كرم الصباغ - جدائل النار.. قصة

(1)
أمام المرآة وقفت مهرة، فكت جدائلها، و راحت تمشط خصلات شعرها المسدل بشرود، ثم انهمكت في تزيين وجهها بمساحيق التجميل؛ فبدت كتفاحة شهية. الساعة جاوزت السادسة صباحا، عادة ما يعود بعد الشروق متثائبا متثاقلا منهكا، يلتهم لقمتين بالكاد، و يطبق جفنيه، و يسلم جسده النحيل إلى النوم العميق، و يهمل التفاحة، التي اشتعلت بجواره، و لا يأبه بغضبها. عادة ما ينام كالذبيح؛ فتصغي إلى شخيره المزعج بحنق، و تعض أناملها من الغيظ، و تمرر يديها على تضاريس جسدها النافرة، و تلعن المخبز و الخباز.
الخواطر تغلي في رأسها، تسمع خصف حذائه؛ فتستفيق من شرودها. يدير المفتاح في الباب ، و يدخل بهيئة مزرية، تضع الطعام أمامه؛ فلا يأكل شيئا. يشعر بالنعاس؛ فيتوجه إلى السرير. تدنو منه؛ فيصدها، و يتعلل بالتعب؛ ترمقه بمؤخرة عينها، و ترتد أشد حنقا. منذ ليلة الزفاف اكتشفت ضعفه، و لطالما حاولت إشعال أطرافه الباردة؛ جربت شتى الحيل، عمدت إلى كل ما يثير السمع و البصر؛ فكان ينشط لوقت قصير، و يمنحها من الماء القليل، و يعود سريعا إلى سيرته الأولى كلوح ثلج يأبى الانصهار.
( ٢)
ألهبت شمس الضحى رأسه المثقل بالخواطر، و استلبت العرق من وجهه الشاحب. نظر إلى قرص الشمس، و غمغم بحنق، إذ اكتشف أنه فر من النار إلى النار؛ فقد كانت أشعة الشمس الحارقة تشبه تماما نيران المخبز، و نيران مهرته الساخطة.
في الدكان المزدحم بأصناف العطارة، و روائح التوابل ارتمى كخرقة بالية، و شكا أحزانه إلى رفيق طفولته، الذي أقبل عليه بقامة طويلة، و وجه بشوش، و ربت بشفقة على كتفيه. في جلباب فضفاض، و عمامة بيضاء بدا العطار ملاكا، يحسن الإصغاء، و يجيد مداواة الأوجاع. كان الخباز قد عقد نيته على قرار بغيض إلى نفسه؛ فقد كان يحب زوجته إلى درجة العشق، لكنه بات يؤمن بأن الانفصال عنها صار أمرا حتميا. أخبر رفيق طفولته بما لم يعلمه من قبل، و بخجل مفرط شرح له ما أصابه، و كشف له عن نيته المبيتة، فما كان من العطار إلا أن ابتسم بهدوء، و راح يجادله برفق؛ حتى صرفه عن قراره. و في نهاية الحلسة نهض العطار من مكانه، و عاد بصرة ممتلئة بالأعشاب، و قوارير شد العصب، وسقى صاحبه العسل الجبلي بيديه، و شرح له كيفية تجهيز الوصفات المجربة.
( ٣)
يبدو أنه أرضى مهرته أخيرا. لقد حط البشر على داره كما تحط الهداهد؛ فرأى زوجته مبتهجة، و و رأى الابتسامة على ثغرها بعد طول غياب. كان ذلك كفيلا بأن يغير حياته؛ فقد عرفت الفرحة طريقها إلى قلبه، و صارت داره أكثر رحابه في عينيه، و أصبح لا يتأفف من حرها كما كان يفعل من قبل. أصبح يطيل النظر إلى نفسه في المرآة؛ فقد أحب ملامح وجهه، رغم دمامته المفرطة. داوم على تناول منقوع الأعشاب، و لما نجح مرة بعد مرة، شعر برغبة شديدة في تقبيل رأس صاحبه العطار.
( ٤)
حل الليل صافيا؛ فطبع قبلة على خدها الناعم، و خرج صوب المخبز بخفة و نشاط، و في الطريق عرج على دكان القماش، و اشترى أمتارا تصلح لحياكة فستان، و اشترى شالا أبيض يصلح للف عمامة. حمل الهديتين، وتوجه إلى المخبز، و انهمك في إخراج الأرغفة الساخنة. بدأ العرق الغزير ينز من جسده، و شعر بجفاف حلقه. التقط زجاجة، و شرب دون جدوى، و سكب الماء على رأسه؛ فأصابته حمى، على إثرها ارتجف جسده، و شعر بدوار و صداع، و عجزت قدماه عن حمله؛ فسقط على الأرض؛ و هرع إليه الخبازون. و بعد أن استفاق، توكأ على كتف زميله، و عاد إلى داره؛ كانت يده الواهنة تقبض على لفافة هديتيه رغم إعيائه الشديد. أدار المفتاح، و دخل مترنحا، لم يجدها في الردهة؛ فاعتقد أنها نائمة، و ما إن فتح باب غرفته، حتى صعق مكانه؛ فقد كانت ملابسها متكورة على بلاط الغرفة بجوار عمامة بيضاء، و جلباب فضفاض، بينما كانا فوق السرير عاريين تماما. وقف مبهوتا للحظات، حملق فيهما، و حملقا فيه، و لما هم بالحركة، هوى على رأسه جسم معدني ثقيل؛ فسقط على الأرض، و اندفعت الدماء الساخنة من جرحه الغائر، و راحت تسيل في خيوط على البلاط، و ما هي إلا لحظات، حتى اكتست اللفافة و الملابس المتكورة باللون الأحمر القاني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى