// مراجعة لكتاب الدكتورة أمل الأسدي متصوف وليس صوفيا//
الناقدة العراقية أمل محمد الأسدي تقدم في أحدث كتبها دراسة تحليلية في شعر البيومي محمد عوض واستلهامه للكتابة الصوفية.
القاهرة : من أحمد رجب شلتوت
السبت 2019/03/09
البيومي يمضي في ديوانيه تحت مظلة الحب الإلهي الذي يقوم على رمزية المرأة
القاهرة - نشأ التصوّف على أساس أن الخطاب الديني استعارة في المقام الأول، لذلك خَبِرَ الصوفيةُ مبكرا إمكانات الشِّعر، لا في التعبير عن وجودهم فحسب، بل وفي إنتاج معرفة بالوجود وبالإنسان كذلك. فحاجة التصوف إلى الشعر جاءت تلبيةً لرغبات مجالس الصوفية التي تتخذ من السماع بابًا من أبواب تحقيق اللحظة الصوفية التي ينسى فيها المريدُ مكانه وزمانه، ويندمج في الزمن الروحي الذي لا تقيِّده الدقائقُ والساعات، وينخرط في حال الوجد والهيام. وربما ذلك يفسّر الإنتاج الشعري الكبير للصوفيين.
وقد كثر بين الشعراء العرب المعاصرين توظيف التراث الصوفي أو استلهام الكتابة الصوفية ورموزها وشخصياتها، ومنهم من ينحو منحاه في التخييل والتجريد وتلوين النصوص الشعرية بنفحات العرفان الباطني. ومن هؤلاء الشاعر المصري البيومي محمد عوض بتجربة ذات نفس صوفي خالص تتجلى في اثني عشرة ديوانا له حتى الآن، وقد اختارت الناقدة والأكاديمية العراقية أمل محمد الأسدي في أحدث كتبها “متصوف وليس صوفيا.. دراسة تحليلية في شعر البيومي محمد عوض” أن تتوقف عند اثنين منها هما “صمتها زعفران” و”سيرة الياقوت”.
وتعتمد الناقدة للتفرقة بين الصوفي والمتصوف على مقولة لعبدالقادر الجيلاني حيث يرى “أن المتصوف هو المبتدأ والصوفي هو المنتهى، والمتصوف هو الشارع في طريق الوصول، والصوفي هو من قطع الطرق ووصل إلى من إليه القطع والوصل، والمتصوف متحمل والصوفي محمول”، وهي لا تستطرد كثيرا في توضيح تلك التفرقة، فهدفها لم يكن تحديد مراتب أو رصد مقامات بل انصب غرضها على الشعر ذاته بعيدا عن مرجعيات الشاعر الفكرية أو الثقافية العامة.
شعر البيومي محمد عوض غنائي دائما
وترى الأسدي أن الصوفي قدم حبه للذات الإلهية بديلا موضوعيا عن صلته بالواقع الحياتي وتجاربه المختلفة، وبالرغم من ذلك لم يبتعد عن الشعر الذي تراه ابنا للحياة التي عزف عنها الصوفي، وتذهب هنا إلى أن الشعر عند الصوفية لم يكن مقصودا لذاته، وإنما هو مقصود لغايات أخرى دينية أو فلسفية، والصوفي كان يعاني من الاغتراب الروحي، وكان يفر من عالمه المادي بحثا عن شهود الوجود والتحقق فيه، وهذا لا يتحقق إلا بالغياب عن عالم الحواس. ولم يجد وسيلة أقوم ولا أقدر على التعبير من الشعر.
وهنا تميّز الكاتبة بين نوعين من الشعراء، فهناك الصوفي الشاعر، وهو الإنسان الذي عاش تجربة التصوف ثم قام بتوظيف الشعر في إطارها، وقد التزم بموضوعات الصوفية وبمعجمها، وهناك على العكس منه الشاعر الصوفي، وهو شاعر أولا ثم تأتي نزعة التصوف عنده لتشكل جزءا من تجربته الشعرية، ووفقا للشاعرة فتلك النزعة موجودة لدى أغلب الشعراء فيندر أن تجد ديوانا لشاعر عربي معاصر خاليا منها.
فالشاعر يقرأ في التصوف وعنه، دون أن يمارس طرقه، ويستلهم رموزه وأجواءه ويستعير من معجمه تماما كما استعار الصوفي الشاعر تجربة الحب العذري ومكابداتها ليعبر بها عن معاناته في تجربة العشق الإلهي، لذلك تكثر فيه رمزيتا الخمر والمرأة.
وتؤكد الأسدي أن شعر البيومي محمد عوض غنائي دائما، وسواء انتمت قصيدته إلى شعر التفعيلة أو قصيدة النثر، فهي تمثل ذات الشاعر، وتعكس رؤاه الخاصة، ومرجعياته الفكرية والشعرية. وللمرأة حضورها الأوفى في تلك التجربة، فهو يراها مظهرا جماليا يقف أمامه متأملا، ومزاوجا بين المعنوية والمادية الحسّية، ففي ديوان “صمتها زعفران” وابتداء من عتبة الإهداء تبدو النزعة الصوفية، ومن عتبة الإهداء أيضا تتلمّس الكاتبة الحسّ الصوفي في ديوان “سيرة الياقوت”، وهو ما يتأكد في القصائد التي تشكل المرأة محورها، وهي في الشعر الصوفي وسيلة يستخدمها المتصوفة لإضفاء نوع من الخصوصية على تجاربهم.
وترى الأسدي أن الشاعر يمضي في ديوانيه تحت مظلة الحب الإلهي، الذي يقوم على رمزية المرأة، لذا يتأرجح تمظهرها في القصائد بين الروح والجسد، فهو يتوسل بالحضور الروحي للمرأة الرامز للحب الإلهي، لكن تمظهرها روحا يظل محاصرا، فتتردّد ذات الشاعر بين عالمي الروح والجسد، فلا يستقر لا على الروحية الجسدية ولا على الجسدية الروحية، ولا يدري أين يكمن الجمال، أفي الجسد الذي آخره الفناء والعدم، أم في روحية الجسد التي توصله إلى الجمال المطلق؟ وهي الحيرة التي تتجلى في قوله “لماذا ننكر الجسد؟ ووجه الله فيه بدا، أيبدعه بأحسن صورة، ونرده زبدا”.
الكتابة الأدبية بناء لغوي يعتبر المفردة كائنا حيويا لا تنتهي غايته عند صياغة الفكرة فقط، بل تمتد لتبث فيها الروح، وتركيب الألفاظ واستعمالها في سياق التعبير الأدبي خاصية فنية تميّز الكاتب عن نظرائه، حيث أن القيمة الذاتية للفظ تكتسب أهميتها باتساقها وتلاؤمها مع سائر الألفاظ، لتكسو الكلام نغما تهش له النفوس، هنا تقوم الباحثة بإحصاء للمفردات التي اعتمد عليها الشاعر في ديوانيه، وتعد معجما لفظيا خاصا لكل ديوان ثم تحلله، فمفردة العشق تتصدر في تكرارها ديوان “صمتها زعفران” ومن بعدها لفظ الجلالة “الله” ثم النور فالمحبة وهكذا..
المرأة بوابة الشاعر إلى عالم التصوف | أحمد رجب | صحيفة العرب
الناقدة العراقية أمل محمد الأسدي تقدم في أحدث كتبها دراسة تحليلية في شعر البيومي محمد عوض واستلهامه للكتابة الصوفية.
القاهرة : من أحمد رجب شلتوت
السبت 2019/03/09
البيومي يمضي في ديوانيه تحت مظلة الحب الإلهي الذي يقوم على رمزية المرأة
القاهرة - نشأ التصوّف على أساس أن الخطاب الديني استعارة في المقام الأول، لذلك خَبِرَ الصوفيةُ مبكرا إمكانات الشِّعر، لا في التعبير عن وجودهم فحسب، بل وفي إنتاج معرفة بالوجود وبالإنسان كذلك. فحاجة التصوف إلى الشعر جاءت تلبيةً لرغبات مجالس الصوفية التي تتخذ من السماع بابًا من أبواب تحقيق اللحظة الصوفية التي ينسى فيها المريدُ مكانه وزمانه، ويندمج في الزمن الروحي الذي لا تقيِّده الدقائقُ والساعات، وينخرط في حال الوجد والهيام. وربما ذلك يفسّر الإنتاج الشعري الكبير للصوفيين.
وقد كثر بين الشعراء العرب المعاصرين توظيف التراث الصوفي أو استلهام الكتابة الصوفية ورموزها وشخصياتها، ومنهم من ينحو منحاه في التخييل والتجريد وتلوين النصوص الشعرية بنفحات العرفان الباطني. ومن هؤلاء الشاعر المصري البيومي محمد عوض بتجربة ذات نفس صوفي خالص تتجلى في اثني عشرة ديوانا له حتى الآن، وقد اختارت الناقدة والأكاديمية العراقية أمل محمد الأسدي في أحدث كتبها “متصوف وليس صوفيا.. دراسة تحليلية في شعر البيومي محمد عوض” أن تتوقف عند اثنين منها هما “صمتها زعفران” و”سيرة الياقوت”.
وتعتمد الناقدة للتفرقة بين الصوفي والمتصوف على مقولة لعبدالقادر الجيلاني حيث يرى “أن المتصوف هو المبتدأ والصوفي هو المنتهى، والمتصوف هو الشارع في طريق الوصول، والصوفي هو من قطع الطرق ووصل إلى من إليه القطع والوصل، والمتصوف متحمل والصوفي محمول”، وهي لا تستطرد كثيرا في توضيح تلك التفرقة، فهدفها لم يكن تحديد مراتب أو رصد مقامات بل انصب غرضها على الشعر ذاته بعيدا عن مرجعيات الشاعر الفكرية أو الثقافية العامة.
شعر البيومي محمد عوض غنائي دائما
وترى الأسدي أن الصوفي قدم حبه للذات الإلهية بديلا موضوعيا عن صلته بالواقع الحياتي وتجاربه المختلفة، وبالرغم من ذلك لم يبتعد عن الشعر الذي تراه ابنا للحياة التي عزف عنها الصوفي، وتذهب هنا إلى أن الشعر عند الصوفية لم يكن مقصودا لذاته، وإنما هو مقصود لغايات أخرى دينية أو فلسفية، والصوفي كان يعاني من الاغتراب الروحي، وكان يفر من عالمه المادي بحثا عن شهود الوجود والتحقق فيه، وهذا لا يتحقق إلا بالغياب عن عالم الحواس. ولم يجد وسيلة أقوم ولا أقدر على التعبير من الشعر.
وهنا تميّز الكاتبة بين نوعين من الشعراء، فهناك الصوفي الشاعر، وهو الإنسان الذي عاش تجربة التصوف ثم قام بتوظيف الشعر في إطارها، وقد التزم بموضوعات الصوفية وبمعجمها، وهناك على العكس منه الشاعر الصوفي، وهو شاعر أولا ثم تأتي نزعة التصوف عنده لتشكل جزءا من تجربته الشعرية، ووفقا للشاعرة فتلك النزعة موجودة لدى أغلب الشعراء فيندر أن تجد ديوانا لشاعر عربي معاصر خاليا منها.
فالشاعر يقرأ في التصوف وعنه، دون أن يمارس طرقه، ويستلهم رموزه وأجواءه ويستعير من معجمه تماما كما استعار الصوفي الشاعر تجربة الحب العذري ومكابداتها ليعبر بها عن معاناته في تجربة العشق الإلهي، لذلك تكثر فيه رمزيتا الخمر والمرأة.
وتؤكد الأسدي أن شعر البيومي محمد عوض غنائي دائما، وسواء انتمت قصيدته إلى شعر التفعيلة أو قصيدة النثر، فهي تمثل ذات الشاعر، وتعكس رؤاه الخاصة، ومرجعياته الفكرية والشعرية. وللمرأة حضورها الأوفى في تلك التجربة، فهو يراها مظهرا جماليا يقف أمامه متأملا، ومزاوجا بين المعنوية والمادية الحسّية، ففي ديوان “صمتها زعفران” وابتداء من عتبة الإهداء تبدو النزعة الصوفية، ومن عتبة الإهداء أيضا تتلمّس الكاتبة الحسّ الصوفي في ديوان “سيرة الياقوت”، وهو ما يتأكد في القصائد التي تشكل المرأة محورها، وهي في الشعر الصوفي وسيلة يستخدمها المتصوفة لإضفاء نوع من الخصوصية على تجاربهم.
وترى الأسدي أن الشاعر يمضي في ديوانيه تحت مظلة الحب الإلهي، الذي يقوم على رمزية المرأة، لذا يتأرجح تمظهرها في القصائد بين الروح والجسد، فهو يتوسل بالحضور الروحي للمرأة الرامز للحب الإلهي، لكن تمظهرها روحا يظل محاصرا، فتتردّد ذات الشاعر بين عالمي الروح والجسد، فلا يستقر لا على الروحية الجسدية ولا على الجسدية الروحية، ولا يدري أين يكمن الجمال، أفي الجسد الذي آخره الفناء والعدم، أم في روحية الجسد التي توصله إلى الجمال المطلق؟ وهي الحيرة التي تتجلى في قوله “لماذا ننكر الجسد؟ ووجه الله فيه بدا، أيبدعه بأحسن صورة، ونرده زبدا”.
الكتابة الأدبية بناء لغوي يعتبر المفردة كائنا حيويا لا تنتهي غايته عند صياغة الفكرة فقط، بل تمتد لتبث فيها الروح، وتركيب الألفاظ واستعمالها في سياق التعبير الأدبي خاصية فنية تميّز الكاتب عن نظرائه، حيث أن القيمة الذاتية للفظ تكتسب أهميتها باتساقها وتلاؤمها مع سائر الألفاظ، لتكسو الكلام نغما تهش له النفوس، هنا تقوم الباحثة بإحصاء للمفردات التي اعتمد عليها الشاعر في ديوانيه، وتعد معجما لفظيا خاصا لكل ديوان ثم تحلله، فمفردة العشق تتصدر في تكرارها ديوان “صمتها زعفران” ومن بعدها لفظ الجلالة “الله” ثم النور فالمحبة وهكذا..
المرأة بوابة الشاعر إلى عالم التصوف | أحمد رجب | صحيفة العرب