في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الأمين بن إسماعيل يوشع المفرجي [بنياميم بن يشمعيل يهوشع همرحيبي، ١٩١٨-٢٠٠٥، من مسنّي حولون] بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي نقلها بدوره إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٢-١٢٤٣، ١٦ تموز ٢٠١٧، ص. ٤٣-٤٦. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”أيُمكن العيش بدون ماء؟
يشكو الناس في حيّنا الحولوني من أنّّه منذ أن وُصلت مدينة حولون بالناقل الوطني/هموڤيل هأرتسي وانقطع الناس عن نشل الماء من الآبار، لم تصبح المياه عديمة المذاق فحسب، بل يكون تيّار الماء في ساعات معيّنة ضعيفًا لدرجة أنّه لا يقوى على الصعود إلى الطابق الأوّل. قسمًا بالله، إنّ الناس اليوم مدلّلون. عمري سبعون سنة ونيّف في هذه الدنيا ولم يتسنّ لي التعرّف على مدلّلين كهؤلاء.
تُصيبني القُشَعْريرة حينما أقارن هذا الوضع بذلك الذي كان قائمًا عندنا في فترة صباي وشبابي في نابلس. في شبابنا لم تكن هنالك حنفيات. آونتها كنّا نروح لنشل الماء من الحُفر والآبار، نملأ الدِلاء والتنكات بالماء، نضع النير على الكتف وعليه دَلوان وأربع تنكات على الحمار، ونوزّع الماء على بيوت السامريين. إعتاش أبي وأعالنا من هذا الكار.
آنذاك كان الوضع صعبا. أحيانًا، سكنت كلّ الأسرة في غرفة صغيرة، أحيانًا في خيمة أو في تخشيبة. برميل كبير كان بجوار كلّ خيمة، وكنّا نملأه بالماء للغسل والغسيل وشطف آنية المطبخ، والاستخدام كان باقتصاد واعتدال. اليوم، تكفي إدارة الحنفية ليتدفّق الماء البارد أو الساخن بشدّة أو بخفّة وبدون تحديد، بحسب رغبتك على رأسك. إنّها جنّة عدن حقًّا، ناهيك عن أولائك الذين يُثبتون أحواض الجاكوزي حيث الماء الفوّار بغية تدليك أجسامهم الغضّة. في أيّامنا لم نحلُم بهذا، وعن الوضع آنذاك لتعرفوا الفرق فقط، أودّ أن أحكي لكم عن معنى الحياة أثناء مكوثنا على جبل جريزيم في مواسم الأعياد.
ثلاث آبار
في الجبل نشلنا الماء من ثلاث آبار، بئر إسحاق، على اسم أحد أفراد عائلة الدنفي، صاحب أرض البئر؛ بئر البصل التي منها قطفوا البصل الأخضر عندما كانت جافّة والبئر الجنوبية، جنوب قمّة جبل جريزيم على السفح الجنوبي.
نشل الماء لم يكن سهلا. لم يصل الماء دائمًا إلى فوّهة البئر. وفي السنوات شحيحة الأمطار كان الماء يتكدّس في قعر البئر واستعنّا بالفتيان. كنا نربُط الفتى بحبل حول خاصرتيه، وبيده دلو وننزله ببطء إلى قعر البئر. كان يملأ الدلو، يسحب الحبل إلى أعلى، نُفرغة ونُنزله ثانية وهكذا دوالَيْك. كان الفتى يتأرجح في فضاء البئر ويدان قويّتان تمسكان جيّدًا بالحبل لئلا يغرَق الفتى. عملية النشل هذه كانت تستغرق أحيانًا أكثر من نصف يوم. هطول الأمطار الغزيرة لم يمنعنا من النشل. وهذه العملية كانت محفوفة بخطر الموت، إذ بلا ماء لا حياة.
ماء لقربان الفسح
حلّ الربيع، أربعة عشر يوم الحفاظ على القربان. استعدّ أبناء الطائفة لاستقبال أحلى يوم في السنة، يوم القربان. والقربان لا يتمّ بلا الماء، إذ كيف يمكن نتف صوف الخِراف المنحورة؟ وكيف ننظّف جوف الذبيحة من الدم الجمّ؟ وكيف نتطهّر لاستقبال الحفل؟ الحاجة لتوفير الماء كانت ملحّة. خرج الكاهن الأكبر وابناه وابن شقيقه إلى الآبار لجلب الماء. في ذلك الوقت اهتمّ أبناء أسرة الكهنة بتوفير متطلّبات القربان.
الكاهن الأكبر كان توفيق بن خضر (مَتْسليَح بن فنحاس) المعروف بالعربية بأبي واصف، وكنّا نرتجف عند رؤيته ليس خوفًا بل احترامًا وتبجيلًا فائقًا له. رافق الكاهن الأكبر، كما نوّه، ولداه واصف وتقي (آشر وفنحاس) وابن شقيقه عادل بن ناجي (تسديك بن أبيشع) رحمهم الله جميعا. كان الطقس شتويًا قارسًا جدًا ولا مناص من نشل الماء حتّى ولو أثلجت الدنيا. وفي الطريق رافقهم الكاهن الشابّ يوسف بن أبي الحسن (حسده) بن يعقوب، وهو الآن الكاهن الأكبر. بالطبع ألقيت مهمّة النشل الأساسية على الأصغر سنًّا، اللاوي الفتى يوسف ابن ابنة الكاهن الأكبر توفيق أخت ولديه الكاهنين واصف وتقي. ربط الكاهنان الشقيقان خاصرتي الفتى يوسف ثم أنزلاه رويدًا رويدًا إلى بئر إسحاق. مطر غزير بدأ ينهمر على قمّة جبل جريزيم، ومع هذا عرفوا أنّه لا بدّ من إحضار الماء للقربان.
وقف الكاهن الأكبر يراقب عملنا ليتأكّد أنّ كل شيء على ما يُرام. كان الفتى يوسف يتأرجح حول الحبل في فضاء البئر المظلم، أسنانه اصطكّت من برودة ماء البئر والمطر المنهمر من فتحة البئر. أنجز مهمّته بإيمان وإخلاص. إنّه ملأ دلوًا تلو الآخر وتنكة بعد تنكة في حين أن الشقيقين الكاهنين واصف وتقي يسحبان الدلاء والتنكات إلى الأعلى، إلى خارج البئر.
حينما وصلت عملية النشل إلى تمامها صاح يوسف من داخل البئر: إسحبوني وأصعدوني! حتّى الكاهن الأكبر أبو واصف انضمّ للجاذبين، وولداه والكاهن صديق بن ناجي. لفّوا الحبل حول أجسامهم وأخذوا يجذبون الكاهن يوسف من داخل البئر. الحبل كان مبلولًا أملس، انزلقت أيديهم من على الحبل عند جذبهم إيّاه.
يوسف في خطر الموت
للأسف الشديد علق الحبل بشقّ/بنتوء صخرة في البئر، عملية الجذب لم تُجد نفعًا. بقي يوسف معلّقًا في فضاء البئر، يصيح بأصوات مكتومة وكان واضحًا أنه متورّط في مأزق. أرخى الجاذبون الحبل لفكّه من شقّ الصخرة، وفي كلّ إرخاء كان الكاهن يوسف يرتطم مرارًا وتكرارًا بماء البئر البارد كالجليد. تفاقمت مكابدته، فعلى قعر البئر كانت حجارة حادّة خدشت باطني قدميه وسال الدم.
نظرت إلى خمستهم عن بعد، إلى الكاهن الأكبر أبي واصف الذي خارت قواه، ولم يقوَ على الاستمرار بشدّ الحبل مع ولدي ابنيه وابن شقيقه. وكانت كلّ صرخة صادرة عن الكاهن يوسف من البئر بمثابة أمارة خبطة أخرى لجسمه بقعر البئر. أُصيب جسمه بكدمات شديدة. على حين غِرّة رأيت الكاهن الأكبر، أبا واصف، يشير إليّ بإصبعه أن تعال. قال لي، يا بُنيّ لماذا تتأخّر، تعال ساعِدنا في إخراج يوسف من البئر.
هببتُ للمساعدة
كنت على علم لا بأس به بخفايا ضخّ المياه. تقدّمت إلى هناك ورأيت الكاهن يوسف واقفًا على أرضية البئر بعيدًا في الداخل. كيلا ينزلق الحبل من جديد قلت للكاهنين واصف وخضر أن أتولى بمفردي جذب الحبل، وهما يمسكانه بطرفه ويقوّيان جذبي. رويدًا رويدًا، سنتيمتر بعد آخر أخرجت يوسف من البئر. عندما وصلت يده فم البئر شعرت بأنّ قواي قد خارت بالتمام، لا حيل لي أكثر، غادرتني كل روح. مع هذا حافظت على وضعي إذ أنّ أيّ إرخاء منّي معناه إلقاء الكاهن يوسف إلى قعر البئر. ومثل هذا السقوط فيه خطر الموت.
لملمتُ ما تبقّى من قِواي، وطلبت من الكاهن يوسف أن يمُدّ إليّ يده اليمنى، وانحنيتُ على فوّهة البئر. تابع الكاهنان بمسك الحبل لئلا ينزلق مجدّدا. مددت يدي ومسكت راحة يده اليمنى. صرخت نحو الكاهنين: إجذبا شيئًا فشيئًا لأتمكّن من قبض يده اليسرى أيضا. جرّة حبل أخيرة وإذا بيوسف الكاهن خارج البئر العميقة، لم أقدر على التفوّه بأيّ صوت. الجهد الجهيد أنهك قواي بالكامل. استلقيت على فم البئر خائرَ القِوى، منهَكا.
ربَّت الكاهن الأكبر أبو واصف على كتفي مباركًا إيّاي بتحيّة عافاك الله. قال لي إنّه لن ينسى صنيعي هذا. وبعد أن تعافيت حمّلنا جميعًا الدِّلاء وتنكات الماء على أكتافنا وتوجّهنا إلى المخيّم حول مكان المذبح.
”يوسف“، قال الكاهن الأكبر توفيق لحفيده - ”لا تنسَ مرافقتنا بعد غد لنشل الماء ثانية“ - كظم الكاهن الأكبر ابتسامته. ونحن جميعا انفجرنا بالضحك، والكاهن يوسف معنا. إذا ظننتم أنّه لم يقم بنفس المهمّة ثانية آلاف المرّات فإنّكم يقينًا مخطئون. إنّه كان يقوم بنشل الماء مرّة تلو الأخرى.
والآن اسمحوا لي، قصتي وصلت إلى تمامها وعليّ سقي المرجة (العشب الأخضر) حالًا قبل أن تصفرّ من الجفاف. “
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”أيُمكن العيش بدون ماء؟
يشكو الناس في حيّنا الحولوني من أنّّه منذ أن وُصلت مدينة حولون بالناقل الوطني/هموڤيل هأرتسي وانقطع الناس عن نشل الماء من الآبار، لم تصبح المياه عديمة المذاق فحسب، بل يكون تيّار الماء في ساعات معيّنة ضعيفًا لدرجة أنّه لا يقوى على الصعود إلى الطابق الأوّل. قسمًا بالله، إنّ الناس اليوم مدلّلون. عمري سبعون سنة ونيّف في هذه الدنيا ولم يتسنّ لي التعرّف على مدلّلين كهؤلاء.
تُصيبني القُشَعْريرة حينما أقارن هذا الوضع بذلك الذي كان قائمًا عندنا في فترة صباي وشبابي في نابلس. في شبابنا لم تكن هنالك حنفيات. آونتها كنّا نروح لنشل الماء من الحُفر والآبار، نملأ الدِلاء والتنكات بالماء، نضع النير على الكتف وعليه دَلوان وأربع تنكات على الحمار، ونوزّع الماء على بيوت السامريين. إعتاش أبي وأعالنا من هذا الكار.
آنذاك كان الوضع صعبا. أحيانًا، سكنت كلّ الأسرة في غرفة صغيرة، أحيانًا في خيمة أو في تخشيبة. برميل كبير كان بجوار كلّ خيمة، وكنّا نملأه بالماء للغسل والغسيل وشطف آنية المطبخ، والاستخدام كان باقتصاد واعتدال. اليوم، تكفي إدارة الحنفية ليتدفّق الماء البارد أو الساخن بشدّة أو بخفّة وبدون تحديد، بحسب رغبتك على رأسك. إنّها جنّة عدن حقًّا، ناهيك عن أولائك الذين يُثبتون أحواض الجاكوزي حيث الماء الفوّار بغية تدليك أجسامهم الغضّة. في أيّامنا لم نحلُم بهذا، وعن الوضع آنذاك لتعرفوا الفرق فقط، أودّ أن أحكي لكم عن معنى الحياة أثناء مكوثنا على جبل جريزيم في مواسم الأعياد.
ثلاث آبار
في الجبل نشلنا الماء من ثلاث آبار، بئر إسحاق، على اسم أحد أفراد عائلة الدنفي، صاحب أرض البئر؛ بئر البصل التي منها قطفوا البصل الأخضر عندما كانت جافّة والبئر الجنوبية، جنوب قمّة جبل جريزيم على السفح الجنوبي.
نشل الماء لم يكن سهلا. لم يصل الماء دائمًا إلى فوّهة البئر. وفي السنوات شحيحة الأمطار كان الماء يتكدّس في قعر البئر واستعنّا بالفتيان. كنا نربُط الفتى بحبل حول خاصرتيه، وبيده دلو وننزله ببطء إلى قعر البئر. كان يملأ الدلو، يسحب الحبل إلى أعلى، نُفرغة ونُنزله ثانية وهكذا دوالَيْك. كان الفتى يتأرجح في فضاء البئر ويدان قويّتان تمسكان جيّدًا بالحبل لئلا يغرَق الفتى. عملية النشل هذه كانت تستغرق أحيانًا أكثر من نصف يوم. هطول الأمطار الغزيرة لم يمنعنا من النشل. وهذه العملية كانت محفوفة بخطر الموت، إذ بلا ماء لا حياة.
ماء لقربان الفسح
حلّ الربيع، أربعة عشر يوم الحفاظ على القربان. استعدّ أبناء الطائفة لاستقبال أحلى يوم في السنة، يوم القربان. والقربان لا يتمّ بلا الماء، إذ كيف يمكن نتف صوف الخِراف المنحورة؟ وكيف ننظّف جوف الذبيحة من الدم الجمّ؟ وكيف نتطهّر لاستقبال الحفل؟ الحاجة لتوفير الماء كانت ملحّة. خرج الكاهن الأكبر وابناه وابن شقيقه إلى الآبار لجلب الماء. في ذلك الوقت اهتمّ أبناء أسرة الكهنة بتوفير متطلّبات القربان.
الكاهن الأكبر كان توفيق بن خضر (مَتْسليَح بن فنحاس) المعروف بالعربية بأبي واصف، وكنّا نرتجف عند رؤيته ليس خوفًا بل احترامًا وتبجيلًا فائقًا له. رافق الكاهن الأكبر، كما نوّه، ولداه واصف وتقي (آشر وفنحاس) وابن شقيقه عادل بن ناجي (تسديك بن أبيشع) رحمهم الله جميعا. كان الطقس شتويًا قارسًا جدًا ولا مناص من نشل الماء حتّى ولو أثلجت الدنيا. وفي الطريق رافقهم الكاهن الشابّ يوسف بن أبي الحسن (حسده) بن يعقوب، وهو الآن الكاهن الأكبر. بالطبع ألقيت مهمّة النشل الأساسية على الأصغر سنًّا، اللاوي الفتى يوسف ابن ابنة الكاهن الأكبر توفيق أخت ولديه الكاهنين واصف وتقي. ربط الكاهنان الشقيقان خاصرتي الفتى يوسف ثم أنزلاه رويدًا رويدًا إلى بئر إسحاق. مطر غزير بدأ ينهمر على قمّة جبل جريزيم، ومع هذا عرفوا أنّه لا بدّ من إحضار الماء للقربان.
وقف الكاهن الأكبر يراقب عملنا ليتأكّد أنّ كل شيء على ما يُرام. كان الفتى يوسف يتأرجح حول الحبل في فضاء البئر المظلم، أسنانه اصطكّت من برودة ماء البئر والمطر المنهمر من فتحة البئر. أنجز مهمّته بإيمان وإخلاص. إنّه ملأ دلوًا تلو الآخر وتنكة بعد تنكة في حين أن الشقيقين الكاهنين واصف وتقي يسحبان الدلاء والتنكات إلى الأعلى، إلى خارج البئر.
حينما وصلت عملية النشل إلى تمامها صاح يوسف من داخل البئر: إسحبوني وأصعدوني! حتّى الكاهن الأكبر أبو واصف انضمّ للجاذبين، وولداه والكاهن صديق بن ناجي. لفّوا الحبل حول أجسامهم وأخذوا يجذبون الكاهن يوسف من داخل البئر. الحبل كان مبلولًا أملس، انزلقت أيديهم من على الحبل عند جذبهم إيّاه.
يوسف في خطر الموت
للأسف الشديد علق الحبل بشقّ/بنتوء صخرة في البئر، عملية الجذب لم تُجد نفعًا. بقي يوسف معلّقًا في فضاء البئر، يصيح بأصوات مكتومة وكان واضحًا أنه متورّط في مأزق. أرخى الجاذبون الحبل لفكّه من شقّ الصخرة، وفي كلّ إرخاء كان الكاهن يوسف يرتطم مرارًا وتكرارًا بماء البئر البارد كالجليد. تفاقمت مكابدته، فعلى قعر البئر كانت حجارة حادّة خدشت باطني قدميه وسال الدم.
نظرت إلى خمستهم عن بعد، إلى الكاهن الأكبر أبي واصف الذي خارت قواه، ولم يقوَ على الاستمرار بشدّ الحبل مع ولدي ابنيه وابن شقيقه. وكانت كلّ صرخة صادرة عن الكاهن يوسف من البئر بمثابة أمارة خبطة أخرى لجسمه بقعر البئر. أُصيب جسمه بكدمات شديدة. على حين غِرّة رأيت الكاهن الأكبر، أبا واصف، يشير إليّ بإصبعه أن تعال. قال لي، يا بُنيّ لماذا تتأخّر، تعال ساعِدنا في إخراج يوسف من البئر.
هببتُ للمساعدة
كنت على علم لا بأس به بخفايا ضخّ المياه. تقدّمت إلى هناك ورأيت الكاهن يوسف واقفًا على أرضية البئر بعيدًا في الداخل. كيلا ينزلق الحبل من جديد قلت للكاهنين واصف وخضر أن أتولى بمفردي جذب الحبل، وهما يمسكانه بطرفه ويقوّيان جذبي. رويدًا رويدًا، سنتيمتر بعد آخر أخرجت يوسف من البئر. عندما وصلت يده فم البئر شعرت بأنّ قواي قد خارت بالتمام، لا حيل لي أكثر، غادرتني كل روح. مع هذا حافظت على وضعي إذ أنّ أيّ إرخاء منّي معناه إلقاء الكاهن يوسف إلى قعر البئر. ومثل هذا السقوط فيه خطر الموت.
لملمتُ ما تبقّى من قِواي، وطلبت من الكاهن يوسف أن يمُدّ إليّ يده اليمنى، وانحنيتُ على فوّهة البئر. تابع الكاهنان بمسك الحبل لئلا ينزلق مجدّدا. مددت يدي ومسكت راحة يده اليمنى. صرخت نحو الكاهنين: إجذبا شيئًا فشيئًا لأتمكّن من قبض يده اليسرى أيضا. جرّة حبل أخيرة وإذا بيوسف الكاهن خارج البئر العميقة، لم أقدر على التفوّه بأيّ صوت. الجهد الجهيد أنهك قواي بالكامل. استلقيت على فم البئر خائرَ القِوى، منهَكا.
ربَّت الكاهن الأكبر أبو واصف على كتفي مباركًا إيّاي بتحيّة عافاك الله. قال لي إنّه لن ينسى صنيعي هذا. وبعد أن تعافيت حمّلنا جميعًا الدِّلاء وتنكات الماء على أكتافنا وتوجّهنا إلى المخيّم حول مكان المذبح.
”يوسف“، قال الكاهن الأكبر توفيق لحفيده - ”لا تنسَ مرافقتنا بعد غد لنشل الماء ثانية“ - كظم الكاهن الأكبر ابتسامته. ونحن جميعا انفجرنا بالضحك، والكاهن يوسف معنا. إذا ظننتم أنّه لم يقم بنفس المهمّة ثانية آلاف المرّات فإنّكم يقينًا مخطئون. إنّه كان يقوم بنشل الماء مرّة تلو الأخرى.
والآن اسمحوا لي، قصتي وصلت إلى تمامها وعليّ سقي المرجة (العشب الأخضر) حالًا قبل أن تصفرّ من الجفاف. “