منذ فترة وأنا أفكر بكتابة بعض الذكريات المريرة عن السجن والإعتقال وظروف الزنزانة الإنفرادية، لكن زحمة الأحداث كانت تؤجلها دائماً واليوم وأنا أتجول في الفضاء الفيسبوكي الأزرق والذي قلما تسمح لي الظروف والوقت فقد وقع نظري على بوست الصديق "جهاد عبدو" حيث يقول فيه؛ "في فرع فلسطين كانت احدى فتيات الكورد (الكريلا) معتقلة وكانت تتعرض للتعذيب الجسدي نهارا وفي الليل كان عناصر الفرع من المناوبين يأتون اليها في زنزانتها الانفرادية المحاذية لي، كنت اسمع توسلاتها وهي تقول لهم: الله يخليلك لا تقرّب علي، انا متل اختك، انا متل امك.. و لا تترك كلمة إلا و تتوسل بها اليهم ولكن العناصر كانوا يفرغون شهواتهم الحيوانية على جسدها الطاهر وسط انّات الفتاة الكوردية وبكائها!!!..".
اللعنة؛ اللعنة على كل تلك اللحظات والذكريات التي عاشها كل من عرف الإعتقال والسجن والزنزانة الإنفرادية .. اللعنة على صوت السجان وهو يدوي في الممر ليشعرك كم هو متسلط وطاغي ومتجبر وإنك لست إلا جرذاً مذعوراً في جحرك المظلم الرطب العفن، تترقب بحذر باب الجحيم متى سينفتح عليك أو على أي جحر ليذيق ساكنها كل صنوف التعذيب والإهانات والشتائم وهم يجرونه إلى "ساعة الحساب والعقاب" برفقة عدد من زبانية الفروع الأمنية وهم يمارسون ساديتهم على الجسد النحيل المنهك بفعل المكان والزمان ولسعات "الكبل الرباعي" أو الطيران على "بساط الريح" التي لن تعرف معها إلا المزيد من الإنكسار والإذلال وأنت تستفيق على صوت مسبات السجان وهو يدلي عليك سطل الماء البارد على وجهك الدامي.
تتزاحم الصور في الذاكرة؛ فرع الفيحاء للأمن السياسي بدمشق حيث القبو الرطب وعدد من الزنازين المنفردة على ممر طويل يحتجز ثلاثة وعشرون معتقلاً سياسياً _من أصل أربعة وعشرون حجرة منفردة؛ حيث إحداها كانت محجوزة لعدد من المدافئ كمستودع صغير_ بين مسلمين رايكاليين سلفيين أو إخوانيين مع أخرين متهمين بإختلاس المال العام للدولة، لكن ورغم عددهم وتنوعهم فلم يكن يشكلون الأغلبية، وإنما كنا نحن أبناء (الشمال الجغرافي)؛ الشمال الكوردي نشكل أغلبية تلك الأجساد والأرواح المحتجزة في تلك الأقفاص والزنازين الموحشة المرعبة وذلك على الرغم إننا لا نشكل في الجغرافية السكانية لسوريا _وفي أكثر الإحصائيات الكوردية تفاؤلاً_ إلا ثلاثة عشر من سكان مملكة الرعب وليس واحداً بالمائة كما قالها أحد البعثيين المبتورين مؤخراً ومع ذلك كنا الأغلبية من معتقلي منفردات فرع الفيحاء للأمن السياسي.
نعم كنا ثلاثة وعشرون كائناً بشرياً محجوزين في صندوق؛ "أقفاصٌ رطبة وزنازين منفردة" نتأمل صوتاً يخفف من وحشة المكان، لكن لم يكن إلا صوت السجان وهو يشتم أحدنا أو يضرب بعنف على الباب الصدأ بفعل الرطوبة ليحدث دويً هائلاً في إنفجار الصوت من إرتطام القضيب الحديدي بالباب الموصد لإحدى الزنزانات، فحينها تجبر على القفز من المكان؛ المسطبة التي هي سريرك وطاولة غداءك وعشاءك وعلى بعد بلاطٍ واحد تكون فتحة المرحاض حيث عقلية الطاغية أبتكرت (شقة منزلية) بمساحة لا تزيد عن ثلاثة أمتار مربعة؛ طول الزنزانة تقل عن المترين وعرضها عن المتر والنصف وبدون إنارة أم فتحة التهوية فهي من الكماليات وتفتح في الباب الصدأ عندما يقدم لك ما يشبه الطعام ولمدة اقل من دقيقة لتغلق من جديد وأنت تتكور على جسدك في تلك العتمة الموحشة.
إن أكبر خطر على حياة نزيل السجن الإنفرادي هو الزمن والوقت الكثيف حيث تشعر بثقل الزمن وهي تضغط على الروح والعقل والتفكير، نعم إنه الوقت وليس التعذيب أو ظلمة ووحشة وقساوة المكان حيث إنعدام الظروف والبيئة الصحية وطغيان الرطوبة والعفونة وذلك بحكم إستخدامك لمساحة لا تزيد عن مساحة تواليت عربي، تكون هي مكان نومك وأكلك وخروجك "حمامك" حيث تقضي كل شيء هناك في تلك البقعة المنعزلة عن العالم الخارجي تماماً.. بقناعتي؛ إن سجين المنفردة ومع الوقت يتأقلم مع بيئة المكان من العفونة والرطوبة أو الظلمة الدائمة وحتى مع صوت السجان وجعيره التي تشبه رائحة المكان العفن وما تخرجها فتحة التواليت تحت رأسك أو قدميك وذلك بحسب الوضعية التي سوف تتخذها في نومك، لكن ما لا يمكن التعوض والتلاءم والتأقلم معه هو الوقت حيث تشعر بثقله، بكثافة الزمن في المنفردة فتتساءل؛ كيف أقضي الأربعة والعشرون ساعة هنا.
ولكي نكسر الوقت ورتابتها، فكنا نتلصص من بعض الثقوب في كوة الباب التي تدخل منها الطعام وبزاوية رؤية محددة؛ لنراقب بعض الأشعة الخجولة لضوء بعيد حيث ندرك عندها إن اليوم الجديد قد بدأ بعد أن يكون طرقات القضيب الحديدي على الأبواب قد أيقظنا على رعبً جديد ولتبدأ حلقات التعذيب والطيران على بساط الريح وهو يأكل من أجسادنا المنهكة آمالاً أخرى بحقول أرحب للطيران بعيداً عن قاع هذه المملكة المرعبة.
بير رستم - الزنزانة رقم (1).. وذكريات من فرع الفيحاء السياسي.
اللعنة؛ اللعنة على كل تلك اللحظات والذكريات التي عاشها كل من عرف الإعتقال والسجن والزنزانة الإنفرادية .. اللعنة على صوت السجان وهو يدوي في الممر ليشعرك كم هو متسلط وطاغي ومتجبر وإنك لست إلا جرذاً مذعوراً في جحرك المظلم الرطب العفن، تترقب بحذر باب الجحيم متى سينفتح عليك أو على أي جحر ليذيق ساكنها كل صنوف التعذيب والإهانات والشتائم وهم يجرونه إلى "ساعة الحساب والعقاب" برفقة عدد من زبانية الفروع الأمنية وهم يمارسون ساديتهم على الجسد النحيل المنهك بفعل المكان والزمان ولسعات "الكبل الرباعي" أو الطيران على "بساط الريح" التي لن تعرف معها إلا المزيد من الإنكسار والإذلال وأنت تستفيق على صوت مسبات السجان وهو يدلي عليك سطل الماء البارد على وجهك الدامي.
تتزاحم الصور في الذاكرة؛ فرع الفيحاء للأمن السياسي بدمشق حيث القبو الرطب وعدد من الزنازين المنفردة على ممر طويل يحتجز ثلاثة وعشرون معتقلاً سياسياً _من أصل أربعة وعشرون حجرة منفردة؛ حيث إحداها كانت محجوزة لعدد من المدافئ كمستودع صغير_ بين مسلمين رايكاليين سلفيين أو إخوانيين مع أخرين متهمين بإختلاس المال العام للدولة، لكن ورغم عددهم وتنوعهم فلم يكن يشكلون الأغلبية، وإنما كنا نحن أبناء (الشمال الجغرافي)؛ الشمال الكوردي نشكل أغلبية تلك الأجساد والأرواح المحتجزة في تلك الأقفاص والزنازين الموحشة المرعبة وذلك على الرغم إننا لا نشكل في الجغرافية السكانية لسوريا _وفي أكثر الإحصائيات الكوردية تفاؤلاً_ إلا ثلاثة عشر من سكان مملكة الرعب وليس واحداً بالمائة كما قالها أحد البعثيين المبتورين مؤخراً ومع ذلك كنا الأغلبية من معتقلي منفردات فرع الفيحاء للأمن السياسي.
نعم كنا ثلاثة وعشرون كائناً بشرياً محجوزين في صندوق؛ "أقفاصٌ رطبة وزنازين منفردة" نتأمل صوتاً يخفف من وحشة المكان، لكن لم يكن إلا صوت السجان وهو يشتم أحدنا أو يضرب بعنف على الباب الصدأ بفعل الرطوبة ليحدث دويً هائلاً في إنفجار الصوت من إرتطام القضيب الحديدي بالباب الموصد لإحدى الزنزانات، فحينها تجبر على القفز من المكان؛ المسطبة التي هي سريرك وطاولة غداءك وعشاءك وعلى بعد بلاطٍ واحد تكون فتحة المرحاض حيث عقلية الطاغية أبتكرت (شقة منزلية) بمساحة لا تزيد عن ثلاثة أمتار مربعة؛ طول الزنزانة تقل عن المترين وعرضها عن المتر والنصف وبدون إنارة أم فتحة التهوية فهي من الكماليات وتفتح في الباب الصدأ عندما يقدم لك ما يشبه الطعام ولمدة اقل من دقيقة لتغلق من جديد وأنت تتكور على جسدك في تلك العتمة الموحشة.
إن أكبر خطر على حياة نزيل السجن الإنفرادي هو الزمن والوقت الكثيف حيث تشعر بثقل الزمن وهي تضغط على الروح والعقل والتفكير، نعم إنه الوقت وليس التعذيب أو ظلمة ووحشة وقساوة المكان حيث إنعدام الظروف والبيئة الصحية وطغيان الرطوبة والعفونة وذلك بحكم إستخدامك لمساحة لا تزيد عن مساحة تواليت عربي، تكون هي مكان نومك وأكلك وخروجك "حمامك" حيث تقضي كل شيء هناك في تلك البقعة المنعزلة عن العالم الخارجي تماماً.. بقناعتي؛ إن سجين المنفردة ومع الوقت يتأقلم مع بيئة المكان من العفونة والرطوبة أو الظلمة الدائمة وحتى مع صوت السجان وجعيره التي تشبه رائحة المكان العفن وما تخرجها فتحة التواليت تحت رأسك أو قدميك وذلك بحسب الوضعية التي سوف تتخذها في نومك، لكن ما لا يمكن التعوض والتلاءم والتأقلم معه هو الوقت حيث تشعر بثقله، بكثافة الزمن في المنفردة فتتساءل؛ كيف أقضي الأربعة والعشرون ساعة هنا.
ولكي نكسر الوقت ورتابتها، فكنا نتلصص من بعض الثقوب في كوة الباب التي تدخل منها الطعام وبزاوية رؤية محددة؛ لنراقب بعض الأشعة الخجولة لضوء بعيد حيث ندرك عندها إن اليوم الجديد قد بدأ بعد أن يكون طرقات القضيب الحديدي على الأبواب قد أيقظنا على رعبً جديد ولتبدأ حلقات التعذيب والطيران على بساط الريح وهو يأكل من أجسادنا المنهكة آمالاً أخرى بحقول أرحب للطيران بعيداً عن قاع هذه المملكة المرعبة.
بير رستم - الزنزانة رقم (1).. وذكريات من فرع الفيحاء السياسي.