اكتشف موسى بن نصير "مدينة النحاس" في أيام عبدالملك بن مروان. صاحب الدولة الأموية من سنة 685 الى 705 ميلادية، وهو الخليفة الذي مات - بحسب ابن الأثير - بشربة ماء عادية من يد ابنته فاطمة. يُسمي ابن الفقيه مُعاصر الخليفة العباسي المعتضد المتوفى في السنة الأولى من القرن العاشر للميلاد مدينة النحاس بـ"البهت" باء مفتوحة وهاء ساكنة، ويكتب أنها من "عجائب الأندلس". يقدم ابن الفقيه حكاية موسى بن نصير مع هذه المدينة الغريبة بعد قرنين تقريباً من حدوتها المفترض. وإذا كان ابن الفقيه قد وضع "كتاب البلدان" في السنوات الأخيرة من القرن التاسع الميلادي، فإن هذه الرواية حول العثور على مدينة "لم يرَ الراءون مثلها ولم يسمع السامعون بمثلها" هي في الغالب أقدم الروايات المعروفة حول "مدينة النحاس"، وان كان ابن الفقيه لا يمنحها هذا الاسم.
كتب ابن الفقيه: "... من عجائب الأندلس البَهْت... ولما بلغ عبدالملك بن مروان خبر هذه المدينة وأن فيها كنوزاً كتب الى موسى بن نصير - وكان عامله على المغرب - يأمره بالمسير إليها. ودفع الكتاب الى طالب بن مدرك، فسار حتى انتهى الى مدينة القيروان، وموسى مقيم بها، فأوصل كتاب عبدالملك اليه، فلما قرأه تجهز وسار في ألف فارس... وحمل معه من الزاد لأربعة أشهر، ومن الماء لنفسه وأصحابه ما يكفيهم، وأخرج رجالاً أدلاء بتلك الطريق. فسار ثلاثة وأربعين يوماً حتى انتهى إليها".
لم يتمكن الفاتح الشهير موسى بن نصير من فتح هذه المدينة الغامضة. ولدى عودته الى قيروان سوف يكتب الى عبدالملك بن مروان - مع طالب بن مدرك - كتاباً يشرح فيه ما جرى له ولأصحابه تحت أسوار مدينة النحاس: "بسم الله الرحمان الرحيم، أصلح الله أمير المؤمنين صلاحاً يبلغ به شرف الدنيا والآخرة، أخبرك يا أمير المؤمنين اني تجهزت لأربعة أشهر وسرت في مفازة الأندلس في ألف رجل من أصحابي، حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست وعفت فيها الاثار وانقطعت عنها الأخبار، أحاول بلوغ مدينة لم يرَ الراءون مثلها ولم يسمع السامعون بمثلها، فسرنا ثلاثة وأربعين يوماً فلاح لنا بريق شُرف تلك المدينة من مسيرة خمسة أيام فهالنا منظرها وامتلأت قلوبنا منها رعباً من عظمها وبُعد أقطارها. فلما قربنا منها إذا أمرها عجيب هائل ومنظرها مخيف موجل كأن المخلوقين لم يصنعوها. فنزلنا عند ركنها الشرقي فصلّينا عشاء الآخرة، ثم بتنا بأرعب ليلة بات بها أحد من المسلمين، فلمّا أصبحنا كَبَّرنا استئناساً بالصبح وسروراً به ثم أرسلت رجلاً من أصحابي في مئة فارس وأمرته أن يدور مع سور المدينة ليعرف لنا موضع بابها فغاب عنا يومين، ثم أتانا صبيحة اليوم الثالث فأخبر أنها مدينة لا باب لها ولا مسلك اليها. فجمعت أمتعة أصحابي الى جانب سورها وجعلت بعضها الى بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه في الهواء. فأمرت فاتُّخذ سلاليم كثيرة ووصلت بعضها الى بعض بالحبال ونصبتها على الحائط. وناديت في المعسكر: "من يتعرف لي خبر هذه المدينة ويصعد هذه السلاليم فله عشرة آلاف درهم". فانتدب رجل من أصحابي فتسنم السلم وهو يتعوذ ويقرأ، فلما صار في أعلاها وأشرف على المدينة قهقه ضاحكاً ثم هبط إليها. فناديناه: "أخبرنا بما رأيت فيها"، فلم يجبنا. فجعلنا أيضاً لمن يصعد إليها ويأتينا بخبرها وخبر الرجل، ألف دينار. فانتدب رجل من حِميَر وأخذ الدنانير وجعلها في رحله ثم صعد، فلما استوى على السور قهقه ضاحكاً ثم نزل اليها فناديناه: "أخبرنا بما وراءك وما الذي ترى؟"، فلم يجبنا أحد. حتى صعد ثلاثة رجال كلهم يقهقه ضاحكاً ويتطيّر. فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود وأشفقوا على أنفسهم، فلما يئست من أولئك الرجال ومن معرفة المدينة، رحلت..." كتاب البلدان لابن الفقيه، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1996.
يدل "بريق شُرف تلك المدينة" الذي يُرى من مسافة خمسة أيام على عنصر المعدن النحاس في سورها. وتدل ضخامتها على جانب اسطوري في بنائها: "كأن المخلوقين لم يصنعوها". وضخامتها تظهر من دورة الفرسان "ثلاثة أيام" حول محيطها. لكن أعجب ما في هذه المدينة خلو سورها من الأبواب أولاً، وغموض ما فيها ثانياً. ما الذي جعل هؤلاء الرجال الثلاثة - الذين اعتلوا السور بعد جهد - يقهقهون ضاحكين ثم يقفزون الى قلب المدينة، الى الجانب الآخر من السور؟ ولماذا لم يُسمع لهم صوت بعد ذلك؟ وماذا حدث لهم؟ هذه الأسئلة تُترك بلا جواب، وإن قيل للخليفة في ما بعد ان الجن هم سكان المدينة الغامضة. بالاضافة الى سؤال آخر: من يبني مدينة بلا باب؟.
وسوف يكون علينا أن ننتظر بضعة عقود حتى نسمع بخبر هذه المدينة ثانية، وهذه المرة مع المسعودي الذي توفي في 956 م. الطبري، مثلاً، الذي يقع بين ابن الفقيه والمسعودي، زمنياً، لا يأتي على ذكر هذه المدينة في أي من مجلدات "تاريخ الرسل والملوك".
يكتب المسعودي في ختام المجلد الثاني من "مروج الذهب ومعادن الجوهر" منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1966: "... وأخبار مدينة رومية... ثم أخبار البيوت السبعة التي ببلاد الأندلس. وخبر مدينة الصُّفر وقبة الرصاص التي بمفاوز الأندلس وما كان من خبر الملوك السالفة فيها، وتعذر الوصول اليها، ثم ما كان من أمر صاحب عبدالملك بن مروان في نزوله عليها وما تهافت منها من المسلمين عند الطلوع على سورها وإخبارهم عن أنفسهم أنهم قد وصلوا الى نعيم الدنيا والآخرة". ص 409.
تثير جملة المسعودي الأخيرة ارتباكاً وحيرة. هذا مؤرخ يكتب عن حادثة مفترضة جرت قبل قرنين ونصف القرن تقريباً، معتمداً في الغالب على رواية سابقة ليست رواية ابن الفقيه لأن ابن الفقيه جازم في اختفاء الرجال الذين طلعوا على السور، وهو اختفاء كان من شأنه الحفاظ على لغز المدينة، مما أصاب موسى بن نصير باليأس!. هل اعتمد المسعودي فعلاً على كتاب - كان شائعاً في زمنه - ذُكر فيه أن الذين بلغوا أعلى السور فرأوا داخل المدينة بالتالي أخبروا "عن أنفسهم أنهم قد وصلوا الى نعيم الدنيا والآخرة"؟ ذلك سؤال يبقى معلقاً بانتظار روايات تعقب رواية المسعودي زمنياً.
يزودنا أبو حامد الأندلسي الغرناطي القرن الثاني عشر للميلاد بأجمل رواية حول "مدينة النحاس" في كتابه الفاتن "تحفة الألباب" طبعة الجورنال الآسيوي بباريس، 1925. والغرناطي، الذي يثير إعجاب كاتب عجائب شهير من طراز زكريا القزويني، الذي ينقل عنه مراراً وتكراراً في كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات"، يتمكن في الباب الثاني "في صفة عجائب البلدان وغرائب البنيان" من "تحفة الألباب"، من إعادة صوغ رحلة موسى بن نصير الى "مدينة النحاس التي بنتها الجن لسليمان بن داود عليه السلام في فيافي الأندلس بالمغرب الأقصى قريباً من بحر الظلمات"، في وصف بارع نكاد معه أن نرى المدينة نصب أعيننا: بسور شاهق من النحاس الأصفر اللامع يكاد من "بُعد أقطاره" ابن الفقيه أن يظهر مستقيماً وليس دائرياً كما كوكب الأرض! لكن الغرناطي لا يكتب عن "مدينة النحاس" بصفتها "نعيم الدنيا والاخرة". فهو بعد أن يصف محاولات ابن نصير الفاشلة لاقتحامها حين لم يجد لها باباً يخلعه حاول الحفر تحتها، فظل يحفر مرتطماً بالأساس النحاس حتى بلغ المياه الجوفية!، يخبرنا عن الرجال الثلاثة الذين تسلقوا السلالم وصفقوا مصعوقين ثم قفزوا كما في رواية ابن الفقيه واحداً تلو الآخر، الى داخل المدينة. لكنه يضيف بعداً جديداً مفزعاً للحكاية: فبعد أن يقفز المتسلق الى قلب المدينة تتصاعد منها ضجة هائلة وصراخ ثاقب يدوم ثلاثة أيام بلياليها، وطوال هذه المدة يرتعش جيش ابن نصير في الخارج رعباً!
بدأت الحكاية تتبدل إذاً. ولا يلبث الغرناطي أن يدفع الاسطورة الى تخومها، فالرجل الرابع سيطلب من القائد ابن نصير أن يربطه بحبل، وهكذا يستطيع أصحابه سحبه فيما لو مال بأذنه عنهم وقفز غير آبه بصراخهم لدى بلوغه أعلى السور. يتم تنفيذ ذلك: يصفق الرجل المربوط بالحبل حول خصره، ويقفز من أعلى السور الى داخل المدينة. وحين يحاول أصحابه سحبه يسحبون النصف الأسفل من جسمه، أما جذعه ورأسه فيضيعان وراء السور النحاسي! وتتعالى الضجة المرعبة من جديد. هنا يصاب موسى بن نصير باليأس وينسحب.
توفي الغرناطي في دمشق سنة 1170 م، بعد أن قطع رحلة طويلة رحلة دامت طوال حياته، من موطنه في اسبانيا، الى تسكعه في افريقيا، وحتى بلوغه بلاد الشام. لا نعرف موقعاً محدداً لمدينة النحاس، أهي في المغرب افريقيا أم في الأندلس أوروبا؟ تختلف روايات المؤرخين، لكن الغرناطي جال في افريقيا كما في اوروبا من دون أن يعثر على هذه المدينة! وهذه الحقيقة تحيلنا على ابن خلدون، لكن قبل ذلك - ومراعاة للترتيب الزمني - علينا استشارة ياقوت الحموي المتوفى بعد الغرناطي بستين عاماً تقريباً.
كتب ابن الفقيه: "... من عجائب الأندلس البَهْت... ولما بلغ عبدالملك بن مروان خبر هذه المدينة وأن فيها كنوزاً كتب الى موسى بن نصير - وكان عامله على المغرب - يأمره بالمسير إليها. ودفع الكتاب الى طالب بن مدرك، فسار حتى انتهى الى مدينة القيروان، وموسى مقيم بها، فأوصل كتاب عبدالملك اليه، فلما قرأه تجهز وسار في ألف فارس... وحمل معه من الزاد لأربعة أشهر، ومن الماء لنفسه وأصحابه ما يكفيهم، وأخرج رجالاً أدلاء بتلك الطريق. فسار ثلاثة وأربعين يوماً حتى انتهى إليها".
لم يتمكن الفاتح الشهير موسى بن نصير من فتح هذه المدينة الغامضة. ولدى عودته الى قيروان سوف يكتب الى عبدالملك بن مروان - مع طالب بن مدرك - كتاباً يشرح فيه ما جرى له ولأصحابه تحت أسوار مدينة النحاس: "بسم الله الرحمان الرحيم، أصلح الله أمير المؤمنين صلاحاً يبلغ به شرف الدنيا والآخرة، أخبرك يا أمير المؤمنين اني تجهزت لأربعة أشهر وسرت في مفازة الأندلس في ألف رجل من أصحابي، حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست وعفت فيها الاثار وانقطعت عنها الأخبار، أحاول بلوغ مدينة لم يرَ الراءون مثلها ولم يسمع السامعون بمثلها، فسرنا ثلاثة وأربعين يوماً فلاح لنا بريق شُرف تلك المدينة من مسيرة خمسة أيام فهالنا منظرها وامتلأت قلوبنا منها رعباً من عظمها وبُعد أقطارها. فلما قربنا منها إذا أمرها عجيب هائل ومنظرها مخيف موجل كأن المخلوقين لم يصنعوها. فنزلنا عند ركنها الشرقي فصلّينا عشاء الآخرة، ثم بتنا بأرعب ليلة بات بها أحد من المسلمين، فلمّا أصبحنا كَبَّرنا استئناساً بالصبح وسروراً به ثم أرسلت رجلاً من أصحابي في مئة فارس وأمرته أن يدور مع سور المدينة ليعرف لنا موضع بابها فغاب عنا يومين، ثم أتانا صبيحة اليوم الثالث فأخبر أنها مدينة لا باب لها ولا مسلك اليها. فجمعت أمتعة أصحابي الى جانب سورها وجعلت بعضها الى بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه في الهواء. فأمرت فاتُّخذ سلاليم كثيرة ووصلت بعضها الى بعض بالحبال ونصبتها على الحائط. وناديت في المعسكر: "من يتعرف لي خبر هذه المدينة ويصعد هذه السلاليم فله عشرة آلاف درهم". فانتدب رجل من أصحابي فتسنم السلم وهو يتعوذ ويقرأ، فلما صار في أعلاها وأشرف على المدينة قهقه ضاحكاً ثم هبط إليها. فناديناه: "أخبرنا بما رأيت فيها"، فلم يجبنا. فجعلنا أيضاً لمن يصعد إليها ويأتينا بخبرها وخبر الرجل، ألف دينار. فانتدب رجل من حِميَر وأخذ الدنانير وجعلها في رحله ثم صعد، فلما استوى على السور قهقه ضاحكاً ثم نزل اليها فناديناه: "أخبرنا بما وراءك وما الذي ترى؟"، فلم يجبنا أحد. حتى صعد ثلاثة رجال كلهم يقهقه ضاحكاً ويتطيّر. فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود وأشفقوا على أنفسهم، فلما يئست من أولئك الرجال ومن معرفة المدينة، رحلت..." كتاب البلدان لابن الفقيه، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1996.
يدل "بريق شُرف تلك المدينة" الذي يُرى من مسافة خمسة أيام على عنصر المعدن النحاس في سورها. وتدل ضخامتها على جانب اسطوري في بنائها: "كأن المخلوقين لم يصنعوها". وضخامتها تظهر من دورة الفرسان "ثلاثة أيام" حول محيطها. لكن أعجب ما في هذه المدينة خلو سورها من الأبواب أولاً، وغموض ما فيها ثانياً. ما الذي جعل هؤلاء الرجال الثلاثة - الذين اعتلوا السور بعد جهد - يقهقهون ضاحكين ثم يقفزون الى قلب المدينة، الى الجانب الآخر من السور؟ ولماذا لم يُسمع لهم صوت بعد ذلك؟ وماذا حدث لهم؟ هذه الأسئلة تُترك بلا جواب، وإن قيل للخليفة في ما بعد ان الجن هم سكان المدينة الغامضة. بالاضافة الى سؤال آخر: من يبني مدينة بلا باب؟.
وسوف يكون علينا أن ننتظر بضعة عقود حتى نسمع بخبر هذه المدينة ثانية، وهذه المرة مع المسعودي الذي توفي في 956 م. الطبري، مثلاً، الذي يقع بين ابن الفقيه والمسعودي، زمنياً، لا يأتي على ذكر هذه المدينة في أي من مجلدات "تاريخ الرسل والملوك".
يكتب المسعودي في ختام المجلد الثاني من "مروج الذهب ومعادن الجوهر" منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1966: "... وأخبار مدينة رومية... ثم أخبار البيوت السبعة التي ببلاد الأندلس. وخبر مدينة الصُّفر وقبة الرصاص التي بمفاوز الأندلس وما كان من خبر الملوك السالفة فيها، وتعذر الوصول اليها، ثم ما كان من أمر صاحب عبدالملك بن مروان في نزوله عليها وما تهافت منها من المسلمين عند الطلوع على سورها وإخبارهم عن أنفسهم أنهم قد وصلوا الى نعيم الدنيا والآخرة". ص 409.
تثير جملة المسعودي الأخيرة ارتباكاً وحيرة. هذا مؤرخ يكتب عن حادثة مفترضة جرت قبل قرنين ونصف القرن تقريباً، معتمداً في الغالب على رواية سابقة ليست رواية ابن الفقيه لأن ابن الفقيه جازم في اختفاء الرجال الذين طلعوا على السور، وهو اختفاء كان من شأنه الحفاظ على لغز المدينة، مما أصاب موسى بن نصير باليأس!. هل اعتمد المسعودي فعلاً على كتاب - كان شائعاً في زمنه - ذُكر فيه أن الذين بلغوا أعلى السور فرأوا داخل المدينة بالتالي أخبروا "عن أنفسهم أنهم قد وصلوا الى نعيم الدنيا والآخرة"؟ ذلك سؤال يبقى معلقاً بانتظار روايات تعقب رواية المسعودي زمنياً.
يزودنا أبو حامد الأندلسي الغرناطي القرن الثاني عشر للميلاد بأجمل رواية حول "مدينة النحاس" في كتابه الفاتن "تحفة الألباب" طبعة الجورنال الآسيوي بباريس، 1925. والغرناطي، الذي يثير إعجاب كاتب عجائب شهير من طراز زكريا القزويني، الذي ينقل عنه مراراً وتكراراً في كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات"، يتمكن في الباب الثاني "في صفة عجائب البلدان وغرائب البنيان" من "تحفة الألباب"، من إعادة صوغ رحلة موسى بن نصير الى "مدينة النحاس التي بنتها الجن لسليمان بن داود عليه السلام في فيافي الأندلس بالمغرب الأقصى قريباً من بحر الظلمات"، في وصف بارع نكاد معه أن نرى المدينة نصب أعيننا: بسور شاهق من النحاس الأصفر اللامع يكاد من "بُعد أقطاره" ابن الفقيه أن يظهر مستقيماً وليس دائرياً كما كوكب الأرض! لكن الغرناطي لا يكتب عن "مدينة النحاس" بصفتها "نعيم الدنيا والاخرة". فهو بعد أن يصف محاولات ابن نصير الفاشلة لاقتحامها حين لم يجد لها باباً يخلعه حاول الحفر تحتها، فظل يحفر مرتطماً بالأساس النحاس حتى بلغ المياه الجوفية!، يخبرنا عن الرجال الثلاثة الذين تسلقوا السلالم وصفقوا مصعوقين ثم قفزوا كما في رواية ابن الفقيه واحداً تلو الآخر، الى داخل المدينة. لكنه يضيف بعداً جديداً مفزعاً للحكاية: فبعد أن يقفز المتسلق الى قلب المدينة تتصاعد منها ضجة هائلة وصراخ ثاقب يدوم ثلاثة أيام بلياليها، وطوال هذه المدة يرتعش جيش ابن نصير في الخارج رعباً!
بدأت الحكاية تتبدل إذاً. ولا يلبث الغرناطي أن يدفع الاسطورة الى تخومها، فالرجل الرابع سيطلب من القائد ابن نصير أن يربطه بحبل، وهكذا يستطيع أصحابه سحبه فيما لو مال بأذنه عنهم وقفز غير آبه بصراخهم لدى بلوغه أعلى السور. يتم تنفيذ ذلك: يصفق الرجل المربوط بالحبل حول خصره، ويقفز من أعلى السور الى داخل المدينة. وحين يحاول أصحابه سحبه يسحبون النصف الأسفل من جسمه، أما جذعه ورأسه فيضيعان وراء السور النحاسي! وتتعالى الضجة المرعبة من جديد. هنا يصاب موسى بن نصير باليأس وينسحب.
توفي الغرناطي في دمشق سنة 1170 م، بعد أن قطع رحلة طويلة رحلة دامت طوال حياته، من موطنه في اسبانيا، الى تسكعه في افريقيا، وحتى بلوغه بلاد الشام. لا نعرف موقعاً محدداً لمدينة النحاس، أهي في المغرب افريقيا أم في الأندلس أوروبا؟ تختلف روايات المؤرخين، لكن الغرناطي جال في افريقيا كما في اوروبا من دون أن يعثر على هذه المدينة! وهذه الحقيقة تحيلنا على ابن خلدون، لكن قبل ذلك - ومراعاة للترتيب الزمني - علينا استشارة ياقوت الحموي المتوفى بعد الغرناطي بستين عاماً تقريباً.