(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب)
(المازني)
بداية الشوط
انتهى المازني من مرحلة الدراسة الثانوية. وبقى عليه أن يختار لنفسه الاتجاه الذي يؤثره في المرحلة النهائية. وقد اختار مدرسة الطب، لأنها كانت المجال الذي آثره غير واحد من ذوي قرابته، ولأن (مصروفاتها المدرسية) كانت مما يدخل في طوقه، (. . ولكن ناظرها الدكتور كيتنج رمى لي بأوراقي في الشارع، لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريع فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي).
وطرق باب مدرسة الحقوق وهي أقرب إلى ملكاته، وكانت نفقاتها كذلك مما يقدر عليه. على أنه لم يكد يتقدم إليها حتى ضوعفت (مصروفاتها) فارتد عنها حائرا لا يعرف إلى أين يصير.
وكان القدر ينسج بعض خيوط هذه الحياة المضطربة، حياة المازني. حين أعلن في ذلك العام افتتاح مدرسة المعلمين العليا. وعرف المازني أن التعليم فيها بالمجان، وأن مدة الدراسة سنتان، بل إنها، فوق ذلك، تمنح تلاميذها مكافآت شهرية يسيرة ولكن لا بأس بها في ذلك الحين. واجتذبت المازني كل هذه المزايا إلى المدرسة، فألقى فيها بنفسه، على كره، بعد أن ردته الطب والحقوق.
وفي مدرسة المعلمين لم تكن مواد الدراسة كثيرة ولا البرامج طويلة، ولا تخصص فيها.
ويقول الأستاذ العقاد (كان الطالب في تلك المدرسة يستعد لتدريس الرياضة والجغرافية أو التاريخ في الوقت الواحد. . فأوحت سليقة الأدب إلى هذا الطالب الجديد على المدرسة أ يهدي أساتذتها إلى التفرقة بين ملكات العلوم وملكات الآداب، فقد اضرب عن تعليم الرياضة، بل أضرب - كما قال لي - عن فهمها ومذاكرتها. وذهب مع زملائه مرة في زيارة من زيارات التدريب التي تمتحن فيها خبرة المعلم الناشئ بصناعته، فكان زملاؤه يختارون درسا في الحساب أو درسا في الجبر أو درسا في تقويم البلدان، وأبى هو إلا أن يختار لدرسه أبياتا من الشعر العربي، ويشرحها على طريقته ويتكلم عن ناظمها، ويبين في سياق شرحها مزايا الشعر العربي بالقياس إلى أشعار الأمم الأخرى).
واستطاع طلبة الدفعة الأولى بالمدرسة - وكانوا سبعة وعشرين طالبا ليس إلا، أصغرهم سنا صاحبنا المازني - أن يقفوا أوقات فراغهم، في المدرسة، على المطالعة الخاصة. وكانت لهم في الأسبوع ثماني ساعات لا يتلقون فيها أي درس. ووجدوا الحث والتوجيه والتشجيع من الناظر والأساتذة. ويقول المازني عن ناظر المدرسة الإنجليزي لذلك العهد، الدكتور دليني، أنه كان عالما واسع الإطلاع، (فكان إذا رآني أستعير كتابا من مكتبة المدرسة يعدني بأنه يعيرني كتابا من عنده في موضوعه، وينجز وعده، ثم يتركني أياما، حتى إذا لقيني مصادفة في فترة من فترات الاستراحة بين الدروس، أقبل على وراح يحدثني من الكتابين، دون أن يسألني عنهما، أو عما قرأت منهما، ثم يمضي عني. فكان هذا يضطرني إلى العكوف على الكتب وكانت هذه إحدى وسائله لتشجيعنا على القراءة والإطلاع).
ومن المحامد التي تذكر لمدرسة المعلمين، ولناظرها الدكتور دليني على التخصيص، أنه كان أول من ثنى عنان الاهتمام في نفوس تلاميذه نحو طائفة من أدباء الإنجليز ونقادهم من أمثال ماكولي وكارليل وهازلت ولي هنت. فشاعت كتبهم بين ناشئة ذلك الجيل وساعدت على تنوير الأذهان وتحويلها إلى معنى الأدب الصحيح.
ولا ريب أن ما لمسه المازني من هذه الروح قد شحذ فيه موهبته الأدبية، فأقبل على الدرس والقراءة والتحصيل، وحفزه الجو الذي كان يضطرب فيه وتمتلئ بهوائه كلتا رئتيه، إلى المثابرة والتوفر على ثمار القرائح في شتى الآداب. وكان من زملائه في المدرسة من له مثل ميله إلى الأدب والكتابة فاتصل بهم، وعرف منهم في ذلك الحين الطالبين محمد السباعي وعبد الرحمن شكري، وكان كلاهما واسع الاطلاع على الأدبين العربي والإنجليزي. وقد أخرج شكري الجزء الأول من ديوانه وهو يعد طالب بالسنة الأولى وكان له في الوسط الأدبي ضجة كما كان السباعي يكتب في (الجريدة). . وكان هذا بمثابة الدافع والحافز للمازني، فعالج الكتابة والشعر، وبدأ ينشر في الصحف منذ عام 1907. وتوثقت الصلة بينه وبين شكري، أو كما يقول (فصار أستاذي وهو زميلي، وكان ينقصني التوجيه فتولاه شكري).
ووسع المازني، وهو طالب بعد، أن يقتني الكتب. . (وكان موظفو مكتبة (ديمر) يعرفونني ويأتمنونني لكثرة ما أشتري منهم، وهو في كل شهر فوق الكفاية لشهور. ومع ذلك غافلتهم وسرقت طبعة جيب لروايات شكسبير! وإن كانت عندي مجموعة كاملة منها بشروحها وتفاسيرها!)
وكان كما يقول كثير الغياب عن المدرسة؛ (لأني كنت أسهر إلى الصباح أقرأ وأحاول أن أفهم، ثم أنام فأخلف. فدعاني ناظر المدرسة، المرحوم إسماعيل حسنين باشا - عليه ألف رحمه - وقال لي يا بني إنك (حمار) في العلوم الرياضية، وأنا أخشى عليك الرسوب، ولا ألومك على التخلف ما دام هذا عذرك، فخذ إجازة خمسة عشر يوما، واقرأ ما شئت، ثم واظب بعد ذلك على الحضور).
وظل هذا نهمه بالقراءة المتقصية العميقة وعكوفه على الكتب ومنها الجاف العويص مثل (أصل الأنواع) لدارون. ولم يصرفه تخرجه واشتغاله بالتدريس عما كان فيه.
ويروي المازني أنه اتفق يوما أن كان في مقهى فيما يعرف الآن بميدان الإسماعيلية، (. . وكان معي كتاب الشاعر على مائدة الإفطار لويندل هولمز، وكنت اقرأ فيه. فمر أستاذي في الأدب الإنجليزي، فنهضت لتحيته، فقال لي بعد كلام، لقد أصبحت موظفا وأكبر ظني أنك انصرفت عن القراءة والإطلاع، فأريته الكتاب فربت على كتفي وقال، هذا ما أرجو، أن تظل تقرأ وتقرأ ولا تشبع، وأن تحرص دائما على أن تضيف عقولا على عقلك).
ولعل الإنصاف يقتضينا أن نزيد هنا كلمة حق. فقبل أربعين سنة، لم يكن يتيسر لطلاب الأدب في مصر سبيل القراءة الأدبية كما تتيسر لطلاب اليوم. فقد كانت أمهات الكتب العربية - في الأغلب - لا تزال مخطوطة في دور الكتب العامة أو المكتبات الخاصة، وكان ما طبع منها في مصر أو الشام، على ضآلته، حافلا بالنقص والتشويه والتصحيف.
وقد بلا المازني معاناة هذه الكتب في عهد الطلب، وراض نفسه على الجد والتشدد ومصابرة الجهد في سبيل لوصول إلى غايته وإشباع رغبته.
ونسوق هنا قصته مع كتاب (الأغاني) وكان من أول ما اقتنى من الكتب، وكانت نسخته التي وقعت له من طبعة ناقصة مشحونة بالخطأ والتصحيف في كثير من مواضعها. فعمد إلى أجزائه يفكها (ملازم) وجعل يحملها معه ملزمة ملزمة إلى دار الكتب ويراجع النصوص نصا نصا، وبيتا بيتا، ويدون التصحيح أو التكملات على ورق أبيض أعده لذلك، وصار يلصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، وهكذا إلى آخر الكتاب بأجزائه التي تربو على العشرين.
ومثل ذلك قصته مع ديوان (الشريف الرضي) - والشريف أول من اتجه إليهم المازني وآثرهم بميله من شعراء العربية - فقد وقعت له نسخة من مطبوعة الهند، ويقول المازني أنه لم يسلم فيها بيت واحد من التحريف والتشويه حتى أعياه فهم الديوان وكاد اليأس أن يصرفه عنه. على أنه أقبل عليه يعالج تصحيحه، وقضى في ذلك قرابة عامين، يوفق حينا ويخفق أحيانا. حتى عثر في النهاية على نسخة من طبعة بيروت - وهي أسلم وأصح في مواضع - فاستراح إليها.
أما قصته مع ديوان (ابن الرومي) فهي أعجب. ذلك أن الديوان بقى مخطوطا منسيا يكاد لا يذكره أحد، حتى التفت إليه أساتذة المذهب الجديد. فشرع المازني في نقله عن إحدى نسختيه - وصادف أنها كانت أردأهما خطا وأكثرهما غموضا - ثم عكف عليه سنوات طويلات المدد، يعالجه بالضبط والتصحيح ورد المحرف والمصحف وما أكثره. وأغرى بحفظه حتى كاد أن يأتي عليه.
تلك كانت، في حياة المازني، بداية الشوط وفاتحة الكتاب. . وهي بداية لمتكن تبعث كثيرا على الأمل أو تغرى بالثقة والاطمئنان، فقد كانت في جملتها تجربة قاسية من تلك التجارب التي تمتحن بها معادن الرجال؛ اتسمت، كما رأينا، بالعسر والجهد والكفاح، وزادها وطأة على وطأتها ما كان يحتدم بنفس المازني الشاب من إرادة الحياة وقوة الإحساس بها، وما كان يرد عليها من عواطف ومشاعر لم تكن لتجد سبيلها إلى الاستعلان بله الانطلاق. ولقد كان صبر المازني على هذه لتجربة القاسية وصموده لها إحدى عجائب بنيته المستدقة التي كانت تزيدها مشقة العمل وبهاظة العبء - في كافة مراحل العمر - فرط جلد ومصابرة واحتمال. . . وكأنما كانت الآلام والأعباء نصيب المازني المقدور في الحياة، وكأنما كان مهيأ لها لطبيعته وتكوينه منذ صباه.
(يتبع)
محمود محمد حمدان
مجلة الرسالة - العدد 1015
بتاريخ: 15 - 12 - 1952
(المازني)
بداية الشوط
انتهى المازني من مرحلة الدراسة الثانوية. وبقى عليه أن يختار لنفسه الاتجاه الذي يؤثره في المرحلة النهائية. وقد اختار مدرسة الطب، لأنها كانت المجال الذي آثره غير واحد من ذوي قرابته، ولأن (مصروفاتها المدرسية) كانت مما يدخل في طوقه، (. . ولكن ناظرها الدكتور كيتنج رمى لي بأوراقي في الشارع، لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريع فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي).
وطرق باب مدرسة الحقوق وهي أقرب إلى ملكاته، وكانت نفقاتها كذلك مما يقدر عليه. على أنه لم يكد يتقدم إليها حتى ضوعفت (مصروفاتها) فارتد عنها حائرا لا يعرف إلى أين يصير.
وكان القدر ينسج بعض خيوط هذه الحياة المضطربة، حياة المازني. حين أعلن في ذلك العام افتتاح مدرسة المعلمين العليا. وعرف المازني أن التعليم فيها بالمجان، وأن مدة الدراسة سنتان، بل إنها، فوق ذلك، تمنح تلاميذها مكافآت شهرية يسيرة ولكن لا بأس بها في ذلك الحين. واجتذبت المازني كل هذه المزايا إلى المدرسة، فألقى فيها بنفسه، على كره، بعد أن ردته الطب والحقوق.
وفي مدرسة المعلمين لم تكن مواد الدراسة كثيرة ولا البرامج طويلة، ولا تخصص فيها.
ويقول الأستاذ العقاد (كان الطالب في تلك المدرسة يستعد لتدريس الرياضة والجغرافية أو التاريخ في الوقت الواحد. . فأوحت سليقة الأدب إلى هذا الطالب الجديد على المدرسة أ يهدي أساتذتها إلى التفرقة بين ملكات العلوم وملكات الآداب، فقد اضرب عن تعليم الرياضة، بل أضرب - كما قال لي - عن فهمها ومذاكرتها. وذهب مع زملائه مرة في زيارة من زيارات التدريب التي تمتحن فيها خبرة المعلم الناشئ بصناعته، فكان زملاؤه يختارون درسا في الحساب أو درسا في الجبر أو درسا في تقويم البلدان، وأبى هو إلا أن يختار لدرسه أبياتا من الشعر العربي، ويشرحها على طريقته ويتكلم عن ناظمها، ويبين في سياق شرحها مزايا الشعر العربي بالقياس إلى أشعار الأمم الأخرى).
واستطاع طلبة الدفعة الأولى بالمدرسة - وكانوا سبعة وعشرين طالبا ليس إلا، أصغرهم سنا صاحبنا المازني - أن يقفوا أوقات فراغهم، في المدرسة، على المطالعة الخاصة. وكانت لهم في الأسبوع ثماني ساعات لا يتلقون فيها أي درس. ووجدوا الحث والتوجيه والتشجيع من الناظر والأساتذة. ويقول المازني عن ناظر المدرسة الإنجليزي لذلك العهد، الدكتور دليني، أنه كان عالما واسع الإطلاع، (فكان إذا رآني أستعير كتابا من مكتبة المدرسة يعدني بأنه يعيرني كتابا من عنده في موضوعه، وينجز وعده، ثم يتركني أياما، حتى إذا لقيني مصادفة في فترة من فترات الاستراحة بين الدروس، أقبل على وراح يحدثني من الكتابين، دون أن يسألني عنهما، أو عما قرأت منهما، ثم يمضي عني. فكان هذا يضطرني إلى العكوف على الكتب وكانت هذه إحدى وسائله لتشجيعنا على القراءة والإطلاع).
ومن المحامد التي تذكر لمدرسة المعلمين، ولناظرها الدكتور دليني على التخصيص، أنه كان أول من ثنى عنان الاهتمام في نفوس تلاميذه نحو طائفة من أدباء الإنجليز ونقادهم من أمثال ماكولي وكارليل وهازلت ولي هنت. فشاعت كتبهم بين ناشئة ذلك الجيل وساعدت على تنوير الأذهان وتحويلها إلى معنى الأدب الصحيح.
ولا ريب أن ما لمسه المازني من هذه الروح قد شحذ فيه موهبته الأدبية، فأقبل على الدرس والقراءة والتحصيل، وحفزه الجو الذي كان يضطرب فيه وتمتلئ بهوائه كلتا رئتيه، إلى المثابرة والتوفر على ثمار القرائح في شتى الآداب. وكان من زملائه في المدرسة من له مثل ميله إلى الأدب والكتابة فاتصل بهم، وعرف منهم في ذلك الحين الطالبين محمد السباعي وعبد الرحمن شكري، وكان كلاهما واسع الاطلاع على الأدبين العربي والإنجليزي. وقد أخرج شكري الجزء الأول من ديوانه وهو يعد طالب بالسنة الأولى وكان له في الوسط الأدبي ضجة كما كان السباعي يكتب في (الجريدة). . وكان هذا بمثابة الدافع والحافز للمازني، فعالج الكتابة والشعر، وبدأ ينشر في الصحف منذ عام 1907. وتوثقت الصلة بينه وبين شكري، أو كما يقول (فصار أستاذي وهو زميلي، وكان ينقصني التوجيه فتولاه شكري).
ووسع المازني، وهو طالب بعد، أن يقتني الكتب. . (وكان موظفو مكتبة (ديمر) يعرفونني ويأتمنونني لكثرة ما أشتري منهم، وهو في كل شهر فوق الكفاية لشهور. ومع ذلك غافلتهم وسرقت طبعة جيب لروايات شكسبير! وإن كانت عندي مجموعة كاملة منها بشروحها وتفاسيرها!)
وكان كما يقول كثير الغياب عن المدرسة؛ (لأني كنت أسهر إلى الصباح أقرأ وأحاول أن أفهم، ثم أنام فأخلف. فدعاني ناظر المدرسة، المرحوم إسماعيل حسنين باشا - عليه ألف رحمه - وقال لي يا بني إنك (حمار) في العلوم الرياضية، وأنا أخشى عليك الرسوب، ولا ألومك على التخلف ما دام هذا عذرك، فخذ إجازة خمسة عشر يوما، واقرأ ما شئت، ثم واظب بعد ذلك على الحضور).
وظل هذا نهمه بالقراءة المتقصية العميقة وعكوفه على الكتب ومنها الجاف العويص مثل (أصل الأنواع) لدارون. ولم يصرفه تخرجه واشتغاله بالتدريس عما كان فيه.
ويروي المازني أنه اتفق يوما أن كان في مقهى فيما يعرف الآن بميدان الإسماعيلية، (. . وكان معي كتاب الشاعر على مائدة الإفطار لويندل هولمز، وكنت اقرأ فيه. فمر أستاذي في الأدب الإنجليزي، فنهضت لتحيته، فقال لي بعد كلام، لقد أصبحت موظفا وأكبر ظني أنك انصرفت عن القراءة والإطلاع، فأريته الكتاب فربت على كتفي وقال، هذا ما أرجو، أن تظل تقرأ وتقرأ ولا تشبع، وأن تحرص دائما على أن تضيف عقولا على عقلك).
ولعل الإنصاف يقتضينا أن نزيد هنا كلمة حق. فقبل أربعين سنة، لم يكن يتيسر لطلاب الأدب في مصر سبيل القراءة الأدبية كما تتيسر لطلاب اليوم. فقد كانت أمهات الكتب العربية - في الأغلب - لا تزال مخطوطة في دور الكتب العامة أو المكتبات الخاصة، وكان ما طبع منها في مصر أو الشام، على ضآلته، حافلا بالنقص والتشويه والتصحيف.
وقد بلا المازني معاناة هذه الكتب في عهد الطلب، وراض نفسه على الجد والتشدد ومصابرة الجهد في سبيل لوصول إلى غايته وإشباع رغبته.
ونسوق هنا قصته مع كتاب (الأغاني) وكان من أول ما اقتنى من الكتب، وكانت نسخته التي وقعت له من طبعة ناقصة مشحونة بالخطأ والتصحيف في كثير من مواضعها. فعمد إلى أجزائه يفكها (ملازم) وجعل يحملها معه ملزمة ملزمة إلى دار الكتب ويراجع النصوص نصا نصا، وبيتا بيتا، ويدون التصحيح أو التكملات على ورق أبيض أعده لذلك، وصار يلصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، وهكذا إلى آخر الكتاب بأجزائه التي تربو على العشرين.
ومثل ذلك قصته مع ديوان (الشريف الرضي) - والشريف أول من اتجه إليهم المازني وآثرهم بميله من شعراء العربية - فقد وقعت له نسخة من مطبوعة الهند، ويقول المازني أنه لم يسلم فيها بيت واحد من التحريف والتشويه حتى أعياه فهم الديوان وكاد اليأس أن يصرفه عنه. على أنه أقبل عليه يعالج تصحيحه، وقضى في ذلك قرابة عامين، يوفق حينا ويخفق أحيانا. حتى عثر في النهاية على نسخة من طبعة بيروت - وهي أسلم وأصح في مواضع - فاستراح إليها.
أما قصته مع ديوان (ابن الرومي) فهي أعجب. ذلك أن الديوان بقى مخطوطا منسيا يكاد لا يذكره أحد، حتى التفت إليه أساتذة المذهب الجديد. فشرع المازني في نقله عن إحدى نسختيه - وصادف أنها كانت أردأهما خطا وأكثرهما غموضا - ثم عكف عليه سنوات طويلات المدد، يعالجه بالضبط والتصحيح ورد المحرف والمصحف وما أكثره. وأغرى بحفظه حتى كاد أن يأتي عليه.
تلك كانت، في حياة المازني، بداية الشوط وفاتحة الكتاب. . وهي بداية لمتكن تبعث كثيرا على الأمل أو تغرى بالثقة والاطمئنان، فقد كانت في جملتها تجربة قاسية من تلك التجارب التي تمتحن بها معادن الرجال؛ اتسمت، كما رأينا، بالعسر والجهد والكفاح، وزادها وطأة على وطأتها ما كان يحتدم بنفس المازني الشاب من إرادة الحياة وقوة الإحساس بها، وما كان يرد عليها من عواطف ومشاعر لم تكن لتجد سبيلها إلى الاستعلان بله الانطلاق. ولقد كان صبر المازني على هذه لتجربة القاسية وصموده لها إحدى عجائب بنيته المستدقة التي كانت تزيدها مشقة العمل وبهاظة العبء - في كافة مراحل العمر - فرط جلد ومصابرة واحتمال. . . وكأنما كانت الآلام والأعباء نصيب المازني المقدور في الحياة، وكأنما كان مهيأ لها لطبيعته وتكوينه منذ صباه.
(يتبع)
محمود محمد حمدان
مجلة الرسالة - العدد 1015
بتاريخ: 15 - 12 - 1952