كرم الصباغ - مثل وردة جورية

تهبط من إحدى السيارات، التي دخلت الموقف للتو، تنجذب إليها الأعين. أربعينية، طويلة، بيضاء، تستر جسدها الممشوق بعباءة سوداء، و تتدلى خصلات شعرها الناعم من تحت طرحتها الخضراء، عيناها أخلصتا للضدين الأبيض الرائق، و الأسود الحالك، فأظهر اللونان جمال بعضهما البعض، و أضفا على عينيها سحرا و جاذبية، يزدان وجهها بشامة أسفل ثغرها العنابي، شفتاها جمرتان، توهجت نارهما، و أطلت منهما غواية. كل من رآها حسبها بنت عز، لولا أن أصابع يديها، لم تتزين بأي من الخواتم الذهبية، في حين لفت حول معصميها أساور من المعادن الرخيصة. لم تكن تحمل سوى حقيبة شبه فارغة، تدلت تحت إبطها الأيمن، بينما علقت الحزام على كتفها الأيسر، كانت حقيبة غريبة بعض الشيء بنفس درجة الغرابة، التي شابت لهجتها، حينما خاطبت بها سائق (التوكتوك) الذي أقلها إلى داخل مدينتنا الصحراوية.
كنت عائدا من سفري للتو، كنت أستقل نفس السيارة، التي نزلت منها المرأة الأربعينية، انتظرت حتى نزل الركاب جميعا، و انهمكت في إنزال بضائعي، التي ملأت الكراسي الثلاثة التي تلي مقعد السائق مباشرة.
لدي بنت، و ولدان، ثلاث حبات من التوت، يبددون مرارة الأيام أحيانا، و يحولونها بنفقاتهم، و مطالبهم، التي لا تنتهي إلى طعم العلقم أحيانا أخرى. و لدي منزل مكون من طابقين، بنيته بعد عشرين عاما، تنقلت خلالها بين الشقق الضيقة، و أبليت خلالها أربعين حذاء بسبب الركض المتصل خلف لقمة العيش. قلت في نفسي: أفتح مكتبة في الدور الأرضي؛ لعلها تدر علي دخلا إضافيا، إلى جانب راتبي الهزيل، يمكنني من الصمود بعض الشيء. و لما كانت مدينتي قريبة من مدينة الإسكندرية، حيث تباع البضائع في حي المنشية بنصف الثمن، قلت: أسافر كل يوم جمعة إلى هناك؛ أتسوق؛ و أرى البحر؛ و أغسل صدري بالهواء الطري و رائحة اليود. و لما كان اليوم يوم جمعة، سافرت كما جرت العادة، و بينما أنا منكب على إحدى الفرش في الحي الصاخب، أشتري دست الأقلام و الكراسات و الكشاكيل، و الأدوات المدرسية، و طلاءات الأظافر، و أطواق و روابط الشعر، و لوازم البنات؛ إذ هبت نسمة طرية، صاحبت مرور تلك المرأة الأربعينية من أمامي. جذبتني من أول وهلة؛ فرحت أتابعها. رأيتها تدخل المحلات المتجاورة جهة اليسار، في حال أعطيت البحر وجهك، و حي العطارين ظهرك. ما إن تدخل محلا، حتى تغادره سريعا، إلى غيره، و بينما أنا منهمك في المتابعة، إذ أخرجني من نشوتي الخفية طبل عريض، كان في حقيقة الأمر هو صوت البائع؛ فعدت مجبرا إلى بضاعته، و تهيأت لمساومة طويلة مضنية، عادة ما أكون فيها الخاسر الوحيد؛ فباعة المنشية ولدوا فوق فرشهم، و لا يغلبون على الإطلاق. رضيت بالثمن، الذي أصر البائع عليه، ربما دفعني شيء داخلي إلى اختصار الزمن، و لما انتهيت، راحت عيناي تفتشان عن المرأة في جميع الاتجاهات، و لكن هيهات أن تجد شخصا، فقدته وسط هذا الصخب، و هذا الزحام.
كانت كل السيارات المطلية بالأسود و الاصفر تضج بالركاب، و بشق الأنفس استوقفت إحداها، كانت البضائع اليوم من الكثرة بمكان، بحيث استوعبها المقعد الخلفي للتاكسي بمعجزة هندسية في الرص، أظهر فيها السائق براعة، زادت الأجرة إلى الضعف، و بينما السيارة تغادر حي المنشية، نسيت أمر المرأة تماما، و انشغلت بوداع البحر، قلبت بصري بين موجه و زبده، و انكمشت روحي حزينة، بعد أن غاب البحر عن ناظري. شق التاكسي طريقه إلى موقف ( محرم بك)، و أوصلني إلى الحارة المخصصة لسيارات مدينتي الصحراوية، و بينما أنا أجلس بجوار بضائعي في الميكروباص؛ إذ أقبلت المرأة ذاتها، رأيتها تقترب، و لم تصدق عيناي أنها استقلت نفس السيارة، التي أجلس داخلها.
عدت إلى منزلي، و دخلت المكتبة، و رحت أرتب بضائعي فوق الأرفف، و ما إن استدرت، حتى ألجمتني المفاجأة مرة أخرى؛ إذ كانت المرأة الأربعينية تقف أمامي، لا يفصل بيننا سوى حاجز خشبي قصير، مدت يدها على استحياء، رأيت الأسى يكسو وجهها، رأيتها غارقة في خجلها، أصابتني الدهشة، وتجمدت مكاني. أقسمت بأنفة أنها سوف تعيد ما ستأخذه، متى وجدت عملا، و أن عليها أن تدفع الإيجار اليوم دونما تأخير. أخرجت مبلغا صغيرا، و ناولتها إياه، و دفعني الفضول إلى أن أسألها عن بلدها، و حكايتها؛ تنهدت بحرقة، و شردت، كأنها تغوص في بحر من الذكريات الحارقة، أخبرتني بأنها كانت تملك في بلدها بيتا محاطا بحديقة، يملأها الورد الجوري، و الحبق، و القرنفل، و الياسمين. حدثتني بحرقة عن زوج، و أولاد، ماتوا جميعا تحت القصف و الأنقاض، بينما نجت هي، و عدد قليل من أهل قريتها، الذين تفرقوا، و ابتلعهم الشتات مثلها. خنقتها العبرة؛ فانصرفت من أمامي، لكنني لم أستطع أن أتابعها هذه المرة، خفضت بصري، و عدت أرتب بضائعي، و لم أشعر إلا و دمعتان ساخنتان تتدحرجان على خدي، و تسقطان على كراسة، و قلم، و ممحاة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى