كرم الصباغ

يُحْشَرُ كُلَّ ليلةٍ في شقَّةٍ ضيقةٍ كعلبة السَّردين، يحاصره الحرُّ الغليظ؛ فيسارع إلى فتح النَّافذة الَّتي حرص-غالبًا- على أَنْ تبقى مغلقةً؛ مخافةَ تسلُّل الفئران، الَّتي تدخل في تبجُّحٍ، و لا تبالي على الإطلاق بما تتركه في قلبه و بدنه من التقزُّز و القشعريرة؛ فتجوس للحظاتٍ خلال شقَّةٍ شبه...
تخطر في فستانها الوردي؛ فتضحك الشمس لشمس أخرى، ظهرت للتو في وجه البنت، الذي أشع منه الضوء، بينما راح شعرها الأسود الناعم يعلن عن وجوده بنشر العبير في أرجاء المكان. ثمة فناء واسع، يقع مباشرة أمام البيت المبني بالحجارة العتيقة، التي احتفظت بصلابتها رغم مرور السنين. للفناء سور عال...
بلا عينين لم يستطع رؤية الأكياس الفارغة، والنّفايات الطَّافية على صفحة الماء. ربما دفعته الرَّوائح الكريهة إلى استشعار أنَّ المنظر شديد الكآبة لدرجةٍ دفعته إلى الاستدارة، وإعطاء النَّهر ظهره، لكنَّه سرعان ما تذكر ما خرج من أجله؛ فعاد إلى استقبال صفحة الماء بصدره من جديدٍ. خمسمائة خطوةٍ لركبتين...
في الفصل ذي الطِّلاء الأصفر الباهت، يرمق تلاميذه بضيقٍ، ويترَّقب جرسَ انتهاء الحصَّة الأخيرة. إنَّ مزاجه متعكرٌ اليومَ؛ إذْ نفدت سجائره منذ ليلةَ أمس، و لم يملك المال اللَّازم لشراء علبةٍ أخرى، حتَّى فنجان القهوة، و بُنّه المغشوش لَمْ يحظ بهما هذا الصَّباح؛ فعاملُ البوفيه- ناهيكَ عن حسابه...
شدَّوا العمائم على رءوسهم الذائبة في سعير الحر، و الشمس، وجرجروا أقدامهم و نعالهم، التي ثقبها الحصى على الرمل، و ترنحت من حولهم كباش هزيلة، ونعاج ضامرة البطون. منذ متى، وهم هائمون على وجوههم في تلك الصحراء الحارقة؟! منذ متى وخيبة الرجاء لا تفارق تجوالهم؟! من وقت إلى آخر كانت المراعي الخضراء و...
في عنبر الجراحة أفرغت عاملات النظافة محتويات السلال الممتلئة بالقطن، و الشاش، و المحاقن ، و الإبر المستعملة في حاويات القمامة، و حرصن على سكب (الفنيك)، و المطهرات، و تنظيف درجات السلم، و الردهات، و الجدران، و غرف المرضى، و أسرتهم، و قمن بنزع الملاءات القديمة الملطخة ببقع الدم، و فرش ملاءات...
جثت "نورا" على الشاطئ، و راقبت بعينيها الشاردتين بيوت الرمل، التي شيدتها صغيرتها اللاهية، ثم انصرفت ببصرها، و انهمكت في تأمل فورة الموج، و الزبد. كان صدرها مثقلا بالهموم إلا أن رائحة اليود التي تسللت إلى صدرها ، منحتها شيئا من الانشراح، في حين لم يكف رذاذ الهواء الطري الذي تطاير في...
الصباح لا يزال باكرا، و الشمس يحجبها الغيم. أبصر السماء رمادية معبأة بالمزن الداكنة. الهواء البارد يضرب صفحة وجهى، فيرتعد جسدي النحيل. الأرض أمامي زلقة؛ فالأمطار لم تتوقف عن الهطول طوال الليل، و الطقس المتقلب ينبئ بمطر وشيك. أسير في الطريق الترابي الموحل الواصل بين النجع، و...
في جو صيفي خانق، أواصل سيري عبر الشوارع ذهابا، و عودة، متفحصا وجوه المارة، و ما طبع عليها من علامات الأسى و العبوس. لا أحد يضحك في تلك المدينة؛ لقد دفعتني كثرة ما رأيت من الوجوه المكتسية بحزنها المستدام إلى إصدار هذا الحكم القاطع، حتى السيارات، التي تمرق على يساري لآلات تنبيهها من الحزن نصيب؛...
في جو صيفي خانق، أواصل سيري عبر الشوارع ذهابا، و عودة، متفحصا وجوه المارة، و ما طبع عليها من علامات الأسى و العبوس. لا أحد يضحك في تلك المدينة؛ لقد دفعتني كثرة ما رأيت من الوجوه المكتسية بحزنها المستدام إلى إصدار هذا الحكم القاطع، حتى السيارات، التي تمرق على يساري لآلات تنبيهها من الحزن نصيب؛...
الثغاء يملأ الفناء الفسيح، و الكباش تناطح ظل الدار العالية، والنعاج تقرض الدريس، و(عطية) نحيف يفرق زكيبة العلف في المرابط. له شعر خالطه الشيب، و وجه من نحت فرعوني. يرتدي قميصا أسود طويلا، يصل إلى ركبتيه، و بنطالا قصيرا يظهر عرقوبيه. هو صموت خجول يتصبب عرقا، إذا ما حدثته أنثى، هو لم يتزوج...
أخاف أن تفلت يدك يدي؛ فيبتلعك الزحام. عادة ما تردد تلك الجملة بوجه تشع منه الطيبة، و الجدية في آن واحد. أفرد قامتي القصيرة، و أمط رقبتي، و أقف على أطراف أصابعي؛ لأبدو أكثر طولا، و أجهد في إقناعها بأنني أستطيع العودة بمفردي إلى الدار، إن توهت في زحمة السوق. أذكرها بأنني أقطع تلك المسافة مئات...
جثت "نورا" على الشاطئ، وراقبت بعينيها الشاردتين بيوت الرمل، التي شيدتها صغيرتها اللاهية، ثم انصرفت ببصرها، وانهمكت في تأمل فورة الموج، والزبد. كان صدرها مثقلا بالهموم إلا أن رائحة اليود التي تسللت إلى صدرها، منحتها شيئا من الانشراح، في حين لم يكف رذاذ الهواء الطري الذي تطاير في الهواء عن...
تهبط من إحدى السيارات، التي دخلت الموقف للتو، تنجذب إليها الأعين. أربعينية، طويلة، بيضاء، تستر جسدها الممشوق بعباءة سوداء، و تتدلى خصلات شعرها الناعم من تحت طرحتها الخضراء، عيناها أخلصتا للضدين الأبيض الرائق، و الأسود الحالك، فأظهر اللونان جمال بعضهما البعض، و أضفا على عينيها سحرا و جاذبية،...
بحذاء ممزق مثقوب، و قدمين منهكتين التمس طريقه على الأسفلت الخشن، و اجتاز عددا من الشوارع المعتمة بشرود، و وصل بعد مشقة إلى حافة النهر. ثمة بنايات بعيدة، أرسلت أضواء شحيحة، بددت قليلا من ظلمة الليل، و فتحت مجال الرؤية بالكاد أمام عينه. تقدم خطوات إلى الأمام، و التصق بسور الكوبري...

هذا الملف

نصوص
74
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى