كرم الصباغ - لحن الوريد*

أعمدة الإنارة نوافير ترش الضوء؛ فيعانق النور السيل المنهمر من سماء دمنهور الناعسة. قطرات المطر قابلات يلقنّ الأشجار المبتلة و الأسفلت اللامع نشيد الميلاد. تستيقظ الشوارع من سباتها على وقع خطواتنا، على كراسي الخيزران تنكمش أبداننا حول منضدة في صدر مقهى (البنا) العتيق، نصطلي بدفء الزجاج و سخونة أكواب الشاي. يلقي صديق قصيدة؛ فينسكب الوجع في الشرايين. يهيئ (حسن) أوتار عوده العربي؛ فينداح النغم و الغناء كبوح عصفور حزين؛ نطرب، نتقاسم أرغفة النشوة تارة و الحزن تارات، نرمق ميدان الساعة المغتسل بالمطر؛ فيبدو طازجا كثمرة تين، أهفو إلى رملي البعيد؛ فطالما رسمت علي صفحته ورد حبيبة، و خبأت بين حباته الأسرار. تقبل، تشق الدخان الكثيف، يشرق التفاح في وجنتيها، تنير سديم الليل، تدخل المقهى، تسكب الدفء في قلبي؛ ينتظم نبضي من جديد. دوائر الغناء تتصاعد، توشوش المزن؛ فيزداد المطر أنينا، برهافة ننصت إلى نشيج السماء؛ نقف على حافة البكاء. تكف أنامل حسن عن مداعبة الوتر، ينحي عوده جانبا؛ فينقطع المطر. تخفت أصواتنا فجأة، يتفرق الأحبة، يأكل الغياب أقماحنا، نمسي محاصرين في مركز دائرة تطبق عليها مئات الدوائر المغلقة. أجدني اليوم كهلا ثقيل الخطى، أتحسس وجها عابسا أكلت طواحين الوقت بهجته، أعبر الميدان المكدس بالصخب و الزحام وحيدا. الوقت لص حرص على محو البصمات العالقة في الذاكرة، و الجغرافيا حرباء تجيد التنكر. أبحث عن مقهانا القديم؛ فتصفعني البنايات الشاهقة و لافتات المحلات، أفتش في الرصيف عن سنابل النغم المبدور؛ فيصرخ في وجهي بوار الأسفلت البليد، أرتد تائها أبعثر الخطوات الزائغة، أغادر الميدان بقلب يعتصره الشوق، تنسكب من الحنايا ملامح الرفاق، يشق سحابنا القديم لزوجة الفضاء، يعانق العصافير، تتردد في أذني أصداء يقظى للحن مازال ينسكب من الوريد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى