ملحوظتان:
-كتب الشاعر الفلسطيني ابن غزة هاشم معين بسيسو في "دفاتر فلسطينية" وكان في العراق يومها عام 1953. يقول:
حادثة لن أنساها في حياتي حين جاء أمر طرد اليهود من العراق, كان من بين اليهود المطرودين شيوعية يهودية عراقية رفضت ركوب الطائرة فضربها عسكر نوري السعيد حتى سقطت فوق سلم الطائرة فجروها جراً إلى داخل الطائرة وهي تصرخ: هذا وطني.
-أنا كمسلم لا أكره اليهود ولا أُحرِّض على كرههم ولا أسعى إلى ذلك و لا أضع عيباً في ديانتهم , وقد أكد علم الأنساب الجيني هذه القرابة بما لا يدع مجالاً للشك, فهم أبناء عمومتنا في المحصلة النهاية لأننا نشترك في أرومة واحدة . أحترم ديانات البشر جميعاً, ولكنني أقرأ مناقب اليهود كما وردتْ في هذه الرواية.
من سنوات خلت, أصدرت وزارة الثقافة السورية هذه الرواية الفخمة مترجمة عن النص الإنكليزي في مجلدين ضخمين. قام بجهد عمل هذه الترجمة الأستاذ توفيق الأسدي. قرأت الرواية بشغف ورحت أخط بالقلم الرصاص تحت السطور التي تتحدث عن مناقب اليهود في الإمبراطورية النمساوية, مسرح أحداث الرواية, وحين أحصيتها وجدتها أزيد من خمسين موضعاً خلال الصفحات الألف والمائتين التي تؤلف سيرة الجندي الطيب شفيك في الحرب العالمية الأولى .
كان التشيكي ياروسلاف هاشيك في الرابعة والثلاثين من عمره حين بدأ كتابة هذه الرواية صيف عام1921. وقد طالت الرواية فأصبحت في أربعة كتب دون أن يجد ناشراً يتحمس لها. ونتيجة لذلك اضطر إلى نشر الكتاب الأول على نفقته الخاصة وقام بتوزيعه بنفسه. ولكن بعد أن نجح الكتاب الأول وجد ناشراً مستعداً لنشر الكتب الأخرى. رغم أن الرواية لاقت نجاحاً شعبياً منذ البداية إلا أنها لم تلفت نظر النقاد. وفي الثالث من كانون الثاني عام 1923 مات ياروسلاف هاشيك بعد مرض شديد, ولم يحضر جنازته سوى ابنه ريتشارد وكان في الحادية عشرة من عمره وقليل من الأصدقاء . واليوم تُعتبر رواية الجندي الطيب شفيك واحدة من أشهر ما نُشر بعد الحرب العالمية الأولى ومن أكثر الكُتب شيوعاً بين القراء في العالم .
حسبتُ أول الأمر أن ياروسلاف هاشيك قد تجنى على اليهود في الرواية, ولكن بعد التدقيق وجدت أنه وصفهم كما هم في الواقع. حيث يحار المرء في الأسباب التي حدت بأهل أوروبا كي يعاملوا اليهود هذه المعاملة المزرية طوال تاريخ وجودهم بين الشعوب الأوروبية, وخاصة الفترة الزمنية الأخيرة التي تمتد لأكثر من أربعمائة عام. وحتى قبل أن يكتب وليم شكسبير مسرحيته الشهيرة تاجر البندقية عام 1597 ويفضح فيها أخلاق اليهود من خلال شخصية المرابي اليهودي شايلوك. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن, ماذا فعل اليهود حتى جروا عليهم كره أهل أوروبا؟ ومن المسؤول عن تشردهم في كل أرض؟ و بأي أسلحة دافع اليهود عن مصيرهم حتى يسخر التاريخ منهم هذه السخرية المريرة؟
بدأ انتشار اليهود في جميع أنحاء العالم قبل عدة قرون من سقوط القدس في يد الرومان, فقد سافروا إلى الخارج عن طريق صور وصيدا و منافذ بحرية وبرية أخرى, وانتشروا في كل بقعة في منطقة البحر المتوسط, من أثينا والإسكندرية وقرطاجة إلى روما ومرسيليا حتى الشواطئ الإسبانية البعيدة. سارت هذه الهجرة الواسعة في اتجاهين, إحداهما عبر الدانوب والراين متجهة إلى بولندا والتشيك وروسيا, والثانية نحو الأندلس التي كانت خاضعة لحكم المسلمين عام 711 ميلادية.
وقد اتجه اليهود في أوروبا الوسطى إلى الأعمال التجارية والمصرفية, واستوعبوا في الأندلس علوم العرب الرياضية والطبية والفلسفية. وطوروا ثقافتهم الخاصة في مدارس المدن الأندلسية العظيمة. لقد لعب اليهود في القرنين الثاني والثالث عشر دوراً هاماً في نقل منجزات الحضارات الشرقية إلى أوروبا الغربية. في قرطبة قام موسى القرطبي 1135 – 1204 أعظم طبيب في عصره بكتابة تعليقاته على التوراة بعنوان إرشاد الحائر. وفي برشلونة أعلن حسداي بن شبروت آراءه الدينية التي هزت الديانة اليهودية بأسرها.
ازدهر اليهود في الأندلس وجمعوا ثروة ضخمة, إلى أن قام فرديناند بإخراج العرب منها نهائياً. وهنا فقد اليهود الحرية التي تمتعوا بها وعاشوا في ظلها تحت حكم حضارة المسلمين المتساهل المتسامح. وزحف ديوان محاكم التفتيش عليهم, وخيرهم بين التعميد ومزاولة الشعائر المسيحية, وبين النفي وتجميد أموالهم.
لقد قبلت الأكثرية الساحقة من اليهود الخيار الأكثر صعوبة, وبحثت عن مكان تلجأ إليه. وركب بعضهم السفن وحاولوا دخول جنوا وموانئ إيطالية أخرى ولكن لم يُسمح لهم بالدخول. وأبحروا إلى أن وصلوا الساحل الأفريقي حيث قُتِلَ الكثير منهم لاستخراج المجوهرات من بطونهم التي ساد الاعتقاد بأنهم بلعوها قبل خروجهم من إسبانيا. واستُقبل القليل منهم في البندقية, وموّل آخرون رحلة كريستوفر كولومبوس (1451 - 1506) ميلادية على أمل أن يجد لهم وطناً جديداً, وليته فعل. ركب عدد كبير منهم السفن وأبحروا شمال المحيط الأطلسي, ليجدوا أخيراً بعض الترحيب في هولندا. ومن بين الذين نزلوا في هولندا نزلت أسرة برتغالية تدعى اسبينوزا.
ازدهرت هولندا باليسر والرخاء, وأنشأ اليهود أول كنيس لهم في أمستردام في عام 1598 من ميلاد المسيح. وبنو كنيساً آخر بعد خمس وسبعين سنة, ساعدهم على بنائه جيرانهم المسيحيون. وشعر اليهود بالأمان, ولكن في منتصف القرن السابع عشر تعكر صفو الحوادث واحتدم الجدل داخل الكنيس اليهودي عندما كتب أوريال كوستا الذي شعر بتأثير الشك الذي ولده عصر النهضة كغيره من اليهود, كتاباً صغيراً هاجم فيه الاعتقاد بالآخرة هجوماً عنيفاً. لم تكن الناحية السلبية في هذا الكتاب مناقضة للمبدأ اليهودي القديم. ولكن الكنيس أرغمه على التراجع عن أقواله لئلا يثير سخط البلد الذي رحب بهم وأكرمهم. ومعنى التراجع عن أقواله أن يستلقي الكاتب المتكبر على الأرض, مقابل عتبة الكنيس ليمشي جماعة المصلين فوق جسمه لإذلاله. ولكن الكاتب ذهب إلى بيته وكتب احتجاجاً شديد اللهجة استنكر فيه مضطهديه ثم أطلق الرصاص على نفسه.
لقد حدث هذا في عام 1640 ميلادية عندما كان باروخ اسبينوزا أعظم يهودي في الأزمنة الحديثة, وأعظم الفلاسفة في العصر الحديث طفلاً في الثامنة من عمره حيث كان التلميذ المحبوب المفضل في الكنيس.
يعيش هؤلاء اليهود في رواية الجندي الطيب شفيك مثل البشر العاديين, يأكلون ويشربون, يتزوجون وينجبون, يبيعون ويشترون, يَغلبون ويُغلبون, يجدفون ويستغفرون يموتون ويدفنون, يفرحون ويحزنون, يمارسون حياتهم اليومية كما يفعل كل البشر في دنياهم. هم من نفس الطين الذي جبل منه البشر. إلا أنهم غير كل البشر. هم من ملّة أخرى, صنعوا من الصور القديمة فتنة أو محنة, كانوا يجرون في الدنيا لعل الدرب يأخذهم إلى درب النجاة. النجاة من ماذا؟ هم لا يعرفون, لم يسألوا عما وراء مصيرهم.
ونحن العرب لا نستطيع إنكار نسب القرابة الذي يجمعنا مع أهل اليهودية-وقد أكد علم الأنساب الجيني هذه القرابة بما لا يدع مجالاً للشك- فهم أبناء عمومتنا في المحصلة حسب ما جاء في التوراة والقرآن. يكتب فريدريك انجلس إلى كارل ماركس في رسالة مؤرخة يوم 26 أيار 1853مايلي: إن سلسلة النسب الواردة في سفر التكوين تعود بأصلها لأسلوب العيش العائلي القديم, ومن هنا ينجم أن اليهود أنفسهم هم كذلك قبيلة صغيرة مثل القبائل الأخرى. ومن الواضح لي الآن تماماً أن الكتاب اليهودي المسمى بالكتاب المقدس لا يعدو أن يكون تسجيلاً للتقاليد الدينية والقبلية العربية القديمة التي تغيرت بفضل انفصال اليهود باكراً عن جيرانهم الذين يمتون إليهم بصلة القربى.
[SIZE=6]إلا أن المؤرخ والفيلسوف المجري "آرثر كوستلر" يؤكد في كتابه "إمبراطورية الخزر وتراثها, القبيلة الثالثة عشرة" المنشور عام 1976بعد الاستعانة بعلوم الأنثروبولوجيا , والاجتماع, والوراثة, والإحصاء أن الغالبية العظمى من يهود أوروبا الشرقية والغربية لا يمتون بصلة من قريب أو بعيد إلى اليهود المنحدرين من نسل إبراهيم. فهم في الأصل من قبائل الخزر الوثنية التي سكنت جبال القوقاز. ثم اعتنق إمبراطور الخزر الديانة اليهودية, لأنه أ راد أن ينتمي وشعبه إلى ديانة سماوية كمنافستيه, الدولة المسيحية البيزنطية, والدولة الإسلامية في بغداد. وكان في إمبراطوريته الكثير من اليهود الذين جاؤوا لاجئين إليها, فارين من الظلم الذي ألحق بهم في الدولة البيزنطية. هؤلاء هم الذين نشروا الديانة اليهودية في إمبراطورية الخزر التي دامت أربعة قرون عزيزة الجانب, مسيطرة على من حولها من الشعوب, مانعة الفتح الإسلامي من التغلغل في تلك الأصقاع. ثم انهارت على يد المغول وفر أبناؤها بهجرات جماعية إلى بولندا وروسيا, ومن ثم توزعوا في أنحاء أوروبا.
واليهود في الرواية هم أحفاد هؤلاء الذين تشردوا من آسيا الوسطى. أما الجد المشترك الأكبر إبراهيم الذي هاجر من أور في جنوب العراق إلى بلاد الشام فله من الأولاد: إسماعيل البكر من زوجته هاجر, ثم ولدت زوجته الأولى سارة بعد عقم طويل ولداً سمته اسحق, فكان إسماعيل جد العرب واسحق جد اليهود. تزوج اسحق بابنة عم له اسمها رفقة فولدت له توأم سمت الأول عيسو, والثاني يعقوب. وكان عيسو قد خرج أولاً فهو البكر وكانت العادة أن تدهن القابلة يد الطفل الأول بصبغة القرمز ليًعرف أنه البكر. وأحب اسحق ابنه عيسو لأنه كان شجاعاً صياداً, وأحبت الأم يعقوب أكثر. وذات يوم شاء اسحق أن يمنح بركته لابنه عيسو, أي أن يجعله ولي عهده فقال له: اذهب واصطد لي صيداً واطبخه وتعال إلي لأمنحك بركتي. وكان اسحق قد كفْ بصره وأصبح ضريراً. وتسمع الزوجة رفقة قول زوجها فتسرع إلى ابنها يعقوب وتقول له: اذهب حالاً وأتني بجديين. ففعل يعقوب ما أمرته به أمه, فطبخت الجديين ثم ألبست ابنها يعقوب ثياب أخيه عيسو وقالت له: قل لأبيك إنك عيسو وقد جئته بالصيد ليمنحك بركته . فقال يعقوب لأمه : ولكن أبي سيعرفني لأن أخي أشعر الجسد وأنا أملس . فجاءته أمه بجلد ماعز طرحته على جسمه. وتنطلي هذه الحيلة على اسحق الضرير فمنح بركته لابنه يعقوب. وكان عيسو قد تزوج بامرأة كنعانية فأولاده ليسوا يهوداً بينما تزوج يعقوب بيهودية من أقربائه, وبذلك انحصر الإرث بنسل يعقوب الذي كان قد هاجر مع أولاده إلى مصر بدعوة من ابنه يوسف الذي كان قد أصبح عزيز مصر . وكان إله اليهود "يهوه" قد سمى يعقوب قبل أن يهاجر إلى مصر باسم إسرائيل.
وإسرائيل كلمة عبرية قديمة غامضة المعنى، يمكن تقسيمها إلى إسرا، أي الذي يحارب أو يصارع، و إيل وهو الأصل السامي لكلمة إلـه والكلمة تعني حرفياً الذي يصارع الإلـه أو جندي الإلـه إيل، و كل الاشتقاقات اللغوية للكلمة تحيل إلى معنى الصراع والحرب ومعنى القداسة. ومما يجدر ذكره أن كلمة إسرائيل وردت في الكتابات المصرية في عهد مرنبتاح في عام 1230 ق.م بوصفها اسماً لإحدى المدن، أو ربما لبطن من بطون القبائل في جنوبي كنعان. ولعل هذا يدل على أن الكلمة كنعانية الأصل، وأنها كانت ذات ارتباطات مقدَّسة بين سكان المنطقة. وهناك نظرية تذهب إلى أنها كانت اسم بطن من بطون القبائل العبرانية. وقد اكتسب يعقوب هذا الاسم بعد أن صارع الإله في حادثة غامضة لا يُفهَم مكنونها أو دلالتها والقصة كما وردت في سفر التكوين هي: بقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني. فقال ما اسمك، فقال يعقوب. فقال لا يُدعَى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الإله والناس وقدرت. وسمى نسله ببني إسرائيل. فأقاموا في مصر أربعمائة سنة ولما خرجوا منها إلى التيه كان عددهم ستمائة ألف نسمة كما ورد في التوراة.
في علم التاريخ هذه حكايات أو أساطير فيها صدى لأحداث قد تكون جرت في الماضي البعيد, ثم لُفقت –خيطت مع بعضها-وآلت إلى ما هي عليه في تراث اليهود المكتوب. صنعوا خرافتهم كما شاءوا, وشادوا من عذابات الشعوب مصيرهم, توزعوا في الأرض وتعودوا السفر في عربات الآخرين . من كل شعب ألفوا أسطورة كي يشبهوا أبطالها, عما كانوا يبحثون؟ عن هامة تحوم في الفضاء تطالب بالثأر من ذلك البابلي نبوخذ نصر الثاني الذي دمّر المملكة اليهودية وهيكلها و هزم آخر ملوكهم صدقيا بن يوشيا عام 586 قبل الميلاد وساقهم أسرى إلى بابل مع ملكهم وميزهم عن شعبه. أم عن أنبياء ضيعوهم في هواجسهم, أم عن حائط يفرغون بكاءهم على حجارته, أم عن توراة كنعان الدفينة تحت أنقاض الهياكل, أم عن بقرة جادلوا ربهم و نبيهم في تفاصيل موتها. وها نحن نصادف الأحفاد في هذه الرواية وسط أوروبا بداية القرن العشرين, في شخصية يهودي نموذجي:
فحين انقطعت السبل بكتيبة الجندي الطيب شفيك في خطوط الجبهة الأمامية, وراح يبحث مع رقيب أول الإمدادات في أرجاء إحدى القرى عن أي حيوان يؤكل, لم يجدا غير الماء يغلي في القدور, فأيقظا يهوديا ًفي حانة, فراح يشد خصلات شعره الطويلة المجعدة، ويعبر عن أسفه العميق بأنه لا يستطيع مساعدة السادة الجنود. وفي النهاية جعلهما يشتريان منه بقرة عجوزا ًمئوية كانت عبارة عن هيكل عظمي حي هزيل, مجرد جلد وعظم. وقد طلب سعرا ًمخيفا ً كثمن لها. ونتف لحيته وأقسم أنهما لن يستطيعا أن يجدا بقرة مثلها في كل النمسا وألمانيا وأوروبا والعالم قاطبة. وطوال الوقت كان ينتحب ويبكي ويقسم بأغلظ الأيمان أنها أسمن بقرة جاءت إلى العالم بأمر من الإله "يهوه". كما أقسم بكل أجداده أن الناس تأتي راكبة لتتفرج على بقرته, أنهم يتحدثون عنها في كل أنحاء المنطقة على أنها أعجوبة, كما أنها لم تكن بقرة بل جاموسة ذات لحم ريان ليس له مثيل. ثم ركع أمامهم على الأرض وهو يحتضن ركبهما الواحد بعد الآخر ويبكي قائلاً: اقتلوا اليهودي العجوز المسكين إذا أحببتم ولكن لا تذهبوا دون بقرته.
لقد أربكهم جميعا إلى حد كبير بصراخه بحيث سحبوا البقرة البائسة في النهاية إلى المطبخ الميداني، رغم أن أي تاجر حيوانات ما كان ليشتري مثل تلك البقرة. و لكنه بعد ذلك، و حين وضع المال في جيبه، ذهب يبكي أمامهم و يشكو من أنهم قد خربوا له بيته و قطعوا رزقه و أنه قد أصبح شحاذا تماما ببيعه تلك البقرة بثمن بخس. و قد رجاهم أن يشنقوه لارتكابه في شيخوخته مثل تلك الحماقة التي جعلت أجداده يتقلبون في قبورهم. و بعد أن تمرغ على التراب أمامهم نفض عنه كل رثاثة نفسه و ذهب إلى البيت. قال لزوجته : هؤلاء الجنود حمقى. أما زوجك، فهو ذكي جدا.
هذا و قد عانى الطباخون كثيرا مع تلك البقرة. فقد بدا أنه ليس ممكنا سلخها. و خلال سلخهم لها تمزق جلدها في عدة مواضع و بدت عضلاتها تحته ملتوية كالحبل الجاف الثخين الذي تشد به السفينة إلى البر. في هذه الأثناء جروا كيساً من البطاطا من مكان ما وبدؤوا يطبخون تلك الأعصاب والعظام التي لا أمل يرتجى منها, بينما كان الطباخ في مطبخ ميداني صغير مجاور يحاول يائسا ًأن يصنع طعاما ً للضباط من هيكل عظمي. تركت هذه البقرة البائسة, انطباعاً بعدم القابلية للأكل على ذاكرة كل من كان هناك, ومن المؤكد أنه لو حدث قبل المعركة أن ذكر الضباط الجنود ببقرة اليهودي, لكان الجنود رموا بأنفسهم بحراب مشرعة على العدو وهم يصرخون صرخات الغضب المخيفة. كانت بقرة اليهودي عاراً رهيباً إلى حد أنه لم يكن ممكناً حتى صنع حساء لحم البقر منها, إذ كانوا كلما طبخوه يزداد التصاقاً بالعظام. وقد أصبح شديد التحجر كبيروقراطي أنفق نصف قرن وهو يرعى كلأ الروتين الحكومي ولا يلتهم سوى الوثائق الرسمية. وأخيراً أعلن شفيك الذي كان يعمل كساعي بريد ويحافظ على الاتصال الدائم بين القيادة والمطبخ ,أعلن للملازم الأول: يا سيدي, إن بقرة اليهودي كالبورسلان, قاسية اللحم إلى حد أنك تستطيع أن تقطع به الزجاج.
قصة اليهود مع البقر قصة طريفة, فحين ترك موسى بني إسرائيل وصعد طور سيناء يناجي ربه ويستلم تعاليم الشريعة, عمد هارون السامري فأخذ ما كان استعاره بني إسرائيل من أهل مصر من الحلي فصاغ منه عجلاً يخور كما تخور البقر فعبدوا العجل بدل رب موسى . تذكرنا بقرة اليهودي, والتي عانى منها الجندي الطيب شفيك ما عانى, بحكاية بقرة بني إسرائيل الواردة ذكرها في سورة البقرة من القرآن:
رجل في بني إسرائيل كثير المال وكان شيخاًً كبيراً, وله بنو أخ, وكانوا يتمنون موته ليرثوه , فعمد أحدهم فقتله في الليل وطرحه على باب رجل منهم. فلما أصبح الناس اختصموا فيه, وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم, فقالوا: ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله؟ فجاء ابن أخيه فشكا أمر عمه إلى رسول الله موسى, فقال موسى: أنشد الله رجلاً عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به. فلم يكن عند أحد منهم علم منه, وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه. فسأل ربه في ذلك, فأمر الله بذبح بقرة صفراء فاقع لونها, أي مشوب بحمرة تسر الناظرين, وهذا اللون عزيز. فقالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا, فقال موسى: إن الله يأمركم بذبح بقرة سليمة صحيحة لا عيب فيها. ويقال إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم, فطلبوها منه فأبى عليهم, فأغوه في ثمنها حتى أعطوه بوزنها ذهباً, فباعها لهم. فأمر موسى بذبحها, وهم يترددون في أمرها, ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعض لحمها, فلما ضربوه أحياه الله فقام و أوداجه تشخب بالدماء , فسأله موسى: من قتلك؟ قال: قتلني ابن أخي. ثم عاد ميتاً كما كان.
يتشابه اليهود في القصتين وحتى بقرهم يشبه بعضه بعضاً, فهم قد قسموا البشر إلى يهود وأغيار, خرج اليهود من الأسطورة الكبرى إلى شتات منفاهم وكانوا يرحلون كي يعثروا على ما تبقى من صدى حكاياتهم الدفينة في العهود القديمة, فما وجدوا إلا التشرد في بلاد الآخرين, وهذا التيه رافقهم في حلهم وارتحالهم وأضناهم, ولم يصلوا إلى منازلهم في أسطورة التكوين, فضاعوا ولم يجدوا طرقاً تقودهم إلى منحدرات رعاتهم. وهاهم يمثلون على مسرح التاريخ دور الضحية ولم يدركوا يوماً ما صنع الماضي بحاضرهم. وهل كانوا يعرفون مصيرهم حتى نهايته؟ أم أنهم اختفوا خلف الوصايا العشر, لا تقتل, لا تزن, لا تسرق. وكلما قالوا وصلنا إلى نهاية المأساة وجدوا البلاد تحت أقدامهم شوكاً يابساً وأرضاً يباباً, فقد كسروا خرافتهم بأيديهم ومزقوا ما تبقى من العهد القديم ورموه حول خيامهم و تشردوا في مسرح الدنيا كي يلعبوا دور البطولة المعذبة وتساءلوا هل نحن شعب أم قرابين جديدة؟
وها هو ضابط الجندي الطيب شفيك يذهب إلى المسرح الهنغاري حيث كانت تعرض أوبريت, تؤدي الأدوار الرئيسية فيها ممثلات يهوديات عامرات الصدور بدينات الأجسام يتميزن بمزية خرافية تتجلى في أنهن حين يرقصن يقذفن بسيقانهم في الهواء وهن لا يرتدين أية سراويل أو أثواب ضيقة تحتانية من تلك التي ترتديها الراقصات, فتظهر النساء اليهوديات عاريات, وهاهم ضباط المدفعية الجالسين على المقاعد الأمامية من المسرح وقد جلبوا معهم إلى المسرح مناظير الميدان ليتفرجوا على ذلك المشهد الجميل.
أما خارج المسرح فقد كان الفرسان الهنغاريون يذيقون يهوديين بولنديين الجحيم بعد أن سرقوا لهما سلّة المشروبات الروحية المعدة للبيع. كان هؤلاء الفرسان في حالة من النشوة. وبدلاً عن أن يدفعوا ثمن ما شربوه كانوا يضربون اليهوديين. ويبدو أن هذا كان مسموحاً به لأن نقيبهم كان يشاهد ما يفعلون بينما كان بعض الفرسان الهنغاريين الآخرين يدسّون أيديهم, خلف المستودع, تحت تنانير بنات سوداوات العيون هن بنات هذين اليهوديين.
أما جنرال المحاكم العسكرية فقد كان مولعاً بالشنق وخاصة شنق اليهود. فقد اعتاد هذا الجنرال أن يقول إنه لم يكن في حاجة إلى ممثل النيابة العسكرية وأنه سيعقد المحكمة, وخلال ثلاث ساعات يكون المحكوم متأرجحاً. وقد كتب الجنرال إلى زوجته: لقد شنقنا مؤخراً يهودياً بتهمة التجسّس . وقد حدث أن مرّ ذلك الوغد في طريقنا خلال رحلتنا , ورغم أنه لم يكن له من عمل هناك إلا أنه ادعى بيع لفافات التبغ . وهكذا شنقناه, ولكن لثوان قليلة فقط إذ انقطع الحبل وسقط على الأرض. ولكن سرعان ما استعاد وعيه وصاح: يا صاحب السعادة سأذهب إلى البيت. فقد شنقتني, ووفقاً للقوانين لا يمكنك شنقي مرتين بسبب جريمة واحدة. وقد انفجرت ضاحكاً وتركته يذهب في حال سبيله. نحن نستمتع بوقتنا هنا إلى حد كبير يا حبيبتي.
وقد اتُهِمَ الجندي الطيب شفيك بأنه يهودي قذر, وحكاية اتهامه طريفة فقد وصل إلى بحيرة صغيرة حين تاه عن مكان فوجه, حيث صادف أسيراً روسياً هارباً كان يستحم في تلك البحيرة. وحين لمح هذا الأسير شفيك هرب على الفور عارياً كما ولدته أمه. كانت البزة الروسية تحت شجرة الصفصاف وقد انتاب شفيك الفضول لمعرفة كيف ستبدو عليه البزة, لذا خلع ملابسه وارتدى البزة التي كانت للأسير الروسي. ولقد أراد شفيك أن يرى انعكاس صورته في الماء ولذا سار مسافة طويلة على طول امتداد سد البحيرة بحيث ألقت عليه القبض دورية من الدرك الميداني كانت تبحث عن الأسير الروسي الهارب. ورغم احتجاجه إلا أنهم جرّوه نحو مقر القيادة, حيث وضع ضمن قافلة الأسرى الروس الذين كانوا سيرسلون للعمل في إعادة بناء خط السكة الحديدية المدمر. وحين تجمع الأسرى في الساحة صاح الرقيب الأول: من يعرف منكم الألمانية؟ تقدم الجندي الطيب شفيك خارج المجموعة واندفع بوجه بشوش نحو الرقيب الأول الذي أمره بأن يتبعه إلى المكتب فوراً. قال لشفيك: أنت يهودي, أليس كذلك؟ هز شفيك رأسه. رد الرقيب الأول: لا حاجة إلى إنكار ذلك, كل واحد منكم أيها الأسرى يعرف الألمانية يهودي, وهذا أمر لا مجال للشك فيه. اسمع أيها الأسير في النمسا لا توجد مذابح جماعية. أنا زعيم كبير هنا أيها اليهودي, فإني أعيّنك مشرفاً على قافلة الأسرى, كما ستقوم باستلام تعيينات الطعام لهم. وإذا ما هرب أي واحد منهم أيها الولد اليهودي فسأطلق النار عليك.
وطبعاً لم يكن الجندي الطيب شفيك يهودياً, أو قد يكون, فهو لا فرق عنده أكان يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً أو حتى كونفوشيوسياً. فقد قدمه ياروسلاف هاشيك في بداية روايته قائلاً: تتطلب الأوقات العظيمة رجالاً عظماء. هناك أبطال غير معروفين, متواضعون, ولا يتمتعون بأي فتنة تاريخية كلتي كانت لنابليون. وإذا ما حللت شخصيتهم ستجد أنها ستكسف حتى مجد اسكندر المقدوني. واليوم يمكنك أن تقابل في شوارع براغ رجلاً يرتدي ملابس رثه, لا يدرك هو نفسه أهميته في التاريخ, إنه يسير بتواضع في طريقه دون إن يزعج أحداً. ولا يزعجه الصحفيون طالبين منه المقابلات. ولو سألته عن اسمه سيجيبك ببساطة ودون ادعاء أنا شفيك.
تحفل الرواية داخل نسيجها الفني بالعديد من الشخصيات اليهودية المسحوقة المزرية, فقد كان كافياً كي تشتم أن تقول للشخص أنت يهودي, فاليهودية شتيمة بحد ذاتها. هذا ما كان عليه الوضع وسط أوروبا بداية القرن العشرين حين كتب ياروسلاف هاشيك روايته. ولكن ما السبب؟ تميل بعض الأفكار التي وجدتها عند بعض الباحثين إلى أن اليهود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت جماعة وظيفية فقدت وظيفتها وأساس بقائها. ومن ثم، كان أعضاؤها في حالة تَراجُع أخلاقي وانحطاط حضاري هائل. خاصة الفقراء منهم, حيث تركَّزوا في مهن وحرف هامشية ومشينة, تجنب العمل فيها مسيحيو أوروبا, مثل تقطير الخمور وإدارة الحانات وبيع ورهن الحاجات المنزلية و الملابس القديمة، كما أنهم مارسوا مهنتهم القديمة الربا, كما كان عدد البغايا اليهوديات مرتفعاً إلى درجة كبيرة، ونحن نجد أن صورة اليهودي كجاسوس صورة متواترة في الأدب العام لأوروبا, وقد ظهر كل هذا جليّاً في رواية الجندي الطيب شفيك. وقد تغير وضع اليهود في العالم أثر إعلان قيام دولة إسرائيل في مدينة تل أبيب وذلك يوم الجمعة الرابع عشر من أيار عام 1948.
[/SIZE]
-كتب الشاعر الفلسطيني ابن غزة هاشم معين بسيسو في "دفاتر فلسطينية" وكان في العراق يومها عام 1953. يقول:
حادثة لن أنساها في حياتي حين جاء أمر طرد اليهود من العراق, كان من بين اليهود المطرودين شيوعية يهودية عراقية رفضت ركوب الطائرة فضربها عسكر نوري السعيد حتى سقطت فوق سلم الطائرة فجروها جراً إلى داخل الطائرة وهي تصرخ: هذا وطني.
-أنا كمسلم لا أكره اليهود ولا أُحرِّض على كرههم ولا أسعى إلى ذلك و لا أضع عيباً في ديانتهم , وقد أكد علم الأنساب الجيني هذه القرابة بما لا يدع مجالاً للشك, فهم أبناء عمومتنا في المحصلة النهاية لأننا نشترك في أرومة واحدة . أحترم ديانات البشر جميعاً, ولكنني أقرأ مناقب اليهود كما وردتْ في هذه الرواية.
من سنوات خلت, أصدرت وزارة الثقافة السورية هذه الرواية الفخمة مترجمة عن النص الإنكليزي في مجلدين ضخمين. قام بجهد عمل هذه الترجمة الأستاذ توفيق الأسدي. قرأت الرواية بشغف ورحت أخط بالقلم الرصاص تحت السطور التي تتحدث عن مناقب اليهود في الإمبراطورية النمساوية, مسرح أحداث الرواية, وحين أحصيتها وجدتها أزيد من خمسين موضعاً خلال الصفحات الألف والمائتين التي تؤلف سيرة الجندي الطيب شفيك في الحرب العالمية الأولى .
كان التشيكي ياروسلاف هاشيك في الرابعة والثلاثين من عمره حين بدأ كتابة هذه الرواية صيف عام1921. وقد طالت الرواية فأصبحت في أربعة كتب دون أن يجد ناشراً يتحمس لها. ونتيجة لذلك اضطر إلى نشر الكتاب الأول على نفقته الخاصة وقام بتوزيعه بنفسه. ولكن بعد أن نجح الكتاب الأول وجد ناشراً مستعداً لنشر الكتب الأخرى. رغم أن الرواية لاقت نجاحاً شعبياً منذ البداية إلا أنها لم تلفت نظر النقاد. وفي الثالث من كانون الثاني عام 1923 مات ياروسلاف هاشيك بعد مرض شديد, ولم يحضر جنازته سوى ابنه ريتشارد وكان في الحادية عشرة من عمره وقليل من الأصدقاء . واليوم تُعتبر رواية الجندي الطيب شفيك واحدة من أشهر ما نُشر بعد الحرب العالمية الأولى ومن أكثر الكُتب شيوعاً بين القراء في العالم .
حسبتُ أول الأمر أن ياروسلاف هاشيك قد تجنى على اليهود في الرواية, ولكن بعد التدقيق وجدت أنه وصفهم كما هم في الواقع. حيث يحار المرء في الأسباب التي حدت بأهل أوروبا كي يعاملوا اليهود هذه المعاملة المزرية طوال تاريخ وجودهم بين الشعوب الأوروبية, وخاصة الفترة الزمنية الأخيرة التي تمتد لأكثر من أربعمائة عام. وحتى قبل أن يكتب وليم شكسبير مسرحيته الشهيرة تاجر البندقية عام 1597 ويفضح فيها أخلاق اليهود من خلال شخصية المرابي اليهودي شايلوك. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن, ماذا فعل اليهود حتى جروا عليهم كره أهل أوروبا؟ ومن المسؤول عن تشردهم في كل أرض؟ و بأي أسلحة دافع اليهود عن مصيرهم حتى يسخر التاريخ منهم هذه السخرية المريرة؟
بدأ انتشار اليهود في جميع أنحاء العالم قبل عدة قرون من سقوط القدس في يد الرومان, فقد سافروا إلى الخارج عن طريق صور وصيدا و منافذ بحرية وبرية أخرى, وانتشروا في كل بقعة في منطقة البحر المتوسط, من أثينا والإسكندرية وقرطاجة إلى روما ومرسيليا حتى الشواطئ الإسبانية البعيدة. سارت هذه الهجرة الواسعة في اتجاهين, إحداهما عبر الدانوب والراين متجهة إلى بولندا والتشيك وروسيا, والثانية نحو الأندلس التي كانت خاضعة لحكم المسلمين عام 711 ميلادية.
وقد اتجه اليهود في أوروبا الوسطى إلى الأعمال التجارية والمصرفية, واستوعبوا في الأندلس علوم العرب الرياضية والطبية والفلسفية. وطوروا ثقافتهم الخاصة في مدارس المدن الأندلسية العظيمة. لقد لعب اليهود في القرنين الثاني والثالث عشر دوراً هاماً في نقل منجزات الحضارات الشرقية إلى أوروبا الغربية. في قرطبة قام موسى القرطبي 1135 – 1204 أعظم طبيب في عصره بكتابة تعليقاته على التوراة بعنوان إرشاد الحائر. وفي برشلونة أعلن حسداي بن شبروت آراءه الدينية التي هزت الديانة اليهودية بأسرها.
ازدهر اليهود في الأندلس وجمعوا ثروة ضخمة, إلى أن قام فرديناند بإخراج العرب منها نهائياً. وهنا فقد اليهود الحرية التي تمتعوا بها وعاشوا في ظلها تحت حكم حضارة المسلمين المتساهل المتسامح. وزحف ديوان محاكم التفتيش عليهم, وخيرهم بين التعميد ومزاولة الشعائر المسيحية, وبين النفي وتجميد أموالهم.
لقد قبلت الأكثرية الساحقة من اليهود الخيار الأكثر صعوبة, وبحثت عن مكان تلجأ إليه. وركب بعضهم السفن وحاولوا دخول جنوا وموانئ إيطالية أخرى ولكن لم يُسمح لهم بالدخول. وأبحروا إلى أن وصلوا الساحل الأفريقي حيث قُتِلَ الكثير منهم لاستخراج المجوهرات من بطونهم التي ساد الاعتقاد بأنهم بلعوها قبل خروجهم من إسبانيا. واستُقبل القليل منهم في البندقية, وموّل آخرون رحلة كريستوفر كولومبوس (1451 - 1506) ميلادية على أمل أن يجد لهم وطناً جديداً, وليته فعل. ركب عدد كبير منهم السفن وأبحروا شمال المحيط الأطلسي, ليجدوا أخيراً بعض الترحيب في هولندا. ومن بين الذين نزلوا في هولندا نزلت أسرة برتغالية تدعى اسبينوزا.
ازدهرت هولندا باليسر والرخاء, وأنشأ اليهود أول كنيس لهم في أمستردام في عام 1598 من ميلاد المسيح. وبنو كنيساً آخر بعد خمس وسبعين سنة, ساعدهم على بنائه جيرانهم المسيحيون. وشعر اليهود بالأمان, ولكن في منتصف القرن السابع عشر تعكر صفو الحوادث واحتدم الجدل داخل الكنيس اليهودي عندما كتب أوريال كوستا الذي شعر بتأثير الشك الذي ولده عصر النهضة كغيره من اليهود, كتاباً صغيراً هاجم فيه الاعتقاد بالآخرة هجوماً عنيفاً. لم تكن الناحية السلبية في هذا الكتاب مناقضة للمبدأ اليهودي القديم. ولكن الكنيس أرغمه على التراجع عن أقواله لئلا يثير سخط البلد الذي رحب بهم وأكرمهم. ومعنى التراجع عن أقواله أن يستلقي الكاتب المتكبر على الأرض, مقابل عتبة الكنيس ليمشي جماعة المصلين فوق جسمه لإذلاله. ولكن الكاتب ذهب إلى بيته وكتب احتجاجاً شديد اللهجة استنكر فيه مضطهديه ثم أطلق الرصاص على نفسه.
لقد حدث هذا في عام 1640 ميلادية عندما كان باروخ اسبينوزا أعظم يهودي في الأزمنة الحديثة, وأعظم الفلاسفة في العصر الحديث طفلاً في الثامنة من عمره حيث كان التلميذ المحبوب المفضل في الكنيس.
يعيش هؤلاء اليهود في رواية الجندي الطيب شفيك مثل البشر العاديين, يأكلون ويشربون, يتزوجون وينجبون, يبيعون ويشترون, يَغلبون ويُغلبون, يجدفون ويستغفرون يموتون ويدفنون, يفرحون ويحزنون, يمارسون حياتهم اليومية كما يفعل كل البشر في دنياهم. هم من نفس الطين الذي جبل منه البشر. إلا أنهم غير كل البشر. هم من ملّة أخرى, صنعوا من الصور القديمة فتنة أو محنة, كانوا يجرون في الدنيا لعل الدرب يأخذهم إلى درب النجاة. النجاة من ماذا؟ هم لا يعرفون, لم يسألوا عما وراء مصيرهم.
ونحن العرب لا نستطيع إنكار نسب القرابة الذي يجمعنا مع أهل اليهودية-وقد أكد علم الأنساب الجيني هذه القرابة بما لا يدع مجالاً للشك- فهم أبناء عمومتنا في المحصلة حسب ما جاء في التوراة والقرآن. يكتب فريدريك انجلس إلى كارل ماركس في رسالة مؤرخة يوم 26 أيار 1853مايلي: إن سلسلة النسب الواردة في سفر التكوين تعود بأصلها لأسلوب العيش العائلي القديم, ومن هنا ينجم أن اليهود أنفسهم هم كذلك قبيلة صغيرة مثل القبائل الأخرى. ومن الواضح لي الآن تماماً أن الكتاب اليهودي المسمى بالكتاب المقدس لا يعدو أن يكون تسجيلاً للتقاليد الدينية والقبلية العربية القديمة التي تغيرت بفضل انفصال اليهود باكراً عن جيرانهم الذين يمتون إليهم بصلة القربى.
[SIZE=6]إلا أن المؤرخ والفيلسوف المجري "آرثر كوستلر" يؤكد في كتابه "إمبراطورية الخزر وتراثها, القبيلة الثالثة عشرة" المنشور عام 1976بعد الاستعانة بعلوم الأنثروبولوجيا , والاجتماع, والوراثة, والإحصاء أن الغالبية العظمى من يهود أوروبا الشرقية والغربية لا يمتون بصلة من قريب أو بعيد إلى اليهود المنحدرين من نسل إبراهيم. فهم في الأصل من قبائل الخزر الوثنية التي سكنت جبال القوقاز. ثم اعتنق إمبراطور الخزر الديانة اليهودية, لأنه أ راد أن ينتمي وشعبه إلى ديانة سماوية كمنافستيه, الدولة المسيحية البيزنطية, والدولة الإسلامية في بغداد. وكان في إمبراطوريته الكثير من اليهود الذين جاؤوا لاجئين إليها, فارين من الظلم الذي ألحق بهم في الدولة البيزنطية. هؤلاء هم الذين نشروا الديانة اليهودية في إمبراطورية الخزر التي دامت أربعة قرون عزيزة الجانب, مسيطرة على من حولها من الشعوب, مانعة الفتح الإسلامي من التغلغل في تلك الأصقاع. ثم انهارت على يد المغول وفر أبناؤها بهجرات جماعية إلى بولندا وروسيا, ومن ثم توزعوا في أنحاء أوروبا.
واليهود في الرواية هم أحفاد هؤلاء الذين تشردوا من آسيا الوسطى. أما الجد المشترك الأكبر إبراهيم الذي هاجر من أور في جنوب العراق إلى بلاد الشام فله من الأولاد: إسماعيل البكر من زوجته هاجر, ثم ولدت زوجته الأولى سارة بعد عقم طويل ولداً سمته اسحق, فكان إسماعيل جد العرب واسحق جد اليهود. تزوج اسحق بابنة عم له اسمها رفقة فولدت له توأم سمت الأول عيسو, والثاني يعقوب. وكان عيسو قد خرج أولاً فهو البكر وكانت العادة أن تدهن القابلة يد الطفل الأول بصبغة القرمز ليًعرف أنه البكر. وأحب اسحق ابنه عيسو لأنه كان شجاعاً صياداً, وأحبت الأم يعقوب أكثر. وذات يوم شاء اسحق أن يمنح بركته لابنه عيسو, أي أن يجعله ولي عهده فقال له: اذهب واصطد لي صيداً واطبخه وتعال إلي لأمنحك بركتي. وكان اسحق قد كفْ بصره وأصبح ضريراً. وتسمع الزوجة رفقة قول زوجها فتسرع إلى ابنها يعقوب وتقول له: اذهب حالاً وأتني بجديين. ففعل يعقوب ما أمرته به أمه, فطبخت الجديين ثم ألبست ابنها يعقوب ثياب أخيه عيسو وقالت له: قل لأبيك إنك عيسو وقد جئته بالصيد ليمنحك بركته . فقال يعقوب لأمه : ولكن أبي سيعرفني لأن أخي أشعر الجسد وأنا أملس . فجاءته أمه بجلد ماعز طرحته على جسمه. وتنطلي هذه الحيلة على اسحق الضرير فمنح بركته لابنه يعقوب. وكان عيسو قد تزوج بامرأة كنعانية فأولاده ليسوا يهوداً بينما تزوج يعقوب بيهودية من أقربائه, وبذلك انحصر الإرث بنسل يعقوب الذي كان قد هاجر مع أولاده إلى مصر بدعوة من ابنه يوسف الذي كان قد أصبح عزيز مصر . وكان إله اليهود "يهوه" قد سمى يعقوب قبل أن يهاجر إلى مصر باسم إسرائيل.
وإسرائيل كلمة عبرية قديمة غامضة المعنى، يمكن تقسيمها إلى إسرا، أي الذي يحارب أو يصارع، و إيل وهو الأصل السامي لكلمة إلـه والكلمة تعني حرفياً الذي يصارع الإلـه أو جندي الإلـه إيل، و كل الاشتقاقات اللغوية للكلمة تحيل إلى معنى الصراع والحرب ومعنى القداسة. ومما يجدر ذكره أن كلمة إسرائيل وردت في الكتابات المصرية في عهد مرنبتاح في عام 1230 ق.م بوصفها اسماً لإحدى المدن، أو ربما لبطن من بطون القبائل في جنوبي كنعان. ولعل هذا يدل على أن الكلمة كنعانية الأصل، وأنها كانت ذات ارتباطات مقدَّسة بين سكان المنطقة. وهناك نظرية تذهب إلى أنها كانت اسم بطن من بطون القبائل العبرانية. وقد اكتسب يعقوب هذا الاسم بعد أن صارع الإله في حادثة غامضة لا يُفهَم مكنونها أو دلالتها والقصة كما وردت في سفر التكوين هي: بقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني. فقال ما اسمك، فقال يعقوب. فقال لا يُدعَى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الإله والناس وقدرت. وسمى نسله ببني إسرائيل. فأقاموا في مصر أربعمائة سنة ولما خرجوا منها إلى التيه كان عددهم ستمائة ألف نسمة كما ورد في التوراة.
في علم التاريخ هذه حكايات أو أساطير فيها صدى لأحداث قد تكون جرت في الماضي البعيد, ثم لُفقت –خيطت مع بعضها-وآلت إلى ما هي عليه في تراث اليهود المكتوب. صنعوا خرافتهم كما شاءوا, وشادوا من عذابات الشعوب مصيرهم, توزعوا في الأرض وتعودوا السفر في عربات الآخرين . من كل شعب ألفوا أسطورة كي يشبهوا أبطالها, عما كانوا يبحثون؟ عن هامة تحوم في الفضاء تطالب بالثأر من ذلك البابلي نبوخذ نصر الثاني الذي دمّر المملكة اليهودية وهيكلها و هزم آخر ملوكهم صدقيا بن يوشيا عام 586 قبل الميلاد وساقهم أسرى إلى بابل مع ملكهم وميزهم عن شعبه. أم عن أنبياء ضيعوهم في هواجسهم, أم عن حائط يفرغون بكاءهم على حجارته, أم عن توراة كنعان الدفينة تحت أنقاض الهياكل, أم عن بقرة جادلوا ربهم و نبيهم في تفاصيل موتها. وها نحن نصادف الأحفاد في هذه الرواية وسط أوروبا بداية القرن العشرين, في شخصية يهودي نموذجي:
فحين انقطعت السبل بكتيبة الجندي الطيب شفيك في خطوط الجبهة الأمامية, وراح يبحث مع رقيب أول الإمدادات في أرجاء إحدى القرى عن أي حيوان يؤكل, لم يجدا غير الماء يغلي في القدور, فأيقظا يهوديا ًفي حانة, فراح يشد خصلات شعره الطويلة المجعدة، ويعبر عن أسفه العميق بأنه لا يستطيع مساعدة السادة الجنود. وفي النهاية جعلهما يشتريان منه بقرة عجوزا ًمئوية كانت عبارة عن هيكل عظمي حي هزيل, مجرد جلد وعظم. وقد طلب سعرا ًمخيفا ً كثمن لها. ونتف لحيته وأقسم أنهما لن يستطيعا أن يجدا بقرة مثلها في كل النمسا وألمانيا وأوروبا والعالم قاطبة. وطوال الوقت كان ينتحب ويبكي ويقسم بأغلظ الأيمان أنها أسمن بقرة جاءت إلى العالم بأمر من الإله "يهوه". كما أقسم بكل أجداده أن الناس تأتي راكبة لتتفرج على بقرته, أنهم يتحدثون عنها في كل أنحاء المنطقة على أنها أعجوبة, كما أنها لم تكن بقرة بل جاموسة ذات لحم ريان ليس له مثيل. ثم ركع أمامهم على الأرض وهو يحتضن ركبهما الواحد بعد الآخر ويبكي قائلاً: اقتلوا اليهودي العجوز المسكين إذا أحببتم ولكن لا تذهبوا دون بقرته.
لقد أربكهم جميعا إلى حد كبير بصراخه بحيث سحبوا البقرة البائسة في النهاية إلى المطبخ الميداني، رغم أن أي تاجر حيوانات ما كان ليشتري مثل تلك البقرة. و لكنه بعد ذلك، و حين وضع المال في جيبه، ذهب يبكي أمامهم و يشكو من أنهم قد خربوا له بيته و قطعوا رزقه و أنه قد أصبح شحاذا تماما ببيعه تلك البقرة بثمن بخس. و قد رجاهم أن يشنقوه لارتكابه في شيخوخته مثل تلك الحماقة التي جعلت أجداده يتقلبون في قبورهم. و بعد أن تمرغ على التراب أمامهم نفض عنه كل رثاثة نفسه و ذهب إلى البيت. قال لزوجته : هؤلاء الجنود حمقى. أما زوجك، فهو ذكي جدا.
هذا و قد عانى الطباخون كثيرا مع تلك البقرة. فقد بدا أنه ليس ممكنا سلخها. و خلال سلخهم لها تمزق جلدها في عدة مواضع و بدت عضلاتها تحته ملتوية كالحبل الجاف الثخين الذي تشد به السفينة إلى البر. في هذه الأثناء جروا كيساً من البطاطا من مكان ما وبدؤوا يطبخون تلك الأعصاب والعظام التي لا أمل يرتجى منها, بينما كان الطباخ في مطبخ ميداني صغير مجاور يحاول يائسا ًأن يصنع طعاما ً للضباط من هيكل عظمي. تركت هذه البقرة البائسة, انطباعاً بعدم القابلية للأكل على ذاكرة كل من كان هناك, ومن المؤكد أنه لو حدث قبل المعركة أن ذكر الضباط الجنود ببقرة اليهودي, لكان الجنود رموا بأنفسهم بحراب مشرعة على العدو وهم يصرخون صرخات الغضب المخيفة. كانت بقرة اليهودي عاراً رهيباً إلى حد أنه لم يكن ممكناً حتى صنع حساء لحم البقر منها, إذ كانوا كلما طبخوه يزداد التصاقاً بالعظام. وقد أصبح شديد التحجر كبيروقراطي أنفق نصف قرن وهو يرعى كلأ الروتين الحكومي ولا يلتهم سوى الوثائق الرسمية. وأخيراً أعلن شفيك الذي كان يعمل كساعي بريد ويحافظ على الاتصال الدائم بين القيادة والمطبخ ,أعلن للملازم الأول: يا سيدي, إن بقرة اليهودي كالبورسلان, قاسية اللحم إلى حد أنك تستطيع أن تقطع به الزجاج.
قصة اليهود مع البقر قصة طريفة, فحين ترك موسى بني إسرائيل وصعد طور سيناء يناجي ربه ويستلم تعاليم الشريعة, عمد هارون السامري فأخذ ما كان استعاره بني إسرائيل من أهل مصر من الحلي فصاغ منه عجلاً يخور كما تخور البقر فعبدوا العجل بدل رب موسى . تذكرنا بقرة اليهودي, والتي عانى منها الجندي الطيب شفيك ما عانى, بحكاية بقرة بني إسرائيل الواردة ذكرها في سورة البقرة من القرآن:
رجل في بني إسرائيل كثير المال وكان شيخاًً كبيراً, وله بنو أخ, وكانوا يتمنون موته ليرثوه , فعمد أحدهم فقتله في الليل وطرحه على باب رجل منهم. فلما أصبح الناس اختصموا فيه, وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم, فقالوا: ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله؟ فجاء ابن أخيه فشكا أمر عمه إلى رسول الله موسى, فقال موسى: أنشد الله رجلاً عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به. فلم يكن عند أحد منهم علم منه, وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه. فسأل ربه في ذلك, فأمر الله بذبح بقرة صفراء فاقع لونها, أي مشوب بحمرة تسر الناظرين, وهذا اللون عزيز. فقالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا, فقال موسى: إن الله يأمركم بذبح بقرة سليمة صحيحة لا عيب فيها. ويقال إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم, فطلبوها منه فأبى عليهم, فأغوه في ثمنها حتى أعطوه بوزنها ذهباً, فباعها لهم. فأمر موسى بذبحها, وهم يترددون في أمرها, ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعض لحمها, فلما ضربوه أحياه الله فقام و أوداجه تشخب بالدماء , فسأله موسى: من قتلك؟ قال: قتلني ابن أخي. ثم عاد ميتاً كما كان.
يتشابه اليهود في القصتين وحتى بقرهم يشبه بعضه بعضاً, فهم قد قسموا البشر إلى يهود وأغيار, خرج اليهود من الأسطورة الكبرى إلى شتات منفاهم وكانوا يرحلون كي يعثروا على ما تبقى من صدى حكاياتهم الدفينة في العهود القديمة, فما وجدوا إلا التشرد في بلاد الآخرين, وهذا التيه رافقهم في حلهم وارتحالهم وأضناهم, ولم يصلوا إلى منازلهم في أسطورة التكوين, فضاعوا ولم يجدوا طرقاً تقودهم إلى منحدرات رعاتهم. وهاهم يمثلون على مسرح التاريخ دور الضحية ولم يدركوا يوماً ما صنع الماضي بحاضرهم. وهل كانوا يعرفون مصيرهم حتى نهايته؟ أم أنهم اختفوا خلف الوصايا العشر, لا تقتل, لا تزن, لا تسرق. وكلما قالوا وصلنا إلى نهاية المأساة وجدوا البلاد تحت أقدامهم شوكاً يابساً وأرضاً يباباً, فقد كسروا خرافتهم بأيديهم ومزقوا ما تبقى من العهد القديم ورموه حول خيامهم و تشردوا في مسرح الدنيا كي يلعبوا دور البطولة المعذبة وتساءلوا هل نحن شعب أم قرابين جديدة؟
وها هو ضابط الجندي الطيب شفيك يذهب إلى المسرح الهنغاري حيث كانت تعرض أوبريت, تؤدي الأدوار الرئيسية فيها ممثلات يهوديات عامرات الصدور بدينات الأجسام يتميزن بمزية خرافية تتجلى في أنهن حين يرقصن يقذفن بسيقانهم في الهواء وهن لا يرتدين أية سراويل أو أثواب ضيقة تحتانية من تلك التي ترتديها الراقصات, فتظهر النساء اليهوديات عاريات, وهاهم ضباط المدفعية الجالسين على المقاعد الأمامية من المسرح وقد جلبوا معهم إلى المسرح مناظير الميدان ليتفرجوا على ذلك المشهد الجميل.
أما خارج المسرح فقد كان الفرسان الهنغاريون يذيقون يهوديين بولنديين الجحيم بعد أن سرقوا لهما سلّة المشروبات الروحية المعدة للبيع. كان هؤلاء الفرسان في حالة من النشوة. وبدلاً عن أن يدفعوا ثمن ما شربوه كانوا يضربون اليهوديين. ويبدو أن هذا كان مسموحاً به لأن نقيبهم كان يشاهد ما يفعلون بينما كان بعض الفرسان الهنغاريين الآخرين يدسّون أيديهم, خلف المستودع, تحت تنانير بنات سوداوات العيون هن بنات هذين اليهوديين.
أما جنرال المحاكم العسكرية فقد كان مولعاً بالشنق وخاصة شنق اليهود. فقد اعتاد هذا الجنرال أن يقول إنه لم يكن في حاجة إلى ممثل النيابة العسكرية وأنه سيعقد المحكمة, وخلال ثلاث ساعات يكون المحكوم متأرجحاً. وقد كتب الجنرال إلى زوجته: لقد شنقنا مؤخراً يهودياً بتهمة التجسّس . وقد حدث أن مرّ ذلك الوغد في طريقنا خلال رحلتنا , ورغم أنه لم يكن له من عمل هناك إلا أنه ادعى بيع لفافات التبغ . وهكذا شنقناه, ولكن لثوان قليلة فقط إذ انقطع الحبل وسقط على الأرض. ولكن سرعان ما استعاد وعيه وصاح: يا صاحب السعادة سأذهب إلى البيت. فقد شنقتني, ووفقاً للقوانين لا يمكنك شنقي مرتين بسبب جريمة واحدة. وقد انفجرت ضاحكاً وتركته يذهب في حال سبيله. نحن نستمتع بوقتنا هنا إلى حد كبير يا حبيبتي.
وقد اتُهِمَ الجندي الطيب شفيك بأنه يهودي قذر, وحكاية اتهامه طريفة فقد وصل إلى بحيرة صغيرة حين تاه عن مكان فوجه, حيث صادف أسيراً روسياً هارباً كان يستحم في تلك البحيرة. وحين لمح هذا الأسير شفيك هرب على الفور عارياً كما ولدته أمه. كانت البزة الروسية تحت شجرة الصفصاف وقد انتاب شفيك الفضول لمعرفة كيف ستبدو عليه البزة, لذا خلع ملابسه وارتدى البزة التي كانت للأسير الروسي. ولقد أراد شفيك أن يرى انعكاس صورته في الماء ولذا سار مسافة طويلة على طول امتداد سد البحيرة بحيث ألقت عليه القبض دورية من الدرك الميداني كانت تبحث عن الأسير الروسي الهارب. ورغم احتجاجه إلا أنهم جرّوه نحو مقر القيادة, حيث وضع ضمن قافلة الأسرى الروس الذين كانوا سيرسلون للعمل في إعادة بناء خط السكة الحديدية المدمر. وحين تجمع الأسرى في الساحة صاح الرقيب الأول: من يعرف منكم الألمانية؟ تقدم الجندي الطيب شفيك خارج المجموعة واندفع بوجه بشوش نحو الرقيب الأول الذي أمره بأن يتبعه إلى المكتب فوراً. قال لشفيك: أنت يهودي, أليس كذلك؟ هز شفيك رأسه. رد الرقيب الأول: لا حاجة إلى إنكار ذلك, كل واحد منكم أيها الأسرى يعرف الألمانية يهودي, وهذا أمر لا مجال للشك فيه. اسمع أيها الأسير في النمسا لا توجد مذابح جماعية. أنا زعيم كبير هنا أيها اليهودي, فإني أعيّنك مشرفاً على قافلة الأسرى, كما ستقوم باستلام تعيينات الطعام لهم. وإذا ما هرب أي واحد منهم أيها الولد اليهودي فسأطلق النار عليك.
وطبعاً لم يكن الجندي الطيب شفيك يهودياً, أو قد يكون, فهو لا فرق عنده أكان يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً أو حتى كونفوشيوسياً. فقد قدمه ياروسلاف هاشيك في بداية روايته قائلاً: تتطلب الأوقات العظيمة رجالاً عظماء. هناك أبطال غير معروفين, متواضعون, ولا يتمتعون بأي فتنة تاريخية كلتي كانت لنابليون. وإذا ما حللت شخصيتهم ستجد أنها ستكسف حتى مجد اسكندر المقدوني. واليوم يمكنك أن تقابل في شوارع براغ رجلاً يرتدي ملابس رثه, لا يدرك هو نفسه أهميته في التاريخ, إنه يسير بتواضع في طريقه دون إن يزعج أحداً. ولا يزعجه الصحفيون طالبين منه المقابلات. ولو سألته عن اسمه سيجيبك ببساطة ودون ادعاء أنا شفيك.
تحفل الرواية داخل نسيجها الفني بالعديد من الشخصيات اليهودية المسحوقة المزرية, فقد كان كافياً كي تشتم أن تقول للشخص أنت يهودي, فاليهودية شتيمة بحد ذاتها. هذا ما كان عليه الوضع وسط أوروبا بداية القرن العشرين حين كتب ياروسلاف هاشيك روايته. ولكن ما السبب؟ تميل بعض الأفكار التي وجدتها عند بعض الباحثين إلى أن اليهود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت جماعة وظيفية فقدت وظيفتها وأساس بقائها. ومن ثم، كان أعضاؤها في حالة تَراجُع أخلاقي وانحطاط حضاري هائل. خاصة الفقراء منهم, حيث تركَّزوا في مهن وحرف هامشية ومشينة, تجنب العمل فيها مسيحيو أوروبا, مثل تقطير الخمور وإدارة الحانات وبيع ورهن الحاجات المنزلية و الملابس القديمة، كما أنهم مارسوا مهنتهم القديمة الربا, كما كان عدد البغايا اليهوديات مرتفعاً إلى درجة كبيرة، ونحن نجد أن صورة اليهودي كجاسوس صورة متواترة في الأدب العام لأوروبا, وقد ظهر كل هذا جليّاً في رواية الجندي الطيب شفيك. وقد تغير وضع اليهود في العالم أثر إعلان قيام دولة إسرائيل في مدينة تل أبيب وذلك يوم الجمعة الرابع عشر من أيار عام 1948.
[/SIZE]