فارس كمال نظمي - سيكولوجيا إنتاج الرثاثة في المدينة العراقية

المدينة بوصفها قيمة سوسيوجمالية هي اختزال لسيكولوجيا الزمن الماضي الذي انبثقت منه تلك المدينة بحسب ضرورات التطور التأريخي. وبمعنى أدق، المدينة هي "الإنسان" وقد انصهر جوهرياً في ديناميات المكان المتمدين. فالتمظهر المديني تشتد دلالاته وتزداد عمقاً وتنوعاً وتغايراً وسمواً كلما استطاع الوعي الاجتماعي أن يجعل من المكان مناسبةً لقدح الجمال وإكسابه غاياتٍ إصلاحوية.
وبحسب هذه الرؤية، فللمدن الكبرى، ومنها العراقية، رمزانيتها التي يمكن اختزالها بثلاثة عناصر أنثروبولوجية: أولها سيميولوجيا اللغة بشقيها الدارج والفصيح؛ وثانيها المُنتَج السلوكي التقاليدي والفكري الثقافاتي؛ وثالثها معمارية المكان الذي أنتجه الحراك البشري المديني عبر الزمن.
وتتمايز هذه العناصر الثلاثة عمقاً أو سطحيةً، وضوحاً أو غموضاً، جمالاً أو قبحاً، عقلنةً أو اسطرةً، أنسنةً أو رثاثةً، بحسب أنماط السلطتين السياسية والاجتماعية اللتين سادتا في أي مدينة عبر حقبة زمنية معينة. وبهذا المعنى فالمدينة العراقية تستمد طاقتها الرمزية بقاءً أو اندثاراً من مصدرين: ذاكرتها التأريخية المؤثثة بالمآثر والخطايا، وتركيبتها النفسية الآنية ذات المرجع السوسيوسياسي.

I. التطهير الثقافي في المدينة العراقية
ازدهرت الرموز المدينية لبغداد في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، لغةً وثقافةً وعمارةً، حينما سادت النخبوية السياسية التكنوقراطية إلى حد كبير، وحينما تطورت السلطة الاجتماعية إلى حد إنها وجدت أنّ لا تعارض بين القيم الدينية والممارسات الجمالية في مجمل الحياة اليومية للأسرة العراقية.
تلك كانت لحظةً نوعيةً توهجت فيها الذاكرة الاجتماعية ببعديها التأريخي والثقافي، فاتضحت الهوية المدينية الحداثوية إلى أقصى حدودها الرمزية (اللهجة البغدادية، والمقام البغدادي، والمطبخ البغدادي، والمقهى البغدادي، والحانة البغدادية، والعمارة البغدادية، والصناعات الشعبية البغدادية، والتقاليد البيتية البغدادية، والأهم من كل ذلك الشخصية البغدادية). وما كان ينطبق على بغداد، انطبق أيضاً على بقية المدن العراقية الكبرى.
أما اليوم، فنجد انحساراً مريراً في الطابع الحداثوي للمدينة العراقية -باستثناء مدن إقليم كردستان- إذ يجري كل يوم تجريف قدرتها على إنتاج الأنسنة، بل تقويض هويتها حد التصحر، وتغييب علاماتها الدالة على تلاقح التأريخ بالمكان. ويُعزى هذا التجريف إلى المحو المنظم الذي تعرضت له الذاكرة التأريخية العراقية(1) على يد احتلالين خضع لهما المجتمع العراقي المديني خلال العقد الأخير: الغزو الأمريكي، وسلطة الأسلمة السياسية(2).

II. مفهوم إنتاج الرثاثة
لكي يكتسب التحليل العلمي شموليته لكل أركان الظاهرة العراقية، فلا يجب أن يكون مقتصراً على التوكيد المزمن بأن ما يحدث اليوم في العراق من تخريب مريع للجوهر الإنساني إنما يُعزى كلياً إلى انبعاث النزعة الطائفانية التفتيتية وقضم الهوية المواطاناتية التجميعية. فالفشل السوسيوسياسي بتأسيس دولة متوازنة تلبي حقوقَ كل مكوناتها المجتمعية، لا يفسر لوحده كلَّ هذا التنكيل بالكرامة الآدمية للعراقيين، بل يجدر أيضاً الحفرُ عميقاً في البنية النفسية للنخب المتأسلمة المتصارعة على السلطة، والتي دأبت على إنتاج الرثاثة في الحياة المدينية على نحو سادي وقصدي وفريد من نوعه في التجربة البشرية.
وبمعنى أكثر تحديداً، ينبغي الإقرار أن ثيمة "الصراع السياسي ذي الطابع المذهبي-المناطقي" لا تقدم تبريراً عقلياً كافياً لجسامة الخراب المتحقق في الحياة العراقية المدينية، ما لم يأتِ هذا التبرير مصحوباً ببحث الأرضية الثقافية والقيمية التي استمدت منها هذه النخب المتأسلمة أنماطَها السلوكية في إدارة الصراع وتسيير شؤون البلاد.
فإذا كان مفهوماً أن للمشروع الأمريكي أهدافه الستراتيجية المتمثلة بسياسة "محو أو إنهاء الدول" Ending of States في منطقة الشرق الأوسط ومنها دولة العراق، لغايات اقتصادية عولمية بعيدة المدى، فإن المشروع الطائفاني الذي شرعت به أحزاب الإسلام السياسي بتدبير أمريكي ابتداءً من العام 2003م، قد تعدى في مداه مسألة الاستحواذ الأناني على السلطة، إلى قصديةٍ غدت أكثر وضوحاً بمرور السنين، تلك هي تخدير الوعي الاجتماعي العقلاني، وصرفه عن تبني غايات تقدمية للحياة إلى حد ممارسة سياسةٍ يومية منظمة لتشويه المدينة العراقية وترثيثها بأدوات أساطيرية تعمل على تسطيح الأداء البشري وتجريده من حقه الطبيعي في إدراك الجمال وإنتاجه؛ بمعنى اختزال النوع البشري إلى حاجتين فقط لا ثالث لهما: الإشباع البيولوجي الفج، والتقرب النفعي من السماء!
فأصبحت المدينة العراقية مختزلةً بسلوكين أو علامتين جمعيتينِ فقط تنتج إحداهما الأخرى في متوالية سقيمة: الهضمُ المِعَدي والتدينُ الزائف؛ وتوقفت عن كونها احتشادً بشرياً منتجاً للأنسنة. فتراجعت كل مظاهر التحضر والحداثة عبر تهشيم أغلب الرموز المميزة للهوية المتفردة لكل مدينة، وإعادة إنتاج كل المدن العراقية جمعياً بمظهر لاهوتي أو قبائلي موحد رث يلغي التعددية والتمظهر الرمزاني المتمايز، ويختم الجميع بختم القطيع التائه في صحراء العبث الوجودي المر. وكل هذا يحدث متزامناً مع هدر عشرات مليارات الدولارات المخصصة سنوياً لتطوير تلك المدن، إذ يشفطها الفساد المتوحش إدارياً ومالياً.
من هنا يكتسب مفهوم "سيكولوجيا إنتاج الرثاثة" Psychology of Shabbiness أحقيته الابتدائية في أن يُشتَقَّ ويُتَبَنى بوصفه وظيفة مقترحة من وظائف سلطة الإسلام السياسي المتبلورة في بنية سيكوسياسية فاعلة في المحافظات والمدن العراقية ذات الأكثرية العربية بعد العام 2003م(3)، إذ يقصد بـ"إنتاج الرثاثة": تجريد المدينة من ذاكرتها الجمالية المحببة لسكانها مكانياً وبصرياً وعاطفياً، عبر محو كل الشواخص المادية الدالة على تلك الذاكرة (أبنية فولكلورية، وشوارع تراثية، ومقاهي، ومنتزهات، وحانات، ومسارح، ودور سينما، ومكتبات، وحرية ملبس، وتجول آمن، وأمسيات ثقافية، وسهرات اجتماعية)، هدماً أو إهمالاً أو تناسياً أو إخفاءً أو تشويهاً أو حتى نزع "الشرعية" عنها عبر آليات "التكفير" العلنية والضمنية. وكل ذلك يأتي مترافقاً مع إفراغ المدينة من وظيفتها الوطنياتية الإنسانوية المعهودة، وإلحاقها بماضٍ تناحري غيبوي، وإغراقها بطوفان من الفضلات والقمامة المتناسلة.
وقد أصبحت بغداد اليوم المثالَ الأكثر وضوحاً ومأساوية لإنتاج الرثاثة(4)، بحكم قيمتها السياسية والتأريخية، دون أن ينفي ذلك جسامة الضرر الذي أصاب بقية المدن العراقية.
إن إنتاج الرثاثة بهذا الإصرار والثبات، سواءً من الحكومة المركزية في العاصمة أو من الحكومات المحلية الخاضعة في غالبيتها لسلطة الأحزاب الدينية في المحافظات ذات الأكثرية السكانية السنية أو الشيعية، أو بتأثير الميليشيات الداعمة للسلطة والجماعات التكفيرية الساعية لتقويض الدولة، إنما يؤشر بجلاء أن ثمة منطقاً نفسياً متيناً يكمن خلف هذه النزعة العصابية المستحكمة.
لذلك يتجه التحليل الحالي في تفسيره لسيكولوجيا إنتاج الرثاثة إلى تبني فرضية وجود نزعة هدمية Destructive Trend لا شعورية ذات جذر ثقافي وقيمي نشوئي، تكمن في أداء الإسلام السياسي العراقي. وهي نزعة تكوينية متجذرة لا تتناقض مع وجود عوامل تفسير سوسيوسياسية أخرى معروفة، كالفراغ السياسي بعد الاحتلال الأمريكي 2003م، والصراع ما قبل المدني على السلطة، وتأجيج الطائفية السياسية، وانفلات التطرف الديني الدموي محلياً وإقليمياً، واستفحال الفساد المؤسساتي، واعتلال التيار اليساري، وتأثير المتغيرات الإقليمية ودول الجوار.
وبتعبير أكثر أكاديمية، إن "عقدة" نفسية مركبة متعددة الأبعاد (تشمل مفاهيم الجمال والنظافة والمستقبل والوطن) باتت تتحكم بالسلوك السياسي المنتج للرثاثة لدى هذه النخب والحكومات والجماعات المتأسلمة.

III. العُقَد النفسية الأربعة المنتجة للرثاثة

1- عقدة الجمال
المتأسلمون سياسياً يناورون تهشمَهم الداخلي بأن يسعوا لإنتاج عالمٍ رث على شاكلتهم. فأعماقهم لا تستريح إلا بأن تقذف قيحَها ليلوثَ الآخرين، فيحلُّ "الاتزان" عندها بين الداخل والخارج. (ما عدتُ القبيحَ الوحيد، فما هو حولي لا يقل قبحاً ورثاثة عني!).
إنهم يكرهون الفن لأنه يُشعِرَهم بخوائهم واندثارهم وعجزهم المرير الممتد إلى ظلمات سنوات طفولتهم المشوهة. فأولى تمثلات الوعي الاجتماعي لديهم ارتبطت باستشعارهم المبكر لــ"عدائية" العالم وقبحه نتيجة قسوة المحيط الأسري والاجتماعي وقمعه لحاجاتهم الطفولية الأولية للأمان والانتماء والحماية. فكان ذلك هو الإرواء الأول لبذار التسلطية والشكوكية والهدمية والسيكوباثية في شخصياتهم. وحين بلغوا سن الرشد، وجدوا بحكم بيئتهم المحافظة أن الدين السياسي يوفر خداعاً لفظياً وعقلياً "متيناً" يمنح صاحبه "تفويضاً" من الله لفرض "الفضيلة" و"الصواب" على عباده. فاعتنقوه دفاعياً، ليسمحوا لعقدة مقت الجمال المطمورة فيهم أن تجد متنفساً شاسعاً للتلبية، فباتوا يقرنون الموسيقى بالرذيلة، والرقص بالفسق، والسينما بالإباحية، وحرية الملبس بالتهتك، والعلاقات العاطفية بالشيطان، وجسدَ المرأة بالعورة، والرسم والنحت بالإشراك بالله، والنشاطات الترفيهية بالعزوف عن ذكر الله.
وهكذا يصبح حظرُ الفن "تعبيراً" عن الإرادة الإلهية. فالايديولوجيا القمعية هنا تغدو تعبيراً مباشراً عن السيكولوجيا المعتلة؛ فتختلط الحقائق بالأوهام، والبديهيات العقلية بالسفسطة اللغوية، والحقوق البشرية بالمحظورات اللاهوتية. وعندها يبرد قلقُ القبحِ الداخلي لدى دعاة تديين السياسية، إذ يستعيدون اتزانهم الانفعالي كلما أطلوا من الزجاج المظلل لسياراتهم المصفحة، ليرمقوا باستغراب وبلادة أطلالَ القحط العمراني لبغداد، وملامح التصحر الحسي والفتور الانفعالي في وجوه مواطنيها الذين ما برحوا يهرعون لانتخابهم كل أربع سنوات!
ولأن كل الشواهد الجمالية للحضارة هي نتاج لحرية العقل في أسلوب تأويله لمدركاته الذاتية والاجتماعية، فإن عقدة الجمال لدى المتأسلمين لا بد أن تتسع في مضمونها الاعتلالي لتشمل أيضاً خوفَهم من الحرية وهروبهم منها. ولعقلنة هذا الخوف وإنكاره عملوا على تسويغه و"شرعنته" عبر ترويع الناس بإملاءاتٍ "إلهية" المصدر.
فعدائهم للجمال هو استنطاق سلوكي لهاجس باطني عميق هو التطيّر من الحرية وتجنّبها نظراً لما تلقيه على الفرد من مسؤولية الاستجابة لمتطلباتها، كالمبادرة الذاتية واتخاذ القرارات الفريدة والتفكير غير النمطي حيال الوضع البشري. (نحن المتأسلمون نكتفي بدوافع الجوع والجنس وحيازة الممتلكات، إذ لم نتدرب أن نكون أحراراً في ممارسة دوافعنا العقلية ونزعاتنا الجمالية. وعلى كل الناس أن يكونوا مثلنا لئلا ينكشف عقمُنا!).
إنهم يكرهون ويحاربون أيَّ نتاج جمالي حر قابل للانتشار بصرياً أو سمعياً في فضاء المدينة، فقط لأنهم يدركون باطنياً أن انشغالهم الوسواسي بهدم العالم، هو "الملاذ" الوحيد الذي يجنّبهم مواجهة انهدامهم الاعتباري أمام ذواتهم!

2- عقدة النظافة
اقترن صعود الإسلام السياسي في العراق بتحول بغداد وبقية المدن العراقية إلى مستودع هائل للقمامة والفضلات البشرية والمياه الآسنة، إلى جانب الغرق الدوري لمساحات سكنية شاسعة بفعل مياه الأمطار والسيول، في انهيار مريع للبنية التحتية الصحية وتدهور محيّر للوعي البيئي لدى المجتمع والدولة على حد سواء.
فإلى جانب عوامل الفساد الإداري وأزمة الضمير المهني التي تعوق عملَ المؤسسات الخدمية المختصة بإجراءات التنظيف وتدوير النفايات وصيانة شبكات المجاري، فإن ثمة مناخاً سيكولوجياً رثاً أشاعته السلطة، يشجع على تحلل السلوك الاجتماعي في الأماكن العامة، بما يجعل الفردَ شديدَ القسوة تجاه بيئته، وغير مبالٍ بما يصيبها من أضرار عمرانية وصحية جراء ممارساته اليومية التي باتت تتعامل مع الرصيف والزقاق والشارع والمبنى كما لو إنها مزابلُ متاحة لنفاياته وفضلاته لا معالم للعيش الحضاري المشترك.
ولعل أدقَّ عاملٍ يفسر تقبّل الجمهور لهذا المناخ الرث هو تقويضُ نزعة المواطنة لديهم، أي انحسار مبدأ تغليب المصلحة العامة على المصلحة الذاتية لدى الفرد العراقي في إدارته لشؤون حياته اليومية المتصلة بحياة الآخرين؛ فضلاً عن تلاشي مشاعر الندم أو الأسف لديه جراء ما يسببه للآخرين وللبيئة من أضرار.
ويعزى ذلك إلى طقوسيات "التدين الزائف" التي أشاعتها الأسلمة السياسية، وما ولّدته لدى الفرد من كسل التعويل على غيبيات ما وراء الحياة بدل احترام ما يزخر به الواقع من ملموسات وضرورات، ومن نزوع الفرد لاستبدال فكرة الوطن الدنيوي المشترك بفكرة مملكة الدين الماورائي، ومن إحلال علاقته "النفعية" بالسماء محل ضميره الاجتماعي المراعي لحقوق الآخرين، ومن تشبعه الإدراكي بلا معيارية الوجود الاجتماعي (الأنوميا) حوله إذ تُثابُ الرذيلة وتُعاقَبُ الفضيلة كل يوم!
وكل هذا كان يعني تراجعَ عقلانيةِ الفرد العراقي، وتدهور شعوره بالمسؤولية الاجتماعية، فضلاً عن تنامي حقده اللاشعوري نحو المكان المديني العام بوصفه ترميزاً لوجود "آثم" اغترب عنه كلياً بما جعله "عدواً" يستحق الرجم بالنفايات.
ويشتد الرجم هذا على نحو خاص بالتزامن مع اشتداد ميثولوجيا طبر الرؤوس وضرب الزنجيل، في "كرنفال" ماسوشي فريد للتنكيل بالذات وامتدادها المديني معاً، على نحو يقع على النقيض تماماً من الجوهر الحداثوي للفكر العلوي المبشر بإعلاء كبرياء الإنسان وصيانة عقله وكرامته، إذ يجري بطريقة مُمَأسسة تحويلُ طاقة الإحباط والمظلومية لدى الجموع بعيداً عن المصدر الأصلي للجور والإذلال ذي المعالم غير المحددة، وتوجيهها نحو هدف بديل ومحدد وفي متناول اليد: أي إيذاء الجسد ومسخ المدينة! وبعد انتهاء كل كرنفال طقوسي، يعود ملايين الفخورين بـ"مصائبهم" و"ذنوبهم" إلى بيوتهم، تاركين أطنانَ نفاياتهم تلطخ وجه عاصمتهم ومدنهم وذاكراتها ببقع البيولوجيا النتنة!
وحيال كل ذلك، لا تبذل السلطة المتأسلمة أيَّ جهود حقيقية منظمة لمكافحة هذه القمامة المتسرطنة في واحدة من أعرق الحواضر البشرية، بل يبدو أن هذه القمامة توفر "مبرراً" سياسياً بعدم استتباب الأوضاع، ما يجعلها (أي السلطة) مالكة لـ"مشروعية" البقاء في أوضاع طارئية كهذه.
وبمنظورٍ تحليلي أشد جذرية يطالُ الأداءَ النمطي لهذه السلطة، فإن اتساخها الباطني يولّد مشاعر ذنب فادحة لا يمكن الحد منها إلا بنقلها لهذا الاتساخ إلى الخارج؛ أي يتم تخفيف وصمة الذنب لديها عبر تقاسمها مع العالم، وعدّها غير مقتصرة على الذات فحسب.
وهنا تنشط ميكانزمات النقل والإبدال الدفاعي، فيكفّ الاتساخ النفسي عن اجترار الإثم والندم، ويجد له فسحة تسويغية صلبة، ما دام المحيط البشري والبيئي والمديني تغرقه الأوساخ والنفايات!

3- عقدة المستقبل
أصبحت بغداد في العهد الإسلاموي الحالي مقبرة للأبنية المنخورة والسيارات المتفحمة والأشلاء البشرية المعجونة بالإسفلت، نتيجة التناحر الطائفاني الدموي حول مفاهيم وهمية ماضوية لا وجود وظيفي لها إلا في أذهان أمراءِ أحزابٍ وجماعات مُستَدْيِنة، مدمنين على تعاطي تلك المفاهيم القابلة للدحض من أي عقل بسيط يحترم الإنسان والزمن.
فأصبح العيشُ في بغداد يعني من الناحية الوجدانية مكوثاً اغترابياً وسط مشهد صراعي ينبعث من ماضٍ افتراضي خِلافي دارت أحداثه حول أحقية السيادة المذهبية "المدعومة" من الله. فلا مناص أن يغدو المستقبل "سخفاً" أو "ترفاً" ما دمنا لم نجد حلاً بعد لمعضلات الماضي "الجوهرية"، بل وتصبح مغادرةُ الماضي نوعاً من "الإجحاف" أو "الخيانة" للإسلام عموماً وللمذهب الفلاني تحديداً.
أثبتت تجربة الحكم في العراق ما بعد نيسان 2003م أن الدين السياسي يفتقر كلياً إلى حاسة المستقبل، وجزئياً إلى حاسة الحاضر. وبتفصيل أكثر، فإن تحويل الدين من منظومة عقلانية أخلاقوية إصلاحوية إلى منظومة أساطيرية ابتزازية للضعف البشري لملء فراغ ايديولوجي وتبرير عجزٍ عن التعامل مع الأزمات المجتمعية والدولتية المتفاقمة، إنما ينطوي على قصور تام في وظيفة إدراك الزمن لدى النخبة الثيوقراطية التي غرزت أنيابها في عنق العراق.
فالوعي الجمالي والأخلاقي بالمستقبل يمثل أسمى القدرات العقلية المتحققة في نسيج القشرة الدماغية البشرية التي هي أرقى ما أنتجته الطبيعة في جدليتها التطورية عبر ملايين السنين. وحين تعجز أي سلطة سياسية عن إدراك أن سهم الوجود الفيزيائي والسوسيولوجي للحياة البشرية يتجه إلى الأمام لا إلى الوراء، فإن ذلك يعني إكلينيكياً إنها مصابة بـ"عُصاب الزمن" لأن فينومينولوجيا المستقبل غائبة عن تخطيطها السياسي.
هذا الاختلال في الإدراك الزمني يعبّر إما عن قصور معرفي معلوماتي – وهو نادر الحدوث-، أو في الغالب عن تلهيةٍ لعقدة خواءٍ مريرة تجد في النكوص والتقهقر والاجترار أساليبَ "مُثلى" لإنكار فشلها في التعامل مع تحديات الزمن القادم، لا سيما تلك التي تتصل بالشأن الدولتي البالغ التعقيد والتشعب.
وهكذا ينبري المتأسلمون اليوم للتصدي لمهمة استرجاعية "مقدسة"، هي "حراسة" الحقيقة اللاهوتية و"إبرازها" و"إعلائها" و"صيانتها" و"تثبيت" دعائمها، حتى لو اقتضى الأمر سفك دماء المغايرين في الديانة أو المذهب، أو تفتيت النسيج المجتمعي، أو هدم ركائز الدولة المنظِمة للحقوق والواجبات، أو شفط ثروات البلاد بمسميات فقهية "مُشَرعِنة".
إنهم مستعدون أن يغمروا الزمن الاجتماعي برمته بشتى وسائل التعويق والتقويض المستندة إلى حُجج "إلهية" مصدرها الماضي "الإشكالي"، فقط لكي لا يكونوا مضطرين للحظة واحدة أن يواجهوا رعبَ الإقرار بأن للمستقبل أرجحيته التأثيرية بوصفه الواقع الحتمي القادم، إذ سيكشف هذا الإقرار فوراً عن إصابتهم بعنّةٍ مطلقة حيال مهمة مُنتَظَرة جسيمة هي بناء المؤسسات وإعمار الحضر والريف وإغناء الاجتماع البشري.

4- عقدة الوطن
"الوطن" مفهوم تجريدي انتمائي يشمل المكانَ البشري معجوناً بذاكرة سوسيوتأريخية محددة تجعله متمايزاً عن بقع بشرية أخرى. وبهذا المعنى، فالبيت وطن، والمحلة وطن، والمقهى وطن، والزقاق وطن، والأصدقاء وطن، والعدل وطن، والمدينة وطن. وحينما يعجز المرء عن تمثّل وطنٍ ما في أعماقه، فمصيره المنفى النفسي: إما ببُعدِهِ الوجودي المتسامي، أو ببُعدِهِ الاغترابي العدائي.
وبالعكس، حينما يتحقق الوطنُ وجدانياً في أذهان العوام والنخب القاطنين في إطار مجتمعي معين، فإنه يصبح وقوداً أساسياً لنشوء "الدولة–الأمة" المنشودة؛ وتلك قفزة نوعية متقدمة في إدراك غايات الحياة لدى تلك الجماعة البشرية.
في العراق، لا يشعر المتأسلمون سياسياً بعراقيتهم إلا حين يتعلق الأمر باقتسام مناصب السلطة وغنائم الدولة، واستصدار سندات المِلكية وجوازات السفر الدبلوماسية. فالوطن لديهم مفهوم سياسي لا هوياتي، يمكن تعظيمه تفاخراً والتباكي عليه حزناً والحديث عنه تحليلياً في وسائل الإعلام بلا حدود. أما الوطن الجيوسيكولوجي فلا مكان له في دوافعهم وأدائهم لأنه يعني إلغاءً فورياً لأحقية تمذهبهم التفتيتي والمؤَسْطَر بسرديات الماضي.
الأسلمة السياسية في جوهرها الفلسفي تعني إلغاءَ المفاهيم التطورية المتدرجة للوجود البشري، وإلباسَ هذا الوجود مسمياتٍ إطلاقية ماورائية تلغي نسبيات المكان والزمان الذي انبثقت منه موضوعياً تلك المفاهيم، وحشره في إطار تنظيمي ثيولوجي مستمد من "إرادة" الله. والوطن هو واحد من هذه المفاهيم التي تستهدف الأسلمة السياسية تقويضها، بوصفه فكرة تطورية في الذهن البشري تكتسب معناها العاطفي–الاعتباري في نفوس الناس من جهة، ومعناها المؤسساتي–التنظيمي في إطارٍ دولتي مكاني من جهة أخرى.
فإعلاء المفهوم الجيوسيكولوجي للوطن يعني قبولاً نفسياً ضمنياً بتجاورٍ آمن بين كل النقائض العِرقية والدينية والمذهبية والعقائدية والطبقية. وهو ما يقع بالضد تماماً من ايديولوجيا الأسلمة السياسية القائمة على مسلمتي "احتكار" الحقيقة، وامتلاك "مشروعية" تولي زعامة المجتمع بكل تنوعاته التكوينية المتمايزة.
ولذلك، فإن مسألة وجود مدينة عراقية مزدهرة تتجاور فيها بأمان وتوافق كل العقائد الدينية والخيارات المذهبية والأصول العِرقية والاتجاهات السياسية والقيم الاجتماعية، إنما تعني تهديداً كاسحاً بانكشاف العقدة النفسية الأساسية الضمنية التي ينطلق منها المتأسلمون: ((إن وطننا الوحيد هو المنفى الذي نؤسسه في حياة الناس، لأننا سنظل منفيين وغرباء ما دام للناس وطن!)).
إنهم استبدلوا خيار "الوطن" التجميعي المحدد سياسياً وذهنياً، بخيارٍ ميتافيزيقي تشتيتي لا حدود واقعية له لا سياسياً ولا ذهنياً. لقد ورطوا أنفسهم بأن أصبحوا "وكلاء" الله لتنفيذ "أحكامه" الأزلية في إطار سياسي نسبي متغير. ففقدوا بذلك إلى الأبد فرصة أن يكونوا وكلاء لوطنٍ يمنح العدل والأمان والكرامة لهم ولكل الناس.
فمثلما ترعبهم مفاهيمُ الجمال والنظافة والمستقبل، يرعبهم مفهومُ الوطن لكونه وعاءً إدراكياً وقيمياً شاملاً للمفاهيم السابقة، ولكونه يذكّرهم على نحو لاشعوري بمنفاهم الاغترابي وبطارئيتهم ووقتيتهم وزوالهم القادم.
فعقدة الوطن تحركهم دفاعياً في كل صراعاتهم السياسية "المستعصية" لإدامة هدم بغداد (رمز الوطن) وتجذير الرثاثة فيها سياسياً وجغرافياً وحضارياً ووجدانياً. فبهذا الهدم والترثيث وحدهما يجدون إرضاءً مريحاً لا واعياً لخوائهم التام من أي جذور انتماء نحو أي قيمة مدنية عقلانية.

IV. خــاتـمــة
الأسلمة السياسية في العراق قد لا تدرك إنها كارهة للوطن ولبغداد وللمدينة، لأنها مستغرقة كلياً في عُصابها السياسي الناجم عن عُصابٍ حضاري شامل أنتجه تلاقح مشوه بين رأس المال وتطور الدماغ البشري. ولأنها عاجزة عن امتلاك الحد الأدنى من القدرات النفسية الصحية اللازمة لإدارة أي مؤسسة مهما كانت صغيرة، فإنها مرشحة في المنظور المتاح لانتحارٍ سياسي كامل دون أن تستيقظ من وهمها الابستمولوجي الغامر بأنها وحدها القادرة على إلحاق قوانين الأرض بقيم السماء!
وحتى تحينَ لحظةُ الانتحار هذه، وترتخي أنياب الأسلمة عن عنق العراق، سيظل المكان العراقي الميت وعاءً لتخثر الزمن القادم الحي!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:

(1) لا بد من التذكير أن "السلطة البعثية" (1968- 2003)م كانت الرائدة في محو الذاكرة التأريخية للعراقيين عبر حشوها بسرديات أحادية البعد عن ميتافيزيقا الأمة والقائد و"الرسالة الخالدة"؛ غير إنها في الوقت نفسه أولت اهتماماً غير قليل بتطوير المعمارية المدينية لبغداد ليس لكونها تعبيراً عن نماء اجتماعي مضطرد، ولكن بوصفها تجسيداً بصرياً لا تخطئه العين لـ "المجد" الذي "بُعِث" قدرياً على يد تلك السلطة!

(2) ينفتح مفهوم "سلطة الإسلمة السياسية" في هذا النص على مديات تتجاوز حدود النظام السياسي الحاكم، إذ يقصد به كل العوامل المتحكمة والموجّهة للوعي الاجتماعي للناس سواء كان مصدرها السلطة السياسية المباشرة أو السلطة الاجتماعية الضمنية المتغلغلة في المفاصل الرئيسة للمجتمع، أو ايديولوجيا التكفير للجماعات الدينية المتطرفة الضالعة بالقتل والتفجير. فقد أفلحت الأحزاب الإسلاموية (السنّوية والشيعوية) القابضة على السلطة السياسية في بغداد منذ العام 2003م بإعادة إنتاج جزئي للسلطة الاجتماعية على شاكلتها (أي أسلمتها) في أغلب المحافظات العراقية العربية، ما يفسّر انحسار النزعة المدنية في الحياة االيومية. فالتيار الاحتجاجي اللامدني الناشط في المحافظات ذات الأكثرية الديموغرافية السنّية يبدو في إطاره العام منبثقاً من ذهنية تأسلمية- عشائرية لا دولتية على الرغم من تنوع نزعاته العاطفية بين مطلبي الأقلمة الطائفية والمركزياتية الوطنية. كما إن أغلب التحركات الشعبية المطالبة بالخدمات والعدل الاجتماعي ومكافحة الفساد في المحافظات ذات الأكثرية الديموغرافية الشيعية، لا تخرج عن كونها فعلاً إصلاحياً داخل عباءة الإسلام االسياسي الشيعي، كالتيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى وبعض منظمات المجتمع المدني ذات التوجهات الإسلاموية. أما القاعدة المدنية للديمقراطيين واليساريين والشيوعيين التي تقع بالضد من خيارات أسلمة الدولة والمجتمع، فتبدو محدودة الـفاعلية والتأثير سواء في بغداد أو بقية المحافظات، إذ أصبح أغلب العراقيين يفضلون الصمت أو الاحتماء بمظلة طائفية مشخصنة بدل الاحتماء بمظلة وطنياتية "غامضة"، في إطار عملية غسل دماغ جماعية خضع لها المجتمع، جعلته يعيد تصنيف هويته مذهبياً وعشائرياً ومناطقياً؛ دون أن يعني ذلك تحولاً نهائياً، إذ إن إعادة تصنيف الهوية مفتوح دوماً نحو كل الاتجاهات بتأثير الحراك السوسيوسياسي.

(3) يجدد الكاتب هنا تبنّيه لفرضية سابقة له بوجود تركيبة نفسية نمطية محددة بنائياً ووظيفياً لمجمل النخبة السياسية الحاكمة في العراق اليوم. للمزيد تُنظَر مقالة سابقة للكاتب بعنوان "سيكولوجيا المنطقة الخضراء" منشورة في كتابه: الأسلمة السياسية في العراق: رؤية نفسية، دار المدى، بغداد، 2014م.

(4) جاء في التقرير السنوي لمؤسسة "ميرسر" Mercer لجودة مستويات المعيشة Quality of Living للأعوام 2010و 2011م و2012م على التتابع أن بغداد هي أسوأ مدن العالم في تدهور مستويات المعيشة، وعدم الاستقرار السياسي، وتدني مستويات الأمن، والقيود على الحرية الشخصية، والصحة، والنظافة، والكهرباء، ومياه الشرب، ومياه الصرف الصحي، والتلوث، والتخلص من النفايات، والتعليم، والزحام المروري، ودور السينما، والمسارح، والمطاعم، والرياضة، والسكن، وخدمات الصيانة، والمناخ. فقد احتلت الرقم (221) أي المرتبة الأخيرة بين هذه المدن في السنوات الثلاثة المذكورة. للمزيد يُنظر موقع "ميرسر" على شبكة الانترنيت:
MERCER

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...