في روايتها " على ذمة التحقيق" الفائزة بجائزة الدورة الثانية للمهرجان الدولي للرواية بوجدة (2016)، ااختارت الروائية المغربية آمنة برواضي تحسيس جمهور القراء والمتتبعين بحدة الألم الذي يعانيه الأبرياء الذين يودعون السجن على ذمة التحقيق، ثم تظهر براءتهم لاحقاً.
وليس من المستغرب أن تفتح الرواية المغربية هذا الملف، ما دام الكلام عن " العقوبات البديلة" قد أضحى فاكهة كثير من المجالس واللقاءات والمنتديات.
يقوم بنيان الرواية على التوازي السردي بين قصتين:
– قصة السجين حسين الذي يظهر في الفصل الأول "وحيداً بين الجدران"، تنهشه الأحزان، يستعيد ذكريات الصبا، ويوميات السجن بدءاً من ولوجه في اليوم ذاته الذي دخله صديقه "فؤاد" الذي شكلت صداقته نقطة مضيئة في تاريخه السجني، وانتهاء بمجالس "التحاكي" بينه وبين الوافد الجديد على الزنزانة "كمال".
– قصة السجين "احتياطيا" كمال الذي أودع السجن في قضية فساد برأته منها لاحقا لجنة تفتيش أفضى التحقيق الذي باشرته في مقر الإدارة إلى القبض على "الجناة الحقيقيين".
يكتشف حسين من خلال "اللباس" كعلامة أن الزائر الجديد "كمال" موضوع رهن الحراسة النظرية، فيفتح له قلبه وسجلات تجربته في السجن، فيبكي الآخر بكاء مرّا، ليس لأنه محكوم بعقوبة سجنية، بل لأنه "سيحمل بصمة ترافقه بقية عمره، وتلازم سمعته إلى ما بعد وفاته (…)، عقوبة المجتمع أقسى من أي قانون" (ص23)، فتمثلات المجتمع عن السجين سيئة للغاية، وبمجرد دخوله السجن، يعدّ مجرما حتى ولو ثبتت براءته لاحقا، الأمر الذي يضاعف شعور "كمال" السجين البريء بالألم والظلم، فقد "كان يحس بأنه السجين الوحيد الذي أدمت القيود إحساسه بدل معصميه" (ص 68).
أوقد السجن، رغم لياليه المدلهمة المكفهرة، في أحاديث كمال وشريكه في الزنزانة جذوة البوح والكشف من أجل تخفيف حدة الشعور بالعزلة في "مكان مغلق يتّجه إلى تجريد الشخص من حريته الخاصّة بفعل قرار العدالة".
تتخلل تلك الأحاديث سيرة حسين الذي رفض الانجرار لعصابات الجريمة وترويج المخدرات داخل السجن، وتتربع على رأس مشاهد استعادة سيرته العائلية صورة اليتيم الذي لا يتذكر وجه أمه التي تركته يتيما، ويبذل جهدا مضنيا لرسم ملامحها، بينما لا يجد صعوبة في تذكر "صورة أخته وعينيها الجميلتين.. وشعرها الغجري" ، وحيلها الذكية للتخلص من قسوة زوجة الأب المتغطرسة.
وفضلاً عن تلك الومضات المنتمية إلى "سيرة حسين الذاتية"، تحتل تمثلاته عن السجن والسجناء حيزاً لافتاً للانتباه من حواراته مع "كمال" الذي لم يتخلص من هول صدمة "دخول السجن في انتظار التحقيق" إلا بتلك الأحاديث التي جعلته موقنا بأن الأمل يتسلل من غمد ظلمات الزنزانة، فما صورة السجن في مرآة "تمثيلات حسين"؟
السجن، كما يتمثله حسين، مكان قذر تفشو فيه وتتكاثر الحشرات، وتروج المخدرات، ويستدرج النزلاء لاستعمالها حتى إذا بلغوا "مرحلة الاعتماد والاستغلال، استعملوا من طرف الأباطرة مروجين لبضاعتهم إذا علموا بحاجتهم "وفراغ جيوبهم" (الرواية، ص59)، و "في السجن (..) كل الحقوق مهضومة، لا تسمع للشعارات ولا للبرامج المعروضة على القنوات (…)، السجين والسجان في كفة واحدة: كلاهما يعاني من القضبان ومن مصادرة الحرية" (الرواية، ص71)
ورغم بشاعة الصورة النمطية المعروفة عن السجن، فإنه لم يقتل جذوة الإبداع في نفوس المبدعين، فإذا كان "فؤاد" قد قدح في نفس حسين الميل للرسم، إذ تقصد ترك "بصمته في المكان، كروح ترفرف فوق الزنزانة (أوراق وصباغة وفرشاة)، فإن "طارق، شاعر السجن، المثقل بالهموم، قد غرس في نفسه حب الشعر، والتغني بقصيدته التي لا يمل ترديدها". (الرواية، ص 72)
والسجن، علاوة على كل ذلك، ليس عقوبة "مساواتية استندت إلى جهاز قضائيّ مستقل" كما تعلمنا بعض المحاضرات النظرية، بل هو أبشع صورة لتكريس الفارق حتى في العقوبة، فكثير ممن اضطرته الخصاصة للسرقة، اقتيد للسجن، بينما يطير إلى الخارج من سرق خزينة الدولة، ليتمتع بأموال، هي في الأصل من حقنا جميعا". (الرواية، ص 63)
وإذا كانت الغاية من السجن، عزل النزيل عن المجتمع من أجل إيقاظ شعوره بالندم، فإن تجربة السجن التي عملت الروائية آمنة على تسريدها على لسان الراوي العليم بكل شيء، وكل من حسين وكمال، تعزز لا جدوى السجن في الحد من الجنوح إلى الجريمة بعد الخروج منه، فبعض المفرج عنهم لا يلبث إلا قليلا حتى يعود إلى أقبية السحن، مثل رشيد، الذي "يراهن على القيود، في الوقت الذي يراهن فيه غيره على الحرية والانطلاق من كل قيد (…)، (فكما أضحى ) الناس ينظرون إليه مجرما، خريج سجون (..) ولم يرض أحد أن يشغله، عاد بدوره يكره حياتهم كما يكرهون وجوده بينهم. أصبح له أهل بالسجن" (الرواية، ص21)
إن فشل المؤسسة السجنية في مكافحة الجنوح إلى معاودة اقتراف الجريمة، يجعل التفكير في العقوبات البديلة عن السجن تفكيراً مشروعاً، لاسيما إذا كان الاعتقال لأجل التحقيق، فقد أظهرت الروائية آمنة من خلال استبطان شعور "كمال" – وهو رهين الحراسة النظرية – بالظلم والخيبة والخوف من أحكام المجتمع ونظراته القاسية، أن التعويض عن الاعتقال بعد نيل البراءة، لن يأسو الجراح الغائرة التي يخلفها اقتياد برئ إلى السجن أياماً، ثم الإفراج عنه بعد ثبوت براءته والقبض على المجرمين الحقيقيين.
د. بوزيد الغلى
وليس من المستغرب أن تفتح الرواية المغربية هذا الملف، ما دام الكلام عن " العقوبات البديلة" قد أضحى فاكهة كثير من المجالس واللقاءات والمنتديات.
يقوم بنيان الرواية على التوازي السردي بين قصتين:
– قصة السجين حسين الذي يظهر في الفصل الأول "وحيداً بين الجدران"، تنهشه الأحزان، يستعيد ذكريات الصبا، ويوميات السجن بدءاً من ولوجه في اليوم ذاته الذي دخله صديقه "فؤاد" الذي شكلت صداقته نقطة مضيئة في تاريخه السجني، وانتهاء بمجالس "التحاكي" بينه وبين الوافد الجديد على الزنزانة "كمال".
– قصة السجين "احتياطيا" كمال الذي أودع السجن في قضية فساد برأته منها لاحقا لجنة تفتيش أفضى التحقيق الذي باشرته في مقر الإدارة إلى القبض على "الجناة الحقيقيين".
يكتشف حسين من خلال "اللباس" كعلامة أن الزائر الجديد "كمال" موضوع رهن الحراسة النظرية، فيفتح له قلبه وسجلات تجربته في السجن، فيبكي الآخر بكاء مرّا، ليس لأنه محكوم بعقوبة سجنية، بل لأنه "سيحمل بصمة ترافقه بقية عمره، وتلازم سمعته إلى ما بعد وفاته (…)، عقوبة المجتمع أقسى من أي قانون" (ص23)، فتمثلات المجتمع عن السجين سيئة للغاية، وبمجرد دخوله السجن، يعدّ مجرما حتى ولو ثبتت براءته لاحقا، الأمر الذي يضاعف شعور "كمال" السجين البريء بالألم والظلم، فقد "كان يحس بأنه السجين الوحيد الذي أدمت القيود إحساسه بدل معصميه" (ص 68).
أوقد السجن، رغم لياليه المدلهمة المكفهرة، في أحاديث كمال وشريكه في الزنزانة جذوة البوح والكشف من أجل تخفيف حدة الشعور بالعزلة في "مكان مغلق يتّجه إلى تجريد الشخص من حريته الخاصّة بفعل قرار العدالة".
تتخلل تلك الأحاديث سيرة حسين الذي رفض الانجرار لعصابات الجريمة وترويج المخدرات داخل السجن، وتتربع على رأس مشاهد استعادة سيرته العائلية صورة اليتيم الذي لا يتذكر وجه أمه التي تركته يتيما، ويبذل جهدا مضنيا لرسم ملامحها، بينما لا يجد صعوبة في تذكر "صورة أخته وعينيها الجميلتين.. وشعرها الغجري" ، وحيلها الذكية للتخلص من قسوة زوجة الأب المتغطرسة.
وفضلاً عن تلك الومضات المنتمية إلى "سيرة حسين الذاتية"، تحتل تمثلاته عن السجن والسجناء حيزاً لافتاً للانتباه من حواراته مع "كمال" الذي لم يتخلص من هول صدمة "دخول السجن في انتظار التحقيق" إلا بتلك الأحاديث التي جعلته موقنا بأن الأمل يتسلل من غمد ظلمات الزنزانة، فما صورة السجن في مرآة "تمثيلات حسين"؟
السجن، كما يتمثله حسين، مكان قذر تفشو فيه وتتكاثر الحشرات، وتروج المخدرات، ويستدرج النزلاء لاستعمالها حتى إذا بلغوا "مرحلة الاعتماد والاستغلال، استعملوا من طرف الأباطرة مروجين لبضاعتهم إذا علموا بحاجتهم "وفراغ جيوبهم" (الرواية، ص59)، و "في السجن (..) كل الحقوق مهضومة، لا تسمع للشعارات ولا للبرامج المعروضة على القنوات (…)، السجين والسجان في كفة واحدة: كلاهما يعاني من القضبان ومن مصادرة الحرية" (الرواية، ص71)
ورغم بشاعة الصورة النمطية المعروفة عن السجن، فإنه لم يقتل جذوة الإبداع في نفوس المبدعين، فإذا كان "فؤاد" قد قدح في نفس حسين الميل للرسم، إذ تقصد ترك "بصمته في المكان، كروح ترفرف فوق الزنزانة (أوراق وصباغة وفرشاة)، فإن "طارق، شاعر السجن، المثقل بالهموم، قد غرس في نفسه حب الشعر، والتغني بقصيدته التي لا يمل ترديدها". (الرواية، ص 72)
والسجن، علاوة على كل ذلك، ليس عقوبة "مساواتية استندت إلى جهاز قضائيّ مستقل" كما تعلمنا بعض المحاضرات النظرية، بل هو أبشع صورة لتكريس الفارق حتى في العقوبة، فكثير ممن اضطرته الخصاصة للسرقة، اقتيد للسجن، بينما يطير إلى الخارج من سرق خزينة الدولة، ليتمتع بأموال، هي في الأصل من حقنا جميعا". (الرواية، ص 63)
وإذا كانت الغاية من السجن، عزل النزيل عن المجتمع من أجل إيقاظ شعوره بالندم، فإن تجربة السجن التي عملت الروائية آمنة على تسريدها على لسان الراوي العليم بكل شيء، وكل من حسين وكمال، تعزز لا جدوى السجن في الحد من الجنوح إلى الجريمة بعد الخروج منه، فبعض المفرج عنهم لا يلبث إلا قليلا حتى يعود إلى أقبية السحن، مثل رشيد، الذي "يراهن على القيود، في الوقت الذي يراهن فيه غيره على الحرية والانطلاق من كل قيد (…)، (فكما أضحى ) الناس ينظرون إليه مجرما، خريج سجون (..) ولم يرض أحد أن يشغله، عاد بدوره يكره حياتهم كما يكرهون وجوده بينهم. أصبح له أهل بالسجن" (الرواية، ص21)
إن فشل المؤسسة السجنية في مكافحة الجنوح إلى معاودة اقتراف الجريمة، يجعل التفكير في العقوبات البديلة عن السجن تفكيراً مشروعاً، لاسيما إذا كان الاعتقال لأجل التحقيق، فقد أظهرت الروائية آمنة من خلال استبطان شعور "كمال" – وهو رهين الحراسة النظرية – بالظلم والخيبة والخوف من أحكام المجتمع ونظراته القاسية، أن التعويض عن الاعتقال بعد نيل البراءة، لن يأسو الجراح الغائرة التي يخلفها اقتياد برئ إلى السجن أياماً، ثم الإفراج عنه بعد ثبوت براءته والقبض على المجرمين الحقيقيين.
د. بوزيد الغلى