أقف هناك في تلك البقعة مِن الليل، أتطلّع إلى ذلك الضوء الخافت عبْر الطريق، نوافذ البيت ترمقني، تدعوني للدخول، ثمّة صفير يبدو لطائرٍ يحلّق فوق البيت، يضرب بجناحيه ويطير فى عجالةٍ من أمره، لا بدّ أنهم هناك الآن، ربما يتحلّقون حول عشاءٍ دافئ وهم يثرثرون فى مرح، أسمع أصواتهم كما لو كانت نسمات الربيع...
عندما دقّوا بابنا عند الفجر، لم يكن في صوتهم ارتباك. قالوا إنهم رأوا أمي سلمى في الحقول عند منتصف الليل، تتمتم بكلام غير مفهوم، وتُذرّ شيئًا في الهواء، ثم تختفي بين أشجار الصفصاف. اتهموها بالسحر. قال أحدهم إنها عقدت لسان طفلٍ ظلّ يبكي ثلاثة أيام دون أن ينطق، وقالت زينب جارتنا إنها شاهدت قطة...
لم يكن قرارًا. كان انكسارًا بطيئًا، كصوتٍ يتلاشى في بئرٍ بلا قاع.
بدأ حين توقّف صوته عن الخروج، وبقي الكلام حبيس صدره، يصرخ داخله، ويخنقه. حين لم يعد يستطيع البكاء، ولا الكتابة، ولا حتى النظر في عيني أحد دون أن ينهار من الداخل.
حين صار الألم أكبر من جسده، والصمت أوسع من غرفته.
كان يخاف من...
في أقصى طرف الشاطئ، عند تلك البقعة التي لا تصل إليها ضوضاء المدينة، كان يقف دائمًا.
الشيخ... رجل يشبه أطياف البحر نفسها.
لا أحد يعرف اسمه الحقيقي، وكأن وجوده لا يحتاج اسمًا.
كان يشبه الزمن نفسه؛ يمشي ببطء، وكأن كل خطوة منه تحفر ذكرى في الرمل.
ملامحه حادة، صلبة، كأنما نحتها الملح والريح. وجهه...
"بين البحر وذاكرتها، كانت ترسم دوائر، كلما همّت بالخروج،أعادها الموج.نفس الرحيل…
نفس الوجع.
البحر تغيّر.صار أوسع،أبعد،أكثر صمتًا.
هي تكتب.
ترسل تعاويذها للماء.تظنه رسولًا،لكن البحر لا يرد.
هو يبتلع.يصمت.
ينسى.
في مساءٍ خافت،
هبط نورس.نظر طويلاً.ثم رحل.
لكن صوتًا عاد.خطواتٌ تعرفها.يدٌ تلامسها...
يرتدي بدلة رمادية كوجهه، ويحمل حقيبة جلدية كأنها تابوت صغير، يفتحها كل صباح على مكتبه كما يفتح القبر على ساكنه.
الآلة الحاسبة أمامه… يضغط على أزرارها بقوة ، وهي تضغط على قلبه في المقابل، دون أن تصدر صفيرًا أو ألمًا يُرى.
قالوا له: الرقم لا يكذب.
لكنه كذب، حين كتب في تقريره الأخير أن الشركة لم...
أكثر من ثمانين عامًا...
هذا عمرها.
وقفت على ناصية الشارع،
تُمسك حقيبة جلدية سوداء،
ترتدي ملابس قديمة... لكن أنيقة،
وتغطي شعرها بطرحة صغيرة،
شحب لونها من كثرة الغسيل،
وتدلّت أطرافها فوق كتفيها كأنها لا تريد أن تسقط…
ولا أن تُنسى.
نادَت عليّ بصوت خافت:
– من فضلك... أم شيماء؟
ثم أضافت:
– بائعة...
الى أبناء عمر المختار
قطراتُ الجمرة تحت البحر تتضور منذ الأزل المُبْهم، هي نطفة السلطان المخلوع، ليبقى على سرج الهتاف وسنابك النصر المثخن بالسباع الصرعى. رآها النسر فهوى مثل السهم النيزك، وبمنقاره الفدائي فثأ اللؤلؤة المحظوظة، فصعدت حتى بلغت السطح المجعّد، وكنتُ أطيش على زجاجي الرخو، فانسربت...
عندما فتحت عيني اكتشفت بأنني قد حللت بجسم غريب عني ، جسم يبدو أكثر نضارة وشبابا من جسمي الحقيقي ، دققت النظر في المكان الذي أتوجد به ، علني أعثر عن شيء يزيل دهشتي ، انا في غرفة نوم فسيحه ، مستلق على سرير ناعم الملمس ،وإلى جانبي تنام سيدة في حدود الثلاثين من العمر ، بوجه أبيض ناصع ، وشعر بني...
لم تكن أمّي تعرف القراءة.
قالوا لي مرارًا: "أمّك أميّة."
كنت في البداية أشعر بوخز في صدري كلّما رددوها، كما لو أن تلك الكلمة وصمة... حتى أدركت، بعد سنوات، أن أمّي كانت تقرأ أكثر منهم جميعًا.
تقرأ وجهي عند الفجر، فتعرف إن كنتُ نمت وفي قلبي همّ، أو إن كنتُ ساهرةً خائفة من امتحانٍ ما.
تقرأ نظراتي...
لم تكن تلك الليلة مثل الليالي السابقة؛ الجميع نيام كعادتهم بعد صلاة العشاء، أنا فقط التي تمتلك عيونا ساهرة متطلعة لشروق يوم الأربعاء، ذلك اليوم الفارق في حياتي للأبد؛ فهو بالنسبه لى حياة أو موت.
قبل هذه الليلة بسنوات طوال، كنت تلك الفتاة الصغيرة صاحبة الإحدى عشرة عاما، سمعت أبى وهو يصرخ في أمي...
رغم نجاحاته،، وصلابته في المواقف، كانت الحيرة تتسلل إلى أعماقه كسرب خفيّ!!
رجل اعتاد الوقوف في العواصف، تهتزّ أعماقه من رعشة، لا يدري من أين أتت.
يمرّ الزمن، ويغور الألم، ويقيم سؤالٌ صامت على باب قلبه:
لماذا؟
من فوّض أحدهم لانتزاع الطمأنينة من قلبه؟!
كل إجابة تُولد أسئلة جديدة.
كل تجاهل...
يُروى والعهدة على الرواة أن شابا مهووسا اسمه عبد السلام، في كل مرة يرى طائرا، يتخيل نفسه حبة قمح، فيهرب، ويعود إلى البيت، ويُغلق عليه الباب..
استمر على هذه الحال لأيام وشهور، حتى أصبح أضحوكة أقرانه في الحي.. كلما رآه أحدهم مارا من الزقاق صاح بأعلى صوته: طائر.. طائر.. طائر.. فيقفز من الخوف، ويعود...
كانت الصاعقة تُمزّق السماء، والضوء الخاطف لا يترك إلا ظلالًا مرتجفة.
المطر ينزل كأن السحاب ينزف، والبرد يقرص العظام.
فتح عينيه على صوت الزجاج المحطم وأنفاسه المتقطعة.
السيارة كانت مقلوبة جزئيًا، جسده مبلل بالدم والطين، لكنه لم يشعر بشيء سوى:
ـ نــــور؟!
التفت بفزع. المقعد المجاور فارغ.
باب...
بين عدسةٍ وأخرى.. رأيت العالم في أعينٍ ضريرة.. التزمت الصمت حتى ماتت في داخلي الكلمات وتحولت الحروف إلى أبجديةٍ من الأنين.. تضخم الوجع حتى ولدت الصرخة.. فأخبرت الشيطان كم هو قبيح وأخبرت تلاميذه كم هم أقبح..
خلعت ثيابي أمامه فاستدار خجلاً.. لكن لعابه سال أمام أطفالٍ بلا رؤوس..
بحثوا عن أجسادهم...