قلة من الكُتّاب يملكون الجرأة على خوض معركة المعنى، وأقلّ منهم من يخرج منها سالمًا دون أن يفقد حسّ الحكي ومتعة السرد.
أما شريف محيي الدين إبراهيم، فقد كتب نصوصًا فلسفية، رمزية، مثقلة بأعمق الأفكار، لكنها ظلت ممتعة، مشوّقة، آسرة.
هنا تكمن المعادلة الصعبة التي نجح في حلّها، ونجا بها من أنياب...
كرهته كما لم أكره أحدًا في حياتي.
وأنا لا أكره الناس بسهولة!!
كان شيئًا آخر.
كائنًا من زمنٍ آخر.
صامتًا أكثر مما يليق ببشر.
ملامحه جامدة، ونظراته تحمل شيئًا من التحقير الخفي.
لا يبتسم، لا يمزح، لا يعلّق.
يسير بيننا كأننا غير موجودين.
كأننا ظلال، أو هواء... أو لا شيء.
همّام عبد الجليل الباشا...
لم يكن يعلم أن العالم، بكل وسعه، أضيق من أن يحتويه.
ارتجف.
ودّ لو يبكي.
لكن دقّات الساعة القديمة، المعلّقة خلفه على الحائط، أعادته إلى ما يشبه نقطة الصفر.
الساعة، ذات الإطار النحاسي المهترئ، لم تكن تدقّ دائمًا.
كانت تتوقف حين يغضب، وتسرع حين يشتدّ ندمه.
كأنها تعرف أكثر منه.
أُعلن عن وفاته،...
– سأصل إلى هناك، أو إلى ما هو أبعد...
قالها لزوجته، مشيرًا إلى نجم وحيد في السماء.
ضحكت بسخرية، لكنه أضاف، كمن يُنذر:
– من يطلب الضوء... لا ينجو من الاحتراق.
ومن يصعد دون أن يحمل قلبًا خفيفًا، يسقط بثقله.
هو لا يشبه أهل الحي.
يخرج كل صباح ببدلة نظيفة، وحقيبة صغيرة.
لا أحد يعرف أين يعمل، أو متى...
قبل أن تبدأ الحكاية :
لم يكن الكوكب الأزرق كوكبًا، بل غمضة من عوالم لا تُقاس بالعيون.
لم يهبط من السماء، بل صعد من نداءٍ قديم، حين احتاج النور إلى ممرّ، والسرّ إلى جسد.
بعض العروش تُعبر ولا تُملك، وبعض الأبواب تفتح مرة واحدة، ثم تختفي كأنها لم تكن.
الذي مشى عليه لم يكن ملكًا، بل أثرًا، وظله ليس...
(شهادة جيل من الثغر ،لم ينتظر إذنًا للكتابة)
لازالت ظلال سدنة المعبد تحاول الهيمنة.
رغم تغيُّر المشهد، وتبدّل الأسماء، وتراجع السطوة القديمة…
لا تزال قبضتهم تتشكل في الظلال، بأقنعة مختلفة:
لجان تحكيم، مكاتب تحرير، لقاءات أدبية مغلقة،
وتحتها، يستمر نفس السلوك القديم:
من يحق له أن يكتب؟
ومن...
لم يكن يمرّ فقط.
كان يتبعني.
أول مرة رأيته، كنتُ صبيًّا في العاشرة،
ألعب بالرمال ، أبني قِبابًا صغيرة كمآذن وهمية،
أزرعها في فناء البيت كأنني أُقيم صلاتي الخاصة.
ظهر عند باب الدار رجلٌ غريب، نظر إليّ طويلاً. لم يتكلم.
خطا سبع خطوات، ثم اختفى.
صرخت:
ـ يا أبي، ثمة رجل يحدّق بي!
مسح أبي على...
في مساءٍ مُثقَلٍ بالضباب، توغّل "ليان" في الغابة الكبرى، يحمل ورقةً قديمة مهترئة، كتبتها أمّه "سيرينا" قبل أن تختفي منذ أعوام.
كانت الورقة تقول:
"حين تسمع زئيرًا لا يشبه زئير الوحوش، اتبع الوحش ذا الرؤوس الثلاثة… وابحث عن راميس."
لم يكن يعرف من هو "راميس"، ولا ما معنى "زئير لا يشبه زئير...
تمهيد:
حين تقرأ "دموع الذهب" لا تقرأ قصة بالمعنى التقليدي، بل تدخل في نصّ كاشف/مُشفّر/مُلهِم، كأنه مكتوب على هامش نبوءة لم تُفكك بعد.
نصّ كُتب تحت ضغطٍ داخلي عظيم، وفي لحظة من تلك اللحظات النادرة التي تتجاوز فيها الكتابة ذاتها لتصبح بصيرة
النص والرمز: سرد أسطوري بلُغة معاصرة
شريف محيي الدين...
الأدب أولا...
كيف يقود الأديبُ العالَم؟
القصة القصيرة هي درّةُ الفنون، ومنتهى الإبداع، وتاجُ الإنسانية؛ القيمة التي تجاوزت الخيال.
هل سأل أحدهم من قبل:
من اخترع الطيران؟
من تجرأ أولًا على الصعود إلى الفضاء؟
من تخيّل أن يُنقل قلبٌ من جسدٍ إلى آخر؟
ليس العالِم، بل الكاتب.
ليس المهندس، أو...
تغيّر أبي كثيرًا!!
لم يكن الأمر مجرّد كِبَرٍ في السن، أو مرضٍ خفي، بل حزنٌ كثيفٌ يسكن عينيه، كأنّهما تحملان كلَّ قبحِ العالم.
كان يجلس بالساعات، لا يتحرّك، يتأمّل الجدران كأنّها شقوقٌ في ضمير البشرية.
يرى الأخبار، فيُغلق التلفاز دون تعليق.
يرى الناسَ في الشارع، فيشيح بوجهه، كأنّه لا يطيق النظر...
حين يكتب الروائي عن الناس، يكتبهم كما رآهم لا كما أرادوا أن يُروا.
وحين يكتب من "قلب الشارع"، كما قال شريف محيي الدين إبراهيم في شهادته المؤثرة عن روايته شارع العَزَب، فهو لا يدوّن فقط يوميات العابرين، بل يغامر بخلخلة أسطورة "الستر" التي يعيش تحتها مجتمعٌ لا يحتمل أن يرى وجهه الحقيقي في المرآة...
حين كتبت شارع العَزَب، لم أكن أكتب رواية فحسب. كنت أستعيد الوجوه التي مرّت بي، تلك التي ضحكت في وجهي، وتلك التي صفعتني بصمت.
كتبت من قلب الشارع لا عنه، من بين صرخات نسوة الشارع وصخب الأطفال ، ورائحة الخبز في الصباحات المبتلة بماء البحر ،
لم أكن أختلق، بل كنت أستحضر، أستلّ من ذاكرتي وجعًا...
في مملكة الحروف، حيث تُعبد الكلمة وتُصلب الفكرة، انقسم الناس إلى قبيلتين:
قبيلة البلاغيين: لا يشغلهم إلا النحو، والإعراب. يعبدون الحرف، ويشنقون من يُخطئ في نصب المفعول به.
وقبيلة التراثيين: ينامون على ركام الكتب القديمة، يتبعون كل ما هو ماضٍ، لا لشيء، إلا لأنه قديم.
وعلى هامش المملكة، حيث...
كان النهار باهتًا...
يمرّ الناس، كأنهم أطياف تعبر الحكايات،
ويجلس هو، كمن يُصلح صدعًا في الوقت بكلمة.
نديم، رجل لا يرفع صوته،
لكن إذا كتب، اهتز شيء لا يُرى.
كأن بين الحبر والروح ممرًا سرّيًا،
لا يعبره إلا من تدرّب على الخسارة.
في البيت، لم يكن الغياب خارج الباب،
بل في العيون، في الأصوات،
في...