عبدالسلام بنعبدالعالي - البريكولاج والترميق.. تفكيكًا للعقلانية التقليدية

يؤكد جاك دريدا بأن الإثنولوجيا (علم الأعراق) لم تتمكن من أن تُولد كعلم إلا لحظة اهتزت أسس الثقافة الأوروبية. "فليس من قبيل الصدفة إذن أن يكون نقد نزعة التمركز العرقي حول الذات، وهو الشرط الأساس لقيام الإثنولوجيا، معاصرًا، فكريًّا وتاريخيًّا، لتقويض تاريخ الميتافيزيقا. فهما معا ينتميان إلى العصر نفسه".

يتعلق الأمر بوضع خطاب سيستمد من تراث ميتافيزيقي المنابع الضرورية لتفكيك هذا التراث ذاته. غنيٌّ عن التأكيد أن هذا التراث قد لا يسعفنا في بعض الأحيان، وقد يسجننا في أزواجه وداخل مفهوماته، إلا أنّ ليفي –ستروس سيستشعر ضرورة الاحتفاظ بتلك المفهومات، والإبقاء على تلك الأزواج شأن الثنائيات: محسوس/ معقول، طبيعة/ثقافة، حتى إن ثبتت حدودُها وتأكّد عجزها، إلا أنّه يرى أنّ باستطاعتنا استخدامها على نحو ما يستخدم به "البريكولور" ما يقع تحت يديه من أدوات كي "يدبّر حاله". يتعلّق الأمر إذن بتدبير تلك المفهومات و"التصرّف" فيها بهدف تفكيكها.

يقدّم ليفي-ستروس الإثنولوجي ليس من حيث هو "مهندس"، وليس من حيث هو ذات فاعلة، بل على أنه أسطورة علمية

يوضّح لنا ليفي-ستروس اختياره المنهجي هذا في كتابه "الفكر المتوحش" الذي يدعوه دريدا "مقاله في المنهج". وهو على ما يبدو منهجٌ يعارض أشد المعارضة "مقالًا آخرَ في المنهج" ظل يُعتبر، لمدة غير قصيرة، إنجيل الفكر العقلاني. نتبين هذا التعارض في نصّ صريح نقرأه في افتتاحية "المطبوخ والنيّئ" التي يقول فيها ليفي –ستروس: "تَطرح دراسة الأساطير معضلة منهجية باعتبار أنها لا يمكن أن تخضع للمبدأ الديكارتي الذي يقول بتحليل المعضلات إلى أكثر ما يمكن من الأجزاء التي تلزم لحلها. فلا وجود في التحليل الأسطوري لحدّ نقف عنده ولا لوحدة مضمرة نتمكن من إدراكها عند نهاية التقسيم. فالحدود ما تنفكّ تتضاعف إلى ما لانهاية. وعندما نعتقد أننا ميّزناها وفصَلناها بعضها عن بعض، فلنتبين فقط أنها سرعان ما تجتمع وتتلاءم".

لا ينطلق محلّل الأساطير من الطبائع البسيطة التي ينتهي إليها التقسيم والتي يدركها الديكارتي بداهة، وإنّما مما يتوفر له من أدوات، وما يقع "تحت يديه"، أي ممّا وجده من وسائل لم تكن مهيأة بالضرورة كي تُستخدم من أجل العملية التي يستخدمها فيها، والتي يتحايل لتكييفها معها. إنها إذن، كما يؤكد دريدا، "أدواتٌ لا نوليها أيّ قيمة حقيقية، ولا أيّ دلالة مضبوطة. بل إننا نكون على أتمّ الاستعداد لهجرها والتخلّي عنها إن تَبدَّى أنّ أدوات أخرى أكثرُ منها ملاءمة. في انتظار ذلك، فإنّ بإمكاننا أن نستفيد من فعاليتها النسبية، وأن نستخدمها لتقويض الجهاز القديم الذي كانت هي قطعةً منه.. إذا سمّينا بريكولاج ضرورة استمداد المفاهيم من نص تراث متناسق أو متهافت، فبإمكاننا أن نقول إن كل خطاب هو خطاب بريكولاج".

لا يتعلق الأمر بتقسيم المعضلة للوقوف عند البسائط، ثم التركيب فيما بينها، وتقصّي مبدئها المفسِّر، وعلينا كما يؤكد دريدا: "أن نتخلى هنا عن الخطاب العلمي أو الفلسفي، وعن كل ابيستيمي تشترط الارتقاء إلى المنبع، إلى المركز، إلى الأساس، والى المبدأ. مقابل الخطاب الإبيستيمولوجي، فان الخطاب البنيوي حول الأساطير، الخطاب الميثو-لوجي ينبغي أن يتّخذ هو ذاته شكل أسطورة، أن يتخذ شكل ما يفصح عنه". لذا يقدم ليفي-ستروس رباعيته ميثولوجيات على أنّها "أسطورة في الأساطير".

أصوات من تحت الركام

ليس كتاب "الفكر المتوحش" فحسب، تفنيدًا لكتاب ليفي برول "العقلية البدائية". إنه أيضًا وربما أساسًا "حديث جديد في الطريقة" و"مقال جديد في المنهج"، لا يكتفي بوضع "قواعد جديدة لتوجيه العقل"، وإنّما يذهب حتى تقويض الذات الفاعلة التي تقوم عليها العقلانية التقليدية. وهو يقدّم لنا الإثنولوجي ليس من حيث هو "مهندس" "يتمكن من بناء لغته في كليتها تركيبًا ودلالات"، وليس من حيث هو ذات فاعلة "هي المصدر المطلق لخطابها الذي في استطاعتها أن تبنيَه قطعةً قطعة"، وليس من حيث إنه "خالق الكلم، أو الكلم ذاته" على حدّ تعبير دريدا. فهذا المهندس الذي لا يكتفي بأن يستعمل ما يقع تحت يديه من أدوات، هو "فكرة لاهوتية". إنه من صنع "البريكولور". ويصحّ أن نقول عنه ما قاله رولان بارت عن المعنى الأوّلي (dénotation): "إنه أسطورة علمية".
أعلى