وهكذا، فإن توجيه أفق البحث التاريخي نحو مثل هذه المواضيع والإشكاليات كفيل برسم صورة أقرب إلى الواقع عن طبيعة الدولة المغربية وعلاقتها برعاياها عبر تاريخ المغرب. كما أنه كفيل، في الوقت ذاته، بتجديد الكتابة التاريخية المغربية من الناحية الموضوعاتية على الأقل، على أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن عصر الموحدين عرف ميلاد تقاليد قضائية كتب لها الذيوع والاستمرار. والحق أن هذا العصر لم يشهد ميلاد مثل هذه التقاليد وحدها، بل شهد أيضا ظهور مفاهيم ومصطلحات أخرى لا تزال متداولة إلى الآن نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر مفاهيم: المخزن، الظهير، المغرب والبركة (بمفهومها المادي).
مقدمـــة:
كثر الحديث بالمغرب في السنوات الأخيرة عن ضرورة تجديد الكتابة التاريخية وإعادة كتابة تاريخ المغرب من منظورات جديدة تتجاوز إشكالية الرد على الكتابات الأجنبية. وبتصفح ما ينشر من أبحاث تاريخية لا يشعر المرء إلا بتطور بطيء للغاية. إذ باستثناء قلة من الدارسين، لا يزال التيار التقليدي هو المهيمن على ساحة الكتابة التاريخية سواء من حيث المناهج المطبقة أو طبيعة المواضيع المدروسة.
وهكذا فإن تاريخ المغرب لا يزال حقلا بكرا، فميادين الاقتصاد والمجتمع والعقليات تظل فضاءات تنتظر معول البحث التاريخي. ذلك أن إضاءة الجوانب المعتمة من هذه الفضاءات كفيلة بالكشف عن السريع والبطيء و"الثابت" في التطور الحضاري للمغرب. إن هذا الهم الثقافي هو الذي دفعنا إلى الدخول في "مغامرة" الاقتراب من نظام العقوبات بالمغرب الوسيط. على أن ما يشفع لنا في اقتحام مثل هذا الموضوع الشائك هو غياب دراسات ذات منحى تاريخي تعنى بتأثير العقوبات على الأفراد والجماعات، كما تعنى بميلاد السجن في المجتمع والثقافة المغربيين.
1 – الوظيفة السياسية والاجتماعية والرمزية للعقوبة:
إن تفكيك عناصر "العقل التأديبي" المغربي خلال المرحلة الوسيطية كفيل بجعلنا نقف على طبيعة السلطة وطريقة تعاملها مع رعاياها. وبالعودة إلى آراء ميشيل فوكو([1]) سنلاحظ أنه يقترح علينا أن لا نكتفي بالنظر إلى العقوبات والسجن كمجرد آليات للقمع، وإنما علينا أن نوسع أفق تحليلنا فنعالجها كوظيفة اجتماعية. والحق أن السلطة بالغرب الإسلامي لم تكتف بالعقوبات والسجن لفرض هيمنتها وسيادتها على الرعايا، بل تجاوزت ذلك إلى استخدام وسائل أخرى نذكر منها المستشفيات والمعازل([2]) وغيرها من الوسائل الإقصائية الأخرى. ويبدو الحضور الوازن للسلطة في معمار المدينة المغربية الوسيطية، ذلك أن هذه الأخيرة سعت إلى حماية نفسها من عصابات المتمردين والمشردين وقطاع الطرق عن طريق إحاطة نفسها بأسوار عالية ووضع حراس على أبوابها كما عملت في الآن نفسه على حماية نفسها من "الشاذين" من أبنائها عن طريق بناء معازل وسجون.
وينبغي الاعتراف بأننا لا نسعى في هذا العرض إلى إنجاز جرد للعقوبات التي كانت سائدة بالمغرب خلال العصر الوسيط، فمثل هذا العمل كفانا فقهاء وقضاة المرحلة المدروسة مهمة القيام به، ذلك أن المطلع على مظان ومصادر المرحلة يجد بها أنواعا لا حصر لها من العقوبات التي أقر أغلبها الشرع الإسلامي. إن ما سنحاول القيام به هو ربط هذه العقوبات بطبيعة الفكر السياسي والاجتماعي السائد وبطبيعة الأنظمة السياسية الباحثة عن المشروعية بكل الوسائل وضمنها وسائل العقاب والسجن والقتل والتغريب وفرض الإقامة الجبرية. فتحليل الدلالات المضمرة في كل عقوبة سيساعد على رسم صورة بدون مساحيق للمجتمع المدورس، كما سيساعد ولا شك، على إبراز الوجه الحقيقي للسلطة. إذ العقاب، في التحليل الأخير، مسألة سياسية قبل أن يكون مسألة شرعية أو "قانونية". فتداخل الشرعي والسياسي يعتبر سمة بارزة من سمات العصر الوسيط، ذلك أن الإساءة للشرع يعني ضمنيا الإساءة للسلطة السياسية القائمة باعتبارها حارسة له، كما أن العكس صحيح على كل حال.
لنعد الآن إلى المصادر الوسيطية لتفحص ما تقدمه لنا من مادة تخدم الموضوع المنوه به. إن أول ملاحظة يمكن إبداؤها هي أن كتب الفقه والنوازل وكتب الحسبة تأتي على رأس المصادر التي تقدم مادة دسمة بخصوص مختلف أنواع العقوبات السائدة خلال المرحلة الوسيطية. فالفقيه والقاضي باعتبارهما مرشدين شرعيين للماسكين بمقاليد الأمور السياسية، يقرران نوعية العقوبة التي يستوجبها كل فعل جانح. على أن كتب الحوليات السياسية تقدم بدورها عددا لا حصر له من ردود الأفعال العقابية التي أقدم عليها حكام المغرب الوسيط قصد الحفاظ على وحدة الدولة ضد الثوار المنتزين.
لن نلتفت إلى بعض العقوبات الصغيرة التي يطلق عليها الفقهاء والقضاة عادة لفظ "التعزير"، ولا لمثيلاتها المقررة من طرف الشرع الإسلامي في حق مرتكبي الكبائر من شرك بالخالق وقتل وزني وسرقة لأننا نعلم أن أحكام الفقهاء والقضاة تكاد تتفق بخصوصها. إن اهتمامنا سينصب بالأساس على العقوبات التي يختلف المشرعون حولها، والتي تكون في الغالب ذات طابع سياسي أو مذهبي، فهذه الأخيرة هي –في نظرنا- التي تستحق العناية لأنها تراعي في الغالب مصلحة الحاكم في الوقت الذي تغيب فيه تعاليم الشرع ومقرراته.
تعتبر الدولة المغربية الوسيطية دولة عسكرية، أولت اهتمامها المركزي لقضايا الحرب و"الجهاد" وما يترتب عنهما من فروع ترتبط بالأمن والاستقرار. لقد كانت مسألة الأمن على رأس أولويات الدولة. ذلك أن الحفاظ على وجودها كان يتطلب التوفر على قوة عسكرية ضخمة تستطيع التدخل في أية لحظة لردع الثوار ودفع الخطر الخارجي. كما كان يتطلب في الآن نفسه التوفر على "عملاء" وجواسيس في الداخل يراقبون تحركات الرعايا وطبيعة الأنشطة الاقتصادية والثقافية والسياسية التي يقومون بها. إن دولا هذه بنيتها لا يمكن أن يفلح في حكمها سوى حكام يتميزون بالقسوة والاستبداد وسفك الدماء. ولعل الوصف الذي أورده العماد الحنبلي في حق الخليفة عبد المومن بن علي أول خلفاء الموحدين يعبر أحسن تعبير عن نموذج الحاكم المطلوب خلال العصر الوسيط. فقد وصفه قائلا: "وكان سفاكا لدماء من خالفه. سأل أصحابه مسألة ألقاها عليهم فقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، فلم ينكر ذلك عليهم. فكتب بعض الزهاد هذين البيتين ووضعهما تحت سجادته وهما:
يا ذا الذي قهر الأنام بسيفه ماذا يضرك أن تكون إلهـــا
ألفظ بها فيما لفظت فإنــــه لم يبق شيء أن تقول سواها([3])
ولم يكتف السلطان العصبوي بما كان يصله من أخبار عن طريق عملائه، بل إنه إمعانا في الاحتياط كان يسعى بوسائله الخاصة إلى معرفة ما كان يدور داخل دولته. فالخليفة المذكور "كان يتزيى بزي العامة ليقف على الحقائق"([4]). لقد كان السلاطين في الدول ذات البنى العسكرية لا يتورعون من أجل الحفاظ على مناصبهم عن التضحية بأقرب المقربين إليهم، بل وأحيانا لا يتورعون عن قتل أفراد عائلتهم. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة لعل أهمها إقدام الخليفة الموحدي يعقوب المنصور على قتل أخيه الأمير أبي حفص الملقب بالرشيد وعمه الشاعر المعروف بأبي الربيع سليمان([5]). وقبله لم يتوان جده عبد المومن عن إعدام أخوي المهدي بن تومرت متهما إياهما بالطمع في الخلافة([6]).
وإذا كانت هذه هي حال أقرب المقربين إلى السلاطين، فإن التعامل مع الأباعد لم يكن يتطلب من أولئك السلاطين جهدا كبيرا في التفكير قبل اتخاذ قرار القتل. والتاريخ الموحدي يقدم الكثير من الأمثلة على إقدام الخلفاء على الإطاحة برؤوس معارضيهم([7]). وكانت تقنية قطع الرؤوس هي التقنية الأكثر سيادة خلال العصر الوسيط. ولم يكن الخلفاء والسلاطين يستهدفون تصفية معارضيهم فحسب، بل إنهم سعوا إلى إدخال الرهبة والخوف في نفوس بقية رعاياهم حتى لا يفكروا في الاقتداء بالثوار المقتولين. من هنا غدت تقنية تعليق رؤوس الثوار على شرفات أسوار المدن وفي الساحات العمومية من الأمور المألوفة خلال العصر المذكور، فابن عبد الملك([8]) عند حديثه عن الإجراء الانتقامي الذي اتخذه المأمون في حق القبائل الرافضة لمبايعته يذكر أنه "قتل من رجال أولئك القبائل ما لا يحصى حتى ليذكر أن عم شرفات مراكش بتعليق رؤوسهم فيها، وربما علق في بعض الشرفات رأسان، والمطروح في كل معترك أكثر من أن يحصره عد أو يأتي عليه حساب".
وكثيرا ما كانت الرؤوس تظل معلقة على شرفات الأسوار لعدة أيام مما يؤدي إلى انتشار الروائح الكريهة داخل أحياء المدن. فقد أشار ابن عذاري([9]) إلى أن المأمون علق على أسوار مراكش "نحو أربعة آلاف رأس وكان زمن القيظ، فشكا الناس روائحها للمامون. فجاوب من أخبره بذلك بأن قال: إن هامات المحاربين (قطاع الطرق) هي إحراز لهم وروائحها عطرة عند المحبين منتنة عند المبغضين". وهكذا فإن مراعاة شروط الصحة العامة تغيب عن أذهان سلاطين العصر الوسيط كلما تعلق الأمر بمصالحهم السياسية والأمنية. ولعل في جواب المأمون ما ينهض حجة على هذا الفهم المصلحي لإدارة الشأن العام.
وبموازاة مع تقليد "الصبر" أو قطع الأعناق، سادت تقاليد أخرى نذكر منها ذبح المعارضين والمنتزين من الوريد إلى الوريد في مشاهد عامة تثير الخوف والتقزز في نفوس "المتفرجين". وفي هذا الصدد نذكر بالحادثة التي أوردها المؤرخ أبو عبد الله الأندلسي([10]). فعندما أخضع المنصور الموحدي مدينة قفصة جيء إليه بالمتمردين الأسرى "فأمر بذبحهم، فذبحوا بين يديه أجمعين، ولم يفلت أحد منهم. وكان الأعمى حاضرا وهو نحوي فاضل. وكان الخليفة يعينه لقراءة أولاده، فطلب من المنصور أن يسمح له بشخص منهم يتولى ذبحه بيده. فأجابه الخليفة إلى ذلك. ولما اضطجع له طلب يسيرا من الملح والصعتر كما يفعله العامة بالضحايا، فأضحك بهذا الفعل جميع من حضر".
كما شاعت تقنية الإحراق في مشهد علني شبيه "بالهولكوست" الجماعي الذي كان يتعرض له السحرة والهراطقة بأوروبا الوسيطية. ويجدر التذكير في هذا الصدد بأن باب المحروق بفاس حمل هذه التسمية بسبب إحراق الخليفة يوسف الموحدي لأحد معارضيه في وسطه([11]).
وهكذا فإن التعذيب العلني كانيعتبر طقسا سياسيا، كما أن "تطبيق" الشريعة بدوره كان يعد تعبيرا عن إرادة الخليفة أو السلطان. ذلك أن الدرس المضمر داخل كل عقوبة هو إفهام الرعايا أن أية مخالفة تعتبر اعتداء على السلطان. وفي هذه الحالة، فإن للسلطان الحق الكامل في الرد على أية مخالفة أو اعتداء بما يناسبهما من العقوبات. وكثيرا ما كان الرد يأخذ شكل استعراض مفرط للقوة لإدخال الرهبة في نفوس "الجمهور"، إذ القصد في التحليل الأخير هو إظهار "قداسة" السلطان وبالتالي "مشروعية" العقوبة.
على أن التركيز في نظام العقوبات الوسيطي على أعضاء في الجسد دون غيرها لا يخلو بدوره من دلالات. فجز الرأس وبتر الأذرع والسيقان وسمل العيون، وسائل جزائية لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة للوقوف على أبعادها الرمزية وتأثيرها في المخيال الشعبي: ومهما يكن من أمر، فإن بتر الأعضاء كان يهدف من ورائه مبتكروه إلى نقش الجريمة على جسد "الجاني" تذكيرا له ولغيره بالحضور الدائم للسلطة. أما عقوبة جز الرأس فهي تمتح من التراث المغربي القديم، فالـ"الفتنة" في هذا التراث يتم القضاء عليها بقطع رأسها، والرأس هنا لا يعني سوى رأس متزعمها. وفضلا عن ذلك فإن مرجعية الرأس في التراث الإنساني عامة تعني العقل المدبر، إذ العقل أو الرأس هو الجهاز المتحكم في بقية الأعضاء، وبشله تشل تلك الأعضاء. ولا يزال التراث الشفاهي المغربي يحتفظ بمثل مفاده أن على المرء إن هو أراد أن يقتل حنشا أو ثعبانا أي يسحق رأسه.
2 – السجن كمرحلة متقدمة في النظام العقابي:
يعبر ميلاد السجن مرحلة متقدمة في تاريخ النظام العقابي الإنساني، فبظهوره سيعرف "العقل التأديبي" قفزة نوعية. وتتجلى هذه القفزة في أن السلطة ستوجه اهتمامها نحو إنتاج أجساد "طيعة" عوض تفكيك أوصالها أو تقطيعها كما كان سائدا من قبل. فالهدف لم يعد التغلب على الجسد نهائيا عن طريق سحقه وإبادته، وإنما أصبح الهدف هو ترويضه وتدجينه مراقبته([12]).
لا نعلم بالضبط تاريخ ظهور أول سجن بالمغرب الوسيط. فالنصوص المتوفرة تتحدث عن السجون بكثير من العمومية الشيء الذي لا يؤهل الباحث في تاريخ هذه المؤسسة إلى إلقاء أضواء كاشفة على كثير من جوانبها، على أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن الأدب الفقهي الإسلامي أولى لهذه المؤسسة ما تستحقه من الاهتمام من الناحية النظرية على الأقل، فمحمد بن عيسى بن المناصف (563هـ-620هـ) يجعل من بين مهام القاضي تفقد "أهل السجون والفحص عن جناياتهم والنظر فيما يجب من أمورهم. فمن ثبت عليه حق أو حد أخذ به وأقامه عليه، ومن وجب تسريحه خلي سبيله"([13]). ومن الاحتياطات التي ينصح نفس المؤلف القاضي باتخاذها التوفر على زمام يقيد فيه مساجينه بأسمائهم وجناياهم وتاريخ القبض عليهم ودخولهم السجن. كما أن عليه أن يتفقد زمامه ومساجينه كل أسبوع تلافيا لبقاء من لا ولي له في السجن بعد انقضاء مدة سجنه([14]).
ومن النقط الغامضة أيضا في تاريخ المؤسسة السجنية خلال العصر الوسيط الأعلى الجوانب المرتبطة بتغذية السجناء. فهل كانت مصاريف التغذية تتكفل بها الدولة، أم أنها كانت تأتي من هبات المحسنين وذوي الأريحية من الأثرياء؟ بخصوص عصر الموحدين نتوفر على نص ورد لدى ابن عبد الملك المراكشي([15]) يهم عصر الخليفة يعقوب المنصور يشير فيه إلى أن هذا الخليفة كان يتعهد السجناء "بما يخرجه لهم من الصدقات". والراجح أن الوضع نفسه هو الذي كان سائدا خلال عصر المرابطين. فالمؤرخ المجهول([16]) يشير إلى أن الأزمة الاقتصادية الناتجة عن حصار الموحدين لمراكش أدت إلى فراغ مخازن الدولة مما أثر على وضعية السجناء حتى أنهم أكلوا بعضهم بعضا. أما بخصوص العصر المريني، فإن النصوص التي بين أيدينا لا تفيد في الجواب على هذه الإشكالية. كلما نعلمه أن إصلاح السجون وترميمها خلال هذا العصر كان يتم اعتمادا على مدخرات خزينة الأحباس أو مال المخزن في حالة غياب أو ضعف المؤسسة الحبسية([17]) وفي الوقت ذاته لا نعلم هل كان السجناء يشتغلون كي يتمكنوا من دفع كلفة اعتقالهم "الإصلاحي".
صحيح أن بعض النصوص ذات الصلة بالتاريخ الموحدي تشير إلى أن عبد المومن بن علي استعان بخدمات سجنائه لهدم مدينة فاس أثناء عودته من حركته الطويلة التي استنزف خلالها القوات المرابطية([18]). كما أن نصا آخر يذهب إلى أن حفيده يعقوب المنصور استخدم أسرى معركة الأرك في بناء سور مدينة الرباط ومسجد حسان([19]). غير أن ما يدفع الباحث إلى الاحتياط من مثل هذه النصوص أن أصحابها لا ينتمون إلى العصر الوسيط، فضلا عن أنهم لا يحيلون على مصدر معلوماتهم.
ومهما كان، فإن النصوص العائدة للمرحلة الوسيطية تتحدث عن وجود سجون قد يكون بعضها تميز بالسعة والضخامة. إذ بدون هذه السعة وتلك الضخامة لا يمكن فهم سر احتفاظ يعقوب المنصور بأربعين ألف أسير وهم حصيلة انتصار الأرك المشهور([20]). وبالعودة إلى تعداد حصيلة المآثر العمرانية المتخلفة عن العصر الوسيط، لا نعثر ضمنها على سجن واحد الأمر الذي يقف حجر عثرة أمام رسم خطاطة تقريبية لهندسة السجن وتفريعاته الداخلية. فبالعودة إلى كتاب جني زهرة الأس لعلي الجرجاني([21]) يصادف الباحث جردا مفصلا لجميع المنشآت ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي توفرت عليها المدينة زمن الخليفتين المنصور والناصر الموحديين، غير أنه لا يعثر ضمن هذه المنشآت على أي سجن، وهو ما يطرح أكثر من سؤال. فهل نرجع غياب ذكر السجن إلى عقلية المؤرخين التي تعتبر أن الحديث عن مثل هذه المؤسسات قد يقلل من قيمة تاريخهم؟ أم مرجعه إلى الرقابة التي مارستها الدولة على "المثقفين" حتى لا يهتموا بمثل هذه المؤسسات التي يؤثر وجودها على سمعتها و"مشروعيتها"؟ وللخروج من هذا المأزق نقترح أن يضع الباحثون الأثريون ضمن برنامجهم التنقيب في المناطق التي تشير النصوص إلى وجود سجون بها.
ومن خلال تتبع الشذرات المتعلقة بالسجون الواردة ضمن مؤلفات المرحلة، يتضح أن السجون الكبرى بدأت في الظهور خلال عصر المرابطين. حجتنا فيما نذهب إليه أن أبا مراون عبد الملك بن زهر الطبيب المعاصر لعلي بن يوسف يصرح بأنه شاهد وهو بسجن مراكش "قوما كانوا في أطياف سجنه المعروف بقرقدين يتطارحون على أعشاب كانت تزال من الشقوق ويأكلونها"([22]). ولربما يكون هذا السجن هو الذي عناه البيدق الصنهاجي([23]) إبان وصفه لحادثة إخراج الثوار المساندين لأخوي المهدي في انتفاضتهما على عبد المومن من سجن مراكش نحو الساحة العامة لإعدامهم. ومن المعتقد أيضا أن يكون سجن أغمات الذي ارتبطت شهرته بإقامة المعتمد بن عباد فيه إلى حين وفاته قد استمر في أداء دوره خلال عصر الموحدين. هذا على الأقل ما نستنتجه من النص الوارد عند البيدق الصنهاجي([24]) والذي يشير فيه إلى أن عبد المومن سجن به ابنه محمدا حينما عزله من ولاية العهد.
والظاهر من خلال النصوص أن تقليد بناء السجون قد استمر خلال عصر الموحدين. ذلك أن ابن الخطيب([25]) في وصفه للمعالم العمرانية لمدينة تينمل أشار إلى وجود سجن بها بناه محمد بن تومرت غداة استقراره بها، ويغلب على الظن أن هذا السجن يقع بالقرب من وادي أكنضيس إذا نحن صدقنا رواية عبد الله بن ابراهيم التسافتي التي تمتح بدورها من الرواية الشفوية السائدة في أوساط سكان المنطقة([26]). على أن السجن لم يكن هو الفضاء الوحيد الذي كان يسجن به المعارضون. ففي حالة اكتظاظ السجون كان يتم اللجوء إلى استغلال مخازن الحبوب([27]). كما كان السلاطين يلجأون إلى سجن معارضيهم بدور خاصة ملحقة بقصورهم([28])، أو بالصوامع كما فعل عبد المومن بالولي أبي يعزى([29]).
ولذا كانت النصوص المتوفرة لا تساعد على الإحاطة الشاملة بأوضاع السجون والسجناء، فإن الأمر يزداد سوءا حينما يتعلق الأمر بالسجون المخصصة للنساء. فالمؤرخون يلتزمون الصمت التام بخصوص هذه الإشكالية. فهل يدفعنا هذا السكوت المريب إلى القول بغياب سجون نسائية خلال العصر الوسيط؟ أم هل نذهب إلى القول باكتفاء الحكام بتأديب النساء دون الوصول إلى مرحلة سجنهن؟ أم هل نغامر بالقول بأن السجن الواحد كان مقسما إلى نصفين: نصف مخصص للرجال والنصف الثاني مخصص للنساء؟ وإذا قبلنا بهذا الافتراض الأخير، ماذا سيكون موقفنا من الأدب الفقهي الإسلامي الذي يأمر الإمام بأن يخصص للنساء سجنا منفردا تحت مراقبة حراس من جنسهن([30])؟ إنها تساؤلات لا نجد لها جوابا –في الوقت الراهن على الأقل- في الإسطوغرافيا الموروثة عن العصر المدروس.
ومن اللافت للانتباه أن بعض التقاليد ذات العلاقة بالسجن والعقوبات التأديبية التي لا تزال سائدة في العالم العربي الإسلامي في الوقت الراهن ترجع بجذورها إلى العصر الوسيط. نذكر من بين هذه التقاليد إقدام الخليفة أو السلطان على إصدار عفو شامل أو محدود على السجناء في إحدى المناسبات الدينية أو السياسية. كما عرف أيضا تقليد إسقاط العقوبة الحبسية مع إبقاء الغرامة. فالخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف أقدم عندما تم تجديد البيعة له عام 563هـ/1167م) على العفو عن المسجونين([31]). كما أقدم بنفس المناسبة على إسقاط العقوبة مع إبقاء الغرامة على البعض الآخر([32]). والراجح أيضا أن يكون صاحب الشرطة متوفرا على تعليمات تمنعه عند قيامه بمهامه ليلا من أسر كل الجانحين، إذ عليه أن يتجاوز عثرات بعض الأشخاص من ذوي المناصب المرموقة في جهاز الدولة السياسي والإداري([33]).
خاتمــــة:
يتبين من خلال الحصاد النهائي للمادة العلمية المتعلقة بإشكالية نظام العقوبات وميلاد السجن خلال العصر الوسيط أن النصوص القليلة المتناثرة بين المظان لا تؤهل الباحث لكتابة تاريخ متماسك "للعقل التأديبي" المغربي في تطوره الزماني والمكاني، فنحن لا نتوفر على نصوص ذات بال تساهم في الإحاطة بمختلف جوانب هذا العقل، إذ مازلنا لا نعلم بالضبط كيف كانت تغذية السجناء، وهل كانوا يتزيون بزي موحد كما هو الحال في الوقت الراهن؟ كما لا نعلم في الوقت ذاته هل كان لهم حق الحركة داخل قاعات الحبس، أم أنهم كانوا مقيدين بسلاسل مثبتة في الجدران؟ ويزداد الأمر غموضا وتعقيدا بخصوص سجن النساء وطبيعة العقوبات المطبقة عليهن.
وهكذا، فإن توجيه أفق البحث التاريخي نحو مثل هذه المواضيع والإشكاليات كفيل برسم صورة أقرب إلى الواقع عن طبيعة الدولة المغربية وعلاقتها برعاياها عبر تاريخ المغرب. كما أنه كفيل، في الوقت ذاته، بتجديد الكتابة التاريخية المغربية من الناحية الموضوعاتية على الأقل، على أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن عصر الموحدين عرف ميلاد تقاليد قضائية كتب لها الذيوع والاستمرار. والحق أن هذا العصر لم يشهد ميلاد مثل هذه التقاليد وحدها، بل شهد أيضا ظهور مفاهيم ومصطلحات أخرى لا تزال متداولة إلى الآن نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر مفاهيم: المخزن، الظهير، المغرب والبركة (بمفهومها المادي) n
[1]- دريفوس أوبير ورابينوف بول، مشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان، دون تاريخ، ص130
[2] – كانت الدولة تلجأ إلى تجميع المصابين برمض الجذام في حارات عرفت بحارات الجذمى، كانت تبنى خارج أسوار المدن. ففي مدينة فاس مثلا كانت حارتهم تقع خارج باب الخوخة.
أنظر: ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروط القرطاس، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط، 1993، ص40-41.
[3]– الحنبلي أبو الفلاح، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، بيروت، دون تاريخ، ج4، ص183.
[4]– نفسه، ص183
[5]– المراكشي عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، الطبعة 7، الدار البيضاء، 1978، ص400.
[6] – مجموعة من الكتاب، مجموع رسائل رسمية موحدية، تحقيق ليفي بروفنصال، الرباط 1941، ص38
[7] – هناك العديد من الأمثلة التي أقدم فيها الخلفاء والسلاطين على إبادة قبائل بأكملها بسبب رفضها الاعتراف بمشروعية سلطتهم. والباحث في كتب الحوليات السياسية سيعثر بسهولة على هذه النماذج والأمثلة.
[8]– المراكشي أبو عبد الله محمد، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق وتعليق الدكتور بن شريفة، الرباط 1984، السفر 8، القسم 1، ص194.
[9]– ابن عذاري أبو عبد الله محمد، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، القسم الموحدي، تحقيق مجموعة من الأساتذة، بيروت 1985، ص289
[10]– الأندلسي أبو عبد الله محمد، الحلل السندسية في الأخبار التونسية، طبعة حجرية، تونس 1287هــ ص184.
[11] – مجهول، الذخيرة السنية، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط 1972، ص38.
[12]– ميشيل فوكو…، مرجع سابق، ص138.
[13]– ابن الناصف محمد بن عيسى، تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام، أعده للنشر عبد الحفيظ منصور،تونس 1988، ص67.
[14] – نفس المصدر والصفحة.
[15] – الذيل والتكملة، ص8، ق1، ص341.
[16]– مجهول، الحلل الموشية في الأخبار المراكشية، تحقيق الدكتور سهيل زكار وعبد القادر زمامة، الدار البيضاء 1979، ص138.
[17]– الونشريسي أبو العباس أحمد، المعيار المعرب والجامع المغرب، نشر وزارة الأوقاف والشؤونالإسلامي، الرباط 1981، ج10، ص330
[18]– الزياني أبو القاسم، بغية الناظر والهيكل الجامع بما في التواريخ من الجوامع، مخطوط بالخزانة العامة، الرباط، رقم د 1250، ص62.
[19]– نفسه، ص62.
[20]– نفسه، ص62.
[21]– الجزنائي أبو الحسن علي، كتاب جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، طبع باعتناء الشيخ ألفرد بيل، الجزائر 1966، ص33-34.
[22]- نقلا عن، البزاز محمد الأمين، "حول المجاعات والأوبئة بالمغرب خلال العصر الوسيط"، مجلة كلية الآداب، الرباط، العدد18، 1988، ص101.
[23]– البيدق أبو بكر بن علي، أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط 1971، ص79.
[24] – نفسه، ص82.
[25] – ابن الخطيب لسان الدين، نفاضة الجراب في علالة الاغتراب، تحقيق محمد مختار العبادي، الدار البيضاء 1985، ص50.
[26] – التسافتي أبو عبد الله، رحلة الوافد، تحقيق علي صدقي أزايكو، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة دون تاريخ، ص122.
[27]– البيان المغرب، ص337.
[28]– نفسه، ص68.
[29] – ابن الزيات أبو يعقوب يوسف، التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أحمد التوفيق، الرباط 1984، ص215.
[30] – أبو البركات أبو زكريا يحيى الغماري، بشائر الفتوحات والسعود في أحكام التعزيرات والحدود، مخطوط الخزانة الحسنية، رقم 103، ص194.
[31] – ابن صاحب الصلاة عبد الملك، تاريخ المن بالإمامة، تحقيق عبد الهادي التازي، الطبعة الثالثة، بيروت 1987، ص266.
[32]– نفسه، ص267.
[33]– ابن سماك محمد بن أبي العلي، رونق التبحير في حكم السياسة والتدبير، مخطوط الخزانة العامة، الرباط، رقم د 1182، ورقة 19.
*
Are You suprised ?
مقدمـــة:
كثر الحديث بالمغرب في السنوات الأخيرة عن ضرورة تجديد الكتابة التاريخية وإعادة كتابة تاريخ المغرب من منظورات جديدة تتجاوز إشكالية الرد على الكتابات الأجنبية. وبتصفح ما ينشر من أبحاث تاريخية لا يشعر المرء إلا بتطور بطيء للغاية. إذ باستثناء قلة من الدارسين، لا يزال التيار التقليدي هو المهيمن على ساحة الكتابة التاريخية سواء من حيث المناهج المطبقة أو طبيعة المواضيع المدروسة.
وهكذا فإن تاريخ المغرب لا يزال حقلا بكرا، فميادين الاقتصاد والمجتمع والعقليات تظل فضاءات تنتظر معول البحث التاريخي. ذلك أن إضاءة الجوانب المعتمة من هذه الفضاءات كفيلة بالكشف عن السريع والبطيء و"الثابت" في التطور الحضاري للمغرب. إن هذا الهم الثقافي هو الذي دفعنا إلى الدخول في "مغامرة" الاقتراب من نظام العقوبات بالمغرب الوسيط. على أن ما يشفع لنا في اقتحام مثل هذا الموضوع الشائك هو غياب دراسات ذات منحى تاريخي تعنى بتأثير العقوبات على الأفراد والجماعات، كما تعنى بميلاد السجن في المجتمع والثقافة المغربيين.
1 – الوظيفة السياسية والاجتماعية والرمزية للعقوبة:
إن تفكيك عناصر "العقل التأديبي" المغربي خلال المرحلة الوسيطية كفيل بجعلنا نقف على طبيعة السلطة وطريقة تعاملها مع رعاياها. وبالعودة إلى آراء ميشيل فوكو([1]) سنلاحظ أنه يقترح علينا أن لا نكتفي بالنظر إلى العقوبات والسجن كمجرد آليات للقمع، وإنما علينا أن نوسع أفق تحليلنا فنعالجها كوظيفة اجتماعية. والحق أن السلطة بالغرب الإسلامي لم تكتف بالعقوبات والسجن لفرض هيمنتها وسيادتها على الرعايا، بل تجاوزت ذلك إلى استخدام وسائل أخرى نذكر منها المستشفيات والمعازل([2]) وغيرها من الوسائل الإقصائية الأخرى. ويبدو الحضور الوازن للسلطة في معمار المدينة المغربية الوسيطية، ذلك أن هذه الأخيرة سعت إلى حماية نفسها من عصابات المتمردين والمشردين وقطاع الطرق عن طريق إحاطة نفسها بأسوار عالية ووضع حراس على أبوابها كما عملت في الآن نفسه على حماية نفسها من "الشاذين" من أبنائها عن طريق بناء معازل وسجون.
وينبغي الاعتراف بأننا لا نسعى في هذا العرض إلى إنجاز جرد للعقوبات التي كانت سائدة بالمغرب خلال العصر الوسيط، فمثل هذا العمل كفانا فقهاء وقضاة المرحلة المدروسة مهمة القيام به، ذلك أن المطلع على مظان ومصادر المرحلة يجد بها أنواعا لا حصر لها من العقوبات التي أقر أغلبها الشرع الإسلامي. إن ما سنحاول القيام به هو ربط هذه العقوبات بطبيعة الفكر السياسي والاجتماعي السائد وبطبيعة الأنظمة السياسية الباحثة عن المشروعية بكل الوسائل وضمنها وسائل العقاب والسجن والقتل والتغريب وفرض الإقامة الجبرية. فتحليل الدلالات المضمرة في كل عقوبة سيساعد على رسم صورة بدون مساحيق للمجتمع المدورس، كما سيساعد ولا شك، على إبراز الوجه الحقيقي للسلطة. إذ العقاب، في التحليل الأخير، مسألة سياسية قبل أن يكون مسألة شرعية أو "قانونية". فتداخل الشرعي والسياسي يعتبر سمة بارزة من سمات العصر الوسيط، ذلك أن الإساءة للشرع يعني ضمنيا الإساءة للسلطة السياسية القائمة باعتبارها حارسة له، كما أن العكس صحيح على كل حال.
لنعد الآن إلى المصادر الوسيطية لتفحص ما تقدمه لنا من مادة تخدم الموضوع المنوه به. إن أول ملاحظة يمكن إبداؤها هي أن كتب الفقه والنوازل وكتب الحسبة تأتي على رأس المصادر التي تقدم مادة دسمة بخصوص مختلف أنواع العقوبات السائدة خلال المرحلة الوسيطية. فالفقيه والقاضي باعتبارهما مرشدين شرعيين للماسكين بمقاليد الأمور السياسية، يقرران نوعية العقوبة التي يستوجبها كل فعل جانح. على أن كتب الحوليات السياسية تقدم بدورها عددا لا حصر له من ردود الأفعال العقابية التي أقدم عليها حكام المغرب الوسيط قصد الحفاظ على وحدة الدولة ضد الثوار المنتزين.
لن نلتفت إلى بعض العقوبات الصغيرة التي يطلق عليها الفقهاء والقضاة عادة لفظ "التعزير"، ولا لمثيلاتها المقررة من طرف الشرع الإسلامي في حق مرتكبي الكبائر من شرك بالخالق وقتل وزني وسرقة لأننا نعلم أن أحكام الفقهاء والقضاة تكاد تتفق بخصوصها. إن اهتمامنا سينصب بالأساس على العقوبات التي يختلف المشرعون حولها، والتي تكون في الغالب ذات طابع سياسي أو مذهبي، فهذه الأخيرة هي –في نظرنا- التي تستحق العناية لأنها تراعي في الغالب مصلحة الحاكم في الوقت الذي تغيب فيه تعاليم الشرع ومقرراته.
تعتبر الدولة المغربية الوسيطية دولة عسكرية، أولت اهتمامها المركزي لقضايا الحرب و"الجهاد" وما يترتب عنهما من فروع ترتبط بالأمن والاستقرار. لقد كانت مسألة الأمن على رأس أولويات الدولة. ذلك أن الحفاظ على وجودها كان يتطلب التوفر على قوة عسكرية ضخمة تستطيع التدخل في أية لحظة لردع الثوار ودفع الخطر الخارجي. كما كان يتطلب في الآن نفسه التوفر على "عملاء" وجواسيس في الداخل يراقبون تحركات الرعايا وطبيعة الأنشطة الاقتصادية والثقافية والسياسية التي يقومون بها. إن دولا هذه بنيتها لا يمكن أن يفلح في حكمها سوى حكام يتميزون بالقسوة والاستبداد وسفك الدماء. ولعل الوصف الذي أورده العماد الحنبلي في حق الخليفة عبد المومن بن علي أول خلفاء الموحدين يعبر أحسن تعبير عن نموذج الحاكم المطلوب خلال العصر الوسيط. فقد وصفه قائلا: "وكان سفاكا لدماء من خالفه. سأل أصحابه مسألة ألقاها عليهم فقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، فلم ينكر ذلك عليهم. فكتب بعض الزهاد هذين البيتين ووضعهما تحت سجادته وهما:
يا ذا الذي قهر الأنام بسيفه ماذا يضرك أن تكون إلهـــا
ألفظ بها فيما لفظت فإنــــه لم يبق شيء أن تقول سواها([3])
ولم يكتف السلطان العصبوي بما كان يصله من أخبار عن طريق عملائه، بل إنه إمعانا في الاحتياط كان يسعى بوسائله الخاصة إلى معرفة ما كان يدور داخل دولته. فالخليفة المذكور "كان يتزيى بزي العامة ليقف على الحقائق"([4]). لقد كان السلاطين في الدول ذات البنى العسكرية لا يتورعون من أجل الحفاظ على مناصبهم عن التضحية بأقرب المقربين إليهم، بل وأحيانا لا يتورعون عن قتل أفراد عائلتهم. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة لعل أهمها إقدام الخليفة الموحدي يعقوب المنصور على قتل أخيه الأمير أبي حفص الملقب بالرشيد وعمه الشاعر المعروف بأبي الربيع سليمان([5]). وقبله لم يتوان جده عبد المومن عن إعدام أخوي المهدي بن تومرت متهما إياهما بالطمع في الخلافة([6]).
وإذا كانت هذه هي حال أقرب المقربين إلى السلاطين، فإن التعامل مع الأباعد لم يكن يتطلب من أولئك السلاطين جهدا كبيرا في التفكير قبل اتخاذ قرار القتل. والتاريخ الموحدي يقدم الكثير من الأمثلة على إقدام الخلفاء على الإطاحة برؤوس معارضيهم([7]). وكانت تقنية قطع الرؤوس هي التقنية الأكثر سيادة خلال العصر الوسيط. ولم يكن الخلفاء والسلاطين يستهدفون تصفية معارضيهم فحسب، بل إنهم سعوا إلى إدخال الرهبة والخوف في نفوس بقية رعاياهم حتى لا يفكروا في الاقتداء بالثوار المقتولين. من هنا غدت تقنية تعليق رؤوس الثوار على شرفات أسوار المدن وفي الساحات العمومية من الأمور المألوفة خلال العصر المذكور، فابن عبد الملك([8]) عند حديثه عن الإجراء الانتقامي الذي اتخذه المأمون في حق القبائل الرافضة لمبايعته يذكر أنه "قتل من رجال أولئك القبائل ما لا يحصى حتى ليذكر أن عم شرفات مراكش بتعليق رؤوسهم فيها، وربما علق في بعض الشرفات رأسان، والمطروح في كل معترك أكثر من أن يحصره عد أو يأتي عليه حساب".
وكثيرا ما كانت الرؤوس تظل معلقة على شرفات الأسوار لعدة أيام مما يؤدي إلى انتشار الروائح الكريهة داخل أحياء المدن. فقد أشار ابن عذاري([9]) إلى أن المأمون علق على أسوار مراكش "نحو أربعة آلاف رأس وكان زمن القيظ، فشكا الناس روائحها للمامون. فجاوب من أخبره بذلك بأن قال: إن هامات المحاربين (قطاع الطرق) هي إحراز لهم وروائحها عطرة عند المحبين منتنة عند المبغضين". وهكذا فإن مراعاة شروط الصحة العامة تغيب عن أذهان سلاطين العصر الوسيط كلما تعلق الأمر بمصالحهم السياسية والأمنية. ولعل في جواب المأمون ما ينهض حجة على هذا الفهم المصلحي لإدارة الشأن العام.
وبموازاة مع تقليد "الصبر" أو قطع الأعناق، سادت تقاليد أخرى نذكر منها ذبح المعارضين والمنتزين من الوريد إلى الوريد في مشاهد عامة تثير الخوف والتقزز في نفوس "المتفرجين". وفي هذا الصدد نذكر بالحادثة التي أوردها المؤرخ أبو عبد الله الأندلسي([10]). فعندما أخضع المنصور الموحدي مدينة قفصة جيء إليه بالمتمردين الأسرى "فأمر بذبحهم، فذبحوا بين يديه أجمعين، ولم يفلت أحد منهم. وكان الأعمى حاضرا وهو نحوي فاضل. وكان الخليفة يعينه لقراءة أولاده، فطلب من المنصور أن يسمح له بشخص منهم يتولى ذبحه بيده. فأجابه الخليفة إلى ذلك. ولما اضطجع له طلب يسيرا من الملح والصعتر كما يفعله العامة بالضحايا، فأضحك بهذا الفعل جميع من حضر".
كما شاعت تقنية الإحراق في مشهد علني شبيه "بالهولكوست" الجماعي الذي كان يتعرض له السحرة والهراطقة بأوروبا الوسيطية. ويجدر التذكير في هذا الصدد بأن باب المحروق بفاس حمل هذه التسمية بسبب إحراق الخليفة يوسف الموحدي لأحد معارضيه في وسطه([11]).
وهكذا فإن التعذيب العلني كانيعتبر طقسا سياسيا، كما أن "تطبيق" الشريعة بدوره كان يعد تعبيرا عن إرادة الخليفة أو السلطان. ذلك أن الدرس المضمر داخل كل عقوبة هو إفهام الرعايا أن أية مخالفة تعتبر اعتداء على السلطان. وفي هذه الحالة، فإن للسلطان الحق الكامل في الرد على أية مخالفة أو اعتداء بما يناسبهما من العقوبات. وكثيرا ما كان الرد يأخذ شكل استعراض مفرط للقوة لإدخال الرهبة في نفوس "الجمهور"، إذ القصد في التحليل الأخير هو إظهار "قداسة" السلطان وبالتالي "مشروعية" العقوبة.
على أن التركيز في نظام العقوبات الوسيطي على أعضاء في الجسد دون غيرها لا يخلو بدوره من دلالات. فجز الرأس وبتر الأذرع والسيقان وسمل العيون، وسائل جزائية لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة للوقوف على أبعادها الرمزية وتأثيرها في المخيال الشعبي: ومهما يكن من أمر، فإن بتر الأعضاء كان يهدف من ورائه مبتكروه إلى نقش الجريمة على جسد "الجاني" تذكيرا له ولغيره بالحضور الدائم للسلطة. أما عقوبة جز الرأس فهي تمتح من التراث المغربي القديم، فالـ"الفتنة" في هذا التراث يتم القضاء عليها بقطع رأسها، والرأس هنا لا يعني سوى رأس متزعمها. وفضلا عن ذلك فإن مرجعية الرأس في التراث الإنساني عامة تعني العقل المدبر، إذ العقل أو الرأس هو الجهاز المتحكم في بقية الأعضاء، وبشله تشل تلك الأعضاء. ولا يزال التراث الشفاهي المغربي يحتفظ بمثل مفاده أن على المرء إن هو أراد أن يقتل حنشا أو ثعبانا أي يسحق رأسه.
2 – السجن كمرحلة متقدمة في النظام العقابي:
يعبر ميلاد السجن مرحلة متقدمة في تاريخ النظام العقابي الإنساني، فبظهوره سيعرف "العقل التأديبي" قفزة نوعية. وتتجلى هذه القفزة في أن السلطة ستوجه اهتمامها نحو إنتاج أجساد "طيعة" عوض تفكيك أوصالها أو تقطيعها كما كان سائدا من قبل. فالهدف لم يعد التغلب على الجسد نهائيا عن طريق سحقه وإبادته، وإنما أصبح الهدف هو ترويضه وتدجينه مراقبته([12]).
لا نعلم بالضبط تاريخ ظهور أول سجن بالمغرب الوسيط. فالنصوص المتوفرة تتحدث عن السجون بكثير من العمومية الشيء الذي لا يؤهل الباحث في تاريخ هذه المؤسسة إلى إلقاء أضواء كاشفة على كثير من جوانبها، على أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن الأدب الفقهي الإسلامي أولى لهذه المؤسسة ما تستحقه من الاهتمام من الناحية النظرية على الأقل، فمحمد بن عيسى بن المناصف (563هـ-620هـ) يجعل من بين مهام القاضي تفقد "أهل السجون والفحص عن جناياتهم والنظر فيما يجب من أمورهم. فمن ثبت عليه حق أو حد أخذ به وأقامه عليه، ومن وجب تسريحه خلي سبيله"([13]). ومن الاحتياطات التي ينصح نفس المؤلف القاضي باتخاذها التوفر على زمام يقيد فيه مساجينه بأسمائهم وجناياهم وتاريخ القبض عليهم ودخولهم السجن. كما أن عليه أن يتفقد زمامه ومساجينه كل أسبوع تلافيا لبقاء من لا ولي له في السجن بعد انقضاء مدة سجنه([14]).
ومن النقط الغامضة أيضا في تاريخ المؤسسة السجنية خلال العصر الوسيط الأعلى الجوانب المرتبطة بتغذية السجناء. فهل كانت مصاريف التغذية تتكفل بها الدولة، أم أنها كانت تأتي من هبات المحسنين وذوي الأريحية من الأثرياء؟ بخصوص عصر الموحدين نتوفر على نص ورد لدى ابن عبد الملك المراكشي([15]) يهم عصر الخليفة يعقوب المنصور يشير فيه إلى أن هذا الخليفة كان يتعهد السجناء "بما يخرجه لهم من الصدقات". والراجح أن الوضع نفسه هو الذي كان سائدا خلال عصر المرابطين. فالمؤرخ المجهول([16]) يشير إلى أن الأزمة الاقتصادية الناتجة عن حصار الموحدين لمراكش أدت إلى فراغ مخازن الدولة مما أثر على وضعية السجناء حتى أنهم أكلوا بعضهم بعضا. أما بخصوص العصر المريني، فإن النصوص التي بين أيدينا لا تفيد في الجواب على هذه الإشكالية. كلما نعلمه أن إصلاح السجون وترميمها خلال هذا العصر كان يتم اعتمادا على مدخرات خزينة الأحباس أو مال المخزن في حالة غياب أو ضعف المؤسسة الحبسية([17]) وفي الوقت ذاته لا نعلم هل كان السجناء يشتغلون كي يتمكنوا من دفع كلفة اعتقالهم "الإصلاحي".
صحيح أن بعض النصوص ذات الصلة بالتاريخ الموحدي تشير إلى أن عبد المومن بن علي استعان بخدمات سجنائه لهدم مدينة فاس أثناء عودته من حركته الطويلة التي استنزف خلالها القوات المرابطية([18]). كما أن نصا آخر يذهب إلى أن حفيده يعقوب المنصور استخدم أسرى معركة الأرك في بناء سور مدينة الرباط ومسجد حسان([19]). غير أن ما يدفع الباحث إلى الاحتياط من مثل هذه النصوص أن أصحابها لا ينتمون إلى العصر الوسيط، فضلا عن أنهم لا يحيلون على مصدر معلوماتهم.
ومهما كان، فإن النصوص العائدة للمرحلة الوسيطية تتحدث عن وجود سجون قد يكون بعضها تميز بالسعة والضخامة. إذ بدون هذه السعة وتلك الضخامة لا يمكن فهم سر احتفاظ يعقوب المنصور بأربعين ألف أسير وهم حصيلة انتصار الأرك المشهور([20]). وبالعودة إلى تعداد حصيلة المآثر العمرانية المتخلفة عن العصر الوسيط، لا نعثر ضمنها على سجن واحد الأمر الذي يقف حجر عثرة أمام رسم خطاطة تقريبية لهندسة السجن وتفريعاته الداخلية. فبالعودة إلى كتاب جني زهرة الأس لعلي الجرجاني([21]) يصادف الباحث جردا مفصلا لجميع المنشآت ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي توفرت عليها المدينة زمن الخليفتين المنصور والناصر الموحديين، غير أنه لا يعثر ضمن هذه المنشآت على أي سجن، وهو ما يطرح أكثر من سؤال. فهل نرجع غياب ذكر السجن إلى عقلية المؤرخين التي تعتبر أن الحديث عن مثل هذه المؤسسات قد يقلل من قيمة تاريخهم؟ أم مرجعه إلى الرقابة التي مارستها الدولة على "المثقفين" حتى لا يهتموا بمثل هذه المؤسسات التي يؤثر وجودها على سمعتها و"مشروعيتها"؟ وللخروج من هذا المأزق نقترح أن يضع الباحثون الأثريون ضمن برنامجهم التنقيب في المناطق التي تشير النصوص إلى وجود سجون بها.
ومن خلال تتبع الشذرات المتعلقة بالسجون الواردة ضمن مؤلفات المرحلة، يتضح أن السجون الكبرى بدأت في الظهور خلال عصر المرابطين. حجتنا فيما نذهب إليه أن أبا مراون عبد الملك بن زهر الطبيب المعاصر لعلي بن يوسف يصرح بأنه شاهد وهو بسجن مراكش "قوما كانوا في أطياف سجنه المعروف بقرقدين يتطارحون على أعشاب كانت تزال من الشقوق ويأكلونها"([22]). ولربما يكون هذا السجن هو الذي عناه البيدق الصنهاجي([23]) إبان وصفه لحادثة إخراج الثوار المساندين لأخوي المهدي في انتفاضتهما على عبد المومن من سجن مراكش نحو الساحة العامة لإعدامهم. ومن المعتقد أيضا أن يكون سجن أغمات الذي ارتبطت شهرته بإقامة المعتمد بن عباد فيه إلى حين وفاته قد استمر في أداء دوره خلال عصر الموحدين. هذا على الأقل ما نستنتجه من النص الوارد عند البيدق الصنهاجي([24]) والذي يشير فيه إلى أن عبد المومن سجن به ابنه محمدا حينما عزله من ولاية العهد.
والظاهر من خلال النصوص أن تقليد بناء السجون قد استمر خلال عصر الموحدين. ذلك أن ابن الخطيب([25]) في وصفه للمعالم العمرانية لمدينة تينمل أشار إلى وجود سجن بها بناه محمد بن تومرت غداة استقراره بها، ويغلب على الظن أن هذا السجن يقع بالقرب من وادي أكنضيس إذا نحن صدقنا رواية عبد الله بن ابراهيم التسافتي التي تمتح بدورها من الرواية الشفوية السائدة في أوساط سكان المنطقة([26]). على أن السجن لم يكن هو الفضاء الوحيد الذي كان يسجن به المعارضون. ففي حالة اكتظاظ السجون كان يتم اللجوء إلى استغلال مخازن الحبوب([27]). كما كان السلاطين يلجأون إلى سجن معارضيهم بدور خاصة ملحقة بقصورهم([28])، أو بالصوامع كما فعل عبد المومن بالولي أبي يعزى([29]).
ولذا كانت النصوص المتوفرة لا تساعد على الإحاطة الشاملة بأوضاع السجون والسجناء، فإن الأمر يزداد سوءا حينما يتعلق الأمر بالسجون المخصصة للنساء. فالمؤرخون يلتزمون الصمت التام بخصوص هذه الإشكالية. فهل يدفعنا هذا السكوت المريب إلى القول بغياب سجون نسائية خلال العصر الوسيط؟ أم هل نذهب إلى القول باكتفاء الحكام بتأديب النساء دون الوصول إلى مرحلة سجنهن؟ أم هل نغامر بالقول بأن السجن الواحد كان مقسما إلى نصفين: نصف مخصص للرجال والنصف الثاني مخصص للنساء؟ وإذا قبلنا بهذا الافتراض الأخير، ماذا سيكون موقفنا من الأدب الفقهي الإسلامي الذي يأمر الإمام بأن يخصص للنساء سجنا منفردا تحت مراقبة حراس من جنسهن([30])؟ إنها تساؤلات لا نجد لها جوابا –في الوقت الراهن على الأقل- في الإسطوغرافيا الموروثة عن العصر المدروس.
ومن اللافت للانتباه أن بعض التقاليد ذات العلاقة بالسجن والعقوبات التأديبية التي لا تزال سائدة في العالم العربي الإسلامي في الوقت الراهن ترجع بجذورها إلى العصر الوسيط. نذكر من بين هذه التقاليد إقدام الخليفة أو السلطان على إصدار عفو شامل أو محدود على السجناء في إحدى المناسبات الدينية أو السياسية. كما عرف أيضا تقليد إسقاط العقوبة الحبسية مع إبقاء الغرامة. فالخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف أقدم عندما تم تجديد البيعة له عام 563هـ/1167م) على العفو عن المسجونين([31]). كما أقدم بنفس المناسبة على إسقاط العقوبة مع إبقاء الغرامة على البعض الآخر([32]). والراجح أيضا أن يكون صاحب الشرطة متوفرا على تعليمات تمنعه عند قيامه بمهامه ليلا من أسر كل الجانحين، إذ عليه أن يتجاوز عثرات بعض الأشخاص من ذوي المناصب المرموقة في جهاز الدولة السياسي والإداري([33]).
خاتمــــة:
يتبين من خلال الحصاد النهائي للمادة العلمية المتعلقة بإشكالية نظام العقوبات وميلاد السجن خلال العصر الوسيط أن النصوص القليلة المتناثرة بين المظان لا تؤهل الباحث لكتابة تاريخ متماسك "للعقل التأديبي" المغربي في تطوره الزماني والمكاني، فنحن لا نتوفر على نصوص ذات بال تساهم في الإحاطة بمختلف جوانب هذا العقل، إذ مازلنا لا نعلم بالضبط كيف كانت تغذية السجناء، وهل كانوا يتزيون بزي موحد كما هو الحال في الوقت الراهن؟ كما لا نعلم في الوقت ذاته هل كان لهم حق الحركة داخل قاعات الحبس، أم أنهم كانوا مقيدين بسلاسل مثبتة في الجدران؟ ويزداد الأمر غموضا وتعقيدا بخصوص سجن النساء وطبيعة العقوبات المطبقة عليهن.
وهكذا، فإن توجيه أفق البحث التاريخي نحو مثل هذه المواضيع والإشكاليات كفيل برسم صورة أقرب إلى الواقع عن طبيعة الدولة المغربية وعلاقتها برعاياها عبر تاريخ المغرب. كما أنه كفيل، في الوقت ذاته، بتجديد الكتابة التاريخية المغربية من الناحية الموضوعاتية على الأقل، على أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن عصر الموحدين عرف ميلاد تقاليد قضائية كتب لها الذيوع والاستمرار. والحق أن هذا العصر لم يشهد ميلاد مثل هذه التقاليد وحدها، بل شهد أيضا ظهور مفاهيم ومصطلحات أخرى لا تزال متداولة إلى الآن نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر مفاهيم: المخزن، الظهير، المغرب والبركة (بمفهومها المادي) n
[1]- دريفوس أوبير ورابينوف بول، مشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان، دون تاريخ، ص130
[2] – كانت الدولة تلجأ إلى تجميع المصابين برمض الجذام في حارات عرفت بحارات الجذمى، كانت تبنى خارج أسوار المدن. ففي مدينة فاس مثلا كانت حارتهم تقع خارج باب الخوخة.
أنظر: ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروط القرطاس، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط، 1993، ص40-41.
[3]– الحنبلي أبو الفلاح، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، بيروت، دون تاريخ، ج4، ص183.
[4]– نفسه، ص183
[5]– المراكشي عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، الطبعة 7، الدار البيضاء، 1978، ص400.
[6] – مجموعة من الكتاب، مجموع رسائل رسمية موحدية، تحقيق ليفي بروفنصال، الرباط 1941، ص38
[7] – هناك العديد من الأمثلة التي أقدم فيها الخلفاء والسلاطين على إبادة قبائل بأكملها بسبب رفضها الاعتراف بمشروعية سلطتهم. والباحث في كتب الحوليات السياسية سيعثر بسهولة على هذه النماذج والأمثلة.
[8]– المراكشي أبو عبد الله محمد، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق وتعليق الدكتور بن شريفة، الرباط 1984، السفر 8، القسم 1، ص194.
[9]– ابن عذاري أبو عبد الله محمد، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، القسم الموحدي، تحقيق مجموعة من الأساتذة، بيروت 1985، ص289
[10]– الأندلسي أبو عبد الله محمد، الحلل السندسية في الأخبار التونسية، طبعة حجرية، تونس 1287هــ ص184.
[11] – مجهول، الذخيرة السنية، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط 1972، ص38.
[12]– ميشيل فوكو…، مرجع سابق، ص138.
[13]– ابن الناصف محمد بن عيسى، تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام، أعده للنشر عبد الحفيظ منصور،تونس 1988، ص67.
[14] – نفس المصدر والصفحة.
[15] – الذيل والتكملة، ص8، ق1، ص341.
[16]– مجهول، الحلل الموشية في الأخبار المراكشية، تحقيق الدكتور سهيل زكار وعبد القادر زمامة، الدار البيضاء 1979، ص138.
[17]– الونشريسي أبو العباس أحمد، المعيار المعرب والجامع المغرب، نشر وزارة الأوقاف والشؤونالإسلامي، الرباط 1981، ج10، ص330
[18]– الزياني أبو القاسم، بغية الناظر والهيكل الجامع بما في التواريخ من الجوامع، مخطوط بالخزانة العامة، الرباط، رقم د 1250، ص62.
[19]– نفسه، ص62.
[20]– نفسه، ص62.
[21]– الجزنائي أبو الحسن علي، كتاب جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، طبع باعتناء الشيخ ألفرد بيل، الجزائر 1966، ص33-34.
[22]- نقلا عن، البزاز محمد الأمين، "حول المجاعات والأوبئة بالمغرب خلال العصر الوسيط"، مجلة كلية الآداب، الرباط، العدد18، 1988، ص101.
[23]– البيدق أبو بكر بن علي، أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط 1971، ص79.
[24] – نفسه، ص82.
[25] – ابن الخطيب لسان الدين، نفاضة الجراب في علالة الاغتراب، تحقيق محمد مختار العبادي، الدار البيضاء 1985، ص50.
[26] – التسافتي أبو عبد الله، رحلة الوافد، تحقيق علي صدقي أزايكو، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة دون تاريخ، ص122.
[27]– البيان المغرب، ص337.
[28]– نفسه، ص68.
[29] – ابن الزيات أبو يعقوب يوسف، التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أحمد التوفيق، الرباط 1984، ص215.
[30] – أبو البركات أبو زكريا يحيى الغماري، بشائر الفتوحات والسعود في أحكام التعزيرات والحدود، مخطوط الخزانة الحسنية، رقم 103، ص194.
[31] – ابن صاحب الصلاة عبد الملك، تاريخ المن بالإمامة، تحقيق عبد الهادي التازي، الطبعة الثالثة، بيروت 1987، ص266.
[32]– نفسه، ص267.
[33]– ابن سماك محمد بن أبي العلي، رونق التبحير في حكم السياسة والتدبير، مخطوط الخزانة العامة، الرباط، رقم د 1182، ورقة 19.
*
Are You suprised ?