إدورد وليم لين - 36 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر - للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)

هناك أشياء مختلفة يعدها المسلمون كالاحجبة، مثل تراب القبر النبوي وماء زمزم المقدس وستار الكعبة الأسود. ويقدر المسلمون ماء زمزم كثيراً لأنه يُرش على الأكفان. وسمعني أعرابي كنت أعطيته في الصعيد أثناء زيارتي الأولى لمصر دواء (أفاده) أسأل عن قليل من ماء زمزم إذ أن الكثير من المراكب الغاصة بالحجاج العائدين من مكة كانت نازلة في مجرى النيل. وربما ظن الرجل لسؤالي هذا أنني مسلم تقي، ومن ثم منحني ما كنت أحاول الحصول عليه ليعبر عن امتنانه. فذهب إلى منزل صديق له وعاد إلى مركبي حاملاً ربطة صغيرة فتحها أمامي قائلاً: (هاهي ذي أشياء أعرف أنك ستقدرها تقديراً عظيماً. هاهما علبتان من القصدير ملآنتان بماء زمزم، إحداهما لك تحتفظ بها لترشها على كفنك. وهذا سواك غُمس في ماء زمزم فتقبله مني ونظف به أسنانك فلن تؤلمك ولن تتلف أبداً). وأضاف قائلاً، وهو يظهر لي ثلاث كعكات من التراب الأشهب صغيرة مستطيلة مسطحة طول كل منها قيراط تقريباً وقد طبع عليها: باسم الله، تراب من أرضنا، مزج بريق بعضنا. وهذه صنعت من تراب فوق قبر الرسول صلعم، وقد اشتريتها بنفسي عند عودتي من الحج، وإني أعطيك إحداها وستجد فيها شفاء من كل داء. وسأحتفظ بالثانية لي. أما الثالثة فنأكلها معاً. وعلى ذلك كسر إحدى الكعكات نصفين وأكل منا نصيبه. وقد وافقته على أنها لذيذة وقبلت هداياه مسروراً. وقد أمكنني فيما بعد أن أزيد ما عندي من تحف عن مكة ومن ذلك قطعة من ستار الكعبة أحضرها الشيخ إبراهيم (بركهارت) من مكة وأعطاني إياها وريثه عثمان. وتوضع الكعكة أحياناً في غلاف من الجلد وتحمل كتعويذة، وتصنع أحياناً أقراصاً على شكل الكمثري الصغيرة وبحجمها وتعلق على الستر المحيط بمقام الأولياء أو على المقام ذاته أو على نوافذ المقام أو بابه.

والأحجبة التي يستعملها المصريون لجلب السعادة أو منع الشقاء كثيرة؛ والعادات الخرافية التي يمارسونها لهذه الأغراض مختلفة بحيث لا يكفي لوصفها مفصلة مجلد كبير. وتسمى هذه الأساليب التي لا يكون أساسها الدين أو السحر أو التنجيم (علم الرُّكَّة) إشارة إلى سخافتها، ولأن النساء يعتمدن عليها غالباً. ويعتبر البعض هذه الكلمة تحريفاً علمياً لعبارة (علم الرُّقْية) أي علم السحر. ويرى البعض الآخر أنها حلت محل العبارة الأخيرة بطريق التورية. وقد ذكرت عرضاً بعض العادات مما وصفته، وسأذكر بعض أمثلة أخرى.

من الشائع كثيراً أن يعلق القاهريون عود الند فوق أبواب المنازل الجديدة خاصة. ويعتبر هذا حجاباً يكفل للسكان عمراً مديداً وحياة سعيدة وللمنزل بقاء طويلاً. ويعتقد النساء أيضاً أن الرسول يزور المنزل الذي يعلق فيه هذا النبات. ويبقى العود معلقاً هكذا بدون طين أو ماء سنوات عديدة. ويزهر أيضاً. وقد سمى لذلك (صبراً) وعلى الأصح (صبّارة) إذ أن كلمة (صبر) تطلق عامة على العصير.

وجرت العادة عندما يُخشى إنسان أن يكسر خلف ظهره وعاء من الفخار. ويُفعل هذا أيضاً لقطع كل علاقة أخرى مع مثل هذا الشخص.

ويعمد الجهلاء في مصر حيث ينتشر الرمد إلى الكثير من العادات الخرافية المضحكة لمعالجة هذا المرض فيأخذ البعض قطعة طين من جسر النيل عند بولاق أو بالقرب منها ثم يعبرون النيل ويضعون القطعة على الجسر الآخر عند (امبابه) وحسبهم هذا لضمان الشفاء. ويعلق آخرون للغرض ذاته في غطاء الرأس فوق الجبهة أو العين المريضة قطعة ذهبية (بندقي) ذات وصف خاص متقابلة النقشين غير أنه يعتقد أن دخول المرء، حاملاً في جيبه بندقيا أو ريالاً على المريض بالرمد أو بحمى مما يزيد المرض. والاعتقاد العام أيضاً أنه دخل لمرء غير طاهر على مصاب بالرمد يشتد المرض عليه وتظهر نقطة في إحدى عينيه أو في كلتيهما. وأعرف رجلاً أصيب بالرمد فحبس نفسه في غرفته ثلاثة شهور مدة المرض خوفاً من ذلك، فلم يسمح لأحد بالدخول عليه، وكان خادمه يضع الطعام خارج الغرفة عند الباب؛ وأصيب مع ذلك بنقطة على إحدى عينيه وكثيراً ما يقوم النساء بعادة أخرى شديدة الغرابة تتقزز منها النفس منعاً للعقم

تعد ساحة الرميلة الكبرى غربي القلعة مسرحاً لإعدام المجرمين. وكان فيما مضى يكاد يضرب عنق المحكوم عليهم بالإعدام في العاصمة دائماً في هذا المكان من المدينة. وجنوبي هذا المكان بناء يسمى (مغسل السلطان) حيث توضع جثة المضروب عنقه على مائدة حجرية لغسلها قبل الدفن. وتتجمع المياه في حوض لا يفرّغ أبداً فيظل ملوثاً بالدماء كريه الرائحة. فيذهب الكثير من النساء إلى ذلك المكان للبرء من الرمد أو للحصول على النسل أو لتعجيل الولادة في حالة الحمل المتأخر. فتمر المرأة صامتة، والصمت لازم إطلاقاً، تحت المائدة الحجرية متقدمة بالقدم اليسرى، ثم تمر فوق المائدة سبع مرات وتغسل بعد ذلك وجهها بالماء الدنس. وتعطي كهلاً وزوجه يلازمان هذا المكان خمس فضة أو عشرة ثم تنصرف وما زالت صامتة. وكثيراً ما يفعل ذلك المصابون بالرمد من الرجال. ويقال إن هذا المغسل بناه بيبرس الشهير قبل أن يصبح سلطاناً عندما لاحظ جثث المحكوم عليهم ترفس وتدفن دون أن تغسل. ويخطو بعض النساء جثة المعدم سبع مرات صامتات ليصحبن حبالى. ويغمس البعض الآخر، مدفوعاً بالرغبة نفسها، قطعة من القطن الزهر في الدم ويستعملها فيما بعد بطريقة يجب ألا أذكرها

وهناك عادة مضحكة يمارسها المصريون لعلاج بثرة تظهر على حافة الجفن ويسمونها (شحَّاتة) ومعنى هذه الكلمة الحرفي سائلة. فيذهب المصاب إلى سبع نساء تسمى كل منهن فاطمة في سبعة بيوت مختلفة؛ ويسأل كلاًّ منهن قطعة خبز. ويتكون الدواء من هذه القطع السبع. وأحياناً يخرج المصاب في حالة متشابهة وللغرض نفسه قبل طلوع الشمس إلى المقابر يدور حولها صامتاً من اليمين إلى اليسار بعكس الطريقة المعتادة. وهناك طريقة وهمية أخرى للعلاج وهي أن يثبت المصاب قطعة قطن على طرف عصا ثم يغمسها في أحد الأحواض التي يشرب منها الكلاب في شوارع القاهرة ويمسح العين بها. ويهتم المريض هكذا بوقاية يده من الماء المدنس عندما يوشك أن يضع منه على موضع آخر من جسمه

ويعلق بعض المصريات المسلمات في رقابهن إصبعاً مجففة فصلت عن جثة مسيحي أو يهودي متوهمات أن ذلك يعالج الحمى المتقطعة (الملاريا). وتدل هذه العادات دلالة تستحق الاعتبار على مفعول الخرافة المنحط وتأثيرها القوي على العقل، إذ أن المسلمين على العموم يدققون في مراعاة الفروض الدينية التي تأمرهم بالامتناع عن كل دنس أو قذر

جرت العادة عندما يعجز الطفل عن المشي بعد أن يدرك السن المناسبة أن توثق أمه قدميه بسعف تعقدها عقدات ثلاث وتضعه على باب مسجد أثناء صلاة الجمعة، وتسأل بعد الصلاة أول الخارجين وثانيهم وثالثهم أن يحل كل عقدة من السعف، ثم تحمل الطفل إلى المنزل مؤمنة أن هذا العمل سوف ينتج الأثر المراد عاجلاً

من العقاقير من يزعمون أنه ترياق أو شاف لبعض الأمراض. وقد يكون لهذه الأدوية بعض التأثير ولكن الخرافة تنسب إليها فضائل لا تُصدَّق. ويرى المصريون حتى غالبية المتعلمين والمهذَّبين في الخاصيات المفيدة أو المضرة لمختلف المواد النباتية والحيوانية أسخف الآراء. إذ يؤيدها في بعض الأحوال أحاديث تروى عن النبي ويدعمها اعتبار حكمائهم المشهورين. ويستعمل البادزهر ترياقاً بحكه مع قليل من الماء في طاس تملأ بعد ذلك ويشربها المصاب. ويستعمل لذلك أيضاً وبالطريقة نفسها قدح من قرن الخرتيت يدعك بقطعة من المادة نفسها. ويعالج الكثير من أهل القاهرة مرض اليرقان بالشرب من ماء (بئر اليرقان) وهو بئر تمتلكها عجوز وتجني منها فائدة كبيرة؛ فللبئر فوهتان أسفل إحداهما وعاء جاف للأشياء التي تقذف بها. فتطلب العجوز ممن يرغب استعمال الماء الطبي أن يسقط خلال هذه الفوهة ما تحتاج إليه من سكر وبن الخ

يلجأ المسلمون إلى عادات خرافية شتى يستشيرونها عند التردد في عمل ينتوون فعله أو تركه. فيستخدم البعض جدولاً يسمى (زائرجة). وهناك جدول من هذا النوع ينسب إلى إدريس أو أخنوخ. ويقسم الجدول إلى مائة خانة صغيرة يكتب في كل منها حرف. ويتلو من يستشير الجدول الفاتحة والآية التاسعة والخمسين من سورة الأنعام (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ثلاث مرات. ويضع بعد ذلك إصبعه على الجدول دون أن ينظر إليه ثم يعاين الحرف الذي يشير إليه إصبعه ويدونه، ثم يدون الحرف الخامس اللاحق للأول، فالخامس التابع للثاني، وهكذا حتى يعود إلى الحرف الأول. ويكون من مجموع هذه الحروف الجواب ويعمد البعض إلى القرآن لحل مشكلاتهم، ويسمون هذا (استخارة)، فيرددون الفاتحة وسورة الإخلاص والآية السابقة ثلاثاً، ثم يتركون المصحف يسقط مفتوحاً أو يفتحونه عرضاً، ويستخرجون الجواب من السطر السابع في الصفحة اليمنى، وكثيراً ما لا يحمل الكلام جواباً صريحاً، إلا أنه يعتبر إيجابياً أو سلبياً حسبما يدل معناه على الخير أو الشر، كأن يشير إلى وعد أو وعيد. ويعد البعض بدلاً من قراءة السطر السابع عدد الحرفين الخاء والشين في الصفحة كلها، فإذا غلبت الخاءات كانت النتيجة مناسبة: فالخاء تمثل الخير والشين الشر

(يتبع)

عدلي طاهر نور



مجلة الرسالة - العدد 470
بتاريخ: 06 - 07 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...