بوجه متغضن، و لحية جار عليها الشيب، يفك العجوز شاله "الكشمير"، و يلقيه جانبا، بينما تغوص عيناه في ركية الجمر، التي استقرت داخلها " البشعة"، ربما كان هذا الاسم يغني عن الوصف؛ فلملعقة النار تلك مقبض خشبي، و رأس معدني مستدير، يتميز غيظا، بعد أن يعيره الجمر السر، و الحرارة، و...
تهبط من إحدى السيارات، التي دخلت الموقف للتو، تنجذب إليها الأعين. أربعينية، طويلة، بيضاء، تستر جسدها الممشوق بعباءة سوداء، و تتدلى خصلات شعرها الناعم من تحت طرحتها الخضراء، عيناها أخلصتا للضدين الأبيض الرائق، و الأسود الحالك، فأظهر اللونان جمال بعضهما البعض، و أضفا على عينيها سحرا و جاذبية،...
الوقت مرايا مهشمة. مشارط الغروب تفتح الجراح المغلقة، و ترتل كتاب الحزن في قلب عجوز. على الحصير المتآكل بسطت المائدة. قرآن المغرب ينثال رخيما من الراديو. أبدا لم تنس وضع الزيتون و تزيين المائدة بصحن التين؛ كي يشق يحيي صومه بالعسل الرطيب. اتكأت على عصا قديمة، جثت أمام فرن الحطب القابع في ذيل...
يهبط السلم بتمهل شديد، تنقر عصاه رخام الدرجات بإيقاع بطئ، يتناسب مع ما يستغرقه من زمن بين كل درجة و أختها، يخترق سمعه صراخ الجارات، و صخب أطفالهن، و صيحات السكان الجالسين أمام الشاشات عقب إحراز هدف في مباراة، اشتعلت للتو. تقبل الأصوات عالية مزلزلة من خلف أبواب الشقق الموصدة. يبتسم ابتسامة...
تخطر في فستانها الوردي؛ فتضحك الشمس لشمس أخرى، ظهرت للتو في وجه البنت، الذي أشع منه الضوء، بينما راح شعرها الأسود الناعم يعلن عن وجوده بنشر العبير في أرجاء المكان. ثمة فناء واسع، يقع مباشرة أمام البيت المبني بالحجارة العتيقة، التي احتفظت بصلابتها رغم مرور السنين. للفناء سور عال...
عادة ما يستظلون بظلال أشجار (الجزورين) عصر كل يوم؛ فيفترشون الرمل، و يشكلون بأجسادهم حلقة كبيرة، داخلها يجلس لاعبان وجها لوجه، يفصل بينهما رقعة ( سيجا)، ذات مربعات متجاورة، رصت داخلها حصوات، يحركها اللاعبان بحذر. و سرعان ما تتوالى الحركات المباغتة؛ فيضيق الخناق، و تسد المنافذ و...
في ليل شتوي موحش، يتململ في فراشه، ذات اليمين و ذات الشمال، و تتحسس يده المرتعشة الصخرة الثقيلة الجاثمة على صدره، و سرعان ما تمتد إلى ساقه المبتورة؛ فتهاجمه الأوجاع بضراوة؛ يشعر بأن المناشير لا تزال تنهش لحمه و عظامه، يشعر بآلام حية، لا يسكنها مخدر؛ فيلوذ بالجدران، و تنهمك...
بمجرد وصولها إلى المرعى، تقطف الفتاة شيئا من الكلأ الأخضر، و تمده إلى عنزاتها. و ما إن تدنو إحدى العنزات، حتى تطوقها بذراعها اليسرى، بينما تبدأ يدها اليمنى في اعتصار حلمتي الضرع برفق، يناسب طباعها الهادئة كفتاة تشبه اليمام، تتنقل بين عنزات خمس حلوبة، مثلت ألبانها مصدر رزقها الوحيد. تغطي آنية...
يسير خلفهن بتمهل، راشقا عينيه في أجسادهن، لكنه سرعان ما يتذكر صاحب المزرعة، ذلك الرجل، الذي تهون عليه روحه، و لا تهون عليه خسارة حبة عنب واحدة، و لا يتحمل قلبه خسارة جنيه واحد، يتخيله منفعلا، يوشك أن يصاب بجلطة قلبية أو دماغية من فرط الغضب؛ يخشى أن يستبعده، و يأتي بمقاول أنفار آخر؛ فيستفيق...
(1)
أمام المرآة وقفت مهرة، فكت جدائلها، و راحت تمشط خصلات شعرها المسدل بشرود، ثم انهمكت في تزيين وجهها بمساحيق التجميل؛ فبدت كتفاحة شهية. الساعة جاوزت السادسة صباحا، عادة ما يعود بعد الشروق متثائبا متثاقلا منهكا، يلتهم لقمتين بالكاد، و يطبق جفنيه، و يسلم جسده النحيل إلى...
حارات الموقف الواسعة تودع سيارات، و تستقبل أخرى وصلت للتو من أسفارها. الصخب يرج المكان، الأبواق زاعقة، و المنادون يهتفون بأسماء المدن و البلاد. تسمع من حين إلى آخر ألفاظ نابية تنفلت من حناجر السائقين، و النساء، و البنات العابرات يسرعن في سيرهن دون التفات. يلقى المارة حقائبهم الثقيلة...
أعمدة الإنارة نوافير ترش الضوء؛ فيعانق النور السيل المنهمر من سماء دمنهور الناعسة. قطرات المطر قابلات يلقنّ الأشجار المبتلة و الأسفلت اللامع نشيد الميلاد. تستيقظ الشوارع من سباتها على وقع خطواتنا، على كراسي الخيزران تنكمش أبداننا حول منضدة في صدر مقهى (البنا) العتيق، نصطلي بدفء الزجاج و سخونة...
خرج من داره، و في عينيه بقية من نعاس. كان النهار لا يزال وليدا، و كان الجو مغلفا بضياء شحيح، امتزج بظلمة، أوشكت أن تنقشع. كان أمين في عجلة من أمره؛ فلم ينتبه إلى تصدع سياج الفناء، الذي بناه منذ سنين باللبن الأخضر. كانت التشققات حديثة، بحيث لم تنتبه إليها زوجته التي خرجت في إثره. اعتلى أمين...
يسير خلفهن بتمهل، راشقا عينيه في أجسادهن، لكنه سرعان ما يتذكر صاحب المزرعة، ذلك الرجل، الذي تهون عليه روحه، و لا تهون عليه خسارة حبة عنب واحدة، و لا يتحمل قلبه خسارة جنيه واحد، يتخيله منفعلا، يوشك أن يصاب بجلطة قلبية أو دماغية من فرط الغضب؛ يخشى أن يستبعده، و يأتي بمقاول أنفار آخر؛ فيستفيق...
للموت رائحة غاز خامل، تسللت إلى رئاتهم ببطء. بينما راحت أعينهم المشدوهة تتفحص الجثة الغارقة في الدم، و التي تمددت بلا حراك على قطعة من حصير مهترئ. قبل وصولهم بدقائق، تعالى صراخها؛ فكان أولئك الخمسة، هم أول من تنبهوا إلى صرخاتها، التي شقت سكون الليل، حيث كانوا عائدين من سفر طويل إلى النجع، في...