كرم الصباغ - متاهة ..

شدَّوا العمائم على رءوسهم الذائبة في سعير الحر، و الشمس، وجرجروا أقدامهم و نعالهم، التي ثقبها الحصى على الرمل، و ترنحت من حولهم كباش هزيلة، ونعاج ضامرة البطون. منذ متى، وهم هائمون على وجوههم في تلك الصحراء الحارقة؟! منذ متى وخيبة الرجاء لا تفارق تجوالهم؟! من وقت إلى آخر كانت المراعي الخضراء و الأنهار تتراءى أمامهم؛ فكانوا يجدون في المسير، و يسوقون خرافهم ونعاجهم بلهفة، و يحثونها على التقدم إلى الأمام، فإذا ما وصلوا إلى ما ظنوه ماء و خضرة؛ أخرج لهم السراب لسانه الطويل؛ فلم يبصروا سوى الجدب، و الرمل الممتد إلى ما لا نهاية، و لم يلقوا غير اللهيب و العطش. كانوا يطأطئون رءوسهم بحسرة، و كان السراب يركض بعيدا، و لا تمر سوى لحظات، حتى تلوح خديعته الجديدة في الأفق بسماجة مفرطة.
هي متاهة مهلكة، ولعبة أوانٍ مستطرقة؛ ما إن يجتاز الفتيان طريقا، حتى يسلمهم إلى طريق آخر، و من طريق إلى طريق كانوا يكتشفون أنهم قد عادوا إلى نقطة البداية بقوى خائرة، و تعب بلغ منتهاه.
بعد مسير يومين، قادتهم أقدامهم إلى حافة، أبصروا بعدها الفراغ، و لما خفضوا أبصارهم، رأوا منحدرا صخريا، فأدركوا أن تحت صحرائهم العالية، صحراء أخرى منخفضة و شاسعة. كان اليأس قد استبد بقلوبهم، و كان الجوع قد أحرق أحشاءهم الخاوية، و كان العطش قد حول عروقهم إلى عصي متيبسة، و كان شبح الموت يرقص أمام أعينهم المنهكة رقصته الأخيرة. في حين تساقطت أغنامهم على الرمل، كما تتساقط أوراق الخريف؛ فما كان منهم إلا أن تمددوا على حافة المنحدر، و استسلموا لمصيرهم. هبط الليل عليهم، وهم ينازعون رمقهم الأخير، و فجأة حملت لهم الريح ما لم يتوقعوا حدوثه أبدا، في البداية لفح وجوههم دخان ساخن، و داعبت أنوفهم رائحة شواء، ظنوا أنهم أمام سراب من نوع آخر؛ فلم يلقوا بالا للأمر، و لكنهم سمعوا أصوات جلبة و صخب تقبل من بعيد، و أخذت الأصوات ترتفع شيئا فشيئا، حتى باتت قريبة واضحة، فما كان من الفتية إلا أن فتحوا أعينهم المغمضة، و راحوا يتلفتون ذات اليمين و ذات الشمال، راحوا يبحثون عن مصدر الصوت و الرائحة، و لما خفضوا أبصارهم، لمحوا ألسنة النار تنبعث من رءوس بيوت، ظهرت أسفل المنحدر. و أبصروا حياة، ولدت للتو في الصحراء المنخفضة المقفرة. كان لما أبصروه فعل السحر؛ فقد دبت الفرحة في قلوبهم، و تسلل إلى أوصالهم شيء من قوة و نشاط، أعانهم على النهوض، فهبطت أقدامهم الواهنة المنحدر الوعر بصعوبة بالغة.
( ٢ )
تحلق سكان القرية راكيات النار، والتمع في أعينهم بريق غامض. وقَلَّبَ الرجال أسياخ الحديد، وما حملته من خراف فوق الجمر، و ألسنة اللهب. في دائرة واسعة اتكأ الشيوخ على وسائد فاخرة. بينما جلس الرجال و النساء و الأطفال في حلقات أخرى صغيرة. كان الشباب يذهبون و يجيئون بنشاط؛ و كان الأطفال يلهون في الجوار؛ فضج المكان بالحركة و الصخب. و فجأة، ظهرت فتيات بأجساد لدنة، رحن يرقصن في وسط الساحة الواسعة.
كان الفتيان في شغل عما يدور حولهم، كان الأهالي قد استقبلوهم منذ حين، و أجلسوهم أمام مائدة عامرة؛ فانهمكوا في التهام جزل اللحم الشهية، و ثمار الفاكهة. و راحوا يحتسون كؤوس شراب وردي، لم يتذوقوا مثيلا له من قبل. أكلوا إلى حد التخمة، و ناموا من فرط التعب، و لم توقظهم سوى حرارة الشمس و صهد الرمل، و ما إن انتبهوا من نومهم، حتى صفعتهم الدهشة، و استقبلت أعينهم المفاجأة المدوية. لقداختفى كل شيء من حولهم، لقد عاد المكان إلى سيرته الأولى؛ فعادت الصحراء مقفرة كما كانت. لا شيء سوى الرمل و الخواء، أما رفاق الليل، فلا أثر لهم، لقد اختفوا مثلما اختفت قريتهم الصاخبة؛ لا أثر لحياة ولدت هنا، و لا أثر لحلقات نار، أو رماد. لا أثر لأسياخ حديد، أو بقايا شواء. لا أثر لكأس فارغة، أو إناء. وضع الفتيان أيديهم على رءوسهم، و اتهموا أنفسهم بالجنون، و استعاد كل منهم ما رأى، و ما سمع، و وصف كل منهم ما أكل، و ما شرب، حتى تأكدوا من صدق الخبر، لم يكن حلما بل كان واقعا. سرت القشعريرة في جلودهم، و عصفت الهواجس برءوسهم، و ذهبت بهم الظنون كل مذهب، ودفعهم الخوف إلى الفرار؛ فتسلقوا الصخور، وعادوا إلى متاهة الرمل و الموت، ولعبة الأواني المستطرقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى