(لكن جانبا من تفكيره ظل جانحا يفكر بمكر في الخطيئة والشرف والاهانة التي لا يمكن للعبدي أن يبتلعها بشربة ماء..) (العبدي)
ما أن تتوارى المرأة عن العين، فثمة خطيئة ستُرتكب وشرف رجل سيُنتهك.. إنها سيكولوجيا وذهنية الرجل في المخيال الشعبي الذي لا يرى في المرأة إلاّ موضوعاً للجنس فحسب وليس كياناً مستقلاً وشخصية لها اهتمامات وتطلعات و(كرامات!) لا تنحصر صفاتها فقط في الجانب الجنسي!
تحت عنوان (العبدي) والتي هي حكاية شرف مألوفة في مجتمعاتنا استوفت عناصرها بغضب الرجل الذي انصرف ذهنه إلى موضوع الجنس ولم يذهب عقله للبحث عن احتمال آخر لغياب المرأة أو تبريره سوى انتهاك شرف الرجل، فينعقد العزم على انزال العقاب الشديد بها.. هذا ما يحدث عادة، وغالباً ما يحظى بتعاطف وقبول المجتمعات ذات الثقافة الأبوية الذكورية.
(وقد داهمت قاربهم المياه، وضاع زاد الرحلة، وضاق الأمل، ولم يبق في متناولهم سوى التضرعات والحسرات والدموع والزفرات، أدعية تنفطر لها الأفئدة...) (البحارة)
و (البحارة) حكاية أخذت القارئ إلى مكان آخر وحالة أخرى، فقد انتقلت إلى حالة مغايرة تماماً وكأننا انتهينا من حكاية (العبدي) وابتدأنا حكاية جديدة، هو تغريب مربك، يشوّش عقل القارئ ويدفعه إلى التساؤل: وما الرابط بين الحكايتين؟! أعود إلى (العبدي) فلا أرى أيّ خيطٍ فيها يشدّها إلى (البحارة).. ولكن لننتظر ونمضي في القصة إلى نهايتها..
(وهي الحمرية المكشوف عنها الحجاب، فهبت لنجدتهم ومقاومة العاصفة وإسناد القارب الكسيح بمتانة ظهرها وصلابة ايمانها إلى بر الأمان..) (الحمرية)
حسناً لنكمل.. تأتي (الحمرية) كحكاية تقوم بترتيب العناصر وتوضيح الغوامض واستبعاد الغرابة وانعدام الترابط الذي تراءى لنا حتى هذه اللحظة.. فالحمرية ذات الكرامات أنصتت لنداء المقهورين واستجابت له ومضت بشجاعة الأولياء والأبطال الشعبيين لانقاذ الملهوفين من الخطر الجسيم.. لقد كان تأجيل الكشف إلى نهاية الحكاية الأخيرة، براعة الكاتب الذي يحقق تلك الدهشة الآسرة التي هي من أساسيات كل نص ناجح ليمكث راسخاً في نفس القارئ.
لستُ ضليعاً بفنون السرد كثيراً. ولكن أليس ما قرأته للتو يقدّم لنا ما يعرف بـ (الحكي داخل الحكي) ويذكّر القارئ بذلك التراث الأدبي ذي التداخل الحكائي، وتعدّد مستويات الحكي، (كما في ألف ليلة وليلة مثلاً) ممّا يُرّسخ تلك الحكايا في النفوس، ويكسبها مزية الاستمرار والحياة في المخيال الشعبي، إنّه سرّ وسحر الموروث الشفاهي الذي يأبى الاندثار لحكايات الشعوب والجماعات البشرية.
استعان النص بتكنيك المونتاج السينمائي في ربطه لهذه المشاهد الثلاثة للقصة. (بالمناسبة النص يصلح كأساس لسيناريو فلم سينمائي ناجح، فقد مرّ في ذهني كشريط سينمائي مثير) فالمشهد الأول (العبدي) فضاء يكاد أن يكون محدوداً، عنصره الأساس البيت وما يحيط به، حتى عندما ينفتح على الخارج فالأرض مرتع شياطين وعفاريت... والسماء رصاصية.. والرياح ديسمبرية.. فضيق الصدر والجو الكابوسي سيد الموقف.
المشهد الثاني (البحارة) مفتوح على فضاء شاسع.. البحر والصراع القاسي من أجل البقاء.. وأدعية واستنجاد بمخلص أو شفيع ينقذ هؤلاء المنقطعين وسط الخطر والعواصف.. توتّر شديد يستولي على القارئ وترقب لمعرفة نهاية هذا الصراع – الذروة...
المشهد الثالث (الحمرية) هو الذي سيقوم، بنجاح باكمال عملية المونتاج بمهارة مخرج سينمائي مقتدر.. عبر تفسير العلاقات وتوضيح الوشائج بين المشهدين ويحقق (خلاصاً مزدوجاً!).. انقاذ المهددين بالخطر وانتشالهم من الغرق، وتخليص الرجل من وساوسه وشياطين شكوكه التي تكتم انفاسه.. فهنا الانفراج والحل للعقدتين- الذروتين معاً، وساوس الرجل الشكّاك، ومحنة البحارة المشرفين على خطر الغرق.. هنا يتم تفريغ شحنة التوتر التي سيطرت على القارئ.. إنّها النهاية السعيدة..
ككل تلك الحكايا الشعبية، حيث النفوس التوّاقة إلى الخلاص من مآسيها ومعاناتها بوساطة الأبطال الشعبيين وشفاعتهم، فتطمئن قلوبهم ويصبرون على المعاناة.. يراودهم الأمل الدائم بالخلاص.. هي القصة الشعبية المأثورة في خيال الناس المقهورين .. التي تغذّي حلمهم الدائم بانتظار المنقذ والمخلص.. والمخلص والشفيع هذه المرة هي المرأة- الحمرية...
... وإن كانت القصة مستقاة من المرويات الشعبية، لكنها سُبكتْ وصُبّتْ في قالب أدبي متين وشكل محكم، تُظهر مدى قدرة الكاتب الكبيرة وتمكنه من السيطرة على تفاصيل السرد الناجح منذ البداية وحتى النهاية.. عبر لغة جميلة ورصينة وفخمة وصور ثرية وآخاذة لا يمكن للقارئ أن ينتهي من القراءة إلاّ وقد وقع تحت تأثير السحر والجمال.. هكذا يمكث في الوجدان كل ابداعٍ راقٍ وجميل.. تحية كبيرة للمبدع وراعي الجمال الأستاذ نقوس المهدي..
.
ما أن تتوارى المرأة عن العين، فثمة خطيئة ستُرتكب وشرف رجل سيُنتهك.. إنها سيكولوجيا وذهنية الرجل في المخيال الشعبي الذي لا يرى في المرأة إلاّ موضوعاً للجنس فحسب وليس كياناً مستقلاً وشخصية لها اهتمامات وتطلعات و(كرامات!) لا تنحصر صفاتها فقط في الجانب الجنسي!
تحت عنوان (العبدي) والتي هي حكاية شرف مألوفة في مجتمعاتنا استوفت عناصرها بغضب الرجل الذي انصرف ذهنه إلى موضوع الجنس ولم يذهب عقله للبحث عن احتمال آخر لغياب المرأة أو تبريره سوى انتهاك شرف الرجل، فينعقد العزم على انزال العقاب الشديد بها.. هذا ما يحدث عادة، وغالباً ما يحظى بتعاطف وقبول المجتمعات ذات الثقافة الأبوية الذكورية.
(وقد داهمت قاربهم المياه، وضاع زاد الرحلة، وضاق الأمل، ولم يبق في متناولهم سوى التضرعات والحسرات والدموع والزفرات، أدعية تنفطر لها الأفئدة...) (البحارة)
و (البحارة) حكاية أخذت القارئ إلى مكان آخر وحالة أخرى، فقد انتقلت إلى حالة مغايرة تماماً وكأننا انتهينا من حكاية (العبدي) وابتدأنا حكاية جديدة، هو تغريب مربك، يشوّش عقل القارئ ويدفعه إلى التساؤل: وما الرابط بين الحكايتين؟! أعود إلى (العبدي) فلا أرى أيّ خيطٍ فيها يشدّها إلى (البحارة).. ولكن لننتظر ونمضي في القصة إلى نهايتها..
(وهي الحمرية المكشوف عنها الحجاب، فهبت لنجدتهم ومقاومة العاصفة وإسناد القارب الكسيح بمتانة ظهرها وصلابة ايمانها إلى بر الأمان..) (الحمرية)
حسناً لنكمل.. تأتي (الحمرية) كحكاية تقوم بترتيب العناصر وتوضيح الغوامض واستبعاد الغرابة وانعدام الترابط الذي تراءى لنا حتى هذه اللحظة.. فالحمرية ذات الكرامات أنصتت لنداء المقهورين واستجابت له ومضت بشجاعة الأولياء والأبطال الشعبيين لانقاذ الملهوفين من الخطر الجسيم.. لقد كان تأجيل الكشف إلى نهاية الحكاية الأخيرة، براعة الكاتب الذي يحقق تلك الدهشة الآسرة التي هي من أساسيات كل نص ناجح ليمكث راسخاً في نفس القارئ.
لستُ ضليعاً بفنون السرد كثيراً. ولكن أليس ما قرأته للتو يقدّم لنا ما يعرف بـ (الحكي داخل الحكي) ويذكّر القارئ بذلك التراث الأدبي ذي التداخل الحكائي، وتعدّد مستويات الحكي، (كما في ألف ليلة وليلة مثلاً) ممّا يُرّسخ تلك الحكايا في النفوس، ويكسبها مزية الاستمرار والحياة في المخيال الشعبي، إنّه سرّ وسحر الموروث الشفاهي الذي يأبى الاندثار لحكايات الشعوب والجماعات البشرية.
استعان النص بتكنيك المونتاج السينمائي في ربطه لهذه المشاهد الثلاثة للقصة. (بالمناسبة النص يصلح كأساس لسيناريو فلم سينمائي ناجح، فقد مرّ في ذهني كشريط سينمائي مثير) فالمشهد الأول (العبدي) فضاء يكاد أن يكون محدوداً، عنصره الأساس البيت وما يحيط به، حتى عندما ينفتح على الخارج فالأرض مرتع شياطين وعفاريت... والسماء رصاصية.. والرياح ديسمبرية.. فضيق الصدر والجو الكابوسي سيد الموقف.
المشهد الثاني (البحارة) مفتوح على فضاء شاسع.. البحر والصراع القاسي من أجل البقاء.. وأدعية واستنجاد بمخلص أو شفيع ينقذ هؤلاء المنقطعين وسط الخطر والعواصف.. توتّر شديد يستولي على القارئ وترقب لمعرفة نهاية هذا الصراع – الذروة...
المشهد الثالث (الحمرية) هو الذي سيقوم، بنجاح باكمال عملية المونتاج بمهارة مخرج سينمائي مقتدر.. عبر تفسير العلاقات وتوضيح الوشائج بين المشهدين ويحقق (خلاصاً مزدوجاً!).. انقاذ المهددين بالخطر وانتشالهم من الغرق، وتخليص الرجل من وساوسه وشياطين شكوكه التي تكتم انفاسه.. فهنا الانفراج والحل للعقدتين- الذروتين معاً، وساوس الرجل الشكّاك، ومحنة البحارة المشرفين على خطر الغرق.. هنا يتم تفريغ شحنة التوتر التي سيطرت على القارئ.. إنّها النهاية السعيدة..
ككل تلك الحكايا الشعبية، حيث النفوس التوّاقة إلى الخلاص من مآسيها ومعاناتها بوساطة الأبطال الشعبيين وشفاعتهم، فتطمئن قلوبهم ويصبرون على المعاناة.. يراودهم الأمل الدائم بالخلاص.. هي القصة الشعبية المأثورة في خيال الناس المقهورين .. التي تغذّي حلمهم الدائم بانتظار المنقذ والمخلص.. والمخلص والشفيع هذه المرة هي المرأة- الحمرية...
... وإن كانت القصة مستقاة من المرويات الشعبية، لكنها سُبكتْ وصُبّتْ في قالب أدبي متين وشكل محكم، تُظهر مدى قدرة الكاتب الكبيرة وتمكنه من السيطرة على تفاصيل السرد الناجح منذ البداية وحتى النهاية.. عبر لغة جميلة ورصينة وفخمة وصور ثرية وآخاذة لا يمكن للقارئ أن ينتهي من القراءة إلاّ وقد وقع تحت تأثير السحر والجمال.. هكذا يمكث في الوجدان كل ابداعٍ راقٍ وجميل.. تحية كبيرة للمبدع وراعي الجمال الأستاذ نقوس المهدي..
.