك أيضاً أغدو غريباً. ليس لي ثمة أي مكان في العالم أرتاح فيه. ويتلوى في أعماقي رجل كنت أجهله».
إن نصاً مثل هذا صادر عن شاعر قضى في ريعان الشباب بداء السل. تجد له مدلولاً واقعياً في أعمال المعرض. ثمة غربة مع النفس لا مع الناس، لا علاج لها!. يوقعها الفنانون بشواهد عدّة؛ سلّم يفضي إلى الأعلى، كرة بيضاء كبيرة تقف غريبة عنده، جدار يمتلأ بخربشات وألوان لا تناسب بينها، وجوه تتحدى العالم بعبوسها، جدار كبير علقت عليه سياكل «دراجات»، كلمات وألوان تكاد تطبق على وجه مريب وفم يدخن، زاوية متوحشة تمتلأ بكريات سميكة متشابكة.
هكذا تبدو الأعمال المشاركة في المعرض؛ أصداء نفوس غريبة تكاد تقفز من الجدران، تبحث عن ذواتها وسط عالم مضطرب، مستعينة بالطفولة حيناً وبالعبث والجنون أحياناً أخرى. كونها ثيمات لا تعترف بقانون. لا يلجأ إليها التشكيليين لوحدهم، بل هي أثيرة لدى جميع الفنانين والشعراء.
26 تشكيلياً لم يجدوا سبيلاً للتعبير عن ذواتهم سوى العبث. باحثين من خلاله عن معنى أسمى، ربما يتفتق عن دواء يعالج الغربة التي تنهش صدورهم. وتعيدهم إلى الأشياء في بساطتها. بدلاً من الوجوه التي يكسوها الألم؛ أصحابها على جرف هار، ينتظرون الموت ببطء، يعلمون أن الحياة مظلمة لا تترك فرصة للسعادة، لكنهم يقاومون في صبر. إنها وجوه تبعث على الشفقة، اختارها الفنان كمعادل واقعي للطفولة، كي لا يأخذ به الماضي إلى البعيد، فينسى أنه يستعيد الطفولة ولا يعيشها واقعاً. إنها وجوه تذكّرنا بأعمال لكبار الرسامّين العالميين، شغلتهم الغربة فحاولوا تفسيرها.
حاول الفنانون في هذا المعرض، الوقوف في منطقة وسطى، بين طفولة جميلة وحياة قلقة، لا طمأنينة فيها، باحثين عن مكانهم ومستقرّهم. فهل نجحوا في ذلك؟ ليس بمقدور الفنان الانعتاق من الغربة؛ كيف وهو أداته الرئيسية التي يصنع منها نماذجه وأشكاله!. عندما ينسلخ الفنان من غربته يتحوّل ما ينتجه إلى جماد لا حسّ فيه، لا يلفت نظر المتأمل، ولا يحرك في نفسه شيئاً. وتلك ضريبة يجب أن يدفعها الفنان، فكلما زاد إحساسه بالغربة؛ كلما نفث في المتلقي ناراً لا يخمد أوارها. أنظر مثلاً إلى الجدار الذي صفّت عليه الدراجات، ستجده جدارا يشفّ عن غربة وحنين إلى الهدوء. وإن كان من شي ينقصه فتركه مساحات من الفراغ بين الدراجات، كان يمكن استغلالها بصورة أفضل. ولا أعلم هل تعمّد الفنان وضع الدراجة قرب النافذة، أم جاءت عرضاً؟! لكنها أضافت شيئاً لما يريد التعبير عنه؛ فان تعلّق الدراجة بالنافذة بمثابة تعليق الأمس بالمستقبل. الدراجة ترمز إلى الطفولة، بينما ترمز النافذة إلى الحلم. وبين هذا وذاك، نرى الفنان يبحث عن ذاته، محاولاً الانعتاق من غربته.
معرض «أنا هو الآخر» تنظّمه مساحة الرواق للفنون بالتعاون مع جمعية الضيافة وأصحاب المطاعم وبدعم من مجلس التنمية الاقتصادية ضمن فعالية «ألوان 338»، بالتزامن مع سباقات الفورمولا واحد التي تستضيفها المملكة.
«أنا هو الآخر».. غربة تحنّ إلى طفولة تكاد تقفز من الجدران
إن نصاً مثل هذا صادر عن شاعر قضى في ريعان الشباب بداء السل. تجد له مدلولاً واقعياً في أعمال المعرض. ثمة غربة مع النفس لا مع الناس، لا علاج لها!. يوقعها الفنانون بشواهد عدّة؛ سلّم يفضي إلى الأعلى، كرة بيضاء كبيرة تقف غريبة عنده، جدار يمتلأ بخربشات وألوان لا تناسب بينها، وجوه تتحدى العالم بعبوسها، جدار كبير علقت عليه سياكل «دراجات»، كلمات وألوان تكاد تطبق على وجه مريب وفم يدخن، زاوية متوحشة تمتلأ بكريات سميكة متشابكة.
هكذا تبدو الأعمال المشاركة في المعرض؛ أصداء نفوس غريبة تكاد تقفز من الجدران، تبحث عن ذواتها وسط عالم مضطرب، مستعينة بالطفولة حيناً وبالعبث والجنون أحياناً أخرى. كونها ثيمات لا تعترف بقانون. لا يلجأ إليها التشكيليين لوحدهم، بل هي أثيرة لدى جميع الفنانين والشعراء.
26 تشكيلياً لم يجدوا سبيلاً للتعبير عن ذواتهم سوى العبث. باحثين من خلاله عن معنى أسمى، ربما يتفتق عن دواء يعالج الغربة التي تنهش صدورهم. وتعيدهم إلى الأشياء في بساطتها. بدلاً من الوجوه التي يكسوها الألم؛ أصحابها على جرف هار، ينتظرون الموت ببطء، يعلمون أن الحياة مظلمة لا تترك فرصة للسعادة، لكنهم يقاومون في صبر. إنها وجوه تبعث على الشفقة، اختارها الفنان كمعادل واقعي للطفولة، كي لا يأخذ به الماضي إلى البعيد، فينسى أنه يستعيد الطفولة ولا يعيشها واقعاً. إنها وجوه تذكّرنا بأعمال لكبار الرسامّين العالميين، شغلتهم الغربة فحاولوا تفسيرها.
حاول الفنانون في هذا المعرض، الوقوف في منطقة وسطى، بين طفولة جميلة وحياة قلقة، لا طمأنينة فيها، باحثين عن مكانهم ومستقرّهم. فهل نجحوا في ذلك؟ ليس بمقدور الفنان الانعتاق من الغربة؛ كيف وهو أداته الرئيسية التي يصنع منها نماذجه وأشكاله!. عندما ينسلخ الفنان من غربته يتحوّل ما ينتجه إلى جماد لا حسّ فيه، لا يلفت نظر المتأمل، ولا يحرك في نفسه شيئاً. وتلك ضريبة يجب أن يدفعها الفنان، فكلما زاد إحساسه بالغربة؛ كلما نفث في المتلقي ناراً لا يخمد أوارها. أنظر مثلاً إلى الجدار الذي صفّت عليه الدراجات، ستجده جدارا يشفّ عن غربة وحنين إلى الهدوء. وإن كان من شي ينقصه فتركه مساحات من الفراغ بين الدراجات، كان يمكن استغلالها بصورة أفضل. ولا أعلم هل تعمّد الفنان وضع الدراجة قرب النافذة، أم جاءت عرضاً؟! لكنها أضافت شيئاً لما يريد التعبير عنه؛ فان تعلّق الدراجة بالنافذة بمثابة تعليق الأمس بالمستقبل. الدراجة ترمز إلى الطفولة، بينما ترمز النافذة إلى الحلم. وبين هذا وذاك، نرى الفنان يبحث عن ذاته، محاولاً الانعتاق من غربته.
معرض «أنا هو الآخر» تنظّمه مساحة الرواق للفنون بالتعاون مع جمعية الضيافة وأصحاب المطاعم وبدعم من مجلس التنمية الاقتصادية ضمن فعالية «ألوان 338»، بالتزامن مع سباقات الفورمولا واحد التي تستضيفها المملكة.
«أنا هو الآخر».. غربة تحنّ إلى طفولة تكاد تقفز من الجدران