كفاح الزهاوي - وريث الجن

على أطراف قرية نَحْس التي تبدو كقرية الأطياف مغروسة في المستنقعات الآسنة تحت مظلة هائلة من الغيوم السوداء، كان هناك بيت قديم مهجور منذ زمن مضى. لم يتجرأ أحد العيش فيه او التقرب منه حتى كانت الاشاعات والاقاويل أعظم تأثيرا من الحدث نفسه، حيث اعتقدت الناس ان البَيْتَ مَسْكُونٌ تفوح منه روائح كريهة، و تصدر من جوفه أصوات كسر الصحون يتردد صداها في المطبخ وأنين يطن من الجدران. وفي جنح الليل يختلف الجن الى المنزل لتأدية طقوسهِ الماكرة بعد ان يطوف في النهار غير مرئي في القرية ويشيع الفرقة بين أهاليها.

وفي القرية كانوا يتحدثون ايضاً أن الجن وجد رفيقة له وهي ايضا جنية تسكن معه ولهم أولاد يعيشون مع بعض في نفس المنزل. هذه المنطقة يقال كانت مأهولة بالناس ولكن خلا من سكانها وانتقلوا الى ما يسمى اليوم قرية نَحسْ، بعد ان علموا بان البيت مسكون ويجلب الشر. كان يعود ملكيته الى أحد رجال الأعمال والذي تقريبا صار البيت بالنسبة له في عداد النسيان.

صارم شاب وسيم، نافذ البصيرة، نزيه وصادق، ملامحه حزينة. كان يتمتع بذهن حصيف. يوحي للمرء من أول وهلة بأن لديه نضج فكري وذو ملاحظة ذكية. هرب من الملجأ عندما كان عمره ١٣ سنة آنذاك وعاش منذ ذلك اليوم مشرد يجول في الطرقات بحثا عن المأوى والخبز.

في يوم مشمس عذب والسماء صافية وبينما صارم يمشي على ارصفة الميناء هائما على بحر من الاحزان، يجوب مرافئ السفن باحثاً عن عمل، واذا به يقف قبالة رجل جالس على كرسي هزاز يحدق في الابعاد ويستريح الى الريح المنعشة، حاملا اليه عبق ماء البحر وينظر الى حركة المراكب ويمسك بيده غليون، وتغطي رأسه قبعة بيضاء. وفجأة لمح الرجل خلف دخان غليونه المتصاعد شابا منتصب الهيئة، نحيل الجسم، طويل القامة. بادره صارم بالتحية:

- نهارك سعيد سيدي.

اجابه بإيماءة من رأسه و بصوت خفيض جداً.

- ونهارك ايضا

سكت صارم قليلا بعد سماعه رد التحية بنوع من اللامبالاة.

لاحظ الرجل ان صارم ظل جامدا في مكانه. قال له بتودد :

- بماذا يمكنني مساعدتك؟.

- انني ابحث عن عمل.

- ما نوع العمل الذي تبحث عنه؟.

- ماذا لديك من أعمال؟.

ابتسم الرجل وقال بنوع من الذهول:

- أليس أنت الذي يبحث عن العمل؟!.

- نعم

- طالما تقدمت بطلب للحصول على وظيفة، يفترض منك أن تعرف نوع المهنة التي أمارسها.

- انك على حق يا سيدي.

وهنا افرغ الرجل غليونه من بقايا التبغ على الأرض، وبعدها ضرب مرتين على معصم يده اليسرى بالغليون ليتاكد كليا من نَفْض التبغ منه.

اردف صارم قائلا:

- الأعمال اليدوية، حمل الأشياء ونقلها الى المخزن.

قاطعه الرجل:

- لدينا رافعات لأداء هذه الوظيفة. كم عمرك وما هو تحصيلك الدراسي؟.

- انا عمري تسعة عشر سنة ولدي شهادة الاعدادية. ولكن شاطر في الحسابات والتدقيق، اضافة الى كوني رسام.

- ماذا تعني رسام.

- ارسم لوحات زيتية.

- جيد سوف اعطيك عمل على سبيل التجربة و سوف تتقاضى أجور يومية.

- شكرا لك سيدي. ومتى اباشر بالعمل.

- غدا تأتي في الساعة الثامنة صباحاً لملأ الاستمارة وتزويدنا بالمعلومات عنك.

ثم اردف قائلا:

- بالمناسبة أين تسكن.

قال له وامارات الخجل ارتسمت على وجهه.

- انا اسكن في معمل مهجور. ليس لدي سكن خاص بيّ.

- لا بأس تأتي غدا ونتحدث اكثر بالتفاصيل.

وفي يوم الثاني جاء صارم مبكراً ينتظر قدوم الرجل. انتابته مشاعر مختلطة بين القلق والأمل.

كانت المقابلة جدية تخللتها أسئلة متعددة. وفي كل جواب يظهر بوادر الارتياح على امارات الرجل.

ثم سأل الرجل صارم:

  • انت قلت انك تفتقر الى السكن وانك تعيش في مصنع مهجور. كيف انهيت دراستك الاعدادية؟.
  • كنت اعمل بالنهار أعمال متفرقة وكما قلت لك بانني رسام. كنت اقضي بعض الوقت في رسم اللوحات وبيعها بثمن بخس واحيانا اخرى أقف في الساحات العامة وارسم المارة واحصل على بعض النقود، وبينما في المساء كنت ادرس. ولأنني كنت متفوقا في الدراسة سمحوا لي باجراء امتحان للدروس التي لم نزل خضنا غمارها. فتم تقديمي الى الصف النهائي.
عبر الرجل عن إعجابه بقدراته الأكاديمية. فقال له:

  • لقد مررت بصعوبات كبيرة في حياتك وكافحت بجد رغم انك لا زلت يافعا.
أردف الرجل:

  • سوف أُنيط اليك عمل إداري، يتعلق بسجل الحسابات.
شعر صارم فجأة ازالة رواسب الأحزان المتراكمة قد نضا من مسامات الزمن العسير. وهكذا ابتدأت حياته.

لم يعد صارم يشغل باله بالمسكن القديم بعد ان سمح رب العمل له ان يتخذ من مستودع صغير تابع لشركته مسكن وقتي لحين ان يجد مأوى مناسب أكثر راحة بدلا من مكانه المهجور والعيش في عزلة.

لقد شُحذ فكره و أُرهفت مواهبه و أُضيئت بصيرته منذ ان انطلق الى عالمه الجديد في فضاء متجدد والسعي الى الاستقرار النسبي ورؤية الأمل في الأفق يتلألأ ووميض مشع ينير الاحلام.

وهكذا مضت على الشاب الكفوء في وظيفته الجديدة لدى الرجل أكثر من سنة بقليل. كان مثالاً للطاعة وحب العمل. تميز بالتواضع والإخلاص تجاه التزاماته و رب العمل. و تكريما لمجهوداته و انجازاته وحبه لصارم أهدى الرجل بيته المسكون له. وبذلك امتلك لأول مرة ارضاً يستوطن عليها. وهو بدوره قام تباعاً بإدخال إصلاحات على المنزل. بدأ بتغيير أرضيته و تكشيط الحائط وترميمه من جديد وبعدها قام بصبغ الحيطان باللون الأبيض، حيث انبثقت منها روائح نتنة انتشرت في أروقة البيت بسبب الرطوبة. أما النوافذ فكانت في انهيار وتصدع وهي على وشك ان يلتهمها الصدأ. أما حديقة المنزل فقد اولى بها اهتماما عظيما. بعد ان كانت كأرض جرداء مليئة بالعشب الضارة. قام بحفر الأرض وتقليب التربة، وبعدها اشترى بذرات الحشيش ونثرها على طول الحديقة. كما خصص جزء صغير من الحديقة في زراعة الخضروات والفواكه. كان يمتلك دراجة هوائية قديمة بعد إصلاحها راح يستخدمها كوسيلة النقل من مكان إقامته إلى العمل.

وفي احد الايام داهم صارم رغبة تدفعه الى زيارة قرية نَحْس التي تقع على مسافة بمقدار ثلاثة كيلومترات عن بيته الجديد. كانت القرية يستوطنها الفلاحون، حيث يعيشون في ظروف اجتماعية بائسة، تلفها تقاليد بالية وعقول متحجرة غير قابلة للتفتت. لمح صارم عن بُعد جمهرة من الناس. دنا منهم بعد ان راوده الفضول.

تفرقت الناس وغادرت مكان التجمع، وقف صارم مشدوها امام ذلك المنظر اللانساني، وهو يتمعن في الجثة الراقدة على الأرض ملطخة بالدماء و رأى بلا شك شق حول العنق أدرك بوضوح انه أثار ذبح. وعلى مقربة منها وقف شابين يبدو انهما ليسا من أهل القرية يتحدثان.

قال الشاب بالقميص الأزرق الغامق لصديقه الذي كان يبدو على قسمات وجهه علامات الأسى، لأنه ظل يراقبها بعينين حزينتين طوال الوقت وهو يستمع اليه:

  • ليس خطأها… كانت تعمل في الميناء و تبيع ما تنتجه العائلة من الزراعة كالبطاطا والجزر وبعض الخضروات الأخرى، في أحد الأيام عندما وصلت الباخرة الى المرفأ. نزل رجل وهو من الطاقم الباخرة وتوجه صوبها هناك، حيث مكانها المعتاد ان تقف، طلب منها ان يشتري كل المواد ودفع لها مبلغا مغريا أيضا.
وصاحبه يتمزق في أحشائه وهو يصغي السمع الى كلماته واردف قائلا:

رددت الفتاة الشابة:

  • ولكن هذا المبلغ كبير.
أجابها الرجل:

  • لا عليك فأنت سوف تساعدينني فقط في حملها الى داخل الباخرة وبقية المبلغ اعتبريها مقابل عملك. وعندها قامت بإدخال الاشياء الى الباخرة، كان الرجل يقود الطريق وهي تخطو اثره حتى وصلوا عبر بعض المنافذ الضيقة وبعدها الى داخل الغرفة.
التفت صديقه إليه وعيناه احمرتا من الألم، وكادت الدموع تنهمر من مقلتيها.

ثم واصل الشاب حديثه:

  • كانت نية الرجل دنيئه استدرجها بهذه الطريقة الى مضجعه وراح يتمتع بجسدها الجميل وكما ترى بأم عينيك. شعر اسود طويل، نهداها كأنهما تفاحتان من حدائق الجنة. كان فمه النتن يلتهم شفتيها النديتين كحيوان مفترس حتى تمكن من خلع سروالها الداخلي وولوج قضيبه بين فخذيها وقضى على عذريتها وادماها بسبب النزيف.
رد صديقه:

  • وماذا جرى مع المجرم،السافل.
  • نعم أثناء نقل الفتاة إلى المستشفى. كانت الشرطة حاضرة وقد دونوا أقوالها وألقوا القبض على الجاني. الذي لم يعترف بخطيئته وادعى بأن الفتاة هي التي جاءت إليه طواعية ولكن بعد ان أغوته ولم يعتقد انها لا ترغب وإنما اعزى تصرفها الى عامل الخجل.
  • وماذا فعل أهل الفتاة؟.
  • ماذا تعتقد. تجاهلوا كلام ابنتهم وقاموا بذبحها صونا للعار.
غَسَقَتِ السماءُ وراحت تزيل الدماء عن جسدها حتى أعادت الفتاة انوثتها، وتضوعت الأرض بعبقها..

شعر صارم بدوار في رأسه والألم يعتصر قلبه وهو يصغي الى قصة هذه الفتاة البريئة من الشابين وهي تفترش الأرض وتبكي عليها السماء. شعر بالشفقة عليها، كانت جميلة الى درجة يصاب الانسان بحرج ان يلمسها كي لا يفسد ندى نعومتها وتناسق قوامها.

مرت أيام وليالي وعالمه يزدهر والأرض الخصبة تعطي ثمارها في خضم الإيقاعات الرتيبة للحياة وفي متاهات ذلك الحيز من الخواء العقيم والأحلام التي تنتج عنها كوابيس مرهقة. بدت حياته تنعتق وتتفتح ويرى شعاع التفاؤل والامل يدخلان من نافذة المستقبل فيلتقط بعينيه بريقه ليلقي بالعزلة الى الضوء.

وما ان لبس الليل ثوبه الأسود، بدأت الجراثيم الراكدة في اجساد العقول الهزيلة تستيقظ هائجة تحمل فايروسات المتراكمة في مستنقع الظنون لعالم مندحر، عالم يرى فيه الانسان نفسه خارج الزمن. وهكذا تجمع أهل قرية نَحسْ بعد ان جاءهم رسول من القطيع يبلغهم بعودة الجن الى المنزل وأنه رأى من النافذة بأم عينيه ظله وهو يتحرك على جدران الغرفة وسمع ايضا اصوات الموسيقى والغناء واعتقد انهم كانوا ينظمون حفلة، احتفاءً بزواج جنية، امام منزل صارم حاملين المعاول والمناجل. هبَّ القوم في ثورة الجهل كأعصار هوجاء عازمين على اجتثاث الجن وحرق المنزل.

خرج صارم من الحمام بعد الاستحمام مباشرة والمنشفة الحمراء على رأسه وقد بلغ الى سمعه ضجيج أصوات ينداح صداه خارج المنزل. وحال هبوطه امام باب الدار، خيم صمت على أجواء التجمع، ذلك الصمت المنذر بالشؤم كلحظة هدوء قبل عويل العاصفة لمعرفة ما يجري خارج المنزل. تقهقر الفلاحون البسطاء قليلا الى الخلف ونار الشر والضغينة تعكس دخانا كالفحم في عيونهم، عندما سقطت نظراتهم في العتمة على كائن غريب منتصبا، مَدِيد القَامَة، نحيفا. وقد أصابهم الذعر. وإذا بلحظة تهتاج العاصفة حتى تنفجر مكنون اللاوعي كالبركان منتفضا. لم يجد صارم سبيلا الى الهرب فوقع لقمة سائغة في فم الوهم. انقضوا عليه ومزقوه اربا اربا واحرقوا البيت الذي تراءى كجنائن المعلقة بحديقته الجميلة الباعثة على الحيوية والانبهار وزهورها المتفتحة بألوانها البهيجة و بروائحها المنعشة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى