كرم الصباغ - دور سيجا

عادةً ما يستظلون بظلال أشجار (الجازورين) عصرَ كلَّ يومٍ؛ فيفترشون الرمل، ويشكّلون بأجسادهم حلقةً كبيرةً، داخلها يجلس لاعبان وجهًا لوجهٍ، يفصل بينهما رقعة (سيجا) ذات مربعاتٍ متجاورةٍ، رُصَّتْ داخلها حصواتٌ، يحركها اللاعبان بحذرٍ. وسرعانَ ما تتوالى الحركات المباغتة؛ فيضيق الخناق، وتُسدُّ المنافذُ والأبوابُ. ومن حصارٍ إلى حصارٍ، تمسي الحصوات صرعى خارج الرقعة، والمتفرجون يتابعون بحماسٍ الدَّورَ، الذي شارف على الانتهاء، وقد أعدَّ كلُّ منهم عبارةً ساخرةً، سوف يطلقها في وجه الخاسر المُتجهِّم، من باب المزاح الثقيل، يبدأ العدُّ التنازليُّ، ولا تبقى للخاسر سوى حصاتين، تقاومان حتَّى الرمق الأخير، لكنَّهما في النهاية تصرعان؛ فينتفش العجوز الفائز، ويمتعض وجه الخاسر، وتنهمر عليه سهام السخرية؛ فيتظاهر بالغضب، ويهمُّ بالقيام والانصراف، لَوْلَا أنَّ رفاقه يقبضون على طرف جلبابه، ويجلسونه رغمًا عنه؛ فيهدأ غضبه المزعوم، وينفجر ضاحكــًا، ويبدأ في توعد صاحبه بالثأر؛ فتنطلق النكات، و يتهيأ آخرانِ لبدء دورٍ جديدٍ. على هذا النَّحو يمضي اللَّعب، والسَّنوات توالت، وبصماتها لم تخطئها الأبصار، فثمَّة تجاعيدُ زحفت على الوجوه، والشَّيب لم يتوقف يومـًا عن غزو الرءوس، وأولئك الرّفاق ظلُّوا عَلَى حالهم متشبّثين بظلالهم وسيجتهم، وصحبتهم، أمَّا عنه فقد ظلَّ دائمًا وسطهم، لم يتخلّف يومًا عن مجلسهم رغم عدم شغفه بلعب (السّيجا) من الأساس.. ودَّ أن يخبرهم أَكْثَر مِنْ مَرَّةٍ بأَنَّ روحه لا تَأْنَسُ إلَّا في جوارهم، لكنَّه تحاشى قول ذلك؛ خشيةَ مزاحهم الثَّقيل.
(٢)
يخرج من داره ضُحًى، يتوكأ على عصاه، يسير بتمهل. يئنُّ من فرط الوجع. مُنْذُ متى صارت قدماه خؤونتين إلى هذه الدرجة، ومملَّتين إلى حد الضَّجر، لا تمنحانه سوى الألم؟! يجرجرهما قسرًا، فتقاومان الحركة، ينزع عصاه من الرَّمل، ويزفر، ويصمّم على مواصلة المسير، يحدّق في الشارع الخالي من المارة، ففي مثل هذا الوقت من النَّهار يظهر النَّجع مثل جثةٍ شاحبةٍ، قتلها الهجر والسكون؛ فَالشُّبَّانُ والكهول خرجوا مُنْذُ الصَّباح الباكر إلى أشغالهم، والصّبيان والبنات إلى مدارسهم، والنّساء أَنهيْنَ كنسَ أفنيتهن بعراجينَ النخيل، ودَخلْنَ مُنْذُ ساعةٍ إلى داخل دورهن، وأحكمن غلق الأبواب.. حتَّى الكلاب الضالة، والقطط انسحبت إلى أماكنها السّرية الظليلة.. ماذا عن رفاقه؟! هل سيجدهم مجتمعين هناك أمام سيجتهم، أم أنَّه أخطأ التوقيت؟! يحدِّق في الفراغ؛ يستحضر ملامحهم، يتأمَّلهم، يلمح الحزن يفيض من أعينهم ووجوههم.. لماذا ينظرون إليه هكذا؟! هو لَمْ يهزمهم قَطْ، لقد هزموه جميعًا، هُمْ يعرفون نقطة ضعفه جيدًا، ما إنْ يحتدم الدور، حتَّى يدندن منافسه بمقطعٍ من أغنيةٍ قديمةٍ، ثُمَّ يصمت فجأةً؛ فيشرد هو بعيدًا، محاولًا استرجاع ذكرياته القديمة.. هو رجلٌ في الغالب يهزمه الغناء، واجترار الذكريات، ولا يستفيق من خواطره إلّا على هزيمته المحقّقة.. يبصر حصواته صرعى خارج رقعة اللَّعب، لكنَّه لم يغضب قَطْ، لطالما تسامح مع مكر أصحابه، وانتحى جانبًا عَقبَ كلّ هزيمةٍ، وأكمل دندنة أغنيته كأنّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ.
يجرجر قدميه العصيتينِ، وينقر بعصاه الرّملَ، ويجتاز الشّوارع الصّامتة، ويصل بعدَ عنتٍ إلى حدود النجع، حيثُ تصطفُّ أشجار (الجازورين). لا أحدَ هناك؛ ينقبض قلبه، لكنَّه يلوذ بالظل، وما إن يلتقط أنفاسه، حتى يُخَطّط رقعة (السّيجا)، ويَرُصُّ الحصوات، ويجلس ساهمًا منتظرًا حضورهم.. يمرُّ النَّهار بطوله؛ فيعود الكهول والشبان والصبيان والبنات إلى النجع، يبصرونه وحيدًا؛ فيرقون لحاله، ويشيعونه بنظرات الرثاء. قد أوشكت الشَّمس أن تغيب، لكن أحدًا من رفاقه، لم يأت بعد؛ تساوره الشُّكوك، ربما مَلّوا جميعًا لعب (السيجا)، وما بها من حصارٍ، فَقَرَّرُوا الاعتزال، وربما قرَّروا الاختفاء عن ناظريه، من باب المزاح الثَّقيل، لكنَّهم حَتْمًا سيحضرون؛ فَلَنْ يطاوعهم بالتأكيد أَنْ تستبدّ به الوحدة والسَّأم. أخشى ما يخشاه أَنْ يكون قَدْ هان عليهم جمِيعًا ، فاجتمعوا سِرًّا بدونه، في مكانٍ لا يعلمه؛ ليجربوا لعبةً جديدةً، تعيد إلى أوراقهم المصفرة الاخضرار، بينما تركوه ها هنا وحيدًا، يتلَّهى بالغناء، واجْتِرَار الذكريات!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى