1. توطئة
مضى زهاء ثلاثة قرون على أولى أشكال تلقي المسرح الغربي من قِبل المثقف المخزني-الديبلوماسي- الفقيه. وهي النواة الأولى لنقد المسرح وتمثُّله في المدونة الرحلية المغربية. ولئن خُلِّد أول لقاء مُدْهش للمغاربة بالمسرح سنة 1682م في لوحة تْروفان (A. Trouvain)، بسبب الضياع الذي حل برحلة الحاج محمد تميم المسماة (كتاب العجائب)[1]، فإن الرحلات السفارية للقرن الثامن عشر نجت من الاندثار، فشكّلت أولى صيغ تلقي المسرح الغربي من لدُن الأنتيليجانسيا المغربية. ولذلك نعتبرها-بامتياز- نواة النقد المسرحي بالمغرب، الذي سيعرف على أيدي الرحالين الديبلوماسيين انعطافات جديدة في بحر القرنين التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
ونحن لا نتوخى من هذه الدراسة مجرد نقل ما التقطته عيون رحالينا المغاربة من غرائب في مسارح الغرب: (وهي صورة من صور حداثة الآخر)، وإنما أساسا رسم ملمح من ملامح فكر حداثي مجهض لمثقفين[2]، بقيت لديهم تلك الغرائب مجرَّد رغائب مع وقف التنفيذ، نظرا لمثبِّطات موضوعية أسهمت في تأبيد نوع من الحُبْسة الحضارية تجاه معالم التحديث والتجديد في المدنية الغربية، وعلى رأسها الفرجة المسرحية.
وهنا يحق لنا أن نتساءل : إلى أي مدى بلغ نُضج قبولهم بالمختلِف والمغايِر خارج دائرة أي نظرة مركزية إثنية قسرية قد تصيبهم بعماء الاستكفاء ولوثة الانكفاء الحضاري؟ وما مبلغ تحكم المنظومة المرجعية الثقافية-بقيمها الدينية والمعرفية والجمالية والأخلاقية-في رسم ملامح المغايَرة الرّكْحية وتلوين معانيها ودلالاتها ورموزها؟ وإجمالا، ما هي كوابح تمثُّل المسرح-كشكل من أشكال الحداثة الغربية- في مخيال أنتيليجانسيا مغربية غريبة الوجه واليد واللسان؟
إن هدفنا هنا-إذن- هو استكشاف طبيعة الوعي بالآخر-من خلال أشكال الفرجة المسرحية الغربية- التي جسدت إحدى أهم الأفكار التحديثية التي تسرّبت إلى نصوص الرَّحالين المغاربة من خلال سلسلة الانتباهات التي طبعت نظرتهم إلى الممثلـ(ة) والنص والجمهور وعناصر التخييل ومختلف مكونات العرض المسرحي والمعمار وطقوس التلقي. وهي انتباهات جسدت وعيا وثروةً معرفيَّةً حداثية مؤسسيْن على ما هو مشوِّق ومفيد وطريف وغريب وعجيب ومُدهش التقطته عيون مصوّبة -على مضض أحيانا، وبِلذة كبيرة في مجمل الأوقات- نحو عناصر التمسرح في ثقافة الآخر.
2- المسرح بين أنوار الحداثة وظلمات العقل
لا شك أن أنوار الحداثة المسرحية غمرت ببهائها وسطوتها بصر الرحالين وبصيرتهم، فانبروا يقطفون من فنونها وأفنانها ما لا يتعارض مع قيمهم الدينية والأخلاقية بغبطة منقوصة. وفي ما يلي استعراض لأهم ملامح الفرجة المسرحية التي استوقفتهم في المجتمعات الغربية :
يعتبر المسرح ملمحا من ملامح المدنية الغربية على المستوى الثقافي. ونظرا لجدته على عين الرحالين المغاربة، نصادف اهتماما مبكرا بخصوصيته غير المألوفة قلبا وقالبا. فمنذ أواخر العقد السادس من القرن الثامن عشر، خط أحمد بن المهدي الغزّال[3] شهادة إعجاب بالمسرح في مدينة المنور Manouar بالديار الإسبانية : "ومن أعجب ما رأيتُ عندهم بُنَيَّة ما ظننتُ في عمرها تسعة أعوام، وقد أحْيَت الليل كله بالغناء بين أهل الموسيقى، ثم أخذت في الرقص بطريقة غير معهودة عندهم، ثم باشرت عود الطرب بيدها. ولما قضت منه الغرض، أسكتت المعلمين، ثم قامت على قدميها خاطبة في القوم، والكل في غاية الإنصات لها، وجعلت تارة تدمع عينها، وتارة تضرب بيدها على صدرها، وتارة تنقبض وتارة تنبسط. ومما يستغرب منه أيضا أنها تسرد ما تمليه على القوم بسرعة، ولم يصحبها توقف ولا تلجلج. واستمرت على تلك الحالة ما يقرب من ساعة. فكشْف الغيب أن ما كانت تحدث به، هو محفوظ من كتاب عندهم كالعنترية وهم يسمونه بالكوميديا. والكوميديا عبارة عن دار هي محل جمعهم للنزهة والفرجة، يجتمع فيها الرفيع والوضيع من قرْب المغرب إلى نصف الليل على التأييد. وللدار طبقات عديدة ومقاعد مطلة على صحن الدار، ولا تجد المرأة ولا بُنية بهذا المحل إلا وبيدها كراسة من الخرافة التي هي على ظهر قلب هذه المحدث عنها"[4].
وإذا كانت "الكوميديا" في مخيال رحالتنا شيء قريب من "العنترية"، فهذا ضرب من تكييف الحداثة مع التراث، حتى يتم تبرير الانبهار بهذا المكون الثقافي الغربي من خلال الشبيه والنظير. لكن ما لا شبيه له ولا نظير هو ما وقف عليه في الجزيرات من غناء ورقص للرجال مع النساء. لذلك تراه بعد أن فرغ من الوصف يقول: "وانصرفوا عنا. ونحن نحمد الله على نظافة ديننا وطهارته"[5]، رغم استحسانه لأصواتهن التي هي في سمعه "أرق من الرباب"[6] وهو ما يعني أن المتعة فاكهة محرمة إذا اعترضتها لوثة الإيروس[7].
واعتبارا لهذا المنغص نفسه فضل معاصره محمد بن عثمان المكناسي[8] رفض مراودته المتكررة كي يُقبِل على"دار الكميدية"(المسرح) بإسبانيا، فامتنع عن الاستسلام لغواية فن فتنه حدَّ الإعجاب الشديد بطربه ورقصه وخياله: "وشاهدنا من العجب في تلك الدار ما لا يمكن وصفه من أنواع التصاوير والبناآت والحيوانات التي تخيل للناظر كأنها قائمة الذات، ومن آلات الطرب والرقص ما لا يكيّف، فجلست معهم شيئا ما وانصرفت إلى الدار التي نحن فيها"[9]. ومرة أخرى يؤكد هذا الامتناع الأقرب إلى التمنع : "امتنعت من التوجه إليها وراودونا مرارا فأبيت"[10].
ورغم تبدل الوجهة، ظلت رؤية ابن عثمان واحدة. فها هو يؤكد في رحلة له إلى مالطة شدة تعجبه من "تخيلات" "الوبرة" التي يسميها الإصبنيول "الكمدية"، كما يؤكد انبهاره بشكلها الفرجوي، لكن حين تُشرَك بالجسد الأنثوي الراقص، تصبح شَرَكا وجناية[11]: "تقدمت فتاة فافتتحت الغناء مع رجل مناوبة، فأتوا بالإعجاب والإغراب (...) كلما لعبوا أرخوا ذلك الساتر، فيصفر الصافر ويرفع، فيكشف عن أشكال وبناءات مغايرات لما تقدم. وكل ذلك إنما هو تخيلات، ما عدا الآدميين فهم حقيقة. ولو ترى إذ يصنعون البحر، ويستعملون الحرب، فتأتي المراكب في البحر والخيل مُغيرة في البر، لرأيت العجب المبين"[12].
ومن شدة إعجاب الصفار التطواني بالمسرح نراه يعدد مزاياه وفضائله، ويسرد صيغ الفرجة الهادفة التي يتيحها، حتى أننا لننسى معه ذلك التلجلج الذي اعتمل في نفوس سابقيه، بما فيهم رفاعة الطهطاوي[13] الذي مكث حوالي خمس سنوات بالديار الفرنسية. يقول الصفار : "ومن محال فرجاتهم المحال المسماة بالتياترو، وتسمى الكومدية، وتسمى الأوبرة. وهو محل يلعب فيه بمستغربات اللعب ومضحكاته، وحكاية ما وقع من حرب أو نادرة أو نحو ذلك. فهو جد في صورة هزل، لأنه قد يكون في ذلك اللعب اعتبار أو تأديب أو أعجوبة أو قضية مخصوصة. ويكتسبون من ذلك علوما جمة. وبيان شكل هذا المحل، وكيفية اللعب فيه، أنه قبة عالية، وفي جوانبها بيوت: طبقة فوق طبقة، تشرف على محل اللعب. وفي أرضها انحدار، وهي مسطرة بالشوالي والكراسي، صفا أمام صف، ليجلس عليها المتفرجون. وفائدة الانحدار لئلا يحجب من يكون أمام الشخص الذي يكون خلفه، ليأخذ كل واحد حظه من النظر لمحل اللعب. وخارج القبة ميدان كبير، هو محل اللعب. ويسدل على ابتداء ذلك الميدان ستارة ترخى وترفع. فيجلس المتفرجون في تلك البيوت التي في جوانب القبة، وفي أرضها، كل على حسب فلوسه وعطائه. ويجمع اللعابون في الميدان المذكور، ويجلس أصحاب الموسيقى في طرف القبة متصلين بالميدان. ولا يعمر إلا في الليل. ويوقدون في وسط القبة ثريا كبيرة، وجوانبها ثريات صغار. وفي ابتداء ذلك الميدان صفا واحدا من المصابيح، وكلها بضوء اسْبيرِطُوا، الذي يجري في القواديس. ومن عجيب أمره أنه لا ينطفئ ولو نفخت عليه بمنافخ الدنيا (...). فإذا حضر أوان اللعب واجتمع الناس، فتكون الستارة مرخية على ذلك الميدان، فترتفع الستارة، فتبدو في ذلك الميدان صور عجيبة وأشكال غريية: فيصورون البلدان والأشجار والبراري والبحار والسماء والشمس والقمر والنجوم. وكل ذلك رقوم ونقوش في الكواغيط. ولكن لا يشك من رآها أنها حقيقة. ويصورون ضوء الليل والنهار والفجر وضوء القمر تحت السحاب، وغير ذلك. ولا بد أن يكون هناك جواري مزينات بأحسن الزينة وأجمل اللباس، وعسكر وسلطان لابسي الدروع والبيضات، وبيدهم الأسلحة من السيوف والرماح والمكاحل، وغير ذلك. ويلعبون أربع أو خمس لعبات في الليلة. وإذا انقضت اللعبة الأولى أرخوا الستارة المذكورة وغيروا التصوير الذي كان في المرة الأولى، ويصورون تصويرا آخر يوافق اللعبة الثانية، وهكذا في كل لعبة. ثم إن اللعبات عندهم محفوظة معلومة، لا أنهم يخترعونها هنالك. واللعب الذي يريدون أن يلعبوا به يكتبونه في النهار في الكَوازيط، ويذكرون أنهم يريدون أن يلعبوا في المحل الفلاني اللعب للناس، ليقع الإعلام بذلك. ومدار لعبهم على تناشد أشعارهم، والتغني بلغاتهم خصوصا المتعاشقين، فيجعلون واحدا عاشقا، وأخرى معشوقته، ويبرزان للميدان يتناشدان ويغنيان. وتارة تكون المعشوقة راضية عن عاشقها مقبلة عليه، وتارة تبغضه وتعرض عنه. وينشدان لكل حالة ما تقتضيه. وهم الذين يفهمون كلام بعضهم بعضا، عندهم لذة تلك المحاورات والمناشدات أحسن من رؤية التصوير والأعاجيب، لما تشتمل عليه محاورتهم من الرقائق والأدبيات والعلوم الغريبة، والمسائل المشكلة، والأجوبة المسكتة، والنوادر المضحكة، ونحو ذلك. وإذا قصدوا في لعبهم حكاية حرب وقع مثلا، فيصورون السلطان وجيشه وخيلهم وأسلحتهم على ما كانت عليه وقتئذ، والبلد التي وقع الحرب عليها. وقد حضرناهم مرة يلعبون بحكاية حرب وقع باشبيلية، فصوروا اشبيلية وصومعتها وأبوابها ومشاهير أمكنتها، بحيث قال من حضر ممن رأى اشبيلية : هي هذه بعينها. وصوروا، بل جعلوا حقيقة سلطانا وعساكره لابسين زي الوقت الذي كان فيه ذلك الحرب، وزينوا الجواري بلباس ذلك الوقت الذي كان فيه ذلك الحرب، أيضا، وأخذوا في الحرب حتى دخولها. وإذا أرادوا أن يحكوا حال قسيسين مثلا، إذا خلوا أخذوا في اللهو والشرب والطرب، وإذا رأوا الناس أظهروا الخشوع، والإعراض عن رؤية النساء، ونحو ذلك. فيصورون الكنيسة، وسائر ما يكون فيها. ويجعلون بعضا منهم قسيسين، ويلبسون زيهم، ويحضرون آواني الشراب إذا خلوا، فإذا رأوا واحدا، تركوا ذلك، وأخفوه بسرعة، وقاموا إلى الصلاة. وإذا جاءتهم امرأة تتبرك بهم، لا يلتفتون إليها.
وإذا أرادوا أن يحكوا حال فرعون مع موسى عليه السلام، فيصورون البحر، ويجعله يتماوج كأنه حقيقة، وينفلق حتى ينجو منه موسى وأصحابه، وينطبق على فرعون وقومه. وقد رأيناهم مرة صوروا الجنة بقصور وأشجار وأنهار ومنظر حسن. وصوروا ملائكة يطيرون في الهواء بأجنحة بيض، وذلك بأن عمدوا إلى جوار صغار، وجعلوا لهن أجنحة، وربطوا كل واحدة بخيط رقيق لا يبصر، إلا بعد التأمل، يمسكها من أعلاها، وشخص يجريه من فوق، بحيث لا يظهر، وإنما تُرى كأنها تطير بجناحيها في الهواء. وصوروا أمواتا خرجوا من تحت الأرض، وشخصا آخر ابتلعته الأرض، حتى ريء بعد ذلك في الجنة، ويصورون أيضا الطوفان وسفينة نوح.
وقد رأينا مرة موضعا عندهم يسمونه الدّْيُورَمَا، دخلناه نهارا، فصعدنا في درج مظلمة، حتى انتهينا إلى أعلاه، وهو مظلم، إلا أن فيه الضوء من كوة هنالك. وهو على شكل التياترو، فأرخيت الستارة، وجعلوا يجهزون المكان خلفها، فلما رفعت ظهرت كنيسة ذات قبب وسواري وخصص وكانت مضيئة بضوء النهار، أعني بضوء مصور كأنه ضوء النهار. ثم أخذ في النقصان كأنها عشية، والشمس تئول للغروب، حتى ذهب الضوء كلية، واستحكمت الظلمة، فظهر نور خفي، فجعل يكبر وينتشر حتى ظهرت ثريا كبيرة معلقة في وسطها تضيء. وظهر معها في أرض الكنيسة ناس كثيرون يصلون. ولم يكن لهم ظهور قبل ذلك، مع أنه لم يتغير التصوير. وكأن الناس صغارا في رأي العين، فجعلوا يكبرون ويعظمون، ثم أرخيت الستارة، وغير التصوير. فلما ارتفعت ظهرت مدينة عظيمة ذات بناء محكم، وبرج عال مستحكم. ويخرج من خلالها نهر عليه قنطرة عظيمة، وفيه سفينة صغيرة. وفي أعلا المدينة، من جبل إلى جبل، قنطرة أخرى كبيرة، من قناطر الحديد. وحول المدينة أشجار ونبات. فجعل الثلج ينزل عليها، ونحن نرى الثلج نازلا، وهو أبيض مترادف قوي. ونسمع وقعه على السقف فوقنا، بحيث من لم يكن له علم أن ذلك لعب، فلا يشك أنه الثلج حقيقة. فبقي ينزل حتى صار كل شيء أبيض، وكادت أن تتغطى المدينة به، ثم فتر، وجعل يسيل من فوق السطوح، ويجري في الطرق. ثم أرخيت الستارة، وغير التصوير. ثم رفعت، فظهرت مدينة أخرى ذات بناء قديم، فيها قلع وحصون، والناس يظهرون ماشين في أزقتها. ويظهر كأن السماء فوقها مغيمة. فجعل الغيم يشتد، والظلمة تنزل حتى أظلمت. وكانت الظلمة جائية من خلف المدينة، فبمجرد وصولها لها، صرصرت ريح عاتية، ويسمع لها ذوي وصفير، وأخذ المطر ينزل كأمواه القرب. وتكلم رعد عظيم له ذوي من فوقه، ونحن نسمع وقع المطر على السقف كأنه حقيقة. ثم ظهر نور في الأفق خلف المدينة، كأنه الفجر قد طلع، حتى انجلى الضوء، فجعل المطر ينزل ويظهر كأنه ما بين الجبال، له خراطيم عظيمة. وكأنه يجيء إلى المدينة بحر من خلفها، مما انحدر من الجبال، وسال من الأودية، من مياه المطر. حتى كأنه يريد أن يغرق المدينة. ثم أرخيت الستارة وانتهى. وكان هذا كله في نحو ربع ساعة. وكانوا يصورون بذلك الطوفان، لكن لم يكملوه. وتارة يكون لعبهم المذكور برقص تلك الجواري، فيمسكن بأيدي بعضهن بعضا، ويأخذن في رقص عجيب، وتليين أعضائهن، وتثنية معاطفهن، حتى يكاد أن يلتقي فمها بعقبها من خلف، ويقفن على رجل واحدة، ويدخلن في بعضهن بعضا، حتى كأنهن لسن آدميات، وتارة يمسك واحد من الرجال واحدة من تلك الجواري ويتراقصان. وهذه التياترو ليست مجمعا للحرافيش والأوباش، بل يحضرها أكابرهم، وأهل المروءة منهم، ويحضرها الرجل وزوجته وبناته، والرجل وأصحابه. ويجعلها السلطان في داره. وله محل معد لها فيدعو اللعابين والمتفرجين، ويجلس هو وأولاده ونساؤه أولاده وجميع وزرائه وخواصه. وأهل اللعب يلعبون بالرقص والتعاشق، وغير ذلك، وهم ينظرون وينشطون بذلك. ويزعمون أن في ذلك تأديبا للنفوس، وتهذيبا للأخلاق، وراحة للقلب والبدن ليعود إلى شغله بنشاط وقريحة"[14]. وللتوفيق بين الهازل والجاد أو المضحك والمفيد في المسرح، وبالتالي خلق موقف منسجم من هذه الفرجة التي ظاهرها تنكيت وباطنها تبكيت، هرع الصفار إلى السجل التراثي العربي الإسلامي شعره ونثره ليمتح منه ما يلطف من غلواء النفور، وما يشَرعِن افتتانه اللامحدود بالمسرح الغربي. فبعد أن ذكر ما يدعيه الغربيون من فوائد للعب على القلب والبدن والنفس والخُلق، راحت الأمثلة تتناسل في متنه على نحو يقطع دابر الشك بيقين الحكمة وحكمة اليقين:
أَفِدْ طبعك المكدود بالجد راحة = يَجِمّ وعلِّلْه بشيء من المـــزح
وسئل النخعي : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال : نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي. وكان نعيمان الصحابي من أولع الناس بالمزاح، وكان بدريا. قيل : إنه ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكثر المزاح والضحك، فقال : يدخل الجنة وهو يضحك. فمن مزح نعيمان ما روي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جرة عسل اشتراها من أعرابي بدينار، وجاء بالأعرابي إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : خذ الثمن من ها هنا. فلما علم صلى الله عليه وسلم بذلك، قال لنعيمان : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : أردت برَّك ولم يكن معي شيء، فتبسم وأعطى الأعرابي ثمنه. ومر يوما بمخرمة بن نوفل الزهري، وهو ضرير فقال له: قدني حتى أبول: فأخذ بيده حتى أتى به إلى المسجد، فأجلسه في آخر المسجد. فصاح به الناس : إنك في المسجد فقال : من قادني؟ فقالوا : نعيمان. قال : لله علي أن أضربه بعصاي هذه إن وجدته، فبلغ ذلك نعيمانا، فجاء إليه وقال : يا أبا المسور، هل لك في نعيمان؟ قال : نعم، قال : هو ذا يصلي، فأخذ بيده وجاء إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو يصلي، وقال: هذا نعيمان. فعلاه بعصاه، فصاح الناس : أمير المؤمنين، فقال : من قادني؟ فقالوا : نعيمان. قال : والله لا تعرضت له بسوء بعدها.
وقال عطاء بن السائب رضي الله عنه : كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا، وربما لم يقم حتى أنه يضحكهم ويبسط آمالهم. فمن لطائفه ما حكى أنه بعدما فرغ من سُعَادِه، قال : سمعت الناس يتكلمون بالتصحيف، وكنت لا أعرفه، فوقع في قلبي أن أتعلمه، فدخلت سوق الكاتبين، واشتريت كتابا في التصحيف. فأول شيء رأيت فيه سكباج تصحيفه نيك تاج، فحلفت لا أشتغل به بعدها، فضحك الناس من قوله حتى غشي عليهم"[15].
وفي سنة 1860م لم يترك العمراوي بدوره مادة حجاجية يسند بها تعلقه بالمسرح الفرنسي إلا وأثبتها. من ذلك انطواء الهزليات على مسائل الجد : (أهمها : التربية، التهذيب، التعليم، الاعتبار...) كما رجح ذلك عقل راجح وذوق حجة هو رفاعة الطهطاوي وطبقة الحكماء والأطباء. بل أكثر من ذلك سارع إلى التوفيق بين ظاهرة المسرح لدى الغرب، ومألوف المرويات في المغرب كالأزلية والفداوية. وإليك شهادة الرجل واستشهاداته : "ومن المحال المعدودة عندهم للتفرج فيها (الكمديات): وهي عبارة عن محال عندهم يلعبون فيها بأنواع من اللعب : من ركوب على الخيل وطيران في الهواء، وقلب الأعيان، والغناء والرقص، وحكايات الأخبار والأشعار بلغتهم، والمحاجّاة والأسئلة والأجوبة، ونصب مجالس يحاكون بها مجالس الحكام والوزراء، وذكر مساوي في الناس، وغير ذلك. وهذه مسائل هزليات، لكنهم مغرمون بها كل الغرام، ومولعون بها كل الولوع. ويعطي الداخل لتلك المحال دراهم معتبرة لكل رأس لرؤية ذلك. ويدخلها جميع الناس من مرؤوس ورئيس ورفيع وخسيس حتى الوزراء والحكام. وفي كل كمدية محل مختص يقولون أنه محل السلطان وزوجته بأنه ربما يدخل لها في بعض الأحيان، على أن لهم كمدية مخصوصة يلعب فيها بكل تلك الأشياء. فمهما أراد نوعا من تلك اللعبات استدعى أهله يلعبونه أمامه، ويسمونها الكمدية السلطانية. وكنت أضحك من ذلك وأعده من جملة المزاح الذي لا يعبأ به ولا يؤبه له، وأنه ليس من الجد في شيء حتى وقفت على كلام الشيخ رفاعة المصري في رحلته، حاصلُه أنها أمور جدية في صفة الهزل. أما ركوب الخيل وإجراؤها والتوتب عليها والطيران في الهواء، فغير خاف تعلقها بالجد من كل الوجوه؛ وأما الغناء والرقص، فإنه مما يريح القلب من تعب الكد، وينفس على الخاطر من تعب التدبير. وقد ذكر الحكماء والأطباء أن للغناء أثر في النفوس والأرواح، حتى أن بعض الآلام يبرئها سماع الغناء وآلة الطرب؛ أما الحكايات والأشعار، فإنها تهذب الأخلاق، وتظهر عجائب الدهر، وتحمل على الاعتبار بمن تقدم، وتشجِّع وتعلم مكايد الحروب، وترتيبات النزول والنهوض في بلاد الحرب وغير ذلك. وقد بلغنا أن مولانا إسماعيل نضر الله وجهه كان يكتب نسخا عديدة من الحكايات المعروفة بالفداوية والأزلية ويفرقها في جيشه وكبراء عسكره. وقصده بذلك ما فيها من مكائد الحروب، وكيفية نزول المحلات، وبدء المحاربة، وعقد الصلح والمهادنة، وترتيب الشروط، وتعلم الإقدام والمخاطرة، وإدراك المراتب بالمزايا، مع ما فيها من إعانة العسكر على السهر للحراسة وغير ذلك. وكنا نسمع أن من لم يحفظ فصولا من الفداوية فليس من عبيد سيدي البخاري الأحرار. وأما المحاجاة والأسئلة والأجوبة، فإنها تحد الذهن وتذكي العقل وتعلم الصغار التحيل في الكلام واختيار ما يقوله وما يدعه. وهذا الأمر له أثر في أدب الرجل. ونرى بعض الناس يظل النهار جالسا أمامك لا يتكلم، فإذا تكلم ضحك جلساؤه منه. وقديما يقال: إن العقول تنمو للاستمداد وأن الطباع تسرق الطباع. وأما ما يفعلونه فيها من نصب مجالس يحكون فيها مجالس الحكام والوزراء، فإن لها أثرا كبيرا في ردع رؤساء الدولة واحتياطهم في أحكامهم وتأنيهم في قضاياهم خشية أن ينقل عنه ما يشين في تلك المجامع الكبيرة ويفضح عرضه فيها. وكذلك ذكر المساوي التي تصدر عن بعض الأعيان، ذِكْرها هناك مما ينبه أمثالهم لئلا يقع في مثلها"[16]. وعلى الرغم من هذه المزايا كلها التي يتيحها المسرح، يأتي عائق الطبع والذوق والخُلق واللسان ليرجح كفة فرجة السيرك على فرجة "الكمديات" : "وقد عرضوا علينا الذهاب لبعض الكمديات، فاعتذرنا في واحدة فيها الغناء والرقص بأن الغناء لا نفهمه وما لا نفهمه يثقل علينا سماعه، وبأنه يحرم علينا في ديننا النظر إلى النساء التي يرقصن. وفي أخرى فيها المحاجاة والأسئلة والأجوبة بأنها بغير لغتنا، فلا فائدة في حضورنا فيها. وتوجهنا لاثنين : الأولى فيها لعب الخيل. فرأينا فيها عجائب. وصفتها قبة كبيرة دائرة بصفوف من الكراسي بعضها أعلى من بعض مثل الدرج إلى أعلاها، ووسطها فارغ مستدير متسع فيجلس الناظرون على تلك الكراسي بحيث لا يحجب بعضهم بعضا عن النظر إلى وسطها ويفتحون بابا يخرجون منه إلى ذلك الوسط بلعبة يلعبونها حتى تكمل وترجع ويخرجون غيرها إلى التمام. وأول ما أخرجوا هناك رجلا راكبا على فرس أنثى يجريها في وسط تلك الدائرة فتجري أشد الجري، دائرة مثل الدابة التي تدير الرحى، وأوقفوا له في طريقه بابا من عود في طولها أزيد من قامة إنسان، فأجرى تلك الفرس حتى وصلتها فوثبت ومرت من فوقها ولم يمسسها منه شيء؛ ثم الثانية أوقفوا ما بين متحاديين وجعلوا بينهما قدر الدراع فلما وصلتهما وثبت ومرت من فوقهما كالأولى؛ ثم في الثالثة جعلت ثلاثة أبواب الوسطى زائدة عليهما بنحو الدراع، وبين كل واحدة منهما نحو الدراع، فلما وصلتها وثبت ومرت فوقها كالأولين. وذلك من أعجب ما رأينا حتى ظن بعضنا أن ذلك من قلب الأعيان وليس بحقيقة، إلا أن راكب هذه الفَرَسَة في المرة الثالثة صرع على وجهه فما حسبنا أنه يعيش بعدها"[17]. ومع ذلك، فحتى هذه الفرجة براءتُها خُلَّب، والمؤمن دائم التحوط من الدنيوي السرابي الفاني والغرّار على حد تعبير العمراوي نفسه بضمير الغائب : "كان لا يطلق عنان القلم في تفاصيل ما احتوت عليه هذه المدينة من الزينة مخافة" الإكثار من مدح العاجل المضل. وما تم إلا زخارف الحياة الدنيا وبهرجتها وسرابها الزائل وترَّهتها، ولكن في الاطلاع على هذه الأمور ومعرفتها معرفة قدر نعمة الله على المؤمنين بتخليصهم من فتن الافتتان بزينتها والاغترار بعَرضها الفاني الموجب للإعراض عن الله تعالى مع تحقق مصير هؤلاء إلى غضب الله وعذابه المقيم"[18].
ونجد الغسال بدوره أَمْيَل إلى فرجة السيرك، فأفاض فيه الحديث، ضاربا صفحا عن فرجة "الطيطر" أو "الطيطروس"، لأنه يفضح غربة اللسان والجَنان : "ذهبنا للطيطر المسمى باليس (Place) وهو عبارة عن محل الفرجة فرأينا فيه من عجائب اللاعبين السامرين ما لا يسع بيانه. ومن ذلك، لعب صبيان (الجابون) فرأينا صبيا منهم سداسي السن يرتفع في الهواء والآخر مستلق على ظهره يلقاه ويرفعه برجله كلما نزل من الهواء على كيفية بحيث لا ينزل مرة خارجا عن قدمي المستلقي، إلى غير ذلك من أنواع اللعب التي تحير العقل وتتعب النظر. والقاعدة عندهم في الطيطروس أن مريد الدخول إليه يشتري تقييدا متضمنا لجميع أنواع اللعب تلك الليلة المهيئة ليكون الإنسان متهيئا لها على الإجمال قبل الشروع فيها... ذهبنا للطيطر والمسمى أنباير ورأينا فيه من العجائب والغرائب ما لا يكيف، وقدر ما كان فيه من المتفرجين نحو ثلاثة آلاف نسمة"[19].
وعلى الرغم من أن محمد بن الحسن الحجوي قد آمن بسرِّ هذا المسرح الغربي الذي هو-في نظره- رواية خيالية مهمة أقرب إلى "مقامات الحريري"، فيها فوائد ومقاصد أخلاقية تهذيبية لها صلة بالعشق والعفة والفضيلة والكرم والشجاعة، إلا أنه كان في وضع تبكيتي شبيه بوضع نائحة مأجورة استُجلبت للبكاء في مأتم لا صلة لها به؛ وهذا حال غريب اللسان والذوق والحركات المألوفة المغايرة للعوائد الفرنساوية والأخلاق الأوربية. ولولا ما شابهُ من كلام بذيء وتهييج وحمل على التهتك والفجور والبذخ والإسراف والمروق عن الدين والحرية المطلقة الزائدة عن اللزوم، لكان في تصوره أحسن المدارس التهذيبية. لكن أنى له بمسرح في قالب إسلامي أخلاقي لا يخالف الطبع والعقل والشرع! ومع ذلك فإحساسه بجلال المسرح وقيمته في المجتمع الغربي، ونهوضه دليلا على منتهى التفنن والتمدن والرفاهية، جعله يعرج من الحديث عن طبيعة النصوص الممثَّلة إلى وصف فخامة البناية وذكر ما تصرفه الدولة من أموال باهضة على تكاليفه. يقول الحجوي : "وفي الليل استدعونا لحضور تمثيل رواية مهمة في ملهى الأوبرا الشهير في العالم، الذي هو بقرب منزلنا، فحضرها بعض الأعضاء وكنت من جملتهم. أما الرواية التي مُثلت، وما فيها من الفوائد، فذلك شيء ليس هو ذوقنا، بل لا نستفيد منه شيئاً لعدم معرفتنا جميعاً بلغة أهله، وعدم ملاءمته لمألوفاتنا وحركاتنا حتى أن الجنرال موريال، حاكم الرباط، الذي كان مرافقاً لوفدنا ومكلفاً بشؤونه قال لي : إن الناس يصفقون عند تمام الرواية فمن المناسب أن تصفقوا، فامتثلنا وكنت أُصَفِّقُ من غير أن أفهم لأي شيء صفقتُ، ولا أدري ما استحسنْتُ، لأن التصفيق دليل الاستحسان عندهم، فكنتُ كنائحة مأجورة تتفعَّل البكاء وليست باكية. نعم إن الملهى المذكور من أعجب ملاهي العالم وأفخمها.
وقد دخلنا للمحل الذي يكون فيه الممثلون مختبئين والآلات التي تكون معهم، فكانوا في تلك الليلة ينيفون على المائتين. وأما المتفرجون فإن الملهى يسعُ منهم عدداً كبيراً، والقبة التي يجلس بها المتفرجون آية في بابها عزَّ أن يكون لها نظير من نوعها، كذلك الصالون الذي يخرجون للاستراحة فيه.
ويكفيك إجلالاً في وصف هذا الملهى أنه تكلف على الدولة بثلاثين مليوناً من الإفرنك، وفي درجه وداخله صور رجال التمثيل والتأليف في فن الروايات، وهو عندهم عِلم مهم ولرجاله شهرة، وإن كانت الرواية لا حقيقة لها كـ"مقامات الحريري"، ولكن يأتون بها لمقاصد مهمة أخلاقية تهذيبية. فروايةٌ يمثلون فيها العشق، وأخرى يمثلون فيها العفة، وأخرى الفضيلة، وأخرى الكرم، وأخرى الشجاعة، فيكون ذلك تكميلاً لمحاسن الأخلاق يفهمه مَن يعرف اللغة ومارَس العوائد الفرنساوية والأخلاق الأوربية.
إلا أن المنتقِد له أن ينتقد أموراً لا تُناسب الأخلاق العالية، كالتكلم بِكلمات بذية سفيهة، والرجل هناك يحضر ومعه أخوه وولده ووالده، وفيه ما يهيج شبَق النفس للخَنا وارتكاب الفواحش وغيرها، فلو خلا عن هذه الأمور، لكان من أحسن المدارس التهذيبية ولكن {قد علِم كلُّ أناس مَشربهم}[ البقرة، الآية 59 ]. وعلى كل حال آمنتُ بالسر الذي فيه ولا أقول به، ولا أرى وجهاً له في الشرع الإسلامي ولا في الذوق العربي، وكأني بأهل الغيرة والعفة منهم مُنتقدون لذلك معنا كما ينتقدون كثرة التهتك والبذخ. وتلك نتيجة الرفَهِ الزائد والحرية المطلقة، وعدم التمسك بأهداب الدين، ولا سيما النساء، فقد خلعن ربقة الحياء وتبرجن تبرجاً لا يُتصور فوقه إلا سِفاد الحيوانات في الطرُق جهاراً؛ إلى هذا الحد وصلوا أو قربوا منه، وفَعلوا مقدماته جهراً. فهذا شيء أفسد الأخلاق، ولا تستحسنه الأذواق، ولا يقول به طبع ولا عقل ولا شرع. زد على هذا كثرة البذخ والترف والتظاهر بالغِنى، والفخر بالمال المؤدي إلى إضاعته، وكلما ظهر زيٌّ لبستْه فلانة زوجة فلان إلا وترى ما قبله من الأزياء تُركَ وحَبِطَ عملُه هبَاء، والملاهي والمراقص هي محل استعراض الأزياء وتلقيح هذا الداء، وهذا شيء طبيعي في التمول والترف : كلُّ أمة زاد ترفها إلاّ وزاد سرفها، ولله في خلقه شؤون. حاصله، تفننوا في كل شيء، وبلغوا النهاية في التمدن والرفاهية"[20].
ومرة أخرى يقف عماء التبصر حائلا دون البصر الذي أعشته أنوار "المرسح"[21] (المسرح)، وخطفته الدهشة الإبليسية كما هو حال محمد بن عبد السلام السائح أثناء زيارة الملهى الكبير (كَراند تياتر) سنة 1922: "وألفينا على المرسح عددا كثيرا من الممثلين والممثلات بأقمشة مزركشة وألوان مختلفة قد ضاعفت الأشعة الكهربائية لمعانها فصارت تعشي البصر، وتدهش من حضر. ولهم نشيد ورنين، وللموسيقيين تطريب وتلحين، إلى مطارحة ذكران ونسوان، وأزياء ما أنزل الله بها من سلطان، حتى خيل لي أن أني في عرش بلقيس، أو في عالم الأباليس، فما كان أحرى المقام بقول أبي الطيب :
ملاعبُ جِنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان"[22]
3.أما بعد :
أ-من يتأمل السياق التاريخي والسوسيو-ثقافي لمغرب هذه الفترة المدروسة، يستطيع تفسير وفهم طبيعة تمثلات مسرح الآخر وفق سياقات مؤثرة أطرت النظرة وحكمت الناظر والمنظور إليه. من ذلك طبيعة المجتمع المحافظ وثقافته الكلاسيكية وعاداته وتقاليده العتيقة وظروفه السياسية والاقتصادية المتردية، التي وسمت روح العصر بميسم الهزائم وخيبات مشاريع التحديث. وقد ساهمت كلها في صعوبة التلقي المطلق دون قيد أو شرط لأشكال الفرجة الغربية.
ب ـ تأرجح المثقف بين الانفتاح والانغلاق تجاه المسرح باعتباره مكونا من مكونات الحداثة الغربية التي ظاهرها من قِبله التنكيت، وباطنها من قِبله التبكيت. ولعل في المراوحة بين النفور والميول في تلقي المسرح الغربي، ما يفسر التردد والحذر الذي اعترى رحالينا وهم يتحركون داخل مجالات فرجوية واجهتهم بما ينفع (من عِبَر) وما يعتقدون-انطلاقا من الإبّيستيمي الذي يحكمهم- أنه لا ينفع (من ممارسات ممجوجة، وسلوكات إبليسية لا أخلاقية ومادية وعزوف عن الآخرة). ولربما لهذا السبب لم نكن نصادف الارتماء اللامشروط في أحضان الحداثة المسرحية. الشيء الذي وسم الكتابة الرحلية الغيرية بميسم الحافظ على المسافة الضرورية بين المحافظة والتجديد مهما تقلصت، نظرا لصدور رحالينا عن مرجعية دينية إسلامية لا تفرط- بأي حال من الأحوال- في تجاوز عتبة معينة بين الحداثة والدين. وكل ما تعارض-ظاهرا أو باطنا- مع الشريعة مرفوض مهما بلغت درجة حداثته ومستوى جِدَّته وقدرته على إثارة الدهشة والانبهار. وبقي المسرح-شأنه شأن أي وجه من أوجه التحديث في المجتمع الغربي- عرضة للنخل بغربال الأخلاق والشرع، وإن بقي في أنفسهم شيء منه غير يسير، جعلهم يقطعون نياط القلب بحثا عن أشباهه ونظائره[23] في التراث طمعا في تأصيل حداثة الآخر.
الهوامش والإحالات :
1 ـ أما عن سفارة الحاج محمد تميم المشهورة عام 1682م، فقد احتفظت لنا الصحافة الفرنسية بتقرير مفصل عنها، كما احتفظت لنا الصحافة الفرنسية بتعاليق كثيرة في ذلك العصر. بل لقد وصلتنا لوحة (أنطوان تروفان) (Antoine Trouvain) التي رسمت كتذكار لزيارة السفير وأصدقائه للمسرح لأول مرة، وكم ستكون المقارنة أكثر خصوبة لو عُثِر على تلك المدونة التي زمم فيها الحاج محمد تميم شهاداته عن فرنسا، والمسماة بـ "كتاب العجائب"، والتي يبدو أن (الأب كَودار) (P. Godard) في كتابه "تاريخ المغرب" يعتقد بوجودها. انظر: عبد النبي ذاكر : "الرحلات المغربية إلى أوروبا : مدخل بيبليوغرافي"، مجلة المناهل، ع55، س1997 مطبعة دار المناهل، وزارة الشؤون الثقافية، المملكة المغربية.
[2] ـ مثَّل الأنتيليجانسيا المغربية للفترة المدروسة المثقف المخزني ـ الديبلوماسي ـ الفقيه.
[3] - أحمد بن المهدي الغزال المكناسي المتوفى عام 1771م هو صاحب رحلة : نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد؛ وقد تمت الرحلة بين عامي 1766-1767م، في عهد السلطان أبي عبد الله محمد بن عبد الله، إلى ملك إسبانيا (كارلوس الثالث).
[4] ـ الغزّال، أحمد بن المهدي : نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد، تحقيق إسماعيل العربي، دار الغرب الإسلامي، ط1، لبنان 1980، ص174-175.
[5] ـ المصدر السابق، ص57.
[6] ـ في مدينة خيرز سمع صوت مغنيتين : "جعلتا تغنيان بأصوات حسان ما سمعت ولا رأيت أحسن منهما صورة وصوتا"، نفسه، ص70.
[7] ـ نفسه، ص56.
[8] ـ نعتمد رحلتين ديبلوماسيتين لمحمد بن عثمان المكناسي هما : (الإكسير في فكاك الأسير) إلى كارلوس الثالث سنة 1779م، و(البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد الكافر) إلى مالطة سنة 1781م.
[9] ـ ابن عثمان المكناسي، محمد : الإكسير في فكاك الأسير، تحقيق محمد الفاسي، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965.
10 ـ المصدر نفسه، ص23.
11ـ من النصوص الدالة في هذا السياق : قوله في وصف راقصة "فلما رأيت من أمرها عجبا واتخذت استرقاق مبصرها مذهبا طلب نجاة من شركها ومهربا." ص 34 وقوله : "فخشيت أن أكون ممن جنى بصره على قلبه فيعاقب البريء بذنب غيره."البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد الكافر (رحلة إلى مالطة)، مخطوط الخزانة الحسنية، ص35.
12 ـ المصدر السابق، المخطوط ص33-34.
13 ـ على الرغم من أن الطهطاوي يعتبر المسرح من الأمور الدنيوية، وضربا من » اللهو« و»اللعب« إلا أنه لا يخفي في رحلته: (تخليص الإبريز في تخليص باريز) إعجابه بتفنن الفرنسيين في ما أسماه بـ»التياتر« أو »السبكتاكل«. وهي ضرب من مجالس الملاهي "يلعب فيها تقليد سائر ما وقع. وفي الحقيقة أن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل، فإن الإنسان يأخذ منها عبرا عجيبة، وذلك لأنه يرى فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى وذم الثانية، حتى إن الفرنساوية يقولون إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبها. فهي وإن كانت مشتملة على المضحكات فكم فيها كثير من المبكيات، ومن المكتوب على الستارة التي ترخى بعد فراغ اللعب باللغة اللاطينية ما معناه باللغة العربية : (قد تنصلح العوائد باللعب)." راجع : رفاعة الطهطاوي : تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز، دار ابن زيدون-بيروت، مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة، (د.ت)، ص 134). "ولو لم تشتمل التياتر في فرانسا على كثير من النزعات الشيطانية لكانت تعد من الفضائل العظيمة الفائدة" ص136.
14 ـ ذاكر، عبد النبي : باريز في رحلة الصفار 1845/1846م، العلم،10 يناير 1993، ص4.
15 ـ المصدر السابق، ص4.
16 ـ العمراوي، إدريس بن محمد بن إدريس : تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، تقديم وتعليق زكي مبارك، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع للشمال-طنجة 1989. ص88-89-90.
17ـ المصدر السابق، ص90-91.
18 ـ نفسه، ص92.
19 ـ تحدث الحسن بن محمد الغسال في : الرحلة التتويجية لعاصمة البلاد الإنجليزية؛ عن زيارة "الطيطر" أو "الطيطروس" ص21 المخطوط وفي ص24 عاد للحديث عنه. مخطوط الخزانة العامة بالرباط.
20 ـ الحجوي، محمد بن الحسن، الرحلة الأوروبية، ضمن كتاب سعيد بنسعيد العلوي : أوروبا في مرآة الرحلة، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء 1995، ص130-131.
21 ـ بالقلب المكاني سار المسرح مرسحا.
22 ـ السائح، محمد بن عبد السلام : أسبوع في باريز، مخطوط الخزانة الحسنية، ص6.
23 ـ حاول الرحالة المغاربة تكييف المسرح مع بعض مظاهر التراث العربي كالعنترية والخرافة ومقامات الحريري والفداوية، ضمانا لتقريب فهمه من قبل المتلقي المغربي،الذي لا يتسع أفق انتظاره لمدارك لا قِبَل له بها.
ملحق :
الحاج محمد تميم سفير السلطان المولى إسماعيل في الكوميديا الإيطالية بباريس سنة 1682م من خلال رَوْسَم محفوظ بالخزانة الوطنية. على يسار السفير السيد دو رايمونديس de Raymondis، وعن يمينه حاكم سلا، ثم الحاج عبد القادر حفيد تميم، والمراكشي حفيد حاكم سلا. (انظر: عبد النبي ذاكر: المغرب وأوروبا : نظرات متقاطعة، ط2 مزيدة ومنقحة، 2007)
* نقلا عن
مرآة الغيرية وأسئلة التحديث في الرحلات السفارية المغربية
مضى زهاء ثلاثة قرون على أولى أشكال تلقي المسرح الغربي من قِبل المثقف المخزني-الديبلوماسي- الفقيه. وهي النواة الأولى لنقد المسرح وتمثُّله في المدونة الرحلية المغربية. ولئن خُلِّد أول لقاء مُدْهش للمغاربة بالمسرح سنة 1682م في لوحة تْروفان (A. Trouvain)، بسبب الضياع الذي حل برحلة الحاج محمد تميم المسماة (كتاب العجائب)[1]، فإن الرحلات السفارية للقرن الثامن عشر نجت من الاندثار، فشكّلت أولى صيغ تلقي المسرح الغربي من لدُن الأنتيليجانسيا المغربية. ولذلك نعتبرها-بامتياز- نواة النقد المسرحي بالمغرب، الذي سيعرف على أيدي الرحالين الديبلوماسيين انعطافات جديدة في بحر القرنين التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
ونحن لا نتوخى من هذه الدراسة مجرد نقل ما التقطته عيون رحالينا المغاربة من غرائب في مسارح الغرب: (وهي صورة من صور حداثة الآخر)، وإنما أساسا رسم ملمح من ملامح فكر حداثي مجهض لمثقفين[2]، بقيت لديهم تلك الغرائب مجرَّد رغائب مع وقف التنفيذ، نظرا لمثبِّطات موضوعية أسهمت في تأبيد نوع من الحُبْسة الحضارية تجاه معالم التحديث والتجديد في المدنية الغربية، وعلى رأسها الفرجة المسرحية.
وهنا يحق لنا أن نتساءل : إلى أي مدى بلغ نُضج قبولهم بالمختلِف والمغايِر خارج دائرة أي نظرة مركزية إثنية قسرية قد تصيبهم بعماء الاستكفاء ولوثة الانكفاء الحضاري؟ وما مبلغ تحكم المنظومة المرجعية الثقافية-بقيمها الدينية والمعرفية والجمالية والأخلاقية-في رسم ملامح المغايَرة الرّكْحية وتلوين معانيها ودلالاتها ورموزها؟ وإجمالا، ما هي كوابح تمثُّل المسرح-كشكل من أشكال الحداثة الغربية- في مخيال أنتيليجانسيا مغربية غريبة الوجه واليد واللسان؟
إن هدفنا هنا-إذن- هو استكشاف طبيعة الوعي بالآخر-من خلال أشكال الفرجة المسرحية الغربية- التي جسدت إحدى أهم الأفكار التحديثية التي تسرّبت إلى نصوص الرَّحالين المغاربة من خلال سلسلة الانتباهات التي طبعت نظرتهم إلى الممثلـ(ة) والنص والجمهور وعناصر التخييل ومختلف مكونات العرض المسرحي والمعمار وطقوس التلقي. وهي انتباهات جسدت وعيا وثروةً معرفيَّةً حداثية مؤسسيْن على ما هو مشوِّق ومفيد وطريف وغريب وعجيب ومُدهش التقطته عيون مصوّبة -على مضض أحيانا، وبِلذة كبيرة في مجمل الأوقات- نحو عناصر التمسرح في ثقافة الآخر.
2- المسرح بين أنوار الحداثة وظلمات العقل
لا شك أن أنوار الحداثة المسرحية غمرت ببهائها وسطوتها بصر الرحالين وبصيرتهم، فانبروا يقطفون من فنونها وأفنانها ما لا يتعارض مع قيمهم الدينية والأخلاقية بغبطة منقوصة. وفي ما يلي استعراض لأهم ملامح الفرجة المسرحية التي استوقفتهم في المجتمعات الغربية :
يعتبر المسرح ملمحا من ملامح المدنية الغربية على المستوى الثقافي. ونظرا لجدته على عين الرحالين المغاربة، نصادف اهتماما مبكرا بخصوصيته غير المألوفة قلبا وقالبا. فمنذ أواخر العقد السادس من القرن الثامن عشر، خط أحمد بن المهدي الغزّال[3] شهادة إعجاب بالمسرح في مدينة المنور Manouar بالديار الإسبانية : "ومن أعجب ما رأيتُ عندهم بُنَيَّة ما ظننتُ في عمرها تسعة أعوام، وقد أحْيَت الليل كله بالغناء بين أهل الموسيقى، ثم أخذت في الرقص بطريقة غير معهودة عندهم، ثم باشرت عود الطرب بيدها. ولما قضت منه الغرض، أسكتت المعلمين، ثم قامت على قدميها خاطبة في القوم، والكل في غاية الإنصات لها، وجعلت تارة تدمع عينها، وتارة تضرب بيدها على صدرها، وتارة تنقبض وتارة تنبسط. ومما يستغرب منه أيضا أنها تسرد ما تمليه على القوم بسرعة، ولم يصحبها توقف ولا تلجلج. واستمرت على تلك الحالة ما يقرب من ساعة. فكشْف الغيب أن ما كانت تحدث به، هو محفوظ من كتاب عندهم كالعنترية وهم يسمونه بالكوميديا. والكوميديا عبارة عن دار هي محل جمعهم للنزهة والفرجة، يجتمع فيها الرفيع والوضيع من قرْب المغرب إلى نصف الليل على التأييد. وللدار طبقات عديدة ومقاعد مطلة على صحن الدار، ولا تجد المرأة ولا بُنية بهذا المحل إلا وبيدها كراسة من الخرافة التي هي على ظهر قلب هذه المحدث عنها"[4].
وإذا كانت "الكوميديا" في مخيال رحالتنا شيء قريب من "العنترية"، فهذا ضرب من تكييف الحداثة مع التراث، حتى يتم تبرير الانبهار بهذا المكون الثقافي الغربي من خلال الشبيه والنظير. لكن ما لا شبيه له ولا نظير هو ما وقف عليه في الجزيرات من غناء ورقص للرجال مع النساء. لذلك تراه بعد أن فرغ من الوصف يقول: "وانصرفوا عنا. ونحن نحمد الله على نظافة ديننا وطهارته"[5]، رغم استحسانه لأصواتهن التي هي في سمعه "أرق من الرباب"[6] وهو ما يعني أن المتعة فاكهة محرمة إذا اعترضتها لوثة الإيروس[7].
واعتبارا لهذا المنغص نفسه فضل معاصره محمد بن عثمان المكناسي[8] رفض مراودته المتكررة كي يُقبِل على"دار الكميدية"(المسرح) بإسبانيا، فامتنع عن الاستسلام لغواية فن فتنه حدَّ الإعجاب الشديد بطربه ورقصه وخياله: "وشاهدنا من العجب في تلك الدار ما لا يمكن وصفه من أنواع التصاوير والبناآت والحيوانات التي تخيل للناظر كأنها قائمة الذات، ومن آلات الطرب والرقص ما لا يكيّف، فجلست معهم شيئا ما وانصرفت إلى الدار التي نحن فيها"[9]. ومرة أخرى يؤكد هذا الامتناع الأقرب إلى التمنع : "امتنعت من التوجه إليها وراودونا مرارا فأبيت"[10].
ورغم تبدل الوجهة، ظلت رؤية ابن عثمان واحدة. فها هو يؤكد في رحلة له إلى مالطة شدة تعجبه من "تخيلات" "الوبرة" التي يسميها الإصبنيول "الكمدية"، كما يؤكد انبهاره بشكلها الفرجوي، لكن حين تُشرَك بالجسد الأنثوي الراقص، تصبح شَرَكا وجناية[11]: "تقدمت فتاة فافتتحت الغناء مع رجل مناوبة، فأتوا بالإعجاب والإغراب (...) كلما لعبوا أرخوا ذلك الساتر، فيصفر الصافر ويرفع، فيكشف عن أشكال وبناءات مغايرات لما تقدم. وكل ذلك إنما هو تخيلات، ما عدا الآدميين فهم حقيقة. ولو ترى إذ يصنعون البحر، ويستعملون الحرب، فتأتي المراكب في البحر والخيل مُغيرة في البر، لرأيت العجب المبين"[12].
ومن شدة إعجاب الصفار التطواني بالمسرح نراه يعدد مزاياه وفضائله، ويسرد صيغ الفرجة الهادفة التي يتيحها، حتى أننا لننسى معه ذلك التلجلج الذي اعتمل في نفوس سابقيه، بما فيهم رفاعة الطهطاوي[13] الذي مكث حوالي خمس سنوات بالديار الفرنسية. يقول الصفار : "ومن محال فرجاتهم المحال المسماة بالتياترو، وتسمى الكومدية، وتسمى الأوبرة. وهو محل يلعب فيه بمستغربات اللعب ومضحكاته، وحكاية ما وقع من حرب أو نادرة أو نحو ذلك. فهو جد في صورة هزل، لأنه قد يكون في ذلك اللعب اعتبار أو تأديب أو أعجوبة أو قضية مخصوصة. ويكتسبون من ذلك علوما جمة. وبيان شكل هذا المحل، وكيفية اللعب فيه، أنه قبة عالية، وفي جوانبها بيوت: طبقة فوق طبقة، تشرف على محل اللعب. وفي أرضها انحدار، وهي مسطرة بالشوالي والكراسي، صفا أمام صف، ليجلس عليها المتفرجون. وفائدة الانحدار لئلا يحجب من يكون أمام الشخص الذي يكون خلفه، ليأخذ كل واحد حظه من النظر لمحل اللعب. وخارج القبة ميدان كبير، هو محل اللعب. ويسدل على ابتداء ذلك الميدان ستارة ترخى وترفع. فيجلس المتفرجون في تلك البيوت التي في جوانب القبة، وفي أرضها، كل على حسب فلوسه وعطائه. ويجمع اللعابون في الميدان المذكور، ويجلس أصحاب الموسيقى في طرف القبة متصلين بالميدان. ولا يعمر إلا في الليل. ويوقدون في وسط القبة ثريا كبيرة، وجوانبها ثريات صغار. وفي ابتداء ذلك الميدان صفا واحدا من المصابيح، وكلها بضوء اسْبيرِطُوا، الذي يجري في القواديس. ومن عجيب أمره أنه لا ينطفئ ولو نفخت عليه بمنافخ الدنيا (...). فإذا حضر أوان اللعب واجتمع الناس، فتكون الستارة مرخية على ذلك الميدان، فترتفع الستارة، فتبدو في ذلك الميدان صور عجيبة وأشكال غريية: فيصورون البلدان والأشجار والبراري والبحار والسماء والشمس والقمر والنجوم. وكل ذلك رقوم ونقوش في الكواغيط. ولكن لا يشك من رآها أنها حقيقة. ويصورون ضوء الليل والنهار والفجر وضوء القمر تحت السحاب، وغير ذلك. ولا بد أن يكون هناك جواري مزينات بأحسن الزينة وأجمل اللباس، وعسكر وسلطان لابسي الدروع والبيضات، وبيدهم الأسلحة من السيوف والرماح والمكاحل، وغير ذلك. ويلعبون أربع أو خمس لعبات في الليلة. وإذا انقضت اللعبة الأولى أرخوا الستارة المذكورة وغيروا التصوير الذي كان في المرة الأولى، ويصورون تصويرا آخر يوافق اللعبة الثانية، وهكذا في كل لعبة. ثم إن اللعبات عندهم محفوظة معلومة، لا أنهم يخترعونها هنالك. واللعب الذي يريدون أن يلعبوا به يكتبونه في النهار في الكَوازيط، ويذكرون أنهم يريدون أن يلعبوا في المحل الفلاني اللعب للناس، ليقع الإعلام بذلك. ومدار لعبهم على تناشد أشعارهم، والتغني بلغاتهم خصوصا المتعاشقين، فيجعلون واحدا عاشقا، وأخرى معشوقته، ويبرزان للميدان يتناشدان ويغنيان. وتارة تكون المعشوقة راضية عن عاشقها مقبلة عليه، وتارة تبغضه وتعرض عنه. وينشدان لكل حالة ما تقتضيه. وهم الذين يفهمون كلام بعضهم بعضا، عندهم لذة تلك المحاورات والمناشدات أحسن من رؤية التصوير والأعاجيب، لما تشتمل عليه محاورتهم من الرقائق والأدبيات والعلوم الغريبة، والمسائل المشكلة، والأجوبة المسكتة، والنوادر المضحكة، ونحو ذلك. وإذا قصدوا في لعبهم حكاية حرب وقع مثلا، فيصورون السلطان وجيشه وخيلهم وأسلحتهم على ما كانت عليه وقتئذ، والبلد التي وقع الحرب عليها. وقد حضرناهم مرة يلعبون بحكاية حرب وقع باشبيلية، فصوروا اشبيلية وصومعتها وأبوابها ومشاهير أمكنتها، بحيث قال من حضر ممن رأى اشبيلية : هي هذه بعينها. وصوروا، بل جعلوا حقيقة سلطانا وعساكره لابسين زي الوقت الذي كان فيه ذلك الحرب، وزينوا الجواري بلباس ذلك الوقت الذي كان فيه ذلك الحرب، أيضا، وأخذوا في الحرب حتى دخولها. وإذا أرادوا أن يحكوا حال قسيسين مثلا، إذا خلوا أخذوا في اللهو والشرب والطرب، وإذا رأوا الناس أظهروا الخشوع، والإعراض عن رؤية النساء، ونحو ذلك. فيصورون الكنيسة، وسائر ما يكون فيها. ويجعلون بعضا منهم قسيسين، ويلبسون زيهم، ويحضرون آواني الشراب إذا خلوا، فإذا رأوا واحدا، تركوا ذلك، وأخفوه بسرعة، وقاموا إلى الصلاة. وإذا جاءتهم امرأة تتبرك بهم، لا يلتفتون إليها.
وإذا أرادوا أن يحكوا حال فرعون مع موسى عليه السلام، فيصورون البحر، ويجعله يتماوج كأنه حقيقة، وينفلق حتى ينجو منه موسى وأصحابه، وينطبق على فرعون وقومه. وقد رأيناهم مرة صوروا الجنة بقصور وأشجار وأنهار ومنظر حسن. وصوروا ملائكة يطيرون في الهواء بأجنحة بيض، وذلك بأن عمدوا إلى جوار صغار، وجعلوا لهن أجنحة، وربطوا كل واحدة بخيط رقيق لا يبصر، إلا بعد التأمل، يمسكها من أعلاها، وشخص يجريه من فوق، بحيث لا يظهر، وإنما تُرى كأنها تطير بجناحيها في الهواء. وصوروا أمواتا خرجوا من تحت الأرض، وشخصا آخر ابتلعته الأرض، حتى ريء بعد ذلك في الجنة، ويصورون أيضا الطوفان وسفينة نوح.
وقد رأينا مرة موضعا عندهم يسمونه الدّْيُورَمَا، دخلناه نهارا، فصعدنا في درج مظلمة، حتى انتهينا إلى أعلاه، وهو مظلم، إلا أن فيه الضوء من كوة هنالك. وهو على شكل التياترو، فأرخيت الستارة، وجعلوا يجهزون المكان خلفها، فلما رفعت ظهرت كنيسة ذات قبب وسواري وخصص وكانت مضيئة بضوء النهار، أعني بضوء مصور كأنه ضوء النهار. ثم أخذ في النقصان كأنها عشية، والشمس تئول للغروب، حتى ذهب الضوء كلية، واستحكمت الظلمة، فظهر نور خفي، فجعل يكبر وينتشر حتى ظهرت ثريا كبيرة معلقة في وسطها تضيء. وظهر معها في أرض الكنيسة ناس كثيرون يصلون. ولم يكن لهم ظهور قبل ذلك، مع أنه لم يتغير التصوير. وكأن الناس صغارا في رأي العين، فجعلوا يكبرون ويعظمون، ثم أرخيت الستارة، وغير التصوير. فلما ارتفعت ظهرت مدينة عظيمة ذات بناء محكم، وبرج عال مستحكم. ويخرج من خلالها نهر عليه قنطرة عظيمة، وفيه سفينة صغيرة. وفي أعلا المدينة، من جبل إلى جبل، قنطرة أخرى كبيرة، من قناطر الحديد. وحول المدينة أشجار ونبات. فجعل الثلج ينزل عليها، ونحن نرى الثلج نازلا، وهو أبيض مترادف قوي. ونسمع وقعه على السقف فوقنا، بحيث من لم يكن له علم أن ذلك لعب، فلا يشك أنه الثلج حقيقة. فبقي ينزل حتى صار كل شيء أبيض، وكادت أن تتغطى المدينة به، ثم فتر، وجعل يسيل من فوق السطوح، ويجري في الطرق. ثم أرخيت الستارة، وغير التصوير. ثم رفعت، فظهرت مدينة أخرى ذات بناء قديم، فيها قلع وحصون، والناس يظهرون ماشين في أزقتها. ويظهر كأن السماء فوقها مغيمة. فجعل الغيم يشتد، والظلمة تنزل حتى أظلمت. وكانت الظلمة جائية من خلف المدينة، فبمجرد وصولها لها، صرصرت ريح عاتية، ويسمع لها ذوي وصفير، وأخذ المطر ينزل كأمواه القرب. وتكلم رعد عظيم له ذوي من فوقه، ونحن نسمع وقع المطر على السقف كأنه حقيقة. ثم ظهر نور في الأفق خلف المدينة، كأنه الفجر قد طلع، حتى انجلى الضوء، فجعل المطر ينزل ويظهر كأنه ما بين الجبال، له خراطيم عظيمة. وكأنه يجيء إلى المدينة بحر من خلفها، مما انحدر من الجبال، وسال من الأودية، من مياه المطر. حتى كأنه يريد أن يغرق المدينة. ثم أرخيت الستارة وانتهى. وكان هذا كله في نحو ربع ساعة. وكانوا يصورون بذلك الطوفان، لكن لم يكملوه. وتارة يكون لعبهم المذكور برقص تلك الجواري، فيمسكن بأيدي بعضهن بعضا، ويأخذن في رقص عجيب، وتليين أعضائهن، وتثنية معاطفهن، حتى يكاد أن يلتقي فمها بعقبها من خلف، ويقفن على رجل واحدة، ويدخلن في بعضهن بعضا، حتى كأنهن لسن آدميات، وتارة يمسك واحد من الرجال واحدة من تلك الجواري ويتراقصان. وهذه التياترو ليست مجمعا للحرافيش والأوباش، بل يحضرها أكابرهم، وأهل المروءة منهم، ويحضرها الرجل وزوجته وبناته، والرجل وأصحابه. ويجعلها السلطان في داره. وله محل معد لها فيدعو اللعابين والمتفرجين، ويجلس هو وأولاده ونساؤه أولاده وجميع وزرائه وخواصه. وأهل اللعب يلعبون بالرقص والتعاشق، وغير ذلك، وهم ينظرون وينشطون بذلك. ويزعمون أن في ذلك تأديبا للنفوس، وتهذيبا للأخلاق، وراحة للقلب والبدن ليعود إلى شغله بنشاط وقريحة"[14]. وللتوفيق بين الهازل والجاد أو المضحك والمفيد في المسرح، وبالتالي خلق موقف منسجم من هذه الفرجة التي ظاهرها تنكيت وباطنها تبكيت، هرع الصفار إلى السجل التراثي العربي الإسلامي شعره ونثره ليمتح منه ما يلطف من غلواء النفور، وما يشَرعِن افتتانه اللامحدود بالمسرح الغربي. فبعد أن ذكر ما يدعيه الغربيون من فوائد للعب على القلب والبدن والنفس والخُلق، راحت الأمثلة تتناسل في متنه على نحو يقطع دابر الشك بيقين الحكمة وحكمة اليقين:
أَفِدْ طبعك المكدود بالجد راحة = يَجِمّ وعلِّلْه بشيء من المـــزح
وسئل النخعي : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال : نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي. وكان نعيمان الصحابي من أولع الناس بالمزاح، وكان بدريا. قيل : إنه ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكثر المزاح والضحك، فقال : يدخل الجنة وهو يضحك. فمن مزح نعيمان ما روي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جرة عسل اشتراها من أعرابي بدينار، وجاء بالأعرابي إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : خذ الثمن من ها هنا. فلما علم صلى الله عليه وسلم بذلك، قال لنعيمان : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : أردت برَّك ولم يكن معي شيء، فتبسم وأعطى الأعرابي ثمنه. ومر يوما بمخرمة بن نوفل الزهري، وهو ضرير فقال له: قدني حتى أبول: فأخذ بيده حتى أتى به إلى المسجد، فأجلسه في آخر المسجد. فصاح به الناس : إنك في المسجد فقال : من قادني؟ فقالوا : نعيمان. قال : لله علي أن أضربه بعصاي هذه إن وجدته، فبلغ ذلك نعيمانا، فجاء إليه وقال : يا أبا المسور، هل لك في نعيمان؟ قال : نعم، قال : هو ذا يصلي، فأخذ بيده وجاء إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو يصلي، وقال: هذا نعيمان. فعلاه بعصاه، فصاح الناس : أمير المؤمنين، فقال : من قادني؟ فقالوا : نعيمان. قال : والله لا تعرضت له بسوء بعدها.
وقال عطاء بن السائب رضي الله عنه : كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا، وربما لم يقم حتى أنه يضحكهم ويبسط آمالهم. فمن لطائفه ما حكى أنه بعدما فرغ من سُعَادِه، قال : سمعت الناس يتكلمون بالتصحيف، وكنت لا أعرفه، فوقع في قلبي أن أتعلمه، فدخلت سوق الكاتبين، واشتريت كتابا في التصحيف. فأول شيء رأيت فيه سكباج تصحيفه نيك تاج، فحلفت لا أشتغل به بعدها، فضحك الناس من قوله حتى غشي عليهم"[15].
وفي سنة 1860م لم يترك العمراوي بدوره مادة حجاجية يسند بها تعلقه بالمسرح الفرنسي إلا وأثبتها. من ذلك انطواء الهزليات على مسائل الجد : (أهمها : التربية، التهذيب، التعليم، الاعتبار...) كما رجح ذلك عقل راجح وذوق حجة هو رفاعة الطهطاوي وطبقة الحكماء والأطباء. بل أكثر من ذلك سارع إلى التوفيق بين ظاهرة المسرح لدى الغرب، ومألوف المرويات في المغرب كالأزلية والفداوية. وإليك شهادة الرجل واستشهاداته : "ومن المحال المعدودة عندهم للتفرج فيها (الكمديات): وهي عبارة عن محال عندهم يلعبون فيها بأنواع من اللعب : من ركوب على الخيل وطيران في الهواء، وقلب الأعيان، والغناء والرقص، وحكايات الأخبار والأشعار بلغتهم، والمحاجّاة والأسئلة والأجوبة، ونصب مجالس يحاكون بها مجالس الحكام والوزراء، وذكر مساوي في الناس، وغير ذلك. وهذه مسائل هزليات، لكنهم مغرمون بها كل الغرام، ومولعون بها كل الولوع. ويعطي الداخل لتلك المحال دراهم معتبرة لكل رأس لرؤية ذلك. ويدخلها جميع الناس من مرؤوس ورئيس ورفيع وخسيس حتى الوزراء والحكام. وفي كل كمدية محل مختص يقولون أنه محل السلطان وزوجته بأنه ربما يدخل لها في بعض الأحيان، على أن لهم كمدية مخصوصة يلعب فيها بكل تلك الأشياء. فمهما أراد نوعا من تلك اللعبات استدعى أهله يلعبونه أمامه، ويسمونها الكمدية السلطانية. وكنت أضحك من ذلك وأعده من جملة المزاح الذي لا يعبأ به ولا يؤبه له، وأنه ليس من الجد في شيء حتى وقفت على كلام الشيخ رفاعة المصري في رحلته، حاصلُه أنها أمور جدية في صفة الهزل. أما ركوب الخيل وإجراؤها والتوتب عليها والطيران في الهواء، فغير خاف تعلقها بالجد من كل الوجوه؛ وأما الغناء والرقص، فإنه مما يريح القلب من تعب الكد، وينفس على الخاطر من تعب التدبير. وقد ذكر الحكماء والأطباء أن للغناء أثر في النفوس والأرواح، حتى أن بعض الآلام يبرئها سماع الغناء وآلة الطرب؛ أما الحكايات والأشعار، فإنها تهذب الأخلاق، وتظهر عجائب الدهر، وتحمل على الاعتبار بمن تقدم، وتشجِّع وتعلم مكايد الحروب، وترتيبات النزول والنهوض في بلاد الحرب وغير ذلك. وقد بلغنا أن مولانا إسماعيل نضر الله وجهه كان يكتب نسخا عديدة من الحكايات المعروفة بالفداوية والأزلية ويفرقها في جيشه وكبراء عسكره. وقصده بذلك ما فيها من مكائد الحروب، وكيفية نزول المحلات، وبدء المحاربة، وعقد الصلح والمهادنة، وترتيب الشروط، وتعلم الإقدام والمخاطرة، وإدراك المراتب بالمزايا، مع ما فيها من إعانة العسكر على السهر للحراسة وغير ذلك. وكنا نسمع أن من لم يحفظ فصولا من الفداوية فليس من عبيد سيدي البخاري الأحرار. وأما المحاجاة والأسئلة والأجوبة، فإنها تحد الذهن وتذكي العقل وتعلم الصغار التحيل في الكلام واختيار ما يقوله وما يدعه. وهذا الأمر له أثر في أدب الرجل. ونرى بعض الناس يظل النهار جالسا أمامك لا يتكلم، فإذا تكلم ضحك جلساؤه منه. وقديما يقال: إن العقول تنمو للاستمداد وأن الطباع تسرق الطباع. وأما ما يفعلونه فيها من نصب مجالس يحكون فيها مجالس الحكام والوزراء، فإن لها أثرا كبيرا في ردع رؤساء الدولة واحتياطهم في أحكامهم وتأنيهم في قضاياهم خشية أن ينقل عنه ما يشين في تلك المجامع الكبيرة ويفضح عرضه فيها. وكذلك ذكر المساوي التي تصدر عن بعض الأعيان، ذِكْرها هناك مما ينبه أمثالهم لئلا يقع في مثلها"[16]. وعلى الرغم من هذه المزايا كلها التي يتيحها المسرح، يأتي عائق الطبع والذوق والخُلق واللسان ليرجح كفة فرجة السيرك على فرجة "الكمديات" : "وقد عرضوا علينا الذهاب لبعض الكمديات، فاعتذرنا في واحدة فيها الغناء والرقص بأن الغناء لا نفهمه وما لا نفهمه يثقل علينا سماعه، وبأنه يحرم علينا في ديننا النظر إلى النساء التي يرقصن. وفي أخرى فيها المحاجاة والأسئلة والأجوبة بأنها بغير لغتنا، فلا فائدة في حضورنا فيها. وتوجهنا لاثنين : الأولى فيها لعب الخيل. فرأينا فيها عجائب. وصفتها قبة كبيرة دائرة بصفوف من الكراسي بعضها أعلى من بعض مثل الدرج إلى أعلاها، ووسطها فارغ مستدير متسع فيجلس الناظرون على تلك الكراسي بحيث لا يحجب بعضهم بعضا عن النظر إلى وسطها ويفتحون بابا يخرجون منه إلى ذلك الوسط بلعبة يلعبونها حتى تكمل وترجع ويخرجون غيرها إلى التمام. وأول ما أخرجوا هناك رجلا راكبا على فرس أنثى يجريها في وسط تلك الدائرة فتجري أشد الجري، دائرة مثل الدابة التي تدير الرحى، وأوقفوا له في طريقه بابا من عود في طولها أزيد من قامة إنسان، فأجرى تلك الفرس حتى وصلتها فوثبت ومرت من فوقها ولم يمسسها منه شيء؛ ثم الثانية أوقفوا ما بين متحاديين وجعلوا بينهما قدر الدراع فلما وصلتهما وثبت ومرت من فوقهما كالأولى؛ ثم في الثالثة جعلت ثلاثة أبواب الوسطى زائدة عليهما بنحو الدراع، وبين كل واحدة منهما نحو الدراع، فلما وصلتها وثبت ومرت فوقها كالأولين. وذلك من أعجب ما رأينا حتى ظن بعضنا أن ذلك من قلب الأعيان وليس بحقيقة، إلا أن راكب هذه الفَرَسَة في المرة الثالثة صرع على وجهه فما حسبنا أنه يعيش بعدها"[17]. ومع ذلك، فحتى هذه الفرجة براءتُها خُلَّب، والمؤمن دائم التحوط من الدنيوي السرابي الفاني والغرّار على حد تعبير العمراوي نفسه بضمير الغائب : "كان لا يطلق عنان القلم في تفاصيل ما احتوت عليه هذه المدينة من الزينة مخافة" الإكثار من مدح العاجل المضل. وما تم إلا زخارف الحياة الدنيا وبهرجتها وسرابها الزائل وترَّهتها، ولكن في الاطلاع على هذه الأمور ومعرفتها معرفة قدر نعمة الله على المؤمنين بتخليصهم من فتن الافتتان بزينتها والاغترار بعَرضها الفاني الموجب للإعراض عن الله تعالى مع تحقق مصير هؤلاء إلى غضب الله وعذابه المقيم"[18].
ونجد الغسال بدوره أَمْيَل إلى فرجة السيرك، فأفاض فيه الحديث، ضاربا صفحا عن فرجة "الطيطر" أو "الطيطروس"، لأنه يفضح غربة اللسان والجَنان : "ذهبنا للطيطر المسمى باليس (Place) وهو عبارة عن محل الفرجة فرأينا فيه من عجائب اللاعبين السامرين ما لا يسع بيانه. ومن ذلك، لعب صبيان (الجابون) فرأينا صبيا منهم سداسي السن يرتفع في الهواء والآخر مستلق على ظهره يلقاه ويرفعه برجله كلما نزل من الهواء على كيفية بحيث لا ينزل مرة خارجا عن قدمي المستلقي، إلى غير ذلك من أنواع اللعب التي تحير العقل وتتعب النظر. والقاعدة عندهم في الطيطروس أن مريد الدخول إليه يشتري تقييدا متضمنا لجميع أنواع اللعب تلك الليلة المهيئة ليكون الإنسان متهيئا لها على الإجمال قبل الشروع فيها... ذهبنا للطيطر والمسمى أنباير ورأينا فيه من العجائب والغرائب ما لا يكيف، وقدر ما كان فيه من المتفرجين نحو ثلاثة آلاف نسمة"[19].
وعلى الرغم من أن محمد بن الحسن الحجوي قد آمن بسرِّ هذا المسرح الغربي الذي هو-في نظره- رواية خيالية مهمة أقرب إلى "مقامات الحريري"، فيها فوائد ومقاصد أخلاقية تهذيبية لها صلة بالعشق والعفة والفضيلة والكرم والشجاعة، إلا أنه كان في وضع تبكيتي شبيه بوضع نائحة مأجورة استُجلبت للبكاء في مأتم لا صلة لها به؛ وهذا حال غريب اللسان والذوق والحركات المألوفة المغايرة للعوائد الفرنساوية والأخلاق الأوربية. ولولا ما شابهُ من كلام بذيء وتهييج وحمل على التهتك والفجور والبذخ والإسراف والمروق عن الدين والحرية المطلقة الزائدة عن اللزوم، لكان في تصوره أحسن المدارس التهذيبية. لكن أنى له بمسرح في قالب إسلامي أخلاقي لا يخالف الطبع والعقل والشرع! ومع ذلك فإحساسه بجلال المسرح وقيمته في المجتمع الغربي، ونهوضه دليلا على منتهى التفنن والتمدن والرفاهية، جعله يعرج من الحديث عن طبيعة النصوص الممثَّلة إلى وصف فخامة البناية وذكر ما تصرفه الدولة من أموال باهضة على تكاليفه. يقول الحجوي : "وفي الليل استدعونا لحضور تمثيل رواية مهمة في ملهى الأوبرا الشهير في العالم، الذي هو بقرب منزلنا، فحضرها بعض الأعضاء وكنت من جملتهم. أما الرواية التي مُثلت، وما فيها من الفوائد، فذلك شيء ليس هو ذوقنا، بل لا نستفيد منه شيئاً لعدم معرفتنا جميعاً بلغة أهله، وعدم ملاءمته لمألوفاتنا وحركاتنا حتى أن الجنرال موريال، حاكم الرباط، الذي كان مرافقاً لوفدنا ومكلفاً بشؤونه قال لي : إن الناس يصفقون عند تمام الرواية فمن المناسب أن تصفقوا، فامتثلنا وكنت أُصَفِّقُ من غير أن أفهم لأي شيء صفقتُ، ولا أدري ما استحسنْتُ، لأن التصفيق دليل الاستحسان عندهم، فكنتُ كنائحة مأجورة تتفعَّل البكاء وليست باكية. نعم إن الملهى المذكور من أعجب ملاهي العالم وأفخمها.
وقد دخلنا للمحل الذي يكون فيه الممثلون مختبئين والآلات التي تكون معهم، فكانوا في تلك الليلة ينيفون على المائتين. وأما المتفرجون فإن الملهى يسعُ منهم عدداً كبيراً، والقبة التي يجلس بها المتفرجون آية في بابها عزَّ أن يكون لها نظير من نوعها، كذلك الصالون الذي يخرجون للاستراحة فيه.
ويكفيك إجلالاً في وصف هذا الملهى أنه تكلف على الدولة بثلاثين مليوناً من الإفرنك، وفي درجه وداخله صور رجال التمثيل والتأليف في فن الروايات، وهو عندهم عِلم مهم ولرجاله شهرة، وإن كانت الرواية لا حقيقة لها كـ"مقامات الحريري"، ولكن يأتون بها لمقاصد مهمة أخلاقية تهذيبية. فروايةٌ يمثلون فيها العشق، وأخرى يمثلون فيها العفة، وأخرى الفضيلة، وأخرى الكرم، وأخرى الشجاعة، فيكون ذلك تكميلاً لمحاسن الأخلاق يفهمه مَن يعرف اللغة ومارَس العوائد الفرنساوية والأخلاق الأوربية.
إلا أن المنتقِد له أن ينتقد أموراً لا تُناسب الأخلاق العالية، كالتكلم بِكلمات بذية سفيهة، والرجل هناك يحضر ومعه أخوه وولده ووالده، وفيه ما يهيج شبَق النفس للخَنا وارتكاب الفواحش وغيرها، فلو خلا عن هذه الأمور، لكان من أحسن المدارس التهذيبية ولكن {قد علِم كلُّ أناس مَشربهم}[ البقرة، الآية 59 ]. وعلى كل حال آمنتُ بالسر الذي فيه ولا أقول به، ولا أرى وجهاً له في الشرع الإسلامي ولا في الذوق العربي، وكأني بأهل الغيرة والعفة منهم مُنتقدون لذلك معنا كما ينتقدون كثرة التهتك والبذخ. وتلك نتيجة الرفَهِ الزائد والحرية المطلقة، وعدم التمسك بأهداب الدين، ولا سيما النساء، فقد خلعن ربقة الحياء وتبرجن تبرجاً لا يُتصور فوقه إلا سِفاد الحيوانات في الطرُق جهاراً؛ إلى هذا الحد وصلوا أو قربوا منه، وفَعلوا مقدماته جهراً. فهذا شيء أفسد الأخلاق، ولا تستحسنه الأذواق، ولا يقول به طبع ولا عقل ولا شرع. زد على هذا كثرة البذخ والترف والتظاهر بالغِنى، والفخر بالمال المؤدي إلى إضاعته، وكلما ظهر زيٌّ لبستْه فلانة زوجة فلان إلا وترى ما قبله من الأزياء تُركَ وحَبِطَ عملُه هبَاء، والملاهي والمراقص هي محل استعراض الأزياء وتلقيح هذا الداء، وهذا شيء طبيعي في التمول والترف : كلُّ أمة زاد ترفها إلاّ وزاد سرفها، ولله في خلقه شؤون. حاصله، تفننوا في كل شيء، وبلغوا النهاية في التمدن والرفاهية"[20].
ومرة أخرى يقف عماء التبصر حائلا دون البصر الذي أعشته أنوار "المرسح"[21] (المسرح)، وخطفته الدهشة الإبليسية كما هو حال محمد بن عبد السلام السائح أثناء زيارة الملهى الكبير (كَراند تياتر) سنة 1922: "وألفينا على المرسح عددا كثيرا من الممثلين والممثلات بأقمشة مزركشة وألوان مختلفة قد ضاعفت الأشعة الكهربائية لمعانها فصارت تعشي البصر، وتدهش من حضر. ولهم نشيد ورنين، وللموسيقيين تطريب وتلحين، إلى مطارحة ذكران ونسوان، وأزياء ما أنزل الله بها من سلطان، حتى خيل لي أن أني في عرش بلقيس، أو في عالم الأباليس، فما كان أحرى المقام بقول أبي الطيب :
ملاعبُ جِنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان"[22]
3.أما بعد :
أ-من يتأمل السياق التاريخي والسوسيو-ثقافي لمغرب هذه الفترة المدروسة، يستطيع تفسير وفهم طبيعة تمثلات مسرح الآخر وفق سياقات مؤثرة أطرت النظرة وحكمت الناظر والمنظور إليه. من ذلك طبيعة المجتمع المحافظ وثقافته الكلاسيكية وعاداته وتقاليده العتيقة وظروفه السياسية والاقتصادية المتردية، التي وسمت روح العصر بميسم الهزائم وخيبات مشاريع التحديث. وقد ساهمت كلها في صعوبة التلقي المطلق دون قيد أو شرط لأشكال الفرجة الغربية.
ب ـ تأرجح المثقف بين الانفتاح والانغلاق تجاه المسرح باعتباره مكونا من مكونات الحداثة الغربية التي ظاهرها من قِبله التنكيت، وباطنها من قِبله التبكيت. ولعل في المراوحة بين النفور والميول في تلقي المسرح الغربي، ما يفسر التردد والحذر الذي اعترى رحالينا وهم يتحركون داخل مجالات فرجوية واجهتهم بما ينفع (من عِبَر) وما يعتقدون-انطلاقا من الإبّيستيمي الذي يحكمهم- أنه لا ينفع (من ممارسات ممجوجة، وسلوكات إبليسية لا أخلاقية ومادية وعزوف عن الآخرة). ولربما لهذا السبب لم نكن نصادف الارتماء اللامشروط في أحضان الحداثة المسرحية. الشيء الذي وسم الكتابة الرحلية الغيرية بميسم الحافظ على المسافة الضرورية بين المحافظة والتجديد مهما تقلصت، نظرا لصدور رحالينا عن مرجعية دينية إسلامية لا تفرط- بأي حال من الأحوال- في تجاوز عتبة معينة بين الحداثة والدين. وكل ما تعارض-ظاهرا أو باطنا- مع الشريعة مرفوض مهما بلغت درجة حداثته ومستوى جِدَّته وقدرته على إثارة الدهشة والانبهار. وبقي المسرح-شأنه شأن أي وجه من أوجه التحديث في المجتمع الغربي- عرضة للنخل بغربال الأخلاق والشرع، وإن بقي في أنفسهم شيء منه غير يسير، جعلهم يقطعون نياط القلب بحثا عن أشباهه ونظائره[23] في التراث طمعا في تأصيل حداثة الآخر.
الهوامش والإحالات :
1 ـ أما عن سفارة الحاج محمد تميم المشهورة عام 1682م، فقد احتفظت لنا الصحافة الفرنسية بتقرير مفصل عنها، كما احتفظت لنا الصحافة الفرنسية بتعاليق كثيرة في ذلك العصر. بل لقد وصلتنا لوحة (أنطوان تروفان) (Antoine Trouvain) التي رسمت كتذكار لزيارة السفير وأصدقائه للمسرح لأول مرة، وكم ستكون المقارنة أكثر خصوبة لو عُثِر على تلك المدونة التي زمم فيها الحاج محمد تميم شهاداته عن فرنسا، والمسماة بـ "كتاب العجائب"، والتي يبدو أن (الأب كَودار) (P. Godard) في كتابه "تاريخ المغرب" يعتقد بوجودها. انظر: عبد النبي ذاكر : "الرحلات المغربية إلى أوروبا : مدخل بيبليوغرافي"، مجلة المناهل، ع55، س1997 مطبعة دار المناهل، وزارة الشؤون الثقافية، المملكة المغربية.
[2] ـ مثَّل الأنتيليجانسيا المغربية للفترة المدروسة المثقف المخزني ـ الديبلوماسي ـ الفقيه.
[3] - أحمد بن المهدي الغزال المكناسي المتوفى عام 1771م هو صاحب رحلة : نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد؛ وقد تمت الرحلة بين عامي 1766-1767م، في عهد السلطان أبي عبد الله محمد بن عبد الله، إلى ملك إسبانيا (كارلوس الثالث).
[4] ـ الغزّال، أحمد بن المهدي : نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد، تحقيق إسماعيل العربي، دار الغرب الإسلامي، ط1، لبنان 1980، ص174-175.
[5] ـ المصدر السابق، ص57.
[6] ـ في مدينة خيرز سمع صوت مغنيتين : "جعلتا تغنيان بأصوات حسان ما سمعت ولا رأيت أحسن منهما صورة وصوتا"، نفسه، ص70.
[7] ـ نفسه، ص56.
[8] ـ نعتمد رحلتين ديبلوماسيتين لمحمد بن عثمان المكناسي هما : (الإكسير في فكاك الأسير) إلى كارلوس الثالث سنة 1779م، و(البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد الكافر) إلى مالطة سنة 1781م.
[9] ـ ابن عثمان المكناسي، محمد : الإكسير في فكاك الأسير، تحقيق محمد الفاسي، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965.
10 ـ المصدر نفسه، ص23.
11ـ من النصوص الدالة في هذا السياق : قوله في وصف راقصة "فلما رأيت من أمرها عجبا واتخذت استرقاق مبصرها مذهبا طلب نجاة من شركها ومهربا." ص 34 وقوله : "فخشيت أن أكون ممن جنى بصره على قلبه فيعاقب البريء بذنب غيره."البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد الكافر (رحلة إلى مالطة)، مخطوط الخزانة الحسنية، ص35.
12 ـ المصدر السابق، المخطوط ص33-34.
13 ـ على الرغم من أن الطهطاوي يعتبر المسرح من الأمور الدنيوية، وضربا من » اللهو« و»اللعب« إلا أنه لا يخفي في رحلته: (تخليص الإبريز في تخليص باريز) إعجابه بتفنن الفرنسيين في ما أسماه بـ»التياتر« أو »السبكتاكل«. وهي ضرب من مجالس الملاهي "يلعب فيها تقليد سائر ما وقع. وفي الحقيقة أن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل، فإن الإنسان يأخذ منها عبرا عجيبة، وذلك لأنه يرى فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى وذم الثانية، حتى إن الفرنساوية يقولون إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبها. فهي وإن كانت مشتملة على المضحكات فكم فيها كثير من المبكيات، ومن المكتوب على الستارة التي ترخى بعد فراغ اللعب باللغة اللاطينية ما معناه باللغة العربية : (قد تنصلح العوائد باللعب)." راجع : رفاعة الطهطاوي : تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز، دار ابن زيدون-بيروت، مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة، (د.ت)، ص 134). "ولو لم تشتمل التياتر في فرانسا على كثير من النزعات الشيطانية لكانت تعد من الفضائل العظيمة الفائدة" ص136.
14 ـ ذاكر، عبد النبي : باريز في رحلة الصفار 1845/1846م، العلم،10 يناير 1993، ص4.
15 ـ المصدر السابق، ص4.
16 ـ العمراوي، إدريس بن محمد بن إدريس : تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، تقديم وتعليق زكي مبارك، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع للشمال-طنجة 1989. ص88-89-90.
17ـ المصدر السابق، ص90-91.
18 ـ نفسه، ص92.
19 ـ تحدث الحسن بن محمد الغسال في : الرحلة التتويجية لعاصمة البلاد الإنجليزية؛ عن زيارة "الطيطر" أو "الطيطروس" ص21 المخطوط وفي ص24 عاد للحديث عنه. مخطوط الخزانة العامة بالرباط.
20 ـ الحجوي، محمد بن الحسن، الرحلة الأوروبية، ضمن كتاب سعيد بنسعيد العلوي : أوروبا في مرآة الرحلة، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء 1995، ص130-131.
21 ـ بالقلب المكاني سار المسرح مرسحا.
22 ـ السائح، محمد بن عبد السلام : أسبوع في باريز، مخطوط الخزانة الحسنية، ص6.
23 ـ حاول الرحالة المغاربة تكييف المسرح مع بعض مظاهر التراث العربي كالعنترية والخرافة ومقامات الحريري والفداوية، ضمانا لتقريب فهمه من قبل المتلقي المغربي،الذي لا يتسع أفق انتظاره لمدارك لا قِبَل له بها.
ملحق :
الحاج محمد تميم سفير السلطان المولى إسماعيل في الكوميديا الإيطالية بباريس سنة 1682م من خلال رَوْسَم محفوظ بالخزانة الوطنية. على يسار السفير السيد دو رايمونديس de Raymondis، وعن يمينه حاكم سلا، ثم الحاج عبد القادر حفيد تميم، والمراكشي حفيد حاكم سلا. (انظر: عبد النبي ذاكر: المغرب وأوروبا : نظرات متقاطعة، ط2 مزيدة ومنقحة، 2007)
* نقلا عن
مرآة الغيرية وأسئلة التحديث في الرحلات السفارية المغربية