عرف أياماً أفضل ، رغم بؤسه وعجزه.
في سن الخامسة عشرة ، سُحقت ساقاه في حادث سيارة على الطريق الرئيسي في فارفيل.
ومنذ ذلك الوقت ، ظل يتسول على طول المسارات ، عبر ساحات المزارع ، يتأرجح على عكازاته ، التي جعلت كتفيه ترتفعان إلى مستوى أذنيه. كان يبدو وكأن رأسه قد غرقت بين جبلين.
عُثر عليه في خندق كطفل متخلى عنه، في اليوم السابق لعيد الأموات، لذا تم تعميده باسم نيكولا توسان. تلقى تربية كواجب خيري، وظل غريبا عن كل تعليم، ثم أصابه شلل بسبب تجرعه لعدة كؤوس من ماء الحياة، قدمها له خباز القرية من أجل السخرية. ومنذ ذلك الحين، لم يتمكن من فعل شيء سوى التسول.
في السابق، تخلت عنه البارونة آفاري، لينام في شبه عش من القش، قرب خم الدجاج بالمزرعة المجاورة للقلعة: وكان متأكدا في أيام المجاعة الكبيرة، من أن يجد دائما قطعة من الخبز وكوبا من عصير التفاح في المطبخ، وكثيرا ماكان يتعرض لبعض الغبار الذي ترميه السيدة العجوز، والتي هي الآن متوفية، من أعلى درجاتها، أو من نوافذ غرفتها.
في القرى، لم يكن القرويون يمنحونه شيئا، كانوا يعرفونه جيدا، وقد تعبوا منه مدة أربعين سنة، وهم يشاهدونه سائرا من كوخ إلى كوخ، بجسده الممزق المعاق، على رجليه الخشبيتين.
لم يرد أن يغادر أو يذهب بعيدا، لأنه لم يكن يعرف على وجه الأرض منطقة أخرى سوى هذا الجزء من البلد: تلك الثلاث أو الأربع قرى الصغيرة، حيث جر حياته البائسة. كان قد وضع حدودا لتسوله، ولم يكن ليتجرأ على تجاوز الحدود التي تعود على عدم عبورها.
كان يجهل إن كان العالم يمتد بعيدا خلف الأشجار التي كانت دائما تقف حاجزا أمام بصره. وعندما كان القرويون الذين تعبوا من لقائه باستمرار عند حافة حقولهم وعلى طول خنادقهم يصيحون في وجهه:
ـ لمَ لا تذههب إلى القرى الأخرى عوض أن تعكز هنا دائما؟
كان يلتزم الصمت ويبتعد، وقد غمرته موجة خوف من المجهول، خوف شخص فقير مرتبك يجزع من ألف شيء: الوجوه غير المألوفة، الشتائم، النظرات المتوجسة للأشخاص الذين يجهلونه، رجال الدرك الذين يمشون مثنى مثنى على الطرقات ويضطرونه إلى الاختفاء خلف الشجيرات أو أكوام الحجارة.
عندما كان يراهم يلمعون على بعد مسافة منه، يشعر فجأة بخفة متفردة، خفة وحش يبحث عن مكان للاختباء، كان يتخلص من عكازتيه، ويلقي بنفسه كقطعة قماش بالية، يتدحرج متكورا، ويتضاءل حجمه ليختفي كأرنب داخل جحره، وقد اختلطت خرقه البنية مع التربة.
لم يكن لديه أي مشكل معهم، لكنه كان يحمل هذا في دمه، وكأنه ورث ذلك الخوف والدهاء من والديه اللذين لم يعرفهما قط.
لم يكن يملك ملجأ أو سقفا أو كوخا أو مأوى، كان ينام صيفا في أي مكان، وفي الشتاء، كان ينحشر داخل الحظائر أو الاصطبلات بمهارة رائعة. كان يخلي المكان دائما قبل الانتباه إلى وجوده، يعرف كل منافذ الدخول إلى البنايات، وبسبب مهارته في اعتماد عكازتيه، اكتسب ذراعاه قوة مفاجئة، فكان يصعد إلى العلية اعتمادا على قوة رسغيه، حيث يمكث أحيانا مدة أربعة أو خمسة أيام دون حركة، وقد جمع في جولته من الزاد مايكفيه.
عاش مثل وحوش الغابة، وسط الناس، دون أن يعرف احدا، أو يحب أحدا، لم يكن يثير لدى القرويين سوى شعور بالاحتقار اللامبالي والعداء المقصود. أطلقوا عليه لقب " جرس "، لأنه كان يتأرجح بين عكازتيه الخشبيتين، كتأرجح جرس بين دعامتيه.
لم يتناول طعاما منذ يومين، ولم يسعفه أحد بشئ، نبذه الجميع في الأخير، وكانت القرويات يصحن في وجهه أمام أبوابهن عندما يرونه قادما:
ــ عليك الآن بالابتعاد، لقد منحتك قطعة خبز منذ ثلاثة أيام
فيستدير حول عكازتيه ويتجه نحو المنزل المجاور، ليستقبلوه بالطريقة نفسها.
كانت النساء يصحن من باب لآخر:
ــ لايمكننا إطعام هذا الخامل طيلة السنة.
ومع ذلك فالخامل كان بحاجة إلى الطعام كل يوم.
كان قد مر عبر سان هيلير ، فارفيل ، و لي بييت، دون جمع فلس واحد أو كسرة خبز يابسة. لم يكن لديه أمل سوى في التوجه نحو تورنول.
لكن كان عليه أن يمر بمنطقتين على الطريق الرئيسي ، وهو يشعر بالتعب ولم يعد قادرا على سحب نفسه ، بمعدة فارغة مثل جيبه.
ومع ذلك استأنف طريقه.
كان ذلك في ديسمبر ، حيث تهب ريح باردة على الحقول ، وتحدث صفيرا في الفروع العارية. والغيوم تركض عبر السماء المنخفضة والمظلمة، مسرعة نحو المجهول. كان المعاق يتحرك ببطء، ناقلا دعامتيه الواحدة تلو الأخرى بجهد مؤلم ، متكئًا على الساق الملتوية التي بقيت له ، والمنتهية بقدم مشوهة ترتدي خرقة بالية.
كان من وقت لآخر يجلس على الخندق للاستراحة بضع دقائق. كان الجوع يزعج روحه المرتبكة والثقيلة. لم تكن لديه سوى فكرة واحدة فقط: "أن يأكل" ، لكنه لم يكن يعرف بأية وسيلة.
كدح لمدة ثلاث ساعات على الطريق الطويل؛ وحينما تراءت له أشجار القرية، سارع في حركاته.
أجابه أول فلاح التقاه وطلب منه صدقة:
ــ ها أنت مرة أخرى تعود لممارستك القديمة! ألن نتخلص منك أبدا ؟
فيذهب جرس بعيدا. ومن باب إلى باب يعامل بقسوة، ويطرد دون منحه شيئا،.ومع ذلك يتابع جولته ، بصبر وعناد، دون أن يكسب فلسا.
عند ذلك يزور المزارع، قاطعا الأراضي الماطرة الناعمة ، شاعرا بالإنهاك لدرجة عدم القدرة على رفع عصاه. طاردوه في كل مكان. كان ذلك في أحد الأيام الباردة والحزينة حيث تعتصر القلوب، وتغضب النفوس، و تكون الروح مظلمة ، ولا تنفتح اليد على العطاء أو الإغاثة.
عندما انتهى من زيارة جميع البيوت التي كان يعرفها ، انبطح ركن الخندق ، على طول ساحة ماستر شيكي.
تخلص من عكازتيه ، ليعبر كما يقولون عن كيفية ترك نفسه يسقط بين عكازتيه العاليتين، بجعلهما ينزلقان تحت ذراعيه.
وظل بلا حراك لفترة طويلة ، يتضور جوعا ، لكن بهيجان لايستطيع معه استكناه بؤسه الذي لا يُسْبَر غوره.
لقد كان ينتظر شيئًا ما، من هذا التوقع الغامض الذي هو دائمًا فينا. كان ينتظر في زاوية هذه الساحة ، تحت الريح الجليدية ، المساعدة الغامضة التي نأملها دائما من السماء أو من الناس ، دون أن يتساءل كيف ، أولماذا ، أو من الذي يمكن أن يقدمها. مر سرب من الدجاجات السوداء ، تبحث عن رزقها في الأرض التي تغذي جميع الكائنات. في أية لحظة ، كانت تلتقط بمناقيرها حبة أو حشرة غير مرئية ، ثم تواصل بحثها البطيء والواثق.
نظر إليها جرس دون التفكير في شيء. ثم خطر ببطنه عوض ذهنه، إحساس عوض فكرة ، بأن إحدى هذه الكائنات تصلح للأكل مشوية على نار خشب جاف.
لم يساوره شك في أنه سيرتكب سرقة، تناول حجرا قريبا منه، ونظرا لحذقه، رمى بها أقرب دجاجة وقتلها، فسقطت وهي تحرك جناحيها، بينما هربت باقي الدجاجاجات تتأرجح على سيقانها الرقيقة، ثم تسلق جرس عكازتيه من جديد، وانطلق ماشيا ليغنم صيده، بحركات شبيهة بحركات الدجاجات.
وما أن وصل قرب الجسم الأسود الصغير الملطخ باللون الأحمر في الرأس، حتى تلقى دفعة قوية في الظهر، جعلته يسقط عصاه لتتدحرج على مسافة عشر خطوات أمامه، ويندفع السيد شيكي مستاءً نحو السارق، ليشبعه ضربا كالمجنون، يضربه ضرب قروي تعرض للسرقة، بقبضة يده وركبته كل أنحاء جسم المعاق العاجز عن الدفاع عن نفسه.
وصل أهالي المزرعة بدورهم ، وبدأوا يضربون المتسول مع الرئيس، وعندما تعبوا من ضربه ، التقطوه وحملوه بعيداً ، ثم حبسوه في المحرقة مدة ذهابهم للمناداة على رجال الدرك.
بقي جرس ، نصف ميت ، نازفا متضورا جوعًا ، مستلقيا على الأرض. جاء المساء ، ثم الليل ، ثم الفجر. وما زال لم يأكل.
وعند الظهر ، ظهر رجال الدرك وفتحوا الباب بحذر ، كانوا يتوقعون مقاومة ما، لأن السيد شيكي زعم أنه تعرض لهجوم من طرف المتسول، وأنه لم يستطع الدفاع عن نفسه إلا بصعوبة بالغة.
صرخ العميد:
هيا، قف!
لكن جرس لم يعد بإمكانه التحرك ، حاول أن يتحامل على نفسه فلم يفلح. . اعتقدوا أنها خدعة، أو حيلة، أو نية سيئة من المجرم. فقام الرجلان المسلحان وأمسكا به ثم أرغماه على الوقوف على عكازتيه.
استولى عليه الخوف ، وذا الخوف الفطري من الأحزمة الصفراء ، خوف الطريدة أمام الصياد ، والفأر أمام القط. وبجهد خارق ، تمكن من البقاء منتصباً.
ـ هيا تقدم! قال العميد. فشرع في المشى. تحت أنظار كل أفراد المزرعة. النساء يشرى إليه بقبضاتهن. والرجال يقهقهون ويشتمونه: لقد أمسكنا به أخيرا! يالحسن الخلاص.
ذهب به به الحارسان. ووجد الطاقة اليائسة التي كان يحتاجها ليجرجر جسده مرة أخرى حتى المساء، ذاهلا ، جاهلا ما الذي كان يحدث له ، به من الخوف ما جعله عاجزا عن الفهم.
كان الناس يتوقفون لرؤيته عند مروره، وكان القرويون يهمسون:
ــ إنه أحد اللصوص!
تم الوصول ليلا إلى المركز الرئيسي بالبلدة. لم يصل سابقا إلى هنا أبدا. ولم يكن يتصور حقا ماذا حدث، ولا ماذا سيحدث. كل هذه الأشياء الفظيعة، غير المتوقعة، وكل هذه الأشكال والمنازل الجديدة تفزعه.
لم ينبس ببنت شفة، وليس لديه ما يقوله، لأنه لم يعد يفهم شيئا، منذ سنوات لم يكلم أحدا، بل علاوة على ذلك فقد القدرة تقريبا على استعمال لسانه، وكان فكره أيضا جد مرتبك ليستطيع تشخيصه بكلمات.
تم إيداعه في سجن القرية، لم يفكر رجال الدرك أنه قد يحتاج إلى تناول الطعام، لذا تركوه على هذه الحال حتى الغد.
ولكن عندما أتوا لاستجوابه ، في الصباح الباكر ، وجدوه ميتا على الأرض. يا للمفاجأة !
في سن الخامسة عشرة ، سُحقت ساقاه في حادث سيارة على الطريق الرئيسي في فارفيل.
ومنذ ذلك الوقت ، ظل يتسول على طول المسارات ، عبر ساحات المزارع ، يتأرجح على عكازاته ، التي جعلت كتفيه ترتفعان إلى مستوى أذنيه. كان يبدو وكأن رأسه قد غرقت بين جبلين.
عُثر عليه في خندق كطفل متخلى عنه، في اليوم السابق لعيد الأموات، لذا تم تعميده باسم نيكولا توسان. تلقى تربية كواجب خيري، وظل غريبا عن كل تعليم، ثم أصابه شلل بسبب تجرعه لعدة كؤوس من ماء الحياة، قدمها له خباز القرية من أجل السخرية. ومنذ ذلك الحين، لم يتمكن من فعل شيء سوى التسول.
في السابق، تخلت عنه البارونة آفاري، لينام في شبه عش من القش، قرب خم الدجاج بالمزرعة المجاورة للقلعة: وكان متأكدا في أيام المجاعة الكبيرة، من أن يجد دائما قطعة من الخبز وكوبا من عصير التفاح في المطبخ، وكثيرا ماكان يتعرض لبعض الغبار الذي ترميه السيدة العجوز، والتي هي الآن متوفية، من أعلى درجاتها، أو من نوافذ غرفتها.
في القرى، لم يكن القرويون يمنحونه شيئا، كانوا يعرفونه جيدا، وقد تعبوا منه مدة أربعين سنة، وهم يشاهدونه سائرا من كوخ إلى كوخ، بجسده الممزق المعاق، على رجليه الخشبيتين.
لم يرد أن يغادر أو يذهب بعيدا، لأنه لم يكن يعرف على وجه الأرض منطقة أخرى سوى هذا الجزء من البلد: تلك الثلاث أو الأربع قرى الصغيرة، حيث جر حياته البائسة. كان قد وضع حدودا لتسوله، ولم يكن ليتجرأ على تجاوز الحدود التي تعود على عدم عبورها.
كان يجهل إن كان العالم يمتد بعيدا خلف الأشجار التي كانت دائما تقف حاجزا أمام بصره. وعندما كان القرويون الذين تعبوا من لقائه باستمرار عند حافة حقولهم وعلى طول خنادقهم يصيحون في وجهه:
ـ لمَ لا تذههب إلى القرى الأخرى عوض أن تعكز هنا دائما؟
كان يلتزم الصمت ويبتعد، وقد غمرته موجة خوف من المجهول، خوف شخص فقير مرتبك يجزع من ألف شيء: الوجوه غير المألوفة، الشتائم، النظرات المتوجسة للأشخاص الذين يجهلونه، رجال الدرك الذين يمشون مثنى مثنى على الطرقات ويضطرونه إلى الاختفاء خلف الشجيرات أو أكوام الحجارة.
عندما كان يراهم يلمعون على بعد مسافة منه، يشعر فجأة بخفة متفردة، خفة وحش يبحث عن مكان للاختباء، كان يتخلص من عكازتيه، ويلقي بنفسه كقطعة قماش بالية، يتدحرج متكورا، ويتضاءل حجمه ليختفي كأرنب داخل جحره، وقد اختلطت خرقه البنية مع التربة.
لم يكن لديه أي مشكل معهم، لكنه كان يحمل هذا في دمه، وكأنه ورث ذلك الخوف والدهاء من والديه اللذين لم يعرفهما قط.
لم يكن يملك ملجأ أو سقفا أو كوخا أو مأوى، كان ينام صيفا في أي مكان، وفي الشتاء، كان ينحشر داخل الحظائر أو الاصطبلات بمهارة رائعة. كان يخلي المكان دائما قبل الانتباه إلى وجوده، يعرف كل منافذ الدخول إلى البنايات، وبسبب مهارته في اعتماد عكازتيه، اكتسب ذراعاه قوة مفاجئة، فكان يصعد إلى العلية اعتمادا على قوة رسغيه، حيث يمكث أحيانا مدة أربعة أو خمسة أيام دون حركة، وقد جمع في جولته من الزاد مايكفيه.
عاش مثل وحوش الغابة، وسط الناس، دون أن يعرف احدا، أو يحب أحدا، لم يكن يثير لدى القرويين سوى شعور بالاحتقار اللامبالي والعداء المقصود. أطلقوا عليه لقب " جرس "، لأنه كان يتأرجح بين عكازتيه الخشبيتين، كتأرجح جرس بين دعامتيه.
لم يتناول طعاما منذ يومين، ولم يسعفه أحد بشئ، نبذه الجميع في الأخير، وكانت القرويات يصحن في وجهه أمام أبوابهن عندما يرونه قادما:
ــ عليك الآن بالابتعاد، لقد منحتك قطعة خبز منذ ثلاثة أيام
فيستدير حول عكازتيه ويتجه نحو المنزل المجاور، ليستقبلوه بالطريقة نفسها.
كانت النساء يصحن من باب لآخر:
ــ لايمكننا إطعام هذا الخامل طيلة السنة.
ومع ذلك فالخامل كان بحاجة إلى الطعام كل يوم.
كان قد مر عبر سان هيلير ، فارفيل ، و لي بييت، دون جمع فلس واحد أو كسرة خبز يابسة. لم يكن لديه أمل سوى في التوجه نحو تورنول.
لكن كان عليه أن يمر بمنطقتين على الطريق الرئيسي ، وهو يشعر بالتعب ولم يعد قادرا على سحب نفسه ، بمعدة فارغة مثل جيبه.
ومع ذلك استأنف طريقه.
كان ذلك في ديسمبر ، حيث تهب ريح باردة على الحقول ، وتحدث صفيرا في الفروع العارية. والغيوم تركض عبر السماء المنخفضة والمظلمة، مسرعة نحو المجهول. كان المعاق يتحرك ببطء، ناقلا دعامتيه الواحدة تلو الأخرى بجهد مؤلم ، متكئًا على الساق الملتوية التي بقيت له ، والمنتهية بقدم مشوهة ترتدي خرقة بالية.
كان من وقت لآخر يجلس على الخندق للاستراحة بضع دقائق. كان الجوع يزعج روحه المرتبكة والثقيلة. لم تكن لديه سوى فكرة واحدة فقط: "أن يأكل" ، لكنه لم يكن يعرف بأية وسيلة.
كدح لمدة ثلاث ساعات على الطريق الطويل؛ وحينما تراءت له أشجار القرية، سارع في حركاته.
أجابه أول فلاح التقاه وطلب منه صدقة:
ــ ها أنت مرة أخرى تعود لممارستك القديمة! ألن نتخلص منك أبدا ؟
فيذهب جرس بعيدا. ومن باب إلى باب يعامل بقسوة، ويطرد دون منحه شيئا،.ومع ذلك يتابع جولته ، بصبر وعناد، دون أن يكسب فلسا.
عند ذلك يزور المزارع، قاطعا الأراضي الماطرة الناعمة ، شاعرا بالإنهاك لدرجة عدم القدرة على رفع عصاه. طاردوه في كل مكان. كان ذلك في أحد الأيام الباردة والحزينة حيث تعتصر القلوب، وتغضب النفوس، و تكون الروح مظلمة ، ولا تنفتح اليد على العطاء أو الإغاثة.
عندما انتهى من زيارة جميع البيوت التي كان يعرفها ، انبطح ركن الخندق ، على طول ساحة ماستر شيكي.
تخلص من عكازتيه ، ليعبر كما يقولون عن كيفية ترك نفسه يسقط بين عكازتيه العاليتين، بجعلهما ينزلقان تحت ذراعيه.
وظل بلا حراك لفترة طويلة ، يتضور جوعا ، لكن بهيجان لايستطيع معه استكناه بؤسه الذي لا يُسْبَر غوره.
لقد كان ينتظر شيئًا ما، من هذا التوقع الغامض الذي هو دائمًا فينا. كان ينتظر في زاوية هذه الساحة ، تحت الريح الجليدية ، المساعدة الغامضة التي نأملها دائما من السماء أو من الناس ، دون أن يتساءل كيف ، أولماذا ، أو من الذي يمكن أن يقدمها. مر سرب من الدجاجات السوداء ، تبحث عن رزقها في الأرض التي تغذي جميع الكائنات. في أية لحظة ، كانت تلتقط بمناقيرها حبة أو حشرة غير مرئية ، ثم تواصل بحثها البطيء والواثق.
نظر إليها جرس دون التفكير في شيء. ثم خطر ببطنه عوض ذهنه، إحساس عوض فكرة ، بأن إحدى هذه الكائنات تصلح للأكل مشوية على نار خشب جاف.
لم يساوره شك في أنه سيرتكب سرقة، تناول حجرا قريبا منه، ونظرا لحذقه، رمى بها أقرب دجاجة وقتلها، فسقطت وهي تحرك جناحيها، بينما هربت باقي الدجاجاجات تتأرجح على سيقانها الرقيقة، ثم تسلق جرس عكازتيه من جديد، وانطلق ماشيا ليغنم صيده، بحركات شبيهة بحركات الدجاجات.
وما أن وصل قرب الجسم الأسود الصغير الملطخ باللون الأحمر في الرأس، حتى تلقى دفعة قوية في الظهر، جعلته يسقط عصاه لتتدحرج على مسافة عشر خطوات أمامه، ويندفع السيد شيكي مستاءً نحو السارق، ليشبعه ضربا كالمجنون، يضربه ضرب قروي تعرض للسرقة، بقبضة يده وركبته كل أنحاء جسم المعاق العاجز عن الدفاع عن نفسه.
وصل أهالي المزرعة بدورهم ، وبدأوا يضربون المتسول مع الرئيس، وعندما تعبوا من ضربه ، التقطوه وحملوه بعيداً ، ثم حبسوه في المحرقة مدة ذهابهم للمناداة على رجال الدرك.
بقي جرس ، نصف ميت ، نازفا متضورا جوعًا ، مستلقيا على الأرض. جاء المساء ، ثم الليل ، ثم الفجر. وما زال لم يأكل.
وعند الظهر ، ظهر رجال الدرك وفتحوا الباب بحذر ، كانوا يتوقعون مقاومة ما، لأن السيد شيكي زعم أنه تعرض لهجوم من طرف المتسول، وأنه لم يستطع الدفاع عن نفسه إلا بصعوبة بالغة.
صرخ العميد:
هيا، قف!
لكن جرس لم يعد بإمكانه التحرك ، حاول أن يتحامل على نفسه فلم يفلح. . اعتقدوا أنها خدعة، أو حيلة، أو نية سيئة من المجرم. فقام الرجلان المسلحان وأمسكا به ثم أرغماه على الوقوف على عكازتيه.
استولى عليه الخوف ، وذا الخوف الفطري من الأحزمة الصفراء ، خوف الطريدة أمام الصياد ، والفأر أمام القط. وبجهد خارق ، تمكن من البقاء منتصباً.
ـ هيا تقدم! قال العميد. فشرع في المشى. تحت أنظار كل أفراد المزرعة. النساء يشرى إليه بقبضاتهن. والرجال يقهقهون ويشتمونه: لقد أمسكنا به أخيرا! يالحسن الخلاص.
ذهب به به الحارسان. ووجد الطاقة اليائسة التي كان يحتاجها ليجرجر جسده مرة أخرى حتى المساء، ذاهلا ، جاهلا ما الذي كان يحدث له ، به من الخوف ما جعله عاجزا عن الفهم.
كان الناس يتوقفون لرؤيته عند مروره، وكان القرويون يهمسون:
ــ إنه أحد اللصوص!
تم الوصول ليلا إلى المركز الرئيسي بالبلدة. لم يصل سابقا إلى هنا أبدا. ولم يكن يتصور حقا ماذا حدث، ولا ماذا سيحدث. كل هذه الأشياء الفظيعة، غير المتوقعة، وكل هذه الأشكال والمنازل الجديدة تفزعه.
لم ينبس ببنت شفة، وليس لديه ما يقوله، لأنه لم يعد يفهم شيئا، منذ سنوات لم يكلم أحدا، بل علاوة على ذلك فقد القدرة تقريبا على استعمال لسانه، وكان فكره أيضا جد مرتبك ليستطيع تشخيصه بكلمات.
تم إيداعه في سجن القرية، لم يفكر رجال الدرك أنه قد يحتاج إلى تناول الطعام، لذا تركوه على هذه الحال حتى الغد.
ولكن عندما أتوا لاستجوابه ، في الصباح الباكر ، وجدوه ميتا على الأرض. يا للمفاجأة !