كانت واحدة من الفتيات الشابات الجميلات والساحرات التي تولد احيانا في اسرة من طبقة الموظفين الفقراء كما لو كان ذلك بفعل زلة من زلات القدر. لم يكن لها مال، ولم يكن لها ما تتطلع اليه، ولم يكن ثمة من فرصة لتنال شيئا من الشهرة والتفهم والحب ومن فرصة للاقتران برجل ثري وشهير. لذلك اجازت لنفسها ان تتزوج من موظف صغير في وزارة التعليم العام.
كانت ملابسها بسيطة لانها لم تكن قادرة على ابتياع ملابس انيقة. ولكنها كانت دائمة الشعور بالتعاسة كما لو كانت قد هوت فعلا من مكانة رفيعة. ولكن الجمال والسحر عند النساء يعوضان عن المكانة الاجتماعية المتواضعة. وفي نظرهن فان طبيعة الواحدة منهن واحساسها الغرزي بالجمال والجاذبية وعقلها الذكي هي اهم ما يمكن ان تتمتع به. وفي الاغلب الاعم فان هذه المزايا تجعل نساء الطبقات المتواضعة يشعرن بانهن مساويات لسيدات المجتمع الراقي.
كانت معاناة متلدة موصولة دونما انقطاع. كانت تشعر ان من حقها ان تتمتع بكل ما في الحياة من اسباب الرفاهية والفخامة. كانت تشعر بالحزن مما تراه من مظاهر الفقر في مسكنها: جدران جرداء، ومقاعد متهالكة، وستائر قبيحة. هذا كله لم يكن لتشعر به امرأة اخرى من فئتها الاجتماعية، لكنه كان يعذبها ويغضبها. كان منظر الخادمة الصغيرة التي تقوم باعباء البيت تثير فيها الكثير من مشاعر اليأس والاحلام المضطربة. كانت تحلم باروقة صامتة تكسو نوافذها ستائر من المنسوجات الشرقية ومضاءة بشمعدانات من البرونز. كانت تفكر في قاعات استقبال مكسوة بالحرير القديم وبخزائن انيقة تعرض فيها تحف ثمينة وبحجرات معطرة مخصصة لتبادل الحديث مع الاصدقاء الخلص عند الساعة الخامسة ومع رجال مشهورين يتقرب منهم الناس ويثيرون في قلوب النساء الغيرة والرغبة.
لم تكن تقتني شيئا من الثياب الفاخرة او المجوهرات او اي شيء. ولم تكن تعشق شيئا اكثر من ذلك. كانت تحلم بامتلاك ما يثير حسد الاخرين ويبهرهم.
كان لها صديقة، زميلة سابقة في المدرسة، ثرية ولم تكن تريد ان تذهب لزيارتها لانها كانت تشعر بالاسى عندما تعود الى البيت بعد الزيارة.
ولكن ذات مساء عاد زوجها الى البيت باحساس واضح بالتحقق وكان يحمل بيده مغلفا كبيرا.
وقال: ها هنا شيء لك.
فتحت المغلف بسرعة وسحبت منه بطاقة مطبوعة وقرأت عليها:
يسر وزير التعليم العام جورج رامبونو والسيدة عقيلته دعوة مسيو ومدام لوازيل لحفل استقبال في قصر الوزارة مساء يوم الاثنين في الثامن عشر من يناير.
وبدل ان تشعر بالبهجة كما كان زوجها يأمل ألقت بالدعوة على المائدة وهمهمت:
- ماذا تريد مني ان افعل بها؟
- كنت اظن ياعزيزتي انك ستسرين. انك لا تخرجين وهذه فرصة جميلة. ولم احصل على الدعوة الا بكثير من الجهد. الجميع يريدون تلبية الدعوة. ولكن الدعوة لم توجه الا الى قلة قليلة. ولم توجه دعوات كثيرة الى الموظفين الصغار. وسيحضر جميع الرسميين.
نظرت اليه نظرة ثائرة وقالت غاضبة:
- وماذا تظن اني سألبس من الثياب؟
ولم يكن قد فكر بذلك من قبل. قال متمتما:
- الفستان الذي تلبسينه الى المسرح. يبدو لي انه مناسب.
وتوقف عن الحديث عندما رأى زوجته تبكي. دمعتان كبيرتان سالتا ببطء من عينيها نحو طرفي فمها.
قال: ماذا في الامر؟ ماذا في الامر؟
وبذلت جهدا عظيما للتغلب على حزنها وقالت بصوت هادئ فيما هي تمسح خديها المبللين:
- لا شيء. ليس عندي فستان. هذا كل ما في الامر. لذلك لا استطيع ان احضر الحفل. اعط دعوتك الى زميل زوجته افضل تجهيزا مني.
واحس باليأس. ولكنه واصل القول:
- تعالي. لنناقش الامر يا متلدة. ما كلفة شراء فستان مناسب – فستان بامكانك ان تستعمليه في مناسبات اخرى، فستان من النوع البسيط؟
وفكرت عدة ثوان مجرية حساباتها وهي تحرص على طلب مبلغ لا يدفع زوجها - الموظف الصغير ذا الامكانات المالية القليلة - الى الرفض الفوري.
واخير قالت مترددة:
- لا اعرف بالضبط. ولكني اعتقد ان بامكاني تدبر الامر باربعمئة فرنك.
شحب وجهه قليلا فقد كان وفر هذا المبلغ لشراء بندقية للمشاركة في رحلات صيد مع اصدقائه على سهل نانتير ايام الاحد.
ولكنه قال: حسن جدا. ساعطيك اربعمة فرنك. حاولي ان تشتري فستانا جميلا.
واقترب يوم الحفل. ولكن تبين ان مدام لوازيل كانت حزينة ومتعبة وقلقة. لكن فستانها كان جاهزا. قال زوجها في احدى الامسيات:
- هل ثمة من مشكلة؟ تبدو تصرفاتك غريبة في الايام الثلاثة الماضية.
واجابت قائلة:
- يسوءني اني لا امتلك قطعة واحدة من الحلي ازين بها صدري. سأبدو بائسة شديدة الفقر. اني أوثر ان لا احضر الحفل.
- ولكن بامكانك ان تتزيني بالورد الطبيعي. فهو يتماشى مع ذوق هذا الفصل من السنة. بامكانك ان تشتري وردة او وردتين رائعتين بعشرة فرنكات.
ولم تقتنع.
- لا. ليس ثمة ما هو ادعى الى الشعور بالمذلة من الظهور فقيرة بين نساء ثريات.
هتف الزوج: يالك من غبية! اذهبي الى صديقتك مدام فوريستييه واطلبي منها ان تعيرك بعض الحلي. فالعلاقة بينكما من القوة بحيث تجيز ذلك.
اطلقت صرخة فرح وقالت:
- هذا صحيح، ولم يخطر في بالي.
وفي اليوم التالي ذهبت الى صديقتها واوضحت لها سبب تعاستها.
وتوجهت مدام فوريستييه الى خزانتها ذات المرآة واخرجت منها صندوق مجوهراتها وعادت به وفتحته وقالت لمدام لوازيل:
- اختاري ما تشائين يا عزيزتي.
وقع ناظرها اولا على بعض الاساور ثم على عقد من اللؤلؤ ثم على صليب فينيسي من الذهب مرصع باحجار كريمة أُحسن صنعه. وجربت بعض الحلي على صدرها امام المرآة وترددت في اعادتها لصديقتها. وسألت:
- اليس عندك شيء مختلف؟
- بلى. انظري في العلبة. لا اعرف ماذا تريدين.
وفجأة اكتشفت في علبة من الساتان الاسود عقدا مبهرا من الماس، وخفق قلبها برغبة اكيدة. وارتعشت يداها فيما هي تنظر اليه. ووضعته حول عنقها. واخذها شعور طاغٍ بالنشوة وهي تنظر الى نفسها في المرآة.
وسألت مترددة يملأها الشك والقلق:
- هل تعيرينني هذا العقد: هذا العقد فحسب؟
- اجل بالتأكيد.
وانطلقت فاحتضنت صديقتها وقبلتها بحرارة بالغة وانصرفت حاملة كنزها. وحلت ليلة الحفل. وكانت مدام لوازيل محط الانظار. كانت اجمل من اي سيدة اخرى في الحفل. كانت انيقة ورشيقة وضاحكة. لقد ملأتها فرحة مجنونة. نظر اليها جميع الرجال، وسألوا عن اسمها، وسعوا الى التقرب منها. تمنى جميع مسؤولي الوزارة ان يرقصوا معها. بل ان الوزير نفسه تحبب اليها.
ورقصت بجنون، وسكرت بالفرحة، ونسيت كل شيء لانتصار جمالها وتحقق نجاحها في ما يشبه سحابة من السعادة التي شكلها اعجاب الاخرين وثناؤهم الاثيران على قلوب النساء.
وغادرت قاعة الرقص عند الساعة الرابعة صباحا. كان زوجها قد غط في النوم بعد منتصف الليل في غرفة صغيرة منعزلة بصحبة ثلاثة من الرجال الاخرين الذين كانت زوجاتهم يستمتعن بالرقص.
والقى على كتفيها وشاحا كان قد احضره لتستعمله في الخارج، وشاحا متواضعا مما عندها من ثياب لا تتناسب مع اناقة ثياب الحفل. واحست بذلك وارادت ان تسرع الخطى كيلا تراها النساء الاخريات اللواتي كن يلبسن الفرو الثمين.
اوقفها زوجها وقال لها: انتظري لحظة. قد تصابين بالبرد. ساحضر سيارة اجرة في الحال.
ولكنها لم تستمع اليه. ونزلت على السلم. وعندما وصلا الى الشارع لم يتمكنا من العثور على سيارة. نادا سائق سيارة من بعيد.
وسارا على ضفة نهر السين يائسين، يرتعشان من البرد. واخيرا وجدا واحدة من تلك السيارات المتهالكة التي يراها المرء في باريس بعد هبوط الليل كما لو كانت تتحاشى الظهور في ضوء النهار.
ونزلا من السيارة بالقرب من باب بيتهما وصعدا السلم حزينين. لقد انتهى كل شيء بالنسبة اليها. اما هو فكان يشغل باله ان عليه ان يكون في المكتب عند الساعة العاشرة.
وقفت امام المرآة وراحت تخلع ملابسها ناظرة الى نفسها في اجمل حللها. ولكنها فجأة اطلقت صرخة. لقد اختفى العقد من حول عنقها.
سألها زوجها وقد خلع نصف ثيابه: ماذا؟
التفتت اليه مذعورة وقالت: اختفى عقد مدام فوريستييه.
قال مذهولا: ماذا؟ كيف؟ هذا مستحيل.
وراحا يبحثان عن العقد في ثنايا الثوب والعباءة وفي الجيوب وفي كل مكان. ولم يعثرا عليه.
سأل: هل انت متأكدة انه كان حول عنقك عندما غادرنا الحفل؟
- اجل. لمسته عندما كنا في مبنى الوزارة.
- ولكن لو انه سقط في الشارع لتمكنا من سماع صوته. لا بد انه سقط في السيارة.
- نعم. هذا ممكن. هل سجلت رقم السيارة؟
- لا. هل لاحظت رقم السيارة؟
- لا.
- سأذهب للبحث عنه في الطريق الذي سرنا فيه.
وذهب. وظلت هي في ثياب السهرة دون ان تجد في نفسها القوة الكافية للذهاب الى السرير. جلست على كرسي دون نار تتدفأ بها وكان خالية الذهن من كل شيء.
عاد زوجها في الساعة السابعة. ولم يكن قد عثر على اي شيء.
كان قد ذهب الى مركز الشرطة والى مكاتب الصحف للاعلان عن مكافأة لمن يعثر عليه والى مكاتب سيارات الاجرة. ذهب في الحقيقة الى اي مكان دفعه اليه شعاع من امل.
وانتظرت طوال النهار وهي تشعر باليأس بسبب هذه الكارثة المخيفة.
قال: يجب ان تكتبي الى صديقتك وتخبريها بان مشبك العقد قد انكسر واننا بصدد اصلاحه. فذلك يعطينا مزيدا من الوقت لمزيد من البحث.
وكتبت ما املاه عليها.
وفي نهاية الاسبوع كانا قد فقدا كل امل في العثور على العقد.
وقال لوازيل الذي تقدمت به السن خمس سنوات:
- يجب ان نبحث في كيفية التعويض عن العقد.
وفي اليوم التالي اخذا علبة العقد الى الجواهري الذي عثرا على اسمه داخل العلبة. وبحث الرجل في دفاتره.
- لم ابع العقد يا سيدتي. ولكني صنعت العلبة.
وراحا يختلفان على محال المجوهرات للبحث عن عقد يشبه العقد الضائع، محاولين تذكر كل تفصيل، وقد ملأهما اليأس والهم.
وفي احد المحال في منطقة القصر الملكي عثرا على عقد بدا انه يشبه العقد المفقود. كان ثمنه اربعين الف فرنك. وتمكنا من تخفيض السعر الى ستة وثلاثين الفا.
وطلبا من البائع ان لا يبيعه لثلاثة ايام. واتفقا ان يسترده البائع باربعة وثلاثين الفا اذا عثرا على العقد الضائع قبل نهاية فبراير.
كان في حوزة لوازيل ثمانية عشر الفا كان قد ورثها عن ابيه. وكان عليه ان يستدين ما تبقى.
وراح يستدين، طالبا الفا من هذا وخمسة الاف من آخر. وكتب تعهدات وتعامل مع المرابين. ورهن بقية عمره دون ان يكون على يقين من انه سيكون قادرا على تسديد الديون. وذهب لتسلم العقد ووضع على طاولة الجواهري ستة وثلاثين الف فرنك.
وعندما اعاد مدام لوازيل العقد لمدام فوريستييه قالت لها الاخيرة ببرود:
- كان عليك ان تعيديه دون تأخير فلربما كنت بحاجة اليه.
ولم تفتح العلبة كما كانت صديقتها تخشى. فلو عرفت ان العقد مختلف ماذا كان عليها ان تقول؟ الم تكن لتفكر بانها واحدة من اللصوص؟
بعد ذلك عرفت مدام لوازيل حياة الفقر والفقراء. ولكنها واجهت حياتها الجديدة ببطولة فذة. فقد كان لا بد من تسديد الدين. وصرفا الخادمة واستأجرا شقة على احد السطوح.
وعانت من العمل المنزلي ورائحة الاواني في المطبخ. وغسلت الاطباق وغمست اصابعها الرقيقة واظافرها الجميلة في الاوعية المتسخة. وغسلت الشراشف والقمصان ونشرتها على حبل الغسيل. وحملت المياه المتسخة الى الشارع، متوقفة كل بضعة درجات على السلم لتلتقط انفاسها. واعتادت على لبس الثياب البسيطة التي يلبسها عامة الناس، وعلى الوقوف امام بائعي الفواكة والخضار واللحوم وهي تحمل سلتها على ذراعها تجادل في الاسعار.
كان عليهما ان يسددا جزءا من الديون كل شهر، وان يجددا الاتفاق لكسب مزيد من الوقت.
وراح زوجها يعمل محاسبا في المساء عند احد التجار. وفي وقت متأخر من الليل كان ينسخ نصوصا مقابل خمسة قروش للصفحة.
واستمرت هذه الحياة عشر سنوات.
وعند نهاية السنوات العشر كانا قد سددا كل شيء بالاضافة الى فوائد الديون.
وبدا على مدام لوازيل التقدم في السن. لقد اصبحت الان تشبه مثيلاتها من الفقراء – قوية وصلبة وخشنة: شعرها اشعث، وثيابها متهدلة ويداها حمراوان. تتكلم بصوت مرتفع. ولكنها عندما يكون زوجها في المكتب كانت تجلس بالقرب من النافذة وتفكر بالايام الجميلة التي مرت في الماضي البعيد وتتذكر الحفل الذي بدت فيه جميلة ومثيرة للاعجاب والاهتمام.
ماذا كان يمكن ان يحدث لو لم تفقد العقد؟ من يعلم؟ كم هي الحياة غريبة ومتقلبة! كم هي صغيرة الاشياء التي يمكن ان تسعدنا او تدمرنا!
ولكن ذات يوم من ايام الاحد وفي ما كانت تتمشى في شارع الشانزيليزيه لتسري عن نفسها بعد متاعب اسبوع في العمل، ابصرت سيدة ومعها طفل. انها مدام فوريستييه – انها لا تزال شابة وجميلة وساحرة.
هل تتكلم اليها؟ اجل بالتأكيد. الان وقد سددت جميع ديونها لماذا لا تخبر صديقتها بكل شيء؟
واقتربت منها.
- يوما سعيدا يا جين.
ولكن المرأة اندهشت من طريقة حديثها ولم تتعرف اليها وتلعثمت.
- ولكن لا اعرف يا سيدتي.. يجب ان يكون ثمة التباس في الامر.
- لا. انا متلدة لوازيل.
واطلقت صديقتها صرخة.
- آه يا صديقتي المسكينة متلدة. لشد ما تغيرت!
- لقد كانت حياتي بالغة الصعوبة منذ ان رأيتك المرة الاخيرة. كان ذلك كله بسببك.
- بسببي؟ كيف هذا؟
- هل تذكرين العقد التي استعرته منك لألبسه في حفل الوزارة؟
- نعم. ماذا بعد ذلك؟
- فقدته.
-كيف؟ ولكنك اعدته الي.
- اعدت اليك عقدا شبيها به. واستغرقنا الامر عشر سنوات لتسديد ثمنه. بامكانك ان تتخيلي ان الامر لم يكن سهلا اذ لم يكن معنا شيء. واخيرا سددنا كل شيء. انا سعيدة.
وتوقفت مدام فوريستييه عن السير.
- اتقولين انك اشتريت عقدا من الماس مماثلا لعقدي؟
- اجل. اذن لم تلاحظي الفرق. انهما متماثلان جدا.
وابتسمت وقد ملأها الفرح والفخر.
وتأثرت مدام فوريستييه تأثرا عميقا. وامسكت بيد صديقتها.
- آه. مسكينة انت يا متلدة. كان عقدي من الماس الزهيد الثمن ولم يكن ثمنه يزيد على خمسمئة فرنك.
كانت ملابسها بسيطة لانها لم تكن قادرة على ابتياع ملابس انيقة. ولكنها كانت دائمة الشعور بالتعاسة كما لو كانت قد هوت فعلا من مكانة رفيعة. ولكن الجمال والسحر عند النساء يعوضان عن المكانة الاجتماعية المتواضعة. وفي نظرهن فان طبيعة الواحدة منهن واحساسها الغرزي بالجمال والجاذبية وعقلها الذكي هي اهم ما يمكن ان تتمتع به. وفي الاغلب الاعم فان هذه المزايا تجعل نساء الطبقات المتواضعة يشعرن بانهن مساويات لسيدات المجتمع الراقي.
كانت معاناة متلدة موصولة دونما انقطاع. كانت تشعر ان من حقها ان تتمتع بكل ما في الحياة من اسباب الرفاهية والفخامة. كانت تشعر بالحزن مما تراه من مظاهر الفقر في مسكنها: جدران جرداء، ومقاعد متهالكة، وستائر قبيحة. هذا كله لم يكن لتشعر به امرأة اخرى من فئتها الاجتماعية، لكنه كان يعذبها ويغضبها. كان منظر الخادمة الصغيرة التي تقوم باعباء البيت تثير فيها الكثير من مشاعر اليأس والاحلام المضطربة. كانت تحلم باروقة صامتة تكسو نوافذها ستائر من المنسوجات الشرقية ومضاءة بشمعدانات من البرونز. كانت تفكر في قاعات استقبال مكسوة بالحرير القديم وبخزائن انيقة تعرض فيها تحف ثمينة وبحجرات معطرة مخصصة لتبادل الحديث مع الاصدقاء الخلص عند الساعة الخامسة ومع رجال مشهورين يتقرب منهم الناس ويثيرون في قلوب النساء الغيرة والرغبة.
لم تكن تقتني شيئا من الثياب الفاخرة او المجوهرات او اي شيء. ولم تكن تعشق شيئا اكثر من ذلك. كانت تحلم بامتلاك ما يثير حسد الاخرين ويبهرهم.
كان لها صديقة، زميلة سابقة في المدرسة، ثرية ولم تكن تريد ان تذهب لزيارتها لانها كانت تشعر بالاسى عندما تعود الى البيت بعد الزيارة.
ولكن ذات مساء عاد زوجها الى البيت باحساس واضح بالتحقق وكان يحمل بيده مغلفا كبيرا.
وقال: ها هنا شيء لك.
فتحت المغلف بسرعة وسحبت منه بطاقة مطبوعة وقرأت عليها:
يسر وزير التعليم العام جورج رامبونو والسيدة عقيلته دعوة مسيو ومدام لوازيل لحفل استقبال في قصر الوزارة مساء يوم الاثنين في الثامن عشر من يناير.
وبدل ان تشعر بالبهجة كما كان زوجها يأمل ألقت بالدعوة على المائدة وهمهمت:
- ماذا تريد مني ان افعل بها؟
- كنت اظن ياعزيزتي انك ستسرين. انك لا تخرجين وهذه فرصة جميلة. ولم احصل على الدعوة الا بكثير من الجهد. الجميع يريدون تلبية الدعوة. ولكن الدعوة لم توجه الا الى قلة قليلة. ولم توجه دعوات كثيرة الى الموظفين الصغار. وسيحضر جميع الرسميين.
نظرت اليه نظرة ثائرة وقالت غاضبة:
- وماذا تظن اني سألبس من الثياب؟
ولم يكن قد فكر بذلك من قبل. قال متمتما:
- الفستان الذي تلبسينه الى المسرح. يبدو لي انه مناسب.
وتوقف عن الحديث عندما رأى زوجته تبكي. دمعتان كبيرتان سالتا ببطء من عينيها نحو طرفي فمها.
قال: ماذا في الامر؟ ماذا في الامر؟
وبذلت جهدا عظيما للتغلب على حزنها وقالت بصوت هادئ فيما هي تمسح خديها المبللين:
- لا شيء. ليس عندي فستان. هذا كل ما في الامر. لذلك لا استطيع ان احضر الحفل. اعط دعوتك الى زميل زوجته افضل تجهيزا مني.
واحس باليأس. ولكنه واصل القول:
- تعالي. لنناقش الامر يا متلدة. ما كلفة شراء فستان مناسب – فستان بامكانك ان تستعمليه في مناسبات اخرى، فستان من النوع البسيط؟
وفكرت عدة ثوان مجرية حساباتها وهي تحرص على طلب مبلغ لا يدفع زوجها - الموظف الصغير ذا الامكانات المالية القليلة - الى الرفض الفوري.
واخير قالت مترددة:
- لا اعرف بالضبط. ولكني اعتقد ان بامكاني تدبر الامر باربعمئة فرنك.
شحب وجهه قليلا فقد كان وفر هذا المبلغ لشراء بندقية للمشاركة في رحلات صيد مع اصدقائه على سهل نانتير ايام الاحد.
ولكنه قال: حسن جدا. ساعطيك اربعمة فرنك. حاولي ان تشتري فستانا جميلا.
واقترب يوم الحفل. ولكن تبين ان مدام لوازيل كانت حزينة ومتعبة وقلقة. لكن فستانها كان جاهزا. قال زوجها في احدى الامسيات:
- هل ثمة من مشكلة؟ تبدو تصرفاتك غريبة في الايام الثلاثة الماضية.
واجابت قائلة:
- يسوءني اني لا امتلك قطعة واحدة من الحلي ازين بها صدري. سأبدو بائسة شديدة الفقر. اني أوثر ان لا احضر الحفل.
- ولكن بامكانك ان تتزيني بالورد الطبيعي. فهو يتماشى مع ذوق هذا الفصل من السنة. بامكانك ان تشتري وردة او وردتين رائعتين بعشرة فرنكات.
ولم تقتنع.
- لا. ليس ثمة ما هو ادعى الى الشعور بالمذلة من الظهور فقيرة بين نساء ثريات.
هتف الزوج: يالك من غبية! اذهبي الى صديقتك مدام فوريستييه واطلبي منها ان تعيرك بعض الحلي. فالعلاقة بينكما من القوة بحيث تجيز ذلك.
اطلقت صرخة فرح وقالت:
- هذا صحيح، ولم يخطر في بالي.
وفي اليوم التالي ذهبت الى صديقتها واوضحت لها سبب تعاستها.
وتوجهت مدام فوريستييه الى خزانتها ذات المرآة واخرجت منها صندوق مجوهراتها وعادت به وفتحته وقالت لمدام لوازيل:
- اختاري ما تشائين يا عزيزتي.
وقع ناظرها اولا على بعض الاساور ثم على عقد من اللؤلؤ ثم على صليب فينيسي من الذهب مرصع باحجار كريمة أُحسن صنعه. وجربت بعض الحلي على صدرها امام المرآة وترددت في اعادتها لصديقتها. وسألت:
- اليس عندك شيء مختلف؟
- بلى. انظري في العلبة. لا اعرف ماذا تريدين.
وفجأة اكتشفت في علبة من الساتان الاسود عقدا مبهرا من الماس، وخفق قلبها برغبة اكيدة. وارتعشت يداها فيما هي تنظر اليه. ووضعته حول عنقها. واخذها شعور طاغٍ بالنشوة وهي تنظر الى نفسها في المرآة.
وسألت مترددة يملأها الشك والقلق:
- هل تعيرينني هذا العقد: هذا العقد فحسب؟
- اجل بالتأكيد.
وانطلقت فاحتضنت صديقتها وقبلتها بحرارة بالغة وانصرفت حاملة كنزها. وحلت ليلة الحفل. وكانت مدام لوازيل محط الانظار. كانت اجمل من اي سيدة اخرى في الحفل. كانت انيقة ورشيقة وضاحكة. لقد ملأتها فرحة مجنونة. نظر اليها جميع الرجال، وسألوا عن اسمها، وسعوا الى التقرب منها. تمنى جميع مسؤولي الوزارة ان يرقصوا معها. بل ان الوزير نفسه تحبب اليها.
ورقصت بجنون، وسكرت بالفرحة، ونسيت كل شيء لانتصار جمالها وتحقق نجاحها في ما يشبه سحابة من السعادة التي شكلها اعجاب الاخرين وثناؤهم الاثيران على قلوب النساء.
وغادرت قاعة الرقص عند الساعة الرابعة صباحا. كان زوجها قد غط في النوم بعد منتصف الليل في غرفة صغيرة منعزلة بصحبة ثلاثة من الرجال الاخرين الذين كانت زوجاتهم يستمتعن بالرقص.
والقى على كتفيها وشاحا كان قد احضره لتستعمله في الخارج، وشاحا متواضعا مما عندها من ثياب لا تتناسب مع اناقة ثياب الحفل. واحست بذلك وارادت ان تسرع الخطى كيلا تراها النساء الاخريات اللواتي كن يلبسن الفرو الثمين.
اوقفها زوجها وقال لها: انتظري لحظة. قد تصابين بالبرد. ساحضر سيارة اجرة في الحال.
ولكنها لم تستمع اليه. ونزلت على السلم. وعندما وصلا الى الشارع لم يتمكنا من العثور على سيارة. نادا سائق سيارة من بعيد.
وسارا على ضفة نهر السين يائسين، يرتعشان من البرد. واخيرا وجدا واحدة من تلك السيارات المتهالكة التي يراها المرء في باريس بعد هبوط الليل كما لو كانت تتحاشى الظهور في ضوء النهار.
ونزلا من السيارة بالقرب من باب بيتهما وصعدا السلم حزينين. لقد انتهى كل شيء بالنسبة اليها. اما هو فكان يشغل باله ان عليه ان يكون في المكتب عند الساعة العاشرة.
وقفت امام المرآة وراحت تخلع ملابسها ناظرة الى نفسها في اجمل حللها. ولكنها فجأة اطلقت صرخة. لقد اختفى العقد من حول عنقها.
سألها زوجها وقد خلع نصف ثيابه: ماذا؟
التفتت اليه مذعورة وقالت: اختفى عقد مدام فوريستييه.
قال مذهولا: ماذا؟ كيف؟ هذا مستحيل.
وراحا يبحثان عن العقد في ثنايا الثوب والعباءة وفي الجيوب وفي كل مكان. ولم يعثرا عليه.
سأل: هل انت متأكدة انه كان حول عنقك عندما غادرنا الحفل؟
- اجل. لمسته عندما كنا في مبنى الوزارة.
- ولكن لو انه سقط في الشارع لتمكنا من سماع صوته. لا بد انه سقط في السيارة.
- نعم. هذا ممكن. هل سجلت رقم السيارة؟
- لا. هل لاحظت رقم السيارة؟
- لا.
- سأذهب للبحث عنه في الطريق الذي سرنا فيه.
وذهب. وظلت هي في ثياب السهرة دون ان تجد في نفسها القوة الكافية للذهاب الى السرير. جلست على كرسي دون نار تتدفأ بها وكان خالية الذهن من كل شيء.
عاد زوجها في الساعة السابعة. ولم يكن قد عثر على اي شيء.
كان قد ذهب الى مركز الشرطة والى مكاتب الصحف للاعلان عن مكافأة لمن يعثر عليه والى مكاتب سيارات الاجرة. ذهب في الحقيقة الى اي مكان دفعه اليه شعاع من امل.
وانتظرت طوال النهار وهي تشعر باليأس بسبب هذه الكارثة المخيفة.
قال: يجب ان تكتبي الى صديقتك وتخبريها بان مشبك العقد قد انكسر واننا بصدد اصلاحه. فذلك يعطينا مزيدا من الوقت لمزيد من البحث.
وكتبت ما املاه عليها.
وفي نهاية الاسبوع كانا قد فقدا كل امل في العثور على العقد.
وقال لوازيل الذي تقدمت به السن خمس سنوات:
- يجب ان نبحث في كيفية التعويض عن العقد.
وفي اليوم التالي اخذا علبة العقد الى الجواهري الذي عثرا على اسمه داخل العلبة. وبحث الرجل في دفاتره.
- لم ابع العقد يا سيدتي. ولكني صنعت العلبة.
وراحا يختلفان على محال المجوهرات للبحث عن عقد يشبه العقد الضائع، محاولين تذكر كل تفصيل، وقد ملأهما اليأس والهم.
وفي احد المحال في منطقة القصر الملكي عثرا على عقد بدا انه يشبه العقد المفقود. كان ثمنه اربعين الف فرنك. وتمكنا من تخفيض السعر الى ستة وثلاثين الفا.
وطلبا من البائع ان لا يبيعه لثلاثة ايام. واتفقا ان يسترده البائع باربعة وثلاثين الفا اذا عثرا على العقد الضائع قبل نهاية فبراير.
كان في حوزة لوازيل ثمانية عشر الفا كان قد ورثها عن ابيه. وكان عليه ان يستدين ما تبقى.
وراح يستدين، طالبا الفا من هذا وخمسة الاف من آخر. وكتب تعهدات وتعامل مع المرابين. ورهن بقية عمره دون ان يكون على يقين من انه سيكون قادرا على تسديد الديون. وذهب لتسلم العقد ووضع على طاولة الجواهري ستة وثلاثين الف فرنك.
وعندما اعاد مدام لوازيل العقد لمدام فوريستييه قالت لها الاخيرة ببرود:
- كان عليك ان تعيديه دون تأخير فلربما كنت بحاجة اليه.
ولم تفتح العلبة كما كانت صديقتها تخشى. فلو عرفت ان العقد مختلف ماذا كان عليها ان تقول؟ الم تكن لتفكر بانها واحدة من اللصوص؟
بعد ذلك عرفت مدام لوازيل حياة الفقر والفقراء. ولكنها واجهت حياتها الجديدة ببطولة فذة. فقد كان لا بد من تسديد الدين. وصرفا الخادمة واستأجرا شقة على احد السطوح.
وعانت من العمل المنزلي ورائحة الاواني في المطبخ. وغسلت الاطباق وغمست اصابعها الرقيقة واظافرها الجميلة في الاوعية المتسخة. وغسلت الشراشف والقمصان ونشرتها على حبل الغسيل. وحملت المياه المتسخة الى الشارع، متوقفة كل بضعة درجات على السلم لتلتقط انفاسها. واعتادت على لبس الثياب البسيطة التي يلبسها عامة الناس، وعلى الوقوف امام بائعي الفواكة والخضار واللحوم وهي تحمل سلتها على ذراعها تجادل في الاسعار.
كان عليهما ان يسددا جزءا من الديون كل شهر، وان يجددا الاتفاق لكسب مزيد من الوقت.
وراح زوجها يعمل محاسبا في المساء عند احد التجار. وفي وقت متأخر من الليل كان ينسخ نصوصا مقابل خمسة قروش للصفحة.
واستمرت هذه الحياة عشر سنوات.
وعند نهاية السنوات العشر كانا قد سددا كل شيء بالاضافة الى فوائد الديون.
وبدا على مدام لوازيل التقدم في السن. لقد اصبحت الان تشبه مثيلاتها من الفقراء – قوية وصلبة وخشنة: شعرها اشعث، وثيابها متهدلة ويداها حمراوان. تتكلم بصوت مرتفع. ولكنها عندما يكون زوجها في المكتب كانت تجلس بالقرب من النافذة وتفكر بالايام الجميلة التي مرت في الماضي البعيد وتتذكر الحفل الذي بدت فيه جميلة ومثيرة للاعجاب والاهتمام.
ماذا كان يمكن ان يحدث لو لم تفقد العقد؟ من يعلم؟ كم هي الحياة غريبة ومتقلبة! كم هي صغيرة الاشياء التي يمكن ان تسعدنا او تدمرنا!
ولكن ذات يوم من ايام الاحد وفي ما كانت تتمشى في شارع الشانزيليزيه لتسري عن نفسها بعد متاعب اسبوع في العمل، ابصرت سيدة ومعها طفل. انها مدام فوريستييه – انها لا تزال شابة وجميلة وساحرة.
هل تتكلم اليها؟ اجل بالتأكيد. الان وقد سددت جميع ديونها لماذا لا تخبر صديقتها بكل شيء؟
واقتربت منها.
- يوما سعيدا يا جين.
ولكن المرأة اندهشت من طريقة حديثها ولم تتعرف اليها وتلعثمت.
- ولكن لا اعرف يا سيدتي.. يجب ان يكون ثمة التباس في الامر.
- لا. انا متلدة لوازيل.
واطلقت صديقتها صرخة.
- آه يا صديقتي المسكينة متلدة. لشد ما تغيرت!
- لقد كانت حياتي بالغة الصعوبة منذ ان رأيتك المرة الاخيرة. كان ذلك كله بسببك.
- بسببي؟ كيف هذا؟
- هل تذكرين العقد التي استعرته منك لألبسه في حفل الوزارة؟
- نعم. ماذا بعد ذلك؟
- فقدته.
-كيف؟ ولكنك اعدته الي.
- اعدت اليك عقدا شبيها به. واستغرقنا الامر عشر سنوات لتسديد ثمنه. بامكانك ان تتخيلي ان الامر لم يكن سهلا اذ لم يكن معنا شيء. واخيرا سددنا كل شيء. انا سعيدة.
وتوقفت مدام فوريستييه عن السير.
- اتقولين انك اشتريت عقدا من الماس مماثلا لعقدي؟
- اجل. اذن لم تلاحظي الفرق. انهما متماثلان جدا.
وابتسمت وقد ملأها الفرح والفخر.
وتأثرت مدام فوريستييه تأثرا عميقا. وامسكت بيد صديقتها.
- آه. مسكينة انت يا متلدة. كان عقدي من الماس الزهيد الثمن ولم يكن ثمنه يزيد على خمسمئة فرنك.