محمد محمود حمدان - المرأة في حياة المازني

ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي
المازني


رثى المازني زوجته فكأنما كان يرثي نفسه أو بضعة منه، لا مجرد زوجة، ويناجيها في تفجع مرير (وا أسفي عليك، لا بل على، لم يبق إلا طيف يعتاد ذاكرتي. لا أثر على الرمال الخائنة التي كنا نمشي فوقها ونرقد عليها ونملأ أكفنا منها، وندع ذراتها تتساقط خيوطاً من بين فروج أصابعنا. ولقد نسيتك النجوم التي كنت تحبينها وتشيرين إليها ببنانك وتعدينها، ولم تستوحش خلو مكانك إلى جانبي تحت عيونها المتلامحة، بل هي لم تذكرك حتى يقال نسيتك. والقمر، الذي كنت تأنسين بطلعته وتخالسينه النظر من بين خصل شعرك الدجوجي المرخى على وجهك تحت ضوئه الفضي اللين، لا يزال يبتسم كالعهد به ابتسامة السخر والسهوم كأنه لم يفتقدك. كلا ما من شيء فيما أرى يحس افتقادك، كأنك لم تحبي وجه هذه الطبيعة الخامدة الحس الميتة المشاعر، التي تروعنا ولا تحفلنا، وتنبينا ولا تذكرنا. . وماذا أنا الآن؟ حي من الأحياء لا يدري الناس أني مت منذ سنين، وأني قبر متحرك كشمشون ملتون، أو جثة لم تجد من يدفنها، أو صورة باهتة لما كنته في حياتي. ولقد كنت كما يتوهمني الناس الآن، حياً تتدفق الدماء الحارة في عروقي، فلما تأملت مصائر الخلق ركدت الدماء قليلاً وابتردت، ومات مني شيء. ثم قضى ولدانا فأحسست دبيب الغناء، وضحى ظلك فتساقطت أزهار الحياة بين يدي وذوت نوارات آمالي تحت عيني، وإذا كفي ملأي بميت الزهر مما قطفت قدماً).

وكان يتخذ بيته في ذلك الحين على تخوم العالمين أو على حدود الأبد، ويستريح إلى قضاء لياليه في الصحراء حيث يلفه الظلام في شملته، ويرقد على الرمال كما كان يفعل مع زوجته، ويجعل عينه قيد السماء، يراعي النجوم ويناجيها، وتذهله خواطره السود عن نفسه وما حوله.

وإنه لغارق في لجج هذه الخواطر ذات ليلة - والجو ساج شاحب بدره - (إذا بفتاة ورد تعدو إلي وتناديني باسمي، فأفقت ورددت إلى الدنيا ولكن كما يفيق المغشي عليه؛ يتلفت في كل ناحية ويسأل أين هو؟ ويعجب لنفسه ولمن حوله وبذهنه بعض الكلال، وعلى عينيه كالغشاوة. ثم اعتدلت فوق الرمل ونبهت حواسي ومداركي بجهد، وقلت: من عسى تكونين يا فتاتي؟ قالت: لقد ذهبت أملأ جرتي من بيتكم هذا كعادتي كل ليلة بعد أن تنقطع الرجل، ألم ترني قبل الليلة؟ قلت: نعم ولكني لم أذكرها. فمضت في كلامها وهي تلهث وتلقي علي الأسئلة ولا تنتظر جوابها: إني كل ليلة أتسلل إلى البيت وجرتي تحت ملاءتي وأدفع الباب برفق. لماذا لا توصد بابك؟ ألا تخشى سارقاً؟ ولكن لو كنت توصده لتعذر علي أحياناً الدخول، ولكنت أخجل أن أزعجكم كل ليلة من أجل جرة ماء! وبعد أن أدخل وأضع جرتي في الحوض أتركها تمتلئ على مهل وأرود الحديقة، ولكني والله لم أقطف منها شيئاً، وإن كنت أحب ثمر الحناء. وقد انتهرتني ليلة وأنا أتمشى تحسبني أريد أن أسرق، فخفت وبكيت في الطريق وقلت كيف يسيء الظن بي. نعم، كيف أسأت الظن بي؟ فقلت: لم أكن أعرفك يا فتاتي فلا تغضبي، وخذي ما شئت من الحديقة فما بها ما يستحق أن يضن به المرء. فانحنت إلي وأنا قاعد على الرمل ووضعت راحتيها على ركبتيها وأكبت بوجهها على وجهي وحدقت في عيني وقالت بلهجة العاتب المحاسب: كيف لم تكن تعرفني؟ ألست أحييك كلما دخلت ورأيتك جالساً في ذلك الركن المظلم تحت الكرمة؟ فتناولت وجهها بين كفي وجذبته إلي في رفق وقبلتها، إذ لم يكن ثمة بد من ذلك، وقلت: لا تغضبي يا فتاتي، وإذا كنت تريدين ثمر الحناء فاجنيه كله، أو العنب فعناقيده لك، ولكن خبريني من ذلك على مكاني؟ ونهضت، فعادت إلى التحدث وقالت: من دلني؟ يا له من سؤال! كأن الدنيا كلها لا تعرف، ولقد وجدت بابك الليلة موصداً فعلمت أنك خرجت إلى هنا فجئت أبحث عنك لتفتحه لي، فإني أستحيي أن أقرعه قلت: أحسنت، فتعالي إلى هذه الصخرة. قالت: لماذا؟ قلت: لتعدي لي النجوم؟ قالت: أو هذا ممكن؟ إنها كثيرة جداً جداً! قلت: نعم، ولكنك كلما عددت نجماً وأسرت إليه بإصبعك اختفى واستسر حتى لا يبقى في السماء ولا الأرض إلا عيناك! قالت: أصحيح هذا؟ وجعلت تثب وتصفق حتى لخلتها إحدى بنات الليل. ومضينا إلى الصخرة وجلست وأجلستها على ركبتي وطوقتها بذراعي، وانطلقت هي تعد النجوم وأنا ألثم فاهاً كلما عدت واحداً، وهي فرحة بلثماتي، تردها مضاعفة حارة، وتهز رأسها وتنفض شعرها ثم تلقي بنفسها على ذراعي كرة أخرى وتستأنف العد ووجهها إلى السماء وشعرها المرسل متدل إلى الأرض. . .)

وأياً ما كان أمر هذه العلاقة العابرة وحظها من الواقع أو الخيال فثمة علاقة أخرى مما عرض للمازني في تلك الفترة من حياته، بعد وفاة زوجته، لا شك في أنها حقيقة مؤكدة وواقع صرف. وذلك حيث يذكر في مقدمة روايته (إبراهيم الكاتب) أنه عرف سيدة نمسوية تزاول الصحافة والتعليم في آن معاً؛ وتوثقت بينهما الصداقة فقد طال مقامها في مصر. وكانت - كما يصفها - حسناء في مقتبل العمر، عالمة واسعة الاطلاع في الآداب والفلسفة على الخصوص. ويقول المازني إنها أطلعته على صفحة من حياتها حافلة بالكروب والمتاعب. ولعلها وجدت فيما حدثها به من قصة حياته - وكانت لا تزال تعاوده صبابة من الحزن على فجيعته بفقد زوجته - ما جعلها تعطف عليه وتأنس به وزاد ذلك بينهما حتى آض، على الأيام، صغوا وتعاطفا وودا. . . (حتى لقد هممت بأن أتخذها زوجة، ثم عدلت عن ذلك وصرفت نفسي عنه، وصارحتها بالسبب، وإن كنت لا خطبتها، ولا كان بيننا ما يخطر ببالها أني قد أعرض عليها الزواج.

كلا! لم يحي المازني قط بمعزل عن المرأة، فقد كانت أكبر علائق الحياة عنده، وعليها درس فلسفة الغريزة والجنس، ومن معرفته وفهمه لطبيعتها كانت شخوص قصصه من النساء نماذج طبيعية للمرأة تصدر جميعاً عن فطرة سليمة وعاطفة مستقيمة. على أنه لم يكن يرتفع بالمرأة فوق مكانها من الجنس أو ينأى بها عن وظيفتها إزاء الرجل والنوع كله، فهي عنده الأنثى التي هيأتها الطبيعة لتكون أداة حفظ النوع وصيانته.

وقد ماتت عنه زوجته الأولى فما لبث أن تزوج بعد سنوات لأنه لم يستطع كما يقول أن يشيح بوجهه عن أهم جانب من جوانب الحياة. وما كان ليعترف بالعزوبة أو يؤمن بجدواها في حياة الأديب. ويقول إن أكبر مزية للزوجة هي أنها (سكن) وأنها تفيض على نفس الرجل وتفرغ على قلبه سكينة هي في رأيه السعادة التي يحق للإنسان أن يطمع فيها ولا بعجز عن الفوز بها. والزوجة عنده سبيل معرفة المرأة فليس يعرف المرأة من لا يعرف الزوجة ولو عرف ألف امرأة غيرها).

والحب، أو هذه العاطفة التي تكون بين الرجل والمرأة، أو بين الذكورة والأنوثة على الإطلاق، هو عند المازني مظهر الغريزة النوعية في الإنسان أو هو الوسيلة التي تتخذها الحياة لبقاء مظهرها الإنساني، والأداة التي تستخدمها لحفظ النوع. وهو بهذه المثابة، ليس إلا ضرباً من الجوع، كالجوع إلى الطعام، وإنما يشتهي المرء بغريزته النسل فيطلب المرأة، وتشتهي المرأة فتطلب الرجل. وليس الرجل أو المرأة بعد، كما يقول المازني، بالغاية المنشودة من هذا الشعور الدافع الذي نسميه الحب، وإنما الغاية هي استخدام هذا الشعور لاتصال الرجل بالمرأة اتصالاً يؤدي إلى التناسل أي حفظ النوع.

وعند المازني أن الحب أشد استغراقاً للمرأة، لأن مدار حياتها على حفظ النوع. ولهذا كانت الغريزة الجنسية فيها أقوى منها في الرجل.

ولا يؤمن المازني بما يسمى الحب العذري أو الأفلاطوني ويقول إنه (مظهر شذوذ أو ضعف في الطبيعة الإنسانية) وآية ذلك عنده ما ينتهي إليه في أكثر الحالات من الخبل أو الجنون. . (وإذا كان الحب لا يدفع إلى طلب الجنس الآخر فلابد أن تكون هناك علة أو آفة كالعلة التي تصرف الجائع عن الطعام).

وليس الحب عنده بعد ذلك تضحية أو إيثاراً أو شيئاً من هذا القبيل، بل هو أنانية صارخة من كلا الجانبين على السواء (فكل محب همه الاستيلاء على محبوبه والاستئثار به دون خلق الله جميعاً).

على أن أهم ما ذهب إليه المازني في فلسفة الحب هو رأيه المعروف القائل بالتعدد، وأن القلب الإنساني يتسع لأكثر من حب واحد في وقت واحد، أو في أوقات متقاربة، وإن اختلف كل حب في القوة والنوع والوجهة، وهو بعد حب صحيح يعلق القلب ويحرك الحس ويغير في النظرة إلى الحياة. ويؤكد المازني أن الإنسان لا يعرف التوحيد في الحب، (فلا الرجل يعرفه ولا المرأة تعرفه، والحقيقة أنه أكذوبة ضخمة وخرافة يلهج بها اللسان ولا يصدقها القلب.) وقد كانت زوايتاه الطويلتان إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني تطبيقاً لهذا الرأي وتمثيلاً له في هذه الحدود.

والكلام عن المرأة في حياة المازني لا يتم بغير الإشارة إلى شخصية كان لها أثرها البارز في حياته وأدبه.

تلك هي أمه. وقد مر في بعض هذه الفصول وصف وجيز لها. وهنا نقول إنها كانت لابنها أكثر من أم؛ فقد كانت له في طفولته أمه وأباه، وكانت له في رجولته أخته وصديقه. وكان، وهو أب وزوج، يعود حيالها طفلاً لا رأي له دونها، ويكل إليها كافة شأنه تصرفه له وتعينه عليه. ومن الحوادث التي تدل على شخصيتها القوية وأثرها الموحي، أنه جاءها يوماً، عقب استقالته من وزارة المعارف وكان ذلك في بدء الحرب الكبرى، فألقى بين يديها بقراطيس فيها (مرتبه) نقوداً فضية، وقال لها: هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة. قالت: يعني؟ فأخبرها أنه استقال، فلم تزد على أن قالت: على بركة الله.

ومن حنانها عليه وحبها له أنها كانت تقاسمه الدواء إذا مرض، وتجرع منه أمامه قبل أن تقدمه إليه، فينكر ذلك منها ويقول لها يا أمي كفي عن هذا. فلا يكون جوابها إلا أنه قلب الأم.

وقد كان المازني ينطوي لها على الحب والاحترام والوفاء وأهدى إليها في حياتها كتابه (رحلة الحجاز) وكان لا يفتأ يذكر فضلها عليه، ويسرد حوادثها معه، ويتحرى فيما يعمل مرضاتها وهناءتها. ويقول: لو وسعني أن أجعل حياتها نعيماً خالداً وسروراً دائماً وجذلاً لا تنضب ينابيعه ولا تجف موارده لما قصرت ولا كنت صانعاً إلا بعض ما يجب لها). فلما ماتت ظل يستوحيها في كل ما يقوم بخلده أو ما يمضي عزمه عليه، كأنها حاضرة معه لم تفارقه وكان ربما عن له الشيء فلا يلبث أن يستدبره وينصرف عنه، لما يقوم في نفسه من أن أمه لم تكن لترضاه له أو تشير عليه به لو كانت بقيد الحياة.

محمد محمود حمدان

بتاريخ: 16 - 02 - 1953
مجلة الرسالة - العدد 1024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...