(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب)
المازني
بداية الشوط
انتقل المازني إلى مرحلة جديدة، أو منتظمة، في الدراسة عندما دخل المدرسة (القريبة) على مقربة من داره. وكانت على عهده كما يصفها:
(مثلما ضمت سبيل ... من صنوف الخلق وفدا
أو كيوم الحشر، أو وقفة عرفات على الأقل). وكان ناظرها جارا وصديقا لأبيه. فأفادته هذه الصداقة اهتمام الناظر به ورعايته لشأنه، كما أنزلته بين أترابه التلاميذ منزلة مرموقة، فجعلوه رسولا بينهم وبين الناظر يتصلون به إلى إجابة مطالبهم وتحقيق رغائبهم.
وكان الطفل أعلم بموطن الضعف في نفس ناظره، فما كان يأتيه من ناحية صداقته لأبيه وكفى، بل يتحرى في مخاطبته أن ينعته دائما بلقب (البكوية)، وكان حديث عهد به، فلا يقصده مرة ويكرر على سمعه هذا اللقب مرات، حتى يرتد مطيب الخاطر مقضي الرغبة مستجاب الرجاء.
ويذكر المازني أنه كانت في هذا الناظر سذاجة عجيبة، وأنه كان جاهلا وإن تظاهر بالعلم بكل شيء. ومن نوادره التي يرويها أنه دخل يوما إحدى الفرق وكان الدرس ترجمة. . (وكان المعلم غائبا، ولم يكن هو يعرف ذلك وإن كان فيما يزعم إداريا حاذقا. ولكنه سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له إن هذه الفرقة ليس فيها معلم، فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه - وبطوله وعرضه - وسألنا (ما لكم يا أولاد؟) قلنا (يا سعادة البك المعلم غائب). قال (الدرس إيه؟) قلنا (ترجم يا سعادة البك). فأنشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظ يسمع منا ما يسره فقال (طيب، وإيه يعني؟). فقلنا (يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك). فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا فقلنا له أنه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكن لم نفهم عنه. فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه بوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم التلاميذ، وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئا. ثم قال إن المسألة بسيطة وإن النفي سهل جدا وإن أدواته في اللغة العربية معروفة وهي (لا ولم ولن الخ) والأمثلة سهلة ومعروفة، وشرع يسوق الأمثلة فلما بلغ (لم) قال (مثلا. . لم كتب. لم ضرب. لم ذهب) فانفجرنا ضاحكين ولنا العذر. فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا (تضحكون؟ إبكون. . إبكون) فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك. ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل).
ومن معلميه في هذه المدرسة شيخ كاتوا يسمونه فيما بينهم (الأسد) وكان قاسيا غليظ الكبد سريع الغضب، ومن لوازمه (خيزرانة) قصيرة يدسها في طيات ثيابه. . (وقد أطعمنها مرارا كثيرة، وذاقتها كفتي وذراعاي وساقاي وظهري وعرفت طعمها كلها بالخبرة الطويلة والتجربة المعتادة).
وإلى هذه المدرسة، أو إلى معلم الخط فيها، يعزو المازني رداءة خطه، وحكاية ذلك ما نرويه هنا عنه.
(كان الشيخ الذي يعلمنا الخط وحشا، أعني أنه لم يكن وحشا حقيقيا، وإنما كان وحشا آدميا غليظ القلب منحوس الضريبة، وكان بناء المدرسة عتيقا متداعيا، والأبواب ذات مصراع واحد وكانت إذا فتحت تنسد بالحجارة. فكان هذا الشيخ لا يعاقب التلميذ إلا بشيء واحد. يضع الواحد راحته على المكتب، ويجيء الشيخ بحجر الباب ويدق به عقل الأصابع. وكان هذا عقابه الوحيد على رداءة الخط، وعلى كل خطأ أو ذنب يرتكب فكيف يرجى ممن تدق أصابعهم بالحجارة أن يحسنوا الخط ويجيدوا الكتابة؟ فهذا سبب أن خطي رديء).
وأتم الطفل دراسته الابتدائية. وجاء أخوه الأكبر إلى أمه يشير عليها بأن تكتفي من تعليمه بهذا القدر. على أنها أبت ذلك وأصرت على إبائها حين ألح عليها، حتى أنذرها ذلك الأخ أنه مانع عنهما بعد ذلك معونته وقابض يده. ولعل هذه الحادثة زادت المازني الطفل شعورا بوطأة الفقر وحنقا عليه، ودفعته إلى ذبل الجهد في سبيل تحقيق رغبة أمه في أن يتم تعليمه إلى نهايته. وكانت الأيام قد أنضجته وتقدمت به فساعده ذلك على أن يصمد لتجارب الحياة وأن يستوعب جيدا دروسها القاسية.
ودخل المازني المدرسة الخديوية وهو على أعتاب الشباب. ولعل هذه الفترة - فترة الدراسة الثانوية - كانت بداية التكوين الحقيقي للرجل الذي صاره من بعد. ولعلها كذلك كانت بداية ميله إلى القراءة والأدب، فما كانت الدراسة الابتدائية لتسمح بإظهار مثل هذا الميل، فضلا عن أن سنه لم تكن تهيؤه قبل ذلك للقراءة لواسعة أو الصبر عليها.
ولا يشير المازني كثيرا إلى فترة دراسته الثانوية فيما كتب عن ذكريات طفولته وصباه، فلعلها قد تقضت في الجد الصرف من ناحية مشقة التحصيل، وفي محنة قاسية من شظف الرزق والمعيشة. على أنه يحدثنا أنه أخريات هذه الفترة_وكان قد بلغ السادسة عشر اعترضت الحمى طريقه وألحت وطأتها عليه، وقضى طيلة صيف ذلك العام وهو يعاني وقدتها. ويقول (في إحدى الليالي ثقلت علي وطأة المرض جدا، حتى جزعت أمي على ما أخبرتني بعد ذلك، وكادت توقن إني هامة اليوم أو غد، لولا أن الأم لا تفقد أملها. وكنا في بيت كل غرفة فيه تصلح أن تكون ساحة أو ملعبا، وكانت نوافذ الحجرة التي أرقد فيها تطل على فناء البيت وفيه شجرة جميز عظيمة، تصل أغصانها الذاهبة في الهواء إلى النوافذ، وكنا نضع قليل الماء على أحد هذه الشبابيك لتبرد، فحدث أن مدت أمي يدها إلى قلة تريد أن تشرب، ففلتت القلة من بين أصابعها وهوت إلى أرض الفناء ففزعت أمي واضطربت جدا، وكبر في ظنها أن هذا نذير بموتي، وخطر لها أن تنحدر إلى الفناء في فحمة الليل لترى أسلمت القلة أم تحطمت. . ومن العجائب أن القلة لم يصبها سوء، ولعل ذلك لأنها وقعت على أرض رخوة طرية كثيرة البلل تحت ظل الشجرة. وقد حدثتني أمي بعد ذلك وهي تروي لي هذه القصة أنها بكت وأنها عجزت عن القيام، فظلت قاعدة على الأرض غير عابئة بالبلل، والرطوبة والوحل، وفي يدها القلة، والدموع تنهمر من عينيها؛ دموع الأمل والاستبشار. وقضت ساعة فيما تحس، ثم نهضت فصعدت، ودنت مني وأنا نائم، ولمست وجهي بكفها، مترفقة محاذرة، مخافة أن توقظني، فإذا أنا أتصبب عرقا، وإذا بثيابي كلها - كما قالت - عصرة. وأصبحت وقد ذهبت عني وقدة الحمى وأخذت أتماثل).
ويتحدث المازني عن الفرق بين الدراستين الابتدائية والثانوية فيقول: (إن التعليم الثانوي كان انتقالا أدق المعاني، فقد صار كل ما في المدرسة إنجليزيا - الناظر والمدرسون والتعليم - ما عدا اللغة العربية، ولم يكن تدريس اللغة العربية خيرا من تدريسها في الوقت الحاضر، ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان - لا أدري لماذا؟ - وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلا طيبا ووقورا مهيبا، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده فيدعو له الشيخ، ولا نستغرب نحن شيئا من ذلك، بل نراه أمرا طبيعيا جدا. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس في نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فإني أراني إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعني إلا إكبارهم حين ألتقي بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئا يستحق الذكر).
وللمازني مع الشيخ حمزة فتح الله حادثة طريفة لا تخلو من دلالة. وكان يؤدي الامتحان الشفوي في الشهادة الثانوية، والشيخ رئيس لجان اللغة العربية. وندع المازني يروي بقلمه قصته مع الشيخ:
(لما جاء دوري اتفق أنه كان موجودا، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألني ماذا أحفظ؟ وكنت في صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبي صلى الله عليه وسلم فعلقت بذهني وألهمني الله أن أقول إني أحفظ خطبة للنبي، ففرح الشيخ جدا وخلع حذاءه وصاح (قل يا شاطر، قل يا شاطر فتح الله عليك) وسترني الله فلم أخطئ، واكتفى الشيخ بهذا وأعفاني من النحو والصرف والإعراب).
وقد التقى المازني بالشيخ مرة أخرى. وكان اللقاء في هذه المرة عاصفا، تجلى فيه غضب الشيخ الحليم وتحفز الطالب الطلعة. ولا بأس أن نورد هنا حديث ذلك اللقاء وإن كنا نسبق بذلك ترتيب الحوادث قليلا؛ فقد كان المازني يوم ذاك في آخر عهده بمدرسة المعلمين، وكان يؤدي الامتحان النهائي للتخرج، وكانت لجنة الامتحان الشفوي في اللغة العربي برياسة الشيخ حمزة ومن أعضائها الشيخ عبد العزيز شاويش والأستاذ عاطف بركات. .
(فقال أحد إخواني بعد خروجه من الامتحان أن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذي يقع عليه الاختيار. ولم نكن ندرس لا نحوا ولا صرفا في المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب. فأيقنا بالفشل وجاء دوري فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه فناولني كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت. ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهي (إعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها) إلى آخره، فقال ضع الكتاب فوضعته. فسألني عن العدوان والفعلين عدا واعتدى وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التي يكون عليها الفعل (اعتدى) مثل (اعتديا) للماضي المثنى و (اعتديا) للأمر، فسألني لماذا كان الماضي بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببا وقلت أنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بها هكذا. فدهش لهذا الجواب وقال ولكن لهذا سببا. قلت إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فإن هذا يكفي ولا داعي للبحث عن سبب مختلق. فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه، وحدثت نفسي أنه خير لي وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطي الجهل. وأصررت على رأي وكاد يحدث ما لا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش تدارك الأمر، فقد نظر في ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال (العصر وجب يا مولانا) فنهض الشيخ وهو يقول (إي نعم) وذهب للصلات ونسيني فكان في هذا نجاتي).
للكلام بقية
محمد محمود حمدان
مجلة الرسالة - العدد 1014
بتاريخ: 08 - 12 - 1952
المازني
بداية الشوط
انتقل المازني إلى مرحلة جديدة، أو منتظمة، في الدراسة عندما دخل المدرسة (القريبة) على مقربة من داره. وكانت على عهده كما يصفها:
(مثلما ضمت سبيل ... من صنوف الخلق وفدا
أو كيوم الحشر، أو وقفة عرفات على الأقل). وكان ناظرها جارا وصديقا لأبيه. فأفادته هذه الصداقة اهتمام الناظر به ورعايته لشأنه، كما أنزلته بين أترابه التلاميذ منزلة مرموقة، فجعلوه رسولا بينهم وبين الناظر يتصلون به إلى إجابة مطالبهم وتحقيق رغائبهم.
وكان الطفل أعلم بموطن الضعف في نفس ناظره، فما كان يأتيه من ناحية صداقته لأبيه وكفى، بل يتحرى في مخاطبته أن ينعته دائما بلقب (البكوية)، وكان حديث عهد به، فلا يقصده مرة ويكرر على سمعه هذا اللقب مرات، حتى يرتد مطيب الخاطر مقضي الرغبة مستجاب الرجاء.
ويذكر المازني أنه كانت في هذا الناظر سذاجة عجيبة، وأنه كان جاهلا وإن تظاهر بالعلم بكل شيء. ومن نوادره التي يرويها أنه دخل يوما إحدى الفرق وكان الدرس ترجمة. . (وكان المعلم غائبا، ولم يكن هو يعرف ذلك وإن كان فيما يزعم إداريا حاذقا. ولكنه سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له إن هذه الفرقة ليس فيها معلم، فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه - وبطوله وعرضه - وسألنا (ما لكم يا أولاد؟) قلنا (يا سعادة البك المعلم غائب). قال (الدرس إيه؟) قلنا (ترجم يا سعادة البك). فأنشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظ يسمع منا ما يسره فقال (طيب، وإيه يعني؟). فقلنا (يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك). فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا فقلنا له أنه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكن لم نفهم عنه. فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه بوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم التلاميذ، وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئا. ثم قال إن المسألة بسيطة وإن النفي سهل جدا وإن أدواته في اللغة العربية معروفة وهي (لا ولم ولن الخ) والأمثلة سهلة ومعروفة، وشرع يسوق الأمثلة فلما بلغ (لم) قال (مثلا. . لم كتب. لم ضرب. لم ذهب) فانفجرنا ضاحكين ولنا العذر. فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا (تضحكون؟ إبكون. . إبكون) فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك. ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل).
ومن معلميه في هذه المدرسة شيخ كاتوا يسمونه فيما بينهم (الأسد) وكان قاسيا غليظ الكبد سريع الغضب، ومن لوازمه (خيزرانة) قصيرة يدسها في طيات ثيابه. . (وقد أطعمنها مرارا كثيرة، وذاقتها كفتي وذراعاي وساقاي وظهري وعرفت طعمها كلها بالخبرة الطويلة والتجربة المعتادة).
وإلى هذه المدرسة، أو إلى معلم الخط فيها، يعزو المازني رداءة خطه، وحكاية ذلك ما نرويه هنا عنه.
(كان الشيخ الذي يعلمنا الخط وحشا، أعني أنه لم يكن وحشا حقيقيا، وإنما كان وحشا آدميا غليظ القلب منحوس الضريبة، وكان بناء المدرسة عتيقا متداعيا، والأبواب ذات مصراع واحد وكانت إذا فتحت تنسد بالحجارة. فكان هذا الشيخ لا يعاقب التلميذ إلا بشيء واحد. يضع الواحد راحته على المكتب، ويجيء الشيخ بحجر الباب ويدق به عقل الأصابع. وكان هذا عقابه الوحيد على رداءة الخط، وعلى كل خطأ أو ذنب يرتكب فكيف يرجى ممن تدق أصابعهم بالحجارة أن يحسنوا الخط ويجيدوا الكتابة؟ فهذا سبب أن خطي رديء).
وأتم الطفل دراسته الابتدائية. وجاء أخوه الأكبر إلى أمه يشير عليها بأن تكتفي من تعليمه بهذا القدر. على أنها أبت ذلك وأصرت على إبائها حين ألح عليها، حتى أنذرها ذلك الأخ أنه مانع عنهما بعد ذلك معونته وقابض يده. ولعل هذه الحادثة زادت المازني الطفل شعورا بوطأة الفقر وحنقا عليه، ودفعته إلى ذبل الجهد في سبيل تحقيق رغبة أمه في أن يتم تعليمه إلى نهايته. وكانت الأيام قد أنضجته وتقدمت به فساعده ذلك على أن يصمد لتجارب الحياة وأن يستوعب جيدا دروسها القاسية.
ودخل المازني المدرسة الخديوية وهو على أعتاب الشباب. ولعل هذه الفترة - فترة الدراسة الثانوية - كانت بداية التكوين الحقيقي للرجل الذي صاره من بعد. ولعلها كذلك كانت بداية ميله إلى القراءة والأدب، فما كانت الدراسة الابتدائية لتسمح بإظهار مثل هذا الميل، فضلا عن أن سنه لم تكن تهيؤه قبل ذلك للقراءة لواسعة أو الصبر عليها.
ولا يشير المازني كثيرا إلى فترة دراسته الثانوية فيما كتب عن ذكريات طفولته وصباه، فلعلها قد تقضت في الجد الصرف من ناحية مشقة التحصيل، وفي محنة قاسية من شظف الرزق والمعيشة. على أنه يحدثنا أنه أخريات هذه الفترة_وكان قد بلغ السادسة عشر اعترضت الحمى طريقه وألحت وطأتها عليه، وقضى طيلة صيف ذلك العام وهو يعاني وقدتها. ويقول (في إحدى الليالي ثقلت علي وطأة المرض جدا، حتى جزعت أمي على ما أخبرتني بعد ذلك، وكادت توقن إني هامة اليوم أو غد، لولا أن الأم لا تفقد أملها. وكنا في بيت كل غرفة فيه تصلح أن تكون ساحة أو ملعبا، وكانت نوافذ الحجرة التي أرقد فيها تطل على فناء البيت وفيه شجرة جميز عظيمة، تصل أغصانها الذاهبة في الهواء إلى النوافذ، وكنا نضع قليل الماء على أحد هذه الشبابيك لتبرد، فحدث أن مدت أمي يدها إلى قلة تريد أن تشرب، ففلتت القلة من بين أصابعها وهوت إلى أرض الفناء ففزعت أمي واضطربت جدا، وكبر في ظنها أن هذا نذير بموتي، وخطر لها أن تنحدر إلى الفناء في فحمة الليل لترى أسلمت القلة أم تحطمت. . ومن العجائب أن القلة لم يصبها سوء، ولعل ذلك لأنها وقعت على أرض رخوة طرية كثيرة البلل تحت ظل الشجرة. وقد حدثتني أمي بعد ذلك وهي تروي لي هذه القصة أنها بكت وأنها عجزت عن القيام، فظلت قاعدة على الأرض غير عابئة بالبلل، والرطوبة والوحل، وفي يدها القلة، والدموع تنهمر من عينيها؛ دموع الأمل والاستبشار. وقضت ساعة فيما تحس، ثم نهضت فصعدت، ودنت مني وأنا نائم، ولمست وجهي بكفها، مترفقة محاذرة، مخافة أن توقظني، فإذا أنا أتصبب عرقا، وإذا بثيابي كلها - كما قالت - عصرة. وأصبحت وقد ذهبت عني وقدة الحمى وأخذت أتماثل).
ويتحدث المازني عن الفرق بين الدراستين الابتدائية والثانوية فيقول: (إن التعليم الثانوي كان انتقالا أدق المعاني، فقد صار كل ما في المدرسة إنجليزيا - الناظر والمدرسون والتعليم - ما عدا اللغة العربية، ولم يكن تدريس اللغة العربية خيرا من تدريسها في الوقت الحاضر، ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان - لا أدري لماذا؟ - وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلا طيبا ووقورا مهيبا، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده فيدعو له الشيخ، ولا نستغرب نحن شيئا من ذلك، بل نراه أمرا طبيعيا جدا. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس في نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فإني أراني إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعني إلا إكبارهم حين ألتقي بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئا يستحق الذكر).
وللمازني مع الشيخ حمزة فتح الله حادثة طريفة لا تخلو من دلالة. وكان يؤدي الامتحان الشفوي في الشهادة الثانوية، والشيخ رئيس لجان اللغة العربية. وندع المازني يروي بقلمه قصته مع الشيخ:
(لما جاء دوري اتفق أنه كان موجودا، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألني ماذا أحفظ؟ وكنت في صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبي صلى الله عليه وسلم فعلقت بذهني وألهمني الله أن أقول إني أحفظ خطبة للنبي، ففرح الشيخ جدا وخلع حذاءه وصاح (قل يا شاطر، قل يا شاطر فتح الله عليك) وسترني الله فلم أخطئ، واكتفى الشيخ بهذا وأعفاني من النحو والصرف والإعراب).
وقد التقى المازني بالشيخ مرة أخرى. وكان اللقاء في هذه المرة عاصفا، تجلى فيه غضب الشيخ الحليم وتحفز الطالب الطلعة. ولا بأس أن نورد هنا حديث ذلك اللقاء وإن كنا نسبق بذلك ترتيب الحوادث قليلا؛ فقد كان المازني يوم ذاك في آخر عهده بمدرسة المعلمين، وكان يؤدي الامتحان النهائي للتخرج، وكانت لجنة الامتحان الشفوي في اللغة العربي برياسة الشيخ حمزة ومن أعضائها الشيخ عبد العزيز شاويش والأستاذ عاطف بركات. .
(فقال أحد إخواني بعد خروجه من الامتحان أن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذي يقع عليه الاختيار. ولم نكن ندرس لا نحوا ولا صرفا في المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب. فأيقنا بالفشل وجاء دوري فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه فناولني كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت. ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهي (إعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها) إلى آخره، فقال ضع الكتاب فوضعته. فسألني عن العدوان والفعلين عدا واعتدى وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التي يكون عليها الفعل (اعتدى) مثل (اعتديا) للماضي المثنى و (اعتديا) للأمر، فسألني لماذا كان الماضي بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببا وقلت أنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بها هكذا. فدهش لهذا الجواب وقال ولكن لهذا سببا. قلت إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فإن هذا يكفي ولا داعي للبحث عن سبب مختلق. فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه، وحدثت نفسي أنه خير لي وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطي الجهل. وأصررت على رأي وكاد يحدث ما لا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش تدارك الأمر، فقد نظر في ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال (العصر وجب يا مولانا) فنهض الشيخ وهو يقول (إي نعم) وذهب للصلات ونسيني فكان في هذا نجاتي).
للكلام بقية
محمد محمود حمدان
مجلة الرسالة - العدد 1014
بتاريخ: 08 - 12 - 1952