كرم الصباغ

تواجه القناة الضَّيِّقَةُ صفًّا من دور النَّجع، بينما تلامس حافَّتها الأخرى سياجًا شائكًا من أشجار السَّنط، يمتدُّ بطولها، ويخفي ما ورائه من الحقول. حينما تكون القناة خاليةً من الماء، يلهو الصّبيان في مجراها، تنبش أظفارهم قاعها الرَّخْوَ؛ فتتلطَّخ أيديهم بالطِّين والرَّمل، وتصبح الضَّفادع، و...
يقبلون من بعيدٍ، أسمع صخب أصواتهم، وأصداء ضحكاتهم تتردَّد في الفضاء؛ فيرتجف قلبي فرحًا. يقتربون من داري رويدًا رويدًا، يجدونني بالخارج، أجلس بجوار الباب، كما جرتِ العادة. يمرُّون بمحاذاتي، يلقون علي تحيَّة الصَّباح؛ أشحذُ بصري الكليل، أتصفَّح وجوههم السَّمراء. الشَّمس فوق رءوسهم قرصٌ ملتهبٌ،...
ها أنا أجلس إلى مكتبي، أمامي أوراقٌ شاغرةٌ، أُقَلِّبُ بصري في دوائر الدُّخان المتصاعدة من سجائرَ، أشعلها الواحدة، تلو الأخرى، أطردُ أنفاسها؛ فَتَخْرُج، وَ قَدْ اختلطت بأنفاسي الحارقة. أتذكَّرُ مقولة أحدهم: ندخن؛ لنخفَّفَ من همومنا. أتحسَّس حجرًا ثقيلًا يجثم على صدري؛ فأرمق الأعقاب الَّتي...
يبدو الطَّقس مثاليًّا لمباشرة عملي؛ فالنَّهار قَدْ تنازل عن صحوته، وتلوَّن بغبشةٍ داكنةٍ؛ والغيوم غاضبةٌ، حجبت الشَّمس، وراحتْ تصبُّ ماءها كسياطٍ مؤلمةٍ فوق شارعٍ صاخبٍ مضطربٍ، يشتهي السُّكون. المارَّة يهرولون بوجوهٍ بلاستيكيَّةٍ صوب مظلَّات المحلات، و مداخل البنايات، و المياه...
عادةً ما يستظلون بظلال أشجار (الجازورين) عصرَ كلَّ يومٍ؛ فيفترشون الرمل، ويشكّلون بأجسادهم حلقةً كبيرةً، داخلها يجلس لاعبان وجهًا لوجهٍ، يفصل بينهما رقعة (سيجا) ذات مربعاتٍ متجاورةٍ، رُصَّتْ داخلها حصواتٌ، يحركها اللاعبان بحذرٍ. وسرعانَ ما تتوالى الحركات المباغتة؛ فيضيق الخناق، وتُسدُّ المنافذُ...
بلا عينين لم يستطع رؤية الأكياس الفارغة، والنّفايات الطَّافية على صفحة الماء. ربما دفعته الرَّوائح الكريهة إلى استشعار أنَّ المنظر شديد الكآبة لدرجةٍ دفعته إلى الاستدارة، وإعطاء النَّهر ظهره، لكنَّه سرعان ما تذكر ما خرج من أجله؛ فعاد إلى استقبال صفحة الماء بصدره من جديدٍ. خمسمائة خطوةٍ لركبتين...
تقصد العرائس دارها الكائنة في طرف النجع الشماليّ قبيل الزفاف، و بالتّحديد صبيحة ليالي الحناء، يدخلن منطفئاتٍ ذابلاتٍ، فتجهزهن بالأحجار، والعجائن، ثُمَّ تعمد إلى حنائها، تخلطها بالزّيوت. نقش الحناء صنعتها، تستقبل بوجهها النّسوة والفتيات والبنات، تجثو أمامهن، وتنكبُّ على أيديهن، وأقدامهن...
يحشر كل ليلة في شقة ضيقة كعلبة السردين، يحاصره الحر الغليظ؛ فيسارع إلى فتح النافذة التي حرص-غالبا- على أن تبقى مغلقة؛ مخافة تسلل الفئران، التي تدخل في تبجح، و لا تبالي على الإطلاق بما تتركه في قلبه و بدنه من التقزز و القشعريرة؛ فتجوس للحظات خلال شقة شبه عارية كادت تخلو من الأثاث، و تسارع إلى...
يُحْشَرُ كُلَّ ليلةٍ في شقَّةٍ ضيقةٍ كعلبة السَّردين، يحاصره الحرُّ الغليظ؛ فيسارع إلى فتح النَّافذة الَّتي حرص-غالبًا- على أَنْ تبقى مغلقةً؛ مخافةَ تسلُّل الفئران، الَّتي تدخل في تبجُّحٍ، و لا تبالي على الإطلاق بما تتركه في قلبه و بدنه من التقزُّز و القشعريرة؛ فتجوس للحظاتٍ خلال شقَّةٍ شبه...
تخطر في فستانها الوردي؛ فتضحك الشمس لشمس أخرى، ظهرت للتو في وجه البنت، الذي أشع منه الضوء، بينما راح شعرها الأسود الناعم يعلن عن وجوده بنشر العبير في أرجاء المكان. ثمة فناء واسع، يقع مباشرة أمام البيت المبني بالحجارة العتيقة، التي احتفظت بصلابتها رغم مرور السنين. للفناء سور عال...
بلا عينين لم يستطع رؤية الأكياس الفارغة، والنّفايات الطَّافية على صفحة الماء. ربما دفعته الرَّوائح الكريهة إلى استشعار أنَّ المنظر شديد الكآبة لدرجةٍ دفعته إلى الاستدارة، وإعطاء النَّهر ظهره، لكنَّه سرعان ما تذكر ما خرج من أجله؛ فعاد إلى استقبال صفحة الماء بصدره من جديدٍ. خمسمائة خطوةٍ لركبتين...
في الفصل ذي الطِّلاء الأصفر الباهت، يرمق تلاميذه بضيقٍ، ويترَّقب جرسَ انتهاء الحصَّة الأخيرة. إنَّ مزاجه متعكرٌ اليومَ؛ إذْ نفدت سجائره منذ ليلةَ أمس، و لم يملك المال اللَّازم لشراء علبةٍ أخرى، حتَّى فنجان القهوة، و بُنّه المغشوش لَمْ يحظ بهما هذا الصَّباح؛ فعاملُ البوفيه- ناهيكَ عن حسابه...
شدَّوا العمائم على رءوسهم الذائبة في سعير الحر، و الشمس، وجرجروا أقدامهم و نعالهم، التي ثقبها الحصى على الرمل، و ترنحت من حولهم كباش هزيلة، ونعاج ضامرة البطون. منذ متى، وهم هائمون على وجوههم في تلك الصحراء الحارقة؟! منذ متى وخيبة الرجاء لا تفارق تجوالهم؟! من وقت إلى آخر كانت المراعي الخضراء و...
في عنبر الجراحة أفرغت عاملات النظافة محتويات السلال الممتلئة بالقطن، و الشاش، و المحاقن ، و الإبر المستعملة في حاويات القمامة، و حرصن على سكب (الفنيك)، و المطهرات، و تنظيف درجات السلم، و الردهات، و الجدران، و غرف المرضى، و أسرتهم، و قمن بنزع الملاءات القديمة الملطخة ببقع الدم، و فرش ملاءات...
جثت "نورا" على الشاطئ، و راقبت بعينيها الشاردتين بيوت الرمل، التي شيدتها صغيرتها اللاهية، ثم انصرفت ببصرها، و انهمكت في تأمل فورة الموج، و الزبد. كان صدرها مثقلا بالهموم إلا أن رائحة اليود التي تسللت إلى صدرها ، منحتها شيئا من الانشراح، في حين لم يكف رذاذ الهواء الطري الذي تطاير في...

هذا الملف

نصوص
67
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى