تكاد جميع خشبات المسارح وقاعات المحاضرات والندوات تتحول اليوم إلى صالونات ثقافية، فبدل الكراسى التى لم تكن تخلو من إتعاب، والتى كانت توضع على المنصّة أمام طاولة تحاكى منضدة الفصل الدراسى، حيث يجلس الأستاذ أمام طلبته جِلسةَ من يمتلك المعرفة، ومن يصدر عنه «خطاب الحقيقة»، بدل هذه الكراسي، أصبحت قاعات الندوات والمحاضرات اليوم توفّر للمحاضرين والمُنتدين أرائك مريحة «يغرق» فيها المتحدث فى ارتخاء تام، فيخاطب جمهوره من غير أن يعتلى كرسيا ليوجّه كلامه من أعلى المنبر، باذلا كل مجهوده ليوصل خطابه ويُبلّغ رسالته، ويقنع جمهوره.
أعترف بأنني، كمتلقٍّ، أرتاح لهذا الوضع «المريح» الذى يسوّى بين المخاطَب ومن يصدر عنه الخطاب، فيمكّن المحاضِر من أن يتوجه إلى الجمهور من غير علوّ ولا «استعلاء»، ويجعل جميع من فى القاعة يشعرون وكأنهم داخل صالون عائلي، وأنهم متكافئون جِلسةً ومعرفةً، إلا أننى، بمجرد أن أتيح لى أن أجرّب بدورى هذا الوضع فى الإلقاء، لم أحس الإحساس ذاته الذى افترضت، ولم أرتح كثيرا لهذا الوضع المريح، ولم أقتنع بتاتا أن هيئة الجلوس هذه مناسبة للحزم الذى يقتضيه الموقف، ولا ملائمة للوضع الذى يتطلبه الإلقاء، والعناء الذى يستلزمه التركيز، والمكابدة التى يتطلبها إعمال الفكر L’endurance de la pensée.
لم أستطع أن أخفى عن نفسى ما اعترانى من استغراب لكونى «لم أرتح إلى وضع مريح»، أو لنقل بالأحرى، لكونى لم أقتنع بأن هذا الوضع هو أنسب الأوضاع للتفكير بصوت عال. كنت أشعر إذًا أن هذه «المسْرحة» أقرب إلى «ثقافة الفرجة» Spectacle منها إلى ثقافة التمحيص والسؤال. وسعيا وراء إقناع نفسى بوجود عوامل قد تكون ذاتية وراء ما استشعرته، حاولت أن أرجع المسألة إلى المفهوم الذى ترسَّخ عندى، وربما عند جيلي، عن الفكر والمعرفة والثقافة، فقد كان إعمال الفكر يرتبط لدينا دوما ببذل الجهد والمكابدة و«محاربة الأوثان»، لا أوثان نيتشه وحدها، بل كل الأوثان مهما تنوعت أشكالها، ذلك أن الفكر لم يقترن عندنا أساسا بالفورية والتلقائية والراحة والاطمئنان بقدر ما ارتبط باللامباشرة والتشكك والغوص فى أسرار اللغة تقصيا للمعانى المتسترة، كما أن تحصيل المعارف ظل مرتبطا عندنا بقهر الصعوبات وتجاوز العراقيل وتخطى العقبات، ونهج الطرق الصعبة، وارتياد المسالك الوعرة: صعوبات اقتناء الكتب والتمكّن من أثمانها، صعوبات العثور على كنوز التراث والاهتداء إلى أماكنها، صعوبات الحصول على الترجمات «الأمينة» والتعرّف على أصحابها، هذا بطبيعة الحال، إن توفرت الترجمات، فما بالك حين كنا لا نستطيع الاطّلاع على المؤلفات إلا بالتحايل على تهجّيها فى لغاتها الأصلية. هذا فضلا عما كنا نعانيه فى الفصل الدراسى من ندرة للمراجع، وعدم توفّر الكتب المدرسية التى تواكب برامج الدراسة التى لم تكن هى بدورها مقررات مخططة مضبوطة تخضع لمناهج تربوية مدروسة، بقدر ما كانت تجارب تُمتحن صلاحيتها فى فصولنا، وتُختبر نجاعتها فى مخابرنا.
كل هذا كان يحول بيننا وبين أن نشعر أن المعارف «فى متناولنا»، وأن ندرك أن مسلك الحقيقة طريق معبدة، وأن التفكير أمر متيسّر، وأن الثقافة حديث صالونات. لا عجب إذًا أن يعترينى ذلك الإحساس بالتنافى بين جِدِّية العمل الفكرى والارتخاء على الكنبات، إذ سرعان ما كانت تخطر ببالى نصيحة نيتشه، «أن تظل جالسا أقل ما يمكن، وألاّ تضع ثقتك فى فكرة لم تخطر وأنت تمشى فى الهواء الطلق، ولم تنخرط فى احتفال العضلات».
احتفال العضلات هذا هو النقيض المطلق لارتخائها فوق كنبات الصالونات. وربما هو الذى كان يدفع كتّابا فى مستوى إرنست همنغواى وألبير كامو إلى ألاّ يكتبوا إلا واقفين أمام طاولة مرتفعة تحاذى صدورهم، وربما هو الذى دفع مونتينى إلى أن يكتب: «ترقد أفكارى إذا أقعدتها، ولا يعمل ذهنى ما لم تحرّكه الساقان».
أعترف بأنني، كمتلقٍّ، أرتاح لهذا الوضع «المريح» الذى يسوّى بين المخاطَب ومن يصدر عنه الخطاب، فيمكّن المحاضِر من أن يتوجه إلى الجمهور من غير علوّ ولا «استعلاء»، ويجعل جميع من فى القاعة يشعرون وكأنهم داخل صالون عائلي، وأنهم متكافئون جِلسةً ومعرفةً، إلا أننى، بمجرد أن أتيح لى أن أجرّب بدورى هذا الوضع فى الإلقاء، لم أحس الإحساس ذاته الذى افترضت، ولم أرتح كثيرا لهذا الوضع المريح، ولم أقتنع بتاتا أن هيئة الجلوس هذه مناسبة للحزم الذى يقتضيه الموقف، ولا ملائمة للوضع الذى يتطلبه الإلقاء، والعناء الذى يستلزمه التركيز، والمكابدة التى يتطلبها إعمال الفكر L’endurance de la pensée.
لم أستطع أن أخفى عن نفسى ما اعترانى من استغراب لكونى «لم أرتح إلى وضع مريح»، أو لنقل بالأحرى، لكونى لم أقتنع بأن هذا الوضع هو أنسب الأوضاع للتفكير بصوت عال. كنت أشعر إذًا أن هذه «المسْرحة» أقرب إلى «ثقافة الفرجة» Spectacle منها إلى ثقافة التمحيص والسؤال. وسعيا وراء إقناع نفسى بوجود عوامل قد تكون ذاتية وراء ما استشعرته، حاولت أن أرجع المسألة إلى المفهوم الذى ترسَّخ عندى، وربما عند جيلي، عن الفكر والمعرفة والثقافة، فقد كان إعمال الفكر يرتبط لدينا دوما ببذل الجهد والمكابدة و«محاربة الأوثان»، لا أوثان نيتشه وحدها، بل كل الأوثان مهما تنوعت أشكالها، ذلك أن الفكر لم يقترن عندنا أساسا بالفورية والتلقائية والراحة والاطمئنان بقدر ما ارتبط باللامباشرة والتشكك والغوص فى أسرار اللغة تقصيا للمعانى المتسترة، كما أن تحصيل المعارف ظل مرتبطا عندنا بقهر الصعوبات وتجاوز العراقيل وتخطى العقبات، ونهج الطرق الصعبة، وارتياد المسالك الوعرة: صعوبات اقتناء الكتب والتمكّن من أثمانها، صعوبات العثور على كنوز التراث والاهتداء إلى أماكنها، صعوبات الحصول على الترجمات «الأمينة» والتعرّف على أصحابها، هذا بطبيعة الحال، إن توفرت الترجمات، فما بالك حين كنا لا نستطيع الاطّلاع على المؤلفات إلا بالتحايل على تهجّيها فى لغاتها الأصلية. هذا فضلا عما كنا نعانيه فى الفصل الدراسى من ندرة للمراجع، وعدم توفّر الكتب المدرسية التى تواكب برامج الدراسة التى لم تكن هى بدورها مقررات مخططة مضبوطة تخضع لمناهج تربوية مدروسة، بقدر ما كانت تجارب تُمتحن صلاحيتها فى فصولنا، وتُختبر نجاعتها فى مخابرنا.
كل هذا كان يحول بيننا وبين أن نشعر أن المعارف «فى متناولنا»، وأن ندرك أن مسلك الحقيقة طريق معبدة، وأن التفكير أمر متيسّر، وأن الثقافة حديث صالونات. لا عجب إذًا أن يعترينى ذلك الإحساس بالتنافى بين جِدِّية العمل الفكرى والارتخاء على الكنبات، إذ سرعان ما كانت تخطر ببالى نصيحة نيتشه، «أن تظل جالسا أقل ما يمكن، وألاّ تضع ثقتك فى فكرة لم تخطر وأنت تمشى فى الهواء الطلق، ولم تنخرط فى احتفال العضلات».
احتفال العضلات هذا هو النقيض المطلق لارتخائها فوق كنبات الصالونات. وربما هو الذى كان يدفع كتّابا فى مستوى إرنست همنغواى وألبير كامو إلى ألاّ يكتبوا إلا واقفين أمام طاولة مرتفعة تحاذى صدورهم، وربما هو الذى دفع مونتينى إلى أن يكتب: «ترقد أفكارى إذا أقعدتها، ولا يعمل ذهنى ما لم تحرّكه الساقان».