كرم الصبَّاغ - صَخَبٌ...

تواجه القناة الضَّيِّقَةُ صفًّا من دور النَّجع، بينما تلامس حافَّتها الأخرى سياجًا شائكًا من أشجار السَّنط، يمتدُّ بطولها، ويخفي ما ورائه من الحقول. حينما تكون القناة خاليةً من الماء، يلهو الصّبيان في مجراها، تنبش أظفارهم قاعها الرَّخْوَ؛ فتتلطَّخ أيديهم بالطِّين والرَّمل، وتصبح الضَّفادع، و طعوم الأرض البُنِّيَّة صيدًا سهلًا، تظفر به أياديهم المُدَرَّبَةُ. بين جذوع و فروع أشجار السَّنط مخابئٌ سِرّيَّةٌ، من بينها يطلُّ من وقتٍ إلى آخرَ أحد الثَّعابين؛ فيعلن عن ظهوره بفحيحٍ، ينبِّهُ الصّبيان، وما إِنْ ترتجف قلوبهم لرؤيته، حتَّى يرتدُّ الثُّعبان سريعًا إلى مكمنه الملغوم بالخطر.
أن يعايرك أحدهم بالجبن لأمرٌ أشدّ إيلامًا من عضَّةِ ثعبانٍ، تلك عقيدةٌ رسخت في قلوب صبيان النَّجع، دعتهم دائمًا إلى البقاء بالمجرى، ومواصلة النَّبش رغم ما بهم من رعبٍ، و دفعتهم إلى التَّباري فيما بينهم، والاقتراب من جذوع أشجار السَّنط لأقرب مسافةٍ ممكنةٍ. تحرِّضهم سرائرهم؛ فيقتربون من السَّياج، يحاذرون أن تنغرس في لحومهم أسنَّةُ الشَّوك، أو أسنانُ الثَّعابين، تتعالى دقَّاتُ قلوبهم، ويدقِّقون أبصارهم بحذرٍ وتوجسٍ، وَسُرعانَ ما يختلط خوفهم بلذَّةٍ خَفَيَّةٍ، تزيدهم التصاقًا بالمجرى الصَّاخب.
يتوجَّه أحد الكهول إلى حافَّة ترعة "الجَنَّابِيَّةِ"، حيثُ تَصْطَفُّ ماكيناتُ الرّي على مسافاتٍ متقاربةٍ في خَطٍّ مستقيمٍ. يدير الكهل ماكينته؛ فيصعد الماء من التّرعة، و يتدفَّق عَبْرَ خرطومٍ واسعٍ في مجرى القناة. يبصر الصّبيان الماء الزَّاحف نحوهم؛ فيقبضون على متعةٍ، أوشكت أن تزول، يرقدون على ظهورهم؛ حتَّى يغمرهم الماء، يلهون بقلوبٍ منقبضةٍ، و غضبٍ دفينٍ. وعلى النَّقيض تستبشر نسوة الدُّور القريبة؛ فيحملْنَ فوق رءوسهنَّ حصائر "السَّمر"، ويَقُدْنَ في طريقهنَّ حشودًا من البطِّ، وَالْإِوَزِّ، تعرف طريقها جِيدًا إلى مجرى القناة، وما إِنْ تحتلّه، حتَّى تتخلَّى النِّسوة عن وجوههنَّ النَّاعمة، و بوجوهٍ أخرى خشنةٍ يَطْرُدْنَ الصِّبيان؛ فينسحبون عراةً، لا يستر أجسادهم سوى سراويلَ قصيرةٍ. و بقلوبٍ مغمومةٍ، وأعينٍ يتطاير منها الشَّرر يقفون بالقرب من القناة. وعندما تقرأ النسوة في أعينهم الرَّغبة في العودة والمشاكسة، يُرْسِلْنَ شتائمهن ككلبٍ عَقُور، يطاردهم، ويجبرهم على الابتعاد بقلوبٍ تملأها الحسرة على متعةٍ، تبخَّرتْ في الهواء.
تخرج من دارها، تسير بخطواتٍ وئيدةٍ، يَرْتَجُّ جسدها البدين تحت جلبابها الزهريِّ، تصل إلى القناة. تبصرها الفتيات، يلقي بعضهنَّ حصائرهنَّ جانبا، ويسارعْنَ إليها، ويتنافسْنَ في التقاط الحصر من فوق رأسها. تطربها المنافسة؛ تقلب بصرها في وجوههنَّ، تشير بيدها إلى أشدّهنَّ حسنًا؛ تناول الفتاة المختارة حصائرها؛ تشمخ الفتاة برأسها، تبدأ في غمر الحصائر في الماء، وتحاول إظهار مهارتها في التَّنظيف، في حين ترتدُّ الأخريات إلى حصائرهنَّ المهملة بقلوبٍ يأكلها الغيظ.
الزَّغاريد تنطلق من دارها، تتردَّد في فضاء النَّجع، تخرج النسوة، يسألْنَ بعضهنَّ البعض عن المصدر، والسبب. يتوجَّه فريقٌ منهن إلى دارٍ مجاورةٍ لتقديم التَّهنئة، بينما تمصمص نساءٌ أخريات شفاههنَّ، ويتطلَّعن بأسى إلى وجوه بناتهنَّ الفائرات، الَّتي اكتستْ بالحزن، والوجوم.
في صبيحة اليوم التَّالي، تضجُّ القناة بنبَّاشي القاع الرخو، ومع ارتفاع الشَّمس، يمتلئ المجرى بالماء، وينسحب الصِّببان مذعنين، وبينما تنهمك النِّسوة والفتيات في الثَّرثرة والتَّنظيف، تُقْبِلُ هي بحصائرها، وما إِنْ تبصرها الفتيات والنِّسوة، حتَّى يُمْسِكْنَ عن الكلام. تلقي عليهن تَحِيَّتها؛ فتخرج ردودهنَّ خافتةً فاترةً. تنتظر أن تنهض الفتيات لعرض مساعدتهنَّ كما تعوَّدتْ، و لكنَّ الفتيات، لا يفعلن؛ فيربدُّ وجهها؛ وتطرح حصرها أرضًا، وترفع جلبابها إلى أعلى؛ فتبصر النِّسوة ساقيها البيضاوين لأول مَرَّةٍ. و بينما هي في قلب مجرى القناة منهمكةٌ في غسل الحصر؛ إذْ بصياح الإوَّز، و قرقرة البطِّ يقطعان الصمت الطَّويل، وإذْ بصخب الصِّببان يُنْبِئُ بغارة وشيكةٍ لاستعادة مجراهم المغتصب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى