مدّدت يدي إلى مقبض الباب الذي هرأه الصدأ. حال أن أمسكت به، ترك خطوطه البنية على باطن كفي، ورؤوس أصابعي.
دفعت الباب إلى الداخل، انفتح شيئًا فشيئًا؛ فاهتز المكنون من ثقل الصرير. ما أن ولجت الجوف، حتى داهمني السواد على الفور، فلم أر في هذه الأرض، عدا الضوء الخافت المنبعث من مكان ما هناك بعيدًا...
في خريف العام ١٩٨١، كان الطقس ما زال جميلًا، استعدت لاستقبال العام الدراسي الجديد في المعهد، ارتديت بنطلونًا رماديًا وسترة أزرق اللون وقميصًا أبيض. كنت متحمسًا وقلقًا في نفس الوقت، إذ كنت أتوق شغفًا لأجواء المختبر ولقاء الأصدقاء. استقلت الحافلة الصغيرة في الصباح التي اجتمع في جوفها كلا الجنسين،...
كانت الحياة على هذه النقطة من الأرض باهتة كصرخة طفل أصم، تفوح منها رائحة الفناء. حياة ذابلة كأوراق الخريف على أرصفة الصبر، ولولا وقع خطانا وصرير أحذيتنا ولهاث أنفاسنا ودقات قلوبنا المتدفقة لأعلنت الحياة عن نهايتها. انها رحلة الموت المؤجل.
قبل ان تنشف الدماء التي سالت في حرب عبثية راح ضحيتها...
على أطراف قرية نَحْس التي تبدو كقرية الأطياف مغروسة في المستنقعات الآسنة تحت مظلة هائلة من الغيوم السوداء، كان هناك بيت قديم مهجور منذ زمن مضى. لم يتجرأ أحد العيش فيه او التقرب منه حتى كانت الاشاعات والاقاويل أعظم تأثيرا من الحدث نفسه، حيث اعتقدت الناس ان البَيْتَ مَسْكُونٌ تفوح منه روائح كريهة،...
جلست في شرفة المنزل المطلة على الحديقة، حيث امتلأت رؤيايَ بمشاهد سحرية الأشجار السامقة التي تتلألأ بألوانها الخضراء. كانت الورود العطرة تتفتح على حافات الحديقة وأسفل الشرفة، مما يملأ الهواء بعبق روائحها الزكية. الأرض كانت مفروشة بالحجارة البيضاء الصغيرة، مما أضاف لمسة من الجمال للمشهد...
الوطن لا يعني فقط التربة، النهر، السماء أو مجموعة من الناس، بل هو شعور عميق بالانتماء والإخلاص والتضامن والتضحية واحترام الذات.
إن تشعر بأن رائحة أرض الوطن لا مثيل لها؛ وإن الشمس المشرقة عليها تنشر دفء الحرية والأمان؛ وإن السماء فوقها لا تباح شرفها لمن هب ودب؛ وإن حب الإنسان للإنسان لا...
جلست على الشاطئ عند الشفق قبل أن يعلن الغسق عن حضوره؛ أنظر إلى الأفق، فأرى قرص الشمس يوشك على الاختفاء، إنه يوازي حواف مياه البحر الملتصقة بقبة الفراغ الأزرق، غارقًا تلك المساحة لهبًا حمراء يفيض اشتعالًا واتقادًا.
تأملت جمال ذلك المشهد الرهيب الذي أثار في نفسي مشاعر مختلطة، وصراعًا داخليًا...
على امتداد النظر كانت المنطقة مهجورة، وقاحلة، لم يكن فيها قائم سوى قبري الذي زرته كشبح بعد دفني فورًا. كانت السماء منخفضة، والأفق مغطى بالضباب الأصفر، وساد هناك صمت حزين، فلم أر وجوه الدفانين؛ لأن الغشاوة التي كانت تغطي عيني، قد حجبت ملامحهم.
جلست أمام ضريحي ونظرت إلى اللوحة المصنوعة من...
لقد أقبل الشتاء إلينا باكرًا، وكان الجو باردًا، حتى إن النَفَسَ التي خرجت من أفواهنا، كانت مجرد مليمترات قبل أن تتجمد. مشينا في مساحة بيضاء ناصعة، وغطى الثلج أجسادنا، حتى لم يعد من الممكن تمييزنا، بَدَونا كأشباح تتحرك في وحشة الأرض وصمتها. قوة مسلحة تخترق طرقًا صخرية، لا حياة فيها، عالَمًا...
كانت متعبةً للغاية حتى وقعت أسير النوم عميقًا وشاملًا. لم تكن لديها القدرة على الهروب من أسرها حتى الفجر، أُخلي سبيلها في ظل جو صباحي مشرق والموثق بالخضرة، تتألق في السماء أنواع الطيور.
عاشت في زمن انتشرت فيه التقنية الحديثة، ودون شك كان عقلها مبتلًا بماء تطورها، إلا أنها كانت عاكفة على قراءة...
كانت الأزقة الضيقة، والمتعرجة في ضواحي العاصمة الصاخبة، تفتقر إلى مجاري الصرف الصحي، ومنظمة لتصريف المياه. ما إن هطلت الأمطار الغزيرة، والمتواصلة في منطقتنا، حتى أصبحت الشوارع الفرعية المزدحمة مستنقعات موحلة؛ جعلت من السير على الأقدام أمرًا مستحيلًا، وتعذر المرور فيها، ولكن الأمر كان مختلفًا...
كان النهار يحتضر، والغيوم المنخفضة التحفت السهول والوديان، وجعلت من البحر رماديا، ووسعت المسافة بينها وبين السماء، فحظي جسد الطائرات بدفء الشمس الساطعة.
كانت المدينة ترزح تحت ضباب كثيف، ولم تكن الشمس قد انبلجت بعد. الخريف غزا الفصول و شرع في تعرية الأشجار من الأوراق الواهنة، التي تكدست في...
في منطقتنا سكنت عاهرة ذات تاريخ وضيع. على الرغم من سمعتها المشينة، إلا انها تمكنت من كسب شرفاء المنطقة في غفلة من الزمن. بل جعلتهم يعتقدون أنها أشرف من الشرف نفسه. على الرغم من معرفتهم لماضيها المحُقَّر بأن هذه العاهرة قد تسببت بالفعل في تدمير العائلات وفقدان الأرواح عندما عاشت سابقاً في نفس...
في قيلولة الشفق
ارى شعلة الحرائق
تمتد نيرانها على مدى النظر
فتحرك الذكريات البعيدة
لتطفو على بحر آلامي
انه الحلم القديم الجديد
يتسلق كالشبح اكتافي
أتأمل نفسي في وحشة الطبيعة
قدمايَّ تثبتان في مكانهما كالمسمار
صوت يتناهى من مكان ما
حسبت من يناديني باسمي
صراخ ينبثق من عمق التراب جروح...
أرسلت الشمس وسط جزر من الغيوم القطنية المتناثرة شعاعاً أضاء واجهات المحال التجارية بلونها القرمزي. نزل من غرفته الواقعة في الطابق الثالث وهو يركض على السلالم ويقفز بنقلات سريعة بحيث يخطو سلمين مع كل خطوة، حتى خرج الى الشارع واختلط مع صخب السيارات وحركة المارة، يدس يديه عميقا في جيبه وكأنه يبحث...
كانت مدينة لينينغراد تنساب في الأفق كمتحف اسطوري تحت سماء صافية، تأملتها هكذا وأنا أرنو إليها من خلف نافذة عربة القطار. عدت الى مقر إقامتي بعد ان انتهيت من زيارتي التطبيقية في المستشفى في المدينة السياحية عند ميناء مورمانسك المشهورة بظاهرة الشفق القطبي. حدث هذا في عام 1966.
وانا في طريق العودة...
دخلت قاعة التهريج، رأيت القرود مجتمعين، متوضئين وملء أشداقهم أصداء ضحكات هازئة تتعالى مستهينة بالجموع النائمة في دائرة التحشيش الاسبوعي.
سمعتهم يلقنون الناس المواعظ السائغة والمهلكة، ويكسون أدمغتهم بمواد وقد هرأه الصدأ، سعياً منهم تجميد سوائل العقل، وتدمير الاتصالات الخلوية مع بعضهم البعض،...