كرم الصباغ - فراشاتٌ باليةٌ

يُحْشَرُ كُلَّ ليلةٍ في شقَّةٍ ضيقةٍ كعلبة السَّردين، يحاصره الحرُّ الغليظ؛ فيسارع إلى فتح النَّافذة الَّتي حرص-غالبًا- على أَنْ تبقى مغلقةً؛ مخافةَ تسلُّل الفئران، الَّتي تدخل في تبجُّحٍ، و لا تبالي على الإطلاق بما تتركه في قلبه و بدنه من التقزُّز و القشعريرة؛ فتجوس للحظاتٍ خلال شقَّةٍ شبه عاريةٍ كادت تخلو من الأثاث، وَتسارع إلى الخروج جائعةً كما دخلتْ. يطلُّ من النَّافذة، يستجدي هبوب نسمات الهواء. الشَّارع أمامه غارقٌ في السُّكون وَالظَّلام. ما بين وقتٍ وَآخر يطلُّ الجيران من شرفاتهم بملابسَ قطنيَّةٍ داخليَّةٍ، وَينهمكون في نفث دخان سجائرهم بتؤدةٍ؛ فينعكس الدُّخان على ملامح وجوههم البلاستيكيَّة الجامدة، الَّتي عادةً ما تتحوَّل إلى ملامحَ مشبَّعةٍ بالنُّفور وَالامتعاض بمجرد أنْ تبصر أعينهم الكهل مصلوبًا على برواز نافذته، مادًّا بصره إلى شرفاتهم؛ إذْ اعتقد الجميع أنَّه يخفي داخله ذئبًا جائعًا يتحيَّن الفرص؛ كي يرشق عينيه في أجساد زوجاتهم، بعدما أشاعت الجارات أنَّهن لمحْنَ ظِلَّه أكثر من مَرَّةٍ خلف خصاص نافذته، و أنَّه ألف التَّلصُّص عليهنَّ، كلما خرجن إلى الشُّرفات لنشر الغسيل، أو لاستنشاق الهواء. لقد ناسبت تلك التُّهمة مقاسه تمامًا؛ فهو رجلٌ لا يزال في الرَّابعة والأربعين من عمره يعيش وحيدًا بلا امرأةٍ، بعد أنْ هجرته زوجته منذ سنواتٍ.
مازال جيرانه يتذكرون صيحاتهما المدوّية الَّتي طالما شقَّتْ سكون اللَّيل، إثرَ شجارهما الَّذي تكرَّر كُلَّ ليلةٍ، وكثيرًا ما تطوَّر الأمر؛ فكانوا يسمعون للزَّوج خوار ثورٍ، يرجُّ البناية رجًّا، وكانوا يسمعون للزَّوجة مواء قطَّةٍ فاض بها الكيل. وبعد أقل من ساعةٍ، كانوا يسمعون أصوات الموسيقى الشَّجية الحزينة تنبعث من نافذة جارهم؛ فظلُّوا عاجزين عن تصنيفه؛ فتساءلوا: هل هو ذلك الثَّور الهائج، أم هو ذلك العازف الرَّقيق، أم هو ذلك الذِّئب الجائع؟! لقد حاروا في تصنيفها هي الأخرى؛ فراحوا يتساءلون: هل هي قطَّةٌ مستكينةٌ، دفعها حظها العاثر إلى الجهر بالشَّكوى، وَالاكتفاء بالمواء، أم هي قطَّةٌ شرسةٌ، سوف تشهر مخالبها في يومٍ مَاْ؟! لم تستوعب عقولهم أبدًا كيف يتحوَّل ذلك الكهل أثناء عزفه إلى فراشةٍ تسبح في سديم صافٍ، فراشة تهزم برقتها ثورة الثَّور، وَجوع الذِّئب. وَلمَّا كان النَّاس يحبون العبارات المعلَّبة، كثرت حولهما الأقاويل، وَلكنْ غاب عن الجميع أنَّ زوجته، كانت تذكِّره بالأيَّام الَّتي تتسرب من بين أصابعه، و بخيباته الَّتي لا حصر لها، كلَّما رأته يهيئ أوتار عوده؛ ليبدأ عزفه المعتاد؛ فكان يتحوَّل إلى مجنونٍ يطيح بكل شيء.
كانت الدَّائرة تضيق كُلَّ يومٍ على كهلٍ، كره دائمًا الوقوف أمام المرآة، وَعلى زوجة كرهت اختلاء زوجها بأوتاره رغم حبّها القديم للموسيقى؛ إذْ تحوَّل ذلك العود إلى عدوٍ لدودٍ جلب لها و لولدها الفقر و الشَّقاء. أرادت هي أن يحيا ولدها كسائر الأطفال، وَأنْ تأخذ و لو قليلًا من حظِّ النِّساء، و أراد هو أنْ يسكر دون أن يعاقر الخمر. حاولتْ بكُلِّ طاقتها أن تعيده إلى أرضهما؛ ليرى كم هي مجدبةٌ، و أراد هو أن يحلِّق في سماءٍ غامضةٍ؛ ليعانق روحه التي أدمنتِ الفرار.
وَفي النِّهاية كان يهدأ، و يلتقط عوده من جديدٍ، كأنَّ شيئًا لَمْ يكن. وَكان ينكبُّ على خمرة موسيقاه، وَيسكر إلى أنْ تشرق الشَّمس؛ فينامُ، وَفي المساء يستيقظ، وَيتوجَّه إلى شاطئ النَّهر، و يظلُّ يعزف ألحانه؛ فيصغي إليه كُلُّ فتًى و فتاةٍ تجاورا في جلسة الشَّاطئ. كان يجمع قليلًا من الجنيهات، و يعود إلى شقَّته يجرجر قدميه عابسًا. لقد آمن في قرارة نفسه بأنَّ زمن الموسيقى العذبة الرَّائقة قد ولَّى بلا رجعةٍ، لكنَّه أراد أن يمسك طرف العصا الّتي رآها تفلت من بين يديه. كان في قرارة نفسه يحبُّ زوجته رغم كُلّ شيءٍ، و يحب ولده أكثر من أيِّ شيءٍ، لكنَّه كان ينفر دائمًا من تحمُّل عبء أيِّ شيءٍ؛ فظل كشجرة عاريةٍ لا ظلَّ لها. كان في كثير من اللَّيالي يؤنِّب نفسه، وَفي الصَّباح كان ينفض عن نفسه غبار اللَّوم؛ إذْ كان يحبُّ حياته على هذا النَّحو، وَلا يرغب حقيقةً في أنْ يقصَّ بيده آخر ما تبقَّى في بدنه من ريشٍ ناحلٍ، يوهمه -وَلَو قليلًا– بأنَّه قادرٌ على التَّحليق. لقد تخلَّى عن جميع أمنياته؛ فصار أقصى ما يتمنَّاه أنْ يموتَ، وَهو يداعب أوتار عوده. ظلَّ على تلك الحال إلى أنْ استيقظ ذات مساءٍ؛ فلم يجد زوجته، ولَمْ ينعم برؤية ولده، وبعد أنْ يئس من عودتهما، استسلم، وراح يحيا حياته كما أراد. و كُلَّما مرَّتِ الأيَّام، كان يشعر بأنَّه يتحوَّل شيئًا، فشيئًا إلى طائرٍ محنَّطٍ، قَيَّدَ الملح ريشه؛ فاكتفى بمراقبة سحب الدُّخان الَّتي طاردت طيورًا اجتازت سماء مدينته الرَّماديَّة من وقتٍ إلى آخر.
و اللَّيلة ظلَّ يطلُّ من نافذته، حتَّى نفدت سجائر جيرانه؛ فأنهوا نوبات حراسة شرفاتهم الضَّيِّقة، و دخلوا تباعًا إلى مساكنهم، تتبعهم الفئران الجائعة. اللَّيلة، هفا بشدَّةٍ إلى انقشاع الظَّلام، و مع شقشقة النَّهار، شعر بنسماتٍ طريَّةٍ تداعب وجهه؛ فأسرع إلى عوده، وراح يسكب ألحانه الحزينة إلى أن ارتختْ أنامله، فجأةً، وَ.سقطت الرِّيشة من بين أصابعه؛ فخفتت أصداء اللَّحن شيئًا، فشيئًا، و قفز من صدره ذئبٌ جائعٌ خائر القوى، سرعان ما تمدد أسفل قدميه، بجوار فراشاتٍ صغيرةٍ باليةٍ انفصلت عن روحه للتَّو، وَراحت تتساقط بكثافةٍ؛ فتناثر رماد أجنحتها المحترقة فوق بلاط شقَّته المُحطَّم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى