أ. د. ربيعة برباق - حضارة القمح والشعير...

أذكر جيدا حصون النمل في حقلنا الأخضر، بجانب كل نبتة (تالما) جبل بركاني الشكل، شيدته نملات صغيرات، تخرج وتدخل في فوهته حاملة حبات قمح أو شعير تفوقها حجما، سرقتها جهارا نهارا من حقل أبي، لم يكن ذلك يزعجني ، بل كنت أساعدها، فاقطف لها من السنابل حباتها، وأضعها أمام بيتها، واستمتع بمراقبتها وهي تتفقد تاريخ صلاحيتها قبل نقلها إلى مخازنها العظيمة تحت الأرض.
لم تكن النملات تخاف مني، لأنها تدرك أني لست سليمان وجيوشه، كانت تحرك قرون استشعارها كأنها تشكرني، وكنت أشعر بالسعادة لأنني قدمت يد العون في بناء حضارة النمل.
ولأن طبع البشر إفساد السعادة على نفسه وعلى غيره، أذكر جيدا كيف فعلت ما لم يفعله سليمان وجيوشه، إذ دست بقدمي دون قصد بيت النمل ودهسته، وحطمت حضارته العظيمة، شعرت بحسرة تعتصر قلبي الصغير، وعرفت أن الاعتذار من النمل لن يجدي نفعا، وكعادتي الربيعية مددت يدي لأقتلع نبتة التالما، فنسيت الحادثة بتفاصيلها السعيدة والحزينة.
وفي الغد القريب مررت قرب الحضارة المحطمة، كان المشهد عجيبا، بيت النمل يعود ويشيد قصرا من جديد بين ليلة وضحاها، والنملات في نشاطهن المعهود يحملن من القمح والشعير ما يعجز عن حمله البعير، لا يأبهن بسليمان وجنوده لأن الحياة يجب أن تستمر.
كنت صغيرة لم أفهم يومها أن البشر يجب أن بأخذ من قصص النمل أجمل العبر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى