عبدالرزاق دحنون - الأسطورة في وعي ماركس

كيف فهم كارل ماركس الأسطورة؟

الأسطورة تطوير وحيد الطرف, مبالغ فيه, تكبير, تضخيم لأحدى الميزات الصغيرة في المعرفة, لأحد جوانبها, لأحد وجوهها, إلى مطلق منفصل عن المادة, عن الطبيعة, مؤلّه. ومن المؤكد أن الأسطورة لها جذور معرفية ولها تربة, إنها زهرة غير ملقحة, وبالتالي لا تطرح ثمرة, ذلك لا جدل فيه, ولكنها نبتت على شجرة حية هي شجرة المعرفة الإنسانية , الكلية الجبروت.

1

كانت الأسطورة من أوائل القيم المعرفية التي أبدعها البشر عند العتبة الأولى في سلم رقيهم الحضاري, ففي المجتمع البدائي كانت الأسطورة الوسيلة الأساسية لفهم العالم الغامض الذي يعيش فيه البشر, وتُعدُّ أقدم شكل من أشكال إدراك هذا التنوع الكبير في مظاهر الطبيعة المحيط بالإنسان من كل جانب. وقد زرع الوعي البشري البدائي الطبيعة بمختلف الأنفس في مرحلة مبكرة من تطور المجتمع, ونبتت في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة الملحوظة نفساً معينة. ولم تكن قد انعكست في هذه الأنفس صلات واقع حياة الناس وعلاقاتهم, وإن كانت صورتها فيها الكثير من الخيال, لأن المجتمع البدائي لم يعرف علاقات السيطرة والتبعية, لذلك لم تجد مثل هذه العلاقات مكاناً لها في عالم القوى الفوقية الذي صنعتها المخيلة البشرية. وقد اعتقد أجدادنا الأوائل أن النفس قادرة على التجسد, فالعالم في نظرهم مسكون بالأنفس الطيبة و الأنفس الشريرة التي تؤثر على سلوكهم تأثيراً كبيراً. فإن الحجر أو الشجرة أو الجبل, ناهيك عن أنواع الحيوان, لها نفس ويمكنها أن تؤثر في حياتهم اليومية. وهنا لابد لي من الإشارة إلى أن كلمة "نفس" وردت عند أهل مملكة "إبلا" في تل مرديخ في إدلب شمال سورية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد بلفظ (نوبوشتوم) وهي أصل كلمة نفس العربية والتي من معانيها, فرد, أو شخص, ومنها تسمية دائرة الأحوال الشخصية "دائرة النفوس".

2

وما أن هلت تباشير المجتمع المستقر على ضفاف الأنهار والسهول الخصبة القابلة للزراعة وتهجين الحيوان وبناء المساكن من الطوب المشوي بأشعة الشمس, في مختلف أرجاء العالم, حتى أخذت تظهر أساطير أكثر تعقيداً, وتتحول هذه إلى روايات وحكايات متسقة يرتبط بعضها ببعض وتؤلف في النهاية عالماً من الأساطير الواسع الطيف. وقد أظهرت الدراسات المقارنة لقصص مختلف الشعوب عن وجود تلاقح فيما بينها, يعود في أصله إلى مفهوم الاستعارة, فمثلما يستعير القمر نور الشمس ليعكسه ضياءً ساحراً على الأرض, استعارت الشعوب الأساطير من بعضها, بعد أن تكون الأساطير المقتبسة قد أخذت مكانها المدرك في حياة الشعب الذي اقتبسها, وفي رؤاه, بما يتلاءم وظروف حياته ومستوى التطور الذي حققه.

3

وقد تشكلت المقدمات الرئيسة للفكر الأسطوري لأن الإنسان البدائي لم يكن قد أصبح قادراً على فصل ذاته عن الوسط المحيط, الطبيعي والاجتماعي. فقد أضفى الإنسان صفاته الذاتية على مواضيع الطبيعة, ونسب إليها الحياة والأحاسيس البشرية. وما نشهده اليوم من دعوة بعض الجماعات البشرية لترك المدن الكبيرة والعودة لحياة الطبيعة البكر-مريم نور على سبيل المثال- إلا انعكاساً لتوق النفس الإنسانية إلى عصورها البدائية. والتعبير عن قوى الفضاء الكوني وصفاته وأجزائه على أنها شخصيات محددة, محسوسة, حية, هو الذي خلق الفكر الأسطوري الغريب المبتكر, إذ غالباً ما تمثل الفضاء في الأساطير عملاقاً حياً يمكن أن يتألف العالم من أجزائه, ويصور الأجداد الكائنات الحية على أنها ذات طبيعة ثنائية على شكل حيوان وعلى شكل بشر, وهذا في اعتقادي ما يفسر أحد أسرار التماثيل المزدوجة التركيب المكتشفة في حقبة ممالك المدن الأولى في وادي الرافدين والهلال الخصيب وعلى ضفاف النيل.

4

يدرك الوعي البدائي محتوى الأساطير على انه حقيقة واقعية, لأنها إدراك حقيقي لواقع معطى في صورة حاضر مستمر. إن عدم القدرة على إقامة حد فاصل بين الطبيعي والخارق قد حول الفكر الأسطوري إلى نظام رمزي فريد, جرى إدراك العالم من خلاله. ويمكن أن تستمر بعض سمات الفكر الأسطوري حية في وعي الناس إلى جانب عناصر المعارف الفلسفية والعلمية. ففي أيامنا هذه مازالت الأساطير الدينية تستخدم على نطاق واسع في الموروث الشعبي والوعي الاجتماعي.

يرى كثير من العلماء الذين درسوا الأساطير دراسة منهجية, أن الانقسام الاجتماعي وما رافقه من انقسام العمل الذهني عن العمل العضلي أديا إلى انفصال الطبيعي عن فوق الطبيعي ,وبالتالي بروز الأساطير كعالم خاص يقف فوق العالم الطبيعي ويسيطر عليه. ومن هنا تشكلت فكرة الدين في الوعي البشري. غير أن الدين ليس مجرد حقائق فريدة لفهم العالم فهماً أسطورياً. ولو كان الأمر كذلك لانهار التصور الديني عن العالم منذ زمن طويل, إذ لا يخفى أنه ليس من الصعب إثبات عدم وجود أية أسس مجربة لدى مثل هذا التصور عن العالم, ولأمكن بالتالي استبداله بصورة علمية واقعية عنه. ولكن الأمر يكمن في أنه تنبثق عن التصور الديني عن العالم, ومن الإيمان بأن رباً خلق هذا العالم و يتحكم في شؤونه, صغيرها وكبيرها, نقول تنبثق عن هذا كله صلة عاطفية معينة تربط المؤمن بخالقه, تنبثق عنه آمال بشرية, تطلعات, أوهام, أشواق, رغبات ومساعي. وهذا الجمع من الأحاسيس والعواطف التي خلقها الدين في النفس البشرية,هي التي تجعل منه قوة حيوية مهيمنة.

5

عندما تم التلاقح بين الأسطورة والدين في الوعي البشري نتج المقدس. و المقدس نمط من أنماط علاقة البشر بأصل الأشياء يغيب فيها البشر ويظهر مكانهم أقران لهم, أي كائنات خيالية خارقة. إذ لا يمكن للمقدس أن يظهر إلا إذا غاب شيء ما من الإنسان. والإنسان الذي يغيب هو الإنسان شريك الطبيعة في تكوين نفسه,الإنسان الذي شكل أسلوب وجوده الاجتماعي وكيانه الاجتماعي. فطبيعة البشر لا تجعلهم يعيشون في مجتمع وحسب – كبقية الحيوانات الاجتماعية – بل تجعلهم ينتجون مجتمعاً ليتمكنوا من العيش. وبازدواجية البشر وابتداعهم لأقران خياليين غير موجودين وأقوى من البشر الحقيقيين يجعلهم يبدون لا كفاعلين وخالقين جزئياً لأنفسهم وإنما كمنفعلين. فازدواجية البشر تترافق مع تشويه وحجب للواقع وقلب للعلاقات السببية. لكن حين يغيب الإنسان الحقيقي عن الأصول, حين يزدوج بالفكر مبتدعاً كائنات خارقة أقوى من الإنسان, ينشطر الواقع الإنساني ويصبح البشر الحقيقيون غرباء جزئياً عن أنفسهم, يكون ذلك بفعل آلية لا تتعلق بالفكر وحده. فابتداع هذه الكائنات وإنتاج حكايات تروي مغامراتهم وإعداد طقوس تحتفي بهم وتعيد إحياءهم بين البشر, كل ذلك يقتضي عملاً للفكر,عملاً واعياً يحرك في الوقت ذاته بنى لا واعية في الذهن. ويكمن الأمر الجوهري في أن الأساطير هي تفسير لأصل الأشياء يعطي شرعية لنظام الكون والمجتمع بإحلال بشر خياليين لم يدجنوا النبات والحيوان ولم يبتكروا الأدوات والأسلحة ولم يخترعوا اللغة, بل تلقوا هذه المنافع من أبدي الآلهة أو الأبطال المؤسسيين, محل بشر حقيقيين قاموا بكل ذلك. وقد شرح هذه الفكرة الجوهرية بوضوح العالم الفرنسي موريس غودولييه في كتابه لغز الهبة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...