أنس الرشيد - خطأ القصيدةِ

مَنْ الشخصُ الغريب النائمُ في نعشِ درويش؛ فهو كحبَة قمحٍ عاد ثانية ليشيَع نفسه؛ ويصحح ما تبقى في قصيدةٍ جاءت من الإحساس بالمجهول ..

هنا ننبش الذاكرةَ -في الطريقِ إلى نعشِ محمود- عن مفهوم الشعر بصفته تجربة دائمة لشيءٍ لا يبين منه إلا جزؤه العلوي . ونعني هنا أننا في محاولة للاكتمال بصورة دائرية. وهذا يفرض على الشاعرِ أن يتخلص- تخلصا شعريًا- من القصيدة السابقة إذا حان موعد كتابة قصيدة تالية؛ لأنه في لحظة فتحٍ آخر في الأشكال والمضامين .

وأنا أحملُ نعشَ الدرويشِ الكبير؛ أجاهدُ يدي؛ ألا ترتعش.. فهل يُحــْمَلُ الشعرُ؟! وأين الشعر المحمول، ودرويشُ ما فتئ يحاولً ويشرح الشعر بالشعرِ؛ ويواصل الخطأ المؤجل .

لهذا جاء عنوانُ أحدِ دواوينه (محاولة رقم 7) الذي تناوله بعض النقاد كعتبةٍ ظاهرةٍ في سطح البيت، وانحصرت أقوالهم في تأويلين؛ الأول: إن سر الرقم هو ترتيب الديوان في سلسلة الدواوين؛ فقبله ستة دواوين. والثاني: إن المرادَ عددُ الثورات التي يحاولها الشعب الفلسطيني منذ الاحتلال البريطاني ، وهذه هي الثورة السابعة.

لكن السؤال/ لِمَ لم يقل للديوان السابق محاولة رقم 6 ؟! ولو كان عدد الثورات بشكلها العددي فحسب؛ فلِمَ يقحمها عنوانا؛ ولِمَ يحدد هذا الديوان لوصف المحاولة الشعبية الفلسطينية؛ والتجربة تجري بدمه؟

والسؤال أيضا / هل تتوقف المحاولات على السابعة؟ وهل يقف الشعر على جمود العدد؟ في ديوانه السادس خاض درويش تجربة جديدة في قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكفيتيريا) ولم تكن إلا حلقةً في سلسلةٍ طويلةٍ في مفهوم الشعر عند درويش؛ دون أن يقول محاولة رقم 6 .

فما سِرُ السابعةِ يا درويش؟ أهي الحقيقةُ التي لا يهمس بها الميتُ في النعشِ المغطّى بالبنفسج؟

أم روحُ القصيدةِ التي يؤجل موتَها اللهُ؛ لأن القيامةَ لم تحن .

هي كلُ ذلك، حين تفجأ بأن الزمنَ معدومٌ، وأن المحاولة غايةٌ

ولابد لي الآنَ من تقسيم كلامي إلى فرعين:

الأول: في الفصل بين المتجاورين وأعني: (محاولة) و(7) ومن ثمّ وصلهما بطريقٍ أخرى.

فمحمود أراد أن يعانقَ (المحاولة) كغاية؛ فأعطاها صفة 7؛ وهو لا يعني 7 ترتيبا، بل 7 هنا تعني المحاولة في لحظة الاكتمال الدائري.!

والثاني: في مفهوم المحاولة على المحاولة؛ وأعني أن كل محاولة لكشف سر المحاولة هي محاولة صحيحة؛ وهذا نابع من مفهوم المحاولة كغاية.

أما القسم الأول فالمراد يتضح في كون رقم 7، له دلالات عند الأمم ليست عددية فحسب، ومن الأمم العرب؛ فرقم 7 يخفي خلف عدديته معنى عميقا، ولنأخذ أمثلة من الثقافة العربية:

- 7سموات. 7 أراضين...

- الطواف على الكعبة 7 أشواط، والسعي بين الصفا والمروة 7 أشواط. ويرمي الجمرات بــ 7 حصيات و7 مرات.

- 7 يضلهم الله في ظله.

- فليغسله 7، إحداهن بالتراب.

- السجود على 7 أعضاء

- أبواب النار 7

-استواء الله على العرش في اليوم السابع بعد خلق السموات.

- آيات سورة الفاتحة 7 (والفاتحة هي أم القران وسرّهُ، كما يشير إلى ذلك كثير من المفسرين)

وخذ كثيرا من نصوص القران لترى عجب الرقم 7، فمثلا:

- (والبحر يمده من بعده 7 أبحر).

- (7 بقرات سمان يأكلهن 7 عجاف، و7 سنبلات خضر وأخر يابسات)

- (قال تزرعون 7 سنين دأبا)

ومثل هذا في التوراة والانجيل.

- وثمة فرقة عقدية، اسمها السبعيّة؛ وسبب تسميتهم بذلك أنهم يقولون: إن الأشياء العلوية سبعة، والأشياء السفلية سبعة.

- والبحار والقارات والالوان أعدادها 7.... الخ.

ومما يذكر هنا؛ ما جاء في سفر يشوع (يوشع بن نون) في أخذ اليهود لأريحا؛ أن أسوار أريحا انهارت في اليوم(السابع) بعد أن طافوا حولها 7 مرات.

لهذا وغيره من الأسباب؛ تخمر في الذهن أن رقم 7 يعني اكتمال الشيء.

وأما القسم الثاني فهو يتفرع إلى فرعين:

الأول: مدخل، والثاني تأسيس.

فالمدخل أبدؤه بالإشارة إلى الديوان السابق على ديوان محاولة رقم 7، وهو ديوان (أحبك أو لا أحبك) والعنوان سؤال حيرةٍ وتردد؛ ثم جاء ديوان محاولة رقم 7 ليقول في القصيدة الأولى (كأني أحبك) لحظة تغليب جانب على آخر، ثم جاء الديوان التالي لمحاولة رقم 7 بقصيدة وحيدة وهي عنوان الديوان (تلك صورتها، وهذا انتحار العاشق) لحظة إشارة قطعية (تلك صورتها)

ثم تفكك القطع (هذا انتحار العاشق).

وأما التأسيس لذلك؛ فإن الكلام هنا لا يريد أن يوصل تطورا في العملية الدرويشية؛ إنما يريد أن يقول: إن المحاولة تضم جوانب الرؤية وتُلِمُّ شعثها.

والمراد: لا يوجد شيء منجز بصورته النهائية، وكيف نعرف الصورة النهائية أنها نهائية؟! لهذا فالمحاولة هي السمة الثابتة للوصول إلى ما لا يمكن الوصول إليه!

ومن هنا قلتُ: إن مفهومَ المحاولة المقصودَ، يجعل من المحاولات كلها صحيحة! ولكن بنقصان دائم، فمن قالوا: إن سبب التسمية هو الترتيب؛ فهو صحيح من جهة أنه بعد السادس فعلا؛ إذ لم يجعل محمود ديوانه الثاني او الثالث اسمه محاولة رقم 7؛ وسبب نقصانه أن سبعة هنا لا يعني العدد. ومن حيث الرأي الثاني الذي يقول بأن رقم 7 هو في عدد الثورات؛ فهو أيضا صحيح ناقص؛ فإذا أُخذ مفهوم الاكتمال المضمر في سبعة؛ فإنه يعني من جهة ما؛ نهاية الكيان الصهيوني وبداية لمّ الشتات. أي اكتمال وليس اكتمال؛ لكن دون أن نعدد الثورات منذ الاستعمار البريطاني؛ كيلا نجعلها ترتيبا سقيما.

فرقم 7 يعني هنا (الاكتمال دائرة). محاولة دائمة للخلق والتجديد والتغيير. الاكتمال الذي يكتمل ولا يكتمل؛ فنهاية الكيان الصهيوني ستكون وتصير لكن لا يعني هذا نهاية المحاولة بمفهومها هذا.

لما كتب محمود درويش قصيدته (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا) وهي من ديوان (أحبك أو لا أحبك) الديوان السابق لمحاولة رقم7. كان درويش أمام حدث سياسي وهو أن شابا اسمه سرحان أطلق النار على أحد مرشحي الرئاسة الأمريكية المؤيدين بحماس شديد للكيان الصهيوني. وهو -أي محمود-في الوقت نفسه أمام تحول ثقافي غربل مسيرته ومفهومه للشعر والنثر. وأعني أن الحدث السياسي المذكور لا يصح التعامل معه كصوتٍ واحدٍ؛ ولا صوتين ولا ثلاثة...! بل مجموعة أصوات متداخلة بصورة لا تنفكّ؛ وهو مالا يتناسب مع التعاطي الشعري المباشر والسطحي.

إن هذا الحدث قولبه محمود في قصيدة سرحان؛ ليمهد تمهيدا أوليًا للمرحلة الدرامية في شعره؛ إذ كانت قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكفتيريا) آخر قصيدة في الديوان. ثم تلاها لفظة (محاولة) وهو ديوان (محاولة رقم 7). ثم خُتمت قصيدة الديوان التالي (تلك صورتها وهذا انتحار العاشق) بجملة (.. نحن الريح.. نحن الريح.. نحن الريح..) والريح لا مكان يقر به قرارا واضحا مكينا!

إننا نتأمل هنا محاولات دائمة مستمرة لها اكتمالات آنية ومفردة، وما تلبث الا أن تحيا بلباس جديد.

(وكُلَّما صادَقْتُ أَو
آخَيْتُ سُنْبُلةً تَعَلَّمْتُ البقاءَ من
الفَنَاء وضدَّه : أَنا حَبَّةُ القمح
التي ماتت لكي تَخْضَرَّ ثانيةً . وفي
موتي حياةٌ ما …)


ويقول محمود في قصيدة (كأني أحبك) من ديوان محاولة رقم 7 :

(لماذا نحاول هذا السفر ْ
وقد جردتني من البحر عيناكِ
واشتعل الرمل فينا)


كيف تعبّر هذه القصيدة عن مفهوم المحاولة الدرويشية؟

هذه القصيدة لقاء بين الشاعر والتجربة الفلسطينية العريقة والعميقة والطويلة والمعقدة بكل تفاصيلها من قتل وتشريد وسجن وحصار وتنكر للحقوق، وصمت وإهمال وحقد وتآمر وتجاهل وفرقة وتشتيت وتهجير...

يسأل الشاعرُ التجربةَ: (لماذا نحاول هذا السفر؟) بصيغة الجمع؛ فيدخل فيها حتى التجربة نفسها.

لكنه أفرد نفسه بعدها قائلا: (وقد جردتني من البحر عيناكِ)!

التجربة الفلسطينية جرّدت محمود من وهم الاكتمال المطلق، فذهب يسألها: لماذا نحاول السفر نحو الاكتمال المطلق وأنتِ التي جردتني منه؟

فالسؤال يشمل الجميع؛ لكنّ المجرد هو الشاعر فحسب. فنلحظ أن التجربة نفسها لم يشملها التجريد؛ لدلالة وجود الاكتمال الناقص. ثم جمع بعد ذلك في قوله: (واشتعل الرمل فينا) هنا الجميع اشتعلت فيه الملامح الباهتة، الرؤية الغائمة، الجفاف.

ثم يقول:

(لماذا نحاول؟
والكلمات التي لم نقلها
تُشرّدنا)


الكلمات التي لم تقل؛ تُعبّر عن الطرق التي لا تـُرى، عن عشوائية لا يستطاع الامساك بها، عن ضرب المركز المرئي.

إذ لو كان للاكتمال المطلق طريق مرئي ومركزية؛ لسرنا إليه ونحن نعرف مصدر قلقنا؛ لكن لآلامنا وقلقنا وسر نقصنا؛ مصادر أخرى لا نستطيع الإمساك بها؛ مما يعني أن الاكتمال له صورة الدائرة التي ستعود إلى أولها بشكل آخر.

وتستمر القصيدة برمزيتها، ولونها الوجودي. ويبقى سؤال حول التجربة الشعرية الدرويشية وموقعها في مفهوم المحاولة هذا؟

هنا أنتقل إلى القصيدة الأخرى من نفس الديوان وهي (بين حلمي وبين اسمه كان موتي بطيئًا)

يقول في المطلع:

(باسمها أتراجع عن حلمها. ووصلتُ أخيرًا إلى الحلم.
كان الخريف قريبا من العشب.
ضاع اسمها بيننا. فالتقينا.
لم أسجل تفاصيل هذا اللقاء السريع. أحاول شرح القصيدة كي أفهم الآن ذاك اللقاء السريع)


ويقول في خاتمتها:

(باسمها أتراجع عن حلمها. ووصلتُ وكان الخريف قريبا من العشب. ضاع اسمها بيننا. فالتقينا.
لم أسجل تفاصيل هذا اللقاء السريع
أحاول شرح القصيدة
لأغلق دائرة الجرح والزنبقة.
أحاول أحاول أحاول)


باسم التجربة نفسها؛ يتراجع الشاعر عن حلمها (الاكتمال المطلق) ويصل الشاعر أخيرا إلى الحلم (زوال الوهم). وفي قوله (كان الخريف قريبا من العشب) قلبُ للمسيرة الطبيعة والسببية؛ وهذا يعبر عن الدوران اللاواعي في الفكر المغيِّر والمغيَّر.

ثم تبرز التجربة الشعرية في كشف سر اللقاء كله وفهم الاختلاف الفلسفي المؤدي لإعادة الترتيب اللا نهائي للوجود؛ وهو من خلال الشعر ولكن شعرا كأنه لغة نثرية؛ وليست نثر. وكأنه لغة مقبوض عليها ولكنها كالماء بين الأصابع. لهذا قال:

(أحاول شرح القصيدة كي أفهم الآن ذاك اللقاء السريع)

وقال:

(أحاول شرح القصيدة لأغلق دائرة الجرح والزنبقة)

فالتجربة الشعرية ستخضع لمفهوم المحاولة الدائمة المكتملة الناقصة لأنها تكشف من خلال ذاتها العليا نقصانها ونقصان الكمال ونقصان الحضور.

__

أنس الرشيد
عن الكاتب
كاتب مستقل عن ذاته

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...