سيكون من قبيل الابتسار الجزم بأن المفهوم الفلسفي للانفصال، يرجع أساسًا إلى الأبحاث الإبيستمولوجية المعاصرة وما صاحبها من إعادة النظر في تواريخ العلوم، عند غاستون باشلار خاصة. فيكفي أن نعود بأذهاننا إلى التحولات التي سنتها مدرسة الحوليات في مجال التاريخ، بكتابات مارك بلوك بداية لنتأكد من ذلك...
ما الذي نجنيه عندما نصفّي الحساب نهائيا، أو نتوهّم أنّنا قد صفّينا الحساب نهائيّا مع الفيلسوف، وأنّنا “كشفنا حقيقته” و”وضعناه في محلّه” و”أغلقنا” دونه الأبواب كلّها، فأجبنا عن الأسئلة جميعها، تلك التي يطرحها، أو تلك التي تطرح بصدده؟ ربّما لن نكون قد عملنا بذلك، على أقل تقدير، إلا على إغلاق...
صرح جيل دولوز ذات مرة معجباً بعبارة لتوينبي: «إن الرحّل هم المعمرون، إنهم رحّل لأنهم يرفضون أن يرحلوا بعيداً». الرحلة والخروج إذن، إقامة لا تنقطع. على هذا النحو ستكون علاقة المفكر الفرنسي بتاريخ الفلسفة، ستربطه بهذا التاريخ محاولات لا متناهية للـ"الخروج"، الخروج عن منطق تاريخ الفلسفة، وقلب...
قبل حوالي عقدين من الزّمن، كنت طالباً للفلسفة في مدينة الرباط بالمغرب، لم أكن مواظباً على حضور الدّروس كما كان ينبغي، فقد كنت أمضي معظم الوقت، بين الحركة الطلابية التي كانت تعرف وقتها موجتها اليسارية الأخيرة، وبين المركز الثقافي الرّوسي حيث كنت أوزّع أنشطتي الموازية بين العزف على آلة البيانو،...
ينطلق باشلار من التأكيد على أن الفكر يسلك في بنائه للمعرفة العلمية مسالك متعثرة ودروبًا ملتوية وطرقًا غير مباشرة. إن كانت فلسفات العلم التقليدية، في صيغتها الوضعية خاصة، تعد المعرفة العلمية امتدادًا للمعرفة العادية، فتكتفي بأن تنصح الدارس بـ "الإصغاء لما تقوله الطبيعة"، وتحدّد الموضوعية بأنها...
كتب هايدغر في "تجربة الفكر": "يظل الأقدم في كل ما هو قديم يلاحقنا، ولا بد أن يدركنا". تفيد هذه الملاحقة مفهوما معينا عن التاريخ لاينحل إلى مجرد حركة صيرورة تقدمية يتجاوز فيها اللاحق السابق، وإنما يغدو، على العكس من ذلك، حركة حاضر يمتد بعيدا نحو الماضي، ولا يكون تذكرا له فحسب، وإنما تنبؤا...
يعطي ميشيل فوكو كبير أهمية لنص كانط "ما هي الأنوار؟"، فإضافة إلى أنه تحدث عنه أكثر من مرة، فإنه يعتبره نصّا فريدا من نوعه اعتبارا بأنه النصّ الفلسفيّ الذي تُطرح فيه مسألة الحاضر لأول مرة: ما الذي يحدث الآن؟ ما هو هذا الآن الذي يحدد اللحظة التي أكتب فيها؟ هذا، في نظر فوكو، سؤال لم يتقدم في تاريخ...
لا يكتفي رولان بارث، بإقامته لسيميولوجيا الحياة اليومية، بأن يبرز الدلالات الثاوية خلف تصرفاتنا العادية، وكيف تتحول ثقافة بعينها إلى طبيعة فـ"تتأسطر" المعاني، وإنما يسعى إلى أن يطرق قضايا الفلسفة الشائكة من خلال متابعته لليومي، ومن غير حاجة إلى أن يقتحم "تاريخ الفلسفة"، ويضيع بين نصوصه، ويغرق في...
لأسباب معقَّدة أصبحنا لا نرى في الصداقة إلا ظاهرة فردية، علاقة بين أفراد تكشف عن حميمية ينفتح فيها الأصدقاء بعضهم على البعض الآخر بعيداً عن العالم الخارجي ومشاغله. إنها المجال الذي يخلو فيه الأصدقاء إلى أنفسهم، وهي لا تنشأ إلا بين ذوات فردية، بل إنها ميدان التفاعل بين الذوات بامتياز.
يتناسب هذا...
« من ذا الذي سيولي عنايته لقولٍ جديد، قول لم يُنقل؟ ليس المهم أن نقول، وإنما أن نكرّر القول، وفي هذا التكرار، أن نقوله مرة أخرى أوّلَ مرة».
م.بلانشو، الحوار اللامتناهي
«حينئذ سيكون الأصل هو هذا الذي لا ينفك يعود، سيكون هو التكرار الذي يتجه نحوه الفكر، وعودة...
يُصرّ بعض النقّاد على أن يُقدّموا أعمال المفكّر كما لو كانت تندرج دوماً ضمن «مشروع» فكريّ مُتكامل PROJET، وهم يعرضونها كما لو تمخّضت عن قرار تأليف وتخطيط معقلن محسوب، هذا رغم تبيّنهم أنها غالباً ما تكون استجابات لحظية وتفاعلاً مُتحوّلاً مع المحيط الثقافي والظّرف التاريخي. صحيح أنّ مجال اشتغال...
السؤال حركة. والسؤال الإجمالي هو كل الحركة وحركة الكل. ونحن نحس بانفتاح الكلام المتسائل في مجرد البنية النحوية للاستفهام؛ هناك طلب شيء آخر.. إن الكلام المتسائل، بما هو كلام ناقص، فهو يؤكد بسؤاله أنه ليس إلا جزءا. على هذا النحو فالسؤال، على عكس ما أكدناه منذ قليل، جزئي في جوهره. السؤال هو الفضاء...
أمران يجب استبعادهما عند الحديث عن هذا الموضوع: أولهما أن القضية لا تتعلق مطلقا بأية محاولة تركيبية كيفما كان شكلها. وثانيهما أننا بعيدون هنا عن "موضة" نـهاية الفلسفة وموتـها. سيكون علينا إذن أن نتحدث عن مسألتين لا تخلوان من صعوبة: علاقة دولوز بـهيجل، وعلاقته بـهايدغر. سنرجى الحديث عن المسالة...
ما ينيف على العقد والنصف من الزمن، قبل أن يعلن كل من رولان بارت (1968م) وميشيل فوكو (1969م) «موت المؤلف»، كان موريس بلانشو قد تحدث عن «غيابه». إذا كان ما حرّك «بارت» و«فوكو» لإعلان ذلك «الموت» هو محاولة القيام ضد مفهوم معيّن عن الأدب كان مهيمنًا على الدراسات الأدبية نقدًا وتأريخًا، فيبدو أن ما...
في مقال شيّق تحت عنوان: «السور والكتب» يحاول بورخيس وصف المشاعر المتناقضة التي خامرته حينما اطلع على الخبر الذي يقول: «إن الإمبراطور الصيني الذي أمر ببناء سور الصين المديد-حتى كأنه لا ينتهي- هو الإمبراطور الأول شي هونغ تاي»، وهو الإمبراطور عينه الذي «أمر بإحراق جميع الكتب التي كتبت قبل عصره»...