كرم الصباغ - رهف الحديد.. قصة

يبدو الطَّقس مثاليًّا لمباشرة عملي؛ فالنَّهار قَدْ تنازل عن صحوته، وتلوَّن بغبشةٍ داكنةٍ؛ والغيوم غاضبةٌ، حجبت الشَّمس، وراحتْ تصبُّ ماءها كسياطٍ مؤلمةٍ فوق شارعٍ صاخبٍ مضطربٍ، يشتهي السُّكون. المارَّة يهرولون بوجوهٍ بلاستيكيَّةٍ صوب مظلَّات المحلات، و مداخل البنايات، و المياه تسيل على الأسفَلْتِ، و تتجمَّع في بؤرٍ و حفرٍ واطئةٍ؛ فيبدو الشَّارع مأزومًا غارقًا، يستغيث بالبالوعات. وإطارات السَّيَّارات تخوض في الماء، والوحل، وترشهما بسماجةٍ على ملابس رجلٍ ثلاثينيٍّ، يسير ذاهلًا وسط الطَّريق، غيرَ آبهٍ بالأمطار الغزيرة، الَّتي تنهمر فوق رأسه، و لا بآلات التَّنبيه، الَّتي تصرخ خلفه، و لا بالشَّتائم البذيئة والنُّعوت الوقحة، الَّتي تندفع كطلقاتِ الرَّصاص الحيِّ من أفواه ساخطين، تفادوا صدمه في اللَّحظة الأخيرة بالضَّغط على مكابح سيَّاراتهم. رُبَّما دفعتهم طباعهم الغليظة إلى الإفراط في القسوة، و رُبَّما اعتقدوا أنهم في مواجهة رجلٍ مخمورٍ، ساقه الحظُّ العاثر إليهم؛ ليَتَوَرَّطُوا في دمه.
هل ترى تلك البِنَايَةَ العتيقة؟! هناك في الأعلى، و بالتحديد في الدَّور السَّابع، تقبع عيادة الطَّبيب ذي العمر والباع الطويلين. داخلها تعجَّل هذا الرجلُ الثَّلاثينيُّ دوره، ونظر كثيرًا إلى ساعة يده؛ فهو ثقيلُ الأحمالِ، تطارده الأعباءُ، أينما ذهب. أراد أن يستغلَّ وقت الانتظار المملِّ؛ فأجرى عِدَّةَ مكالماتٍ من هاتفه المحمول، ورتَّب ما لديه من مواعيدَ، وأعدَّ قائمةً بأشياءَ ضروريَّةٍ، يريد شراءها دونما تأجيلٍ، راح يدوِّنها في مفكرته، وما إِنْ فعلَ، حتَّى اكتشف أنه يجلس منذُ ساعةٍ فوق مقعدٍ وثيرٍ مريحٍ، وأنَّه يمكنه الاسترخاء لبعض الوقت، بدا الأمر مناسبًا لِأَنْ يسرح بخياله خلف الشُّموع؛ فوجد نفسه يتناول وجبةً ساخنةـ مع زوجته، وطفليه الَّلذين لَمْ يتجاوز أكبرهما السَّابعة بعد، وسرعان ما انتقل إلى الرُّدهة، وراح يحتسي الشَّاي، و قد تنامى إلى سمعه أغنيةٌ شجيةٌ و لحنٌ ناعمٌ قديمٌ، أشعره بالدفء؛ فارتسمت ابتسامةٌ عذبةٌ على فمه، وراح يراقب بعينيه الحانيتين طفليه، الَّلذين انهمكا في لعبهما البريء.
ثَمَّة مُمَرِّضَةٌ حسناءُ، تضفي على المكان بهجةً خَفِيَّةً، رغم كونه عيادةً، تكتظُّ بأرباب الأمراض المزمنة، ورغم انشغالها طوالَ الوقت بترتيب بطاقات المرضى، وإدخال من حان عليه الدَّور إلى غرفة الكشف. هي ملاكٌ بحقٍّ؛ تمتصُّ غضب من سئموا الانتظار، وتهدِّئهم بابتساماتها الرَّقيقة، وكلماتها اللَّينة، وتتحمَّل على مضضٍ تصابي كهولٍ وشيوخٍ، دبَّتْ الحرارة في أطرافهم الباردة؛ فراحوا يتغزَّلون بطرقٍ بدائيَّةٍ، لم تَرُقْ لها على الإطلاق، لكنَّها في ذات الوقت لَمْ تتنازل عن كونها أنثى من بنات الأرض؛ فعدَتْ نظراتهم المختلسة إلى جسدها الفائر جائزةً، واعترافًا ضمنيًّا بأنوثتها الطَّاغية.
كان الرجل الثَّلاثينيُّ في شغلٍ عن هذا كُلّه؛ فقد استغرقته أحلام اليقظة. هتفتْ الحسناء باسمه، بغتةً؛ فانتزعته من ردهته الوهميَّة، وأعادته إلى مقعده في لمح البصر؛ فنهض من مكانه، ومضى خفيفًا إلى غرفة الكشف، و تمدَّد على سرير الفحص، في حين لم يخامره الشَّكُّ بتاتًا في أَنَّ ما يشكو منه مجرد أَلَمٍ عارضٍ، سيتعافى منه قريبًا، وأنَّه لا يزال قادرًا على الرَّكض إلى أبعد مدى، وأنَّه يملك الوقت الكافي لفتح مزيدٍ من الأبواب، والنَّوافذ المغلقة.
نظر الطَّبيب، وأطال النَّظر إلى صور الأشعَّة، و نتائج التَّحاليل؛ فتبدَّلت ملامحه إلى ملامحَ أخرى لا تعرف الحياد؛ فقدْ قطب جبينه، وأضاف إلى سنواته الستين عشرين أخرى، وأفلتَتْ من عينيه نظرات مشبَّعة بالأسى؛ كانت كفيلةً بِأَنْ تسكن الهواجس قلب زائره، الَّذي اِرْتَابَ في الأمر؛ فاعتدل فوق السَّرير، وأَتْبَع السؤالَ بسؤالٍ، في الوقت الَّذي كان الطَّبيب قد عاد فيه إلى منطقته الرَّماديَّة؛ فَتَفَنَّنَ بدوره في صياغة أجوبةٍ منمَّقةٍ، وبالغ في طمأنة زائره بأنَّ الأمرَ هيِّنٌ، و بِأَنَّه لا داعيَ للقلق. ورغم جهود الطَّبيب المضنية إلَّا أَنْ الضَّباب انْزاحَ عن عيني زائره شيئًا فشيئًا؛ فراح يجول ببصره في الغرفة؛ وَسُرعانَ ما اتَّسعَتْ حدقتاه، وتلاحقت أنفاسه، واستبدَّ به الفزع؛ إِذْ أبصرني أقف في زاويةٍ من زوايا الغرفة. حَدَّقَ بذعرٍ إلى طولي الفارع، و جسدي العاري إلَّا من أوراق شجرٍ ذابلةٍ تستر عورتي بالكاد، وأبصرَ جلدي الشَّاحب، والدَّماء الزَّرقاء المُتجمِّدة في عروقي النَّافرة. رآني أدمدمُ من بين أسناني الصَّفراء بألفاظٍ مبهمةٍ، بَثَّتْ الرُّعب في قلبه، بينما أفهمته نظراتي القاسية بأنَّني أضمر نِيَّةً مُبَيَّتَةً لانقضاضٍ وشيكٍ، سيعقبه نهشٌ، وألمٌ، وافتراسٌ. يا لبشاعتي، وقُبْحي! هنا تَكْمُنُ مأساتِي أنا ذلك الكائنُ التَّعيسُ، الَّذي يَفِرُّ منه الجميع، ليتهم يعلمون أنَّني مجرد آلةٍ مُبَرْمَجَةٍ، تقوم بعملها، وحَسْب.
اقتربتُ شيئًا فشيئًا، وما إِنْ لامست حافَّة السَّرير، حتَّى تهشَّم الزُّجاج، وذاب الغراء؛ فانتزع الرجل الثَّلاثينيُّ صرخةً، خرجت مُدَوِّيَةً؛ انتفض الطَّبيب على إثرها، والتفتَ سريعًا إلى حيث أشارتْ يدُ زائرِه، لكنَّه لم يبصرني على أيَّةِ حالٍ، إذْ كنتُ قد تبخَّرتُ بالفعل، ولَمْ يتبق مني سوى رائحةِ مخدِّرٍ نفَّاذةٍ، استنشقها الزَّائر وَحْدَه؛ فشعر بالاختناق؛ واشتهى هواءً طلقًا، لا تَحدُّه الجدران؛ فنهض من مكانه بصعوبةٍ، وسار بخطواتٍ بطيئةٍ ناحية الباب المُغلَق، ولَمْ يكترث بدعوة الطَّبيب، الَّذي نصحه بالبقاء، وعدم مغادرة العيادة في مثل هذه الحالة السَّيِّئة.
السَّماء لا تزال ترشق الشَّارع بنقرات المطر، والرجل الثَّلاثينيُّ لايزال ذاهلًا عن كُلِّ ما حوله، تبدو الأشياء في عينيه غائمةً، ولا يبصر بجلاءٍ سوى زوجته و ولديه؛ يرى ولده الصَّغير يتسلَّل إلى غرفةٍ، باتَتْ مغلقةً. يراه يفتح صندوقًا كرتونيًّا، يضجُّ بأشياءَ حميمةٍ، يلتقط من بينها نظَّارةً طبيَّةً؛ فيصيح من شدَّة الفرح؛ يظنُّ، وهو ابنُ الرَّابعة أنَّ هذه النَّظَّارة ما هي إلَّا عضوٌ من أعضاءِ أبيه غافلَ الجميع، وأصرَّ على البقاء بجوار صغيرين، لا يملك صبرًا على فراقهما. يرى طفله الأكبرَ يلتقط من الصُّندوق صورًا فوتوغرافيَّةً، يحدِّق إليها بلهفةٍ؛ فتنهمر الدُّموع بحرقةٍ على خديّه. يرى زوجته تفتح الخزانة، وتُخْرِجُ ملابسًا، أكلتها العُثَّةُ، وملأتها الثُّقوب، يراها تشتمُّ رائحته القديمة، ثُمَّ ترتدُّ إلى فراشها البارد بلوعةٍ، وتُسْلِمُ جسدها إلى الشَّوك، والأرق الطَّويل.
يبدو أَنَّ الوقت قَدْ حان لأُنْهِي عملي المعتاد؛ حَتْمًا سيُصَابُ الرَّجل الثَّلاثينيُّ بدوارٍ شديدٍ، وسيسقط على الأرض، وسيمتلئ فمه بطعوم الوحل والملح والمطر. حَتْمًا سيتطلَّع إلى السَّماء، وسيرى وجوه أحِبَّته، وأشياءه الحميمة بين طيَّات زرقةٍ صافيةٍ، ستعود إلى السَّماء عمَّا قريبٍ. حَتْمًا سيراني قبل أنْ يغمضَ عينيه، سأسدُّ عليه الأفق، سأبثُّ في قلبه مزيدًا من الرُّعب؛ فأنا آلةٌ مبرمجةٌ، وَحَسْب، ما بالي أشعر بوخز الضَّمير هذه المَرَّة بالذات؟! لماذا ترمقُنِي هكذا؟! أعلمُ ما يدور في ذهنكَ الآنَ، حسنًا؛ لن أخيَّب ظنَّك؛ سأصعد على الفور إلى هذه البناية الشَّاهقة، سألقي بنفسي من أعلى نقطةٍ، سأُحَطِّمُ نفسي بنفسي؛ لعلَّ الرَّجلَ الثَّلاثينيَّ تقوده قدماه إلى منزله؛ لعلَّه يفتح بابًا موصدًا؛ فيحتضن ولديه، وزوجته بلهفةٍ، ثمَّ يستريح بعد عناءِ يومٍ شاقٍّ؛ لعلَّه يزرع مزيدًا من الزُّهور في أصائص شرفته، في الوقت الَّذي يستمع فيه إلى أغنيته المُفَضَّلَةِ، ولحنها النَّاعم القديم برهافةٍ وشجنٍ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى