كرم الصباغ - مَعَارجُ الْغِزْلَانِ ..

ها أنا أجلس إلى مكتبي، أمامي أوراقٌ شاغرةٌ، أُقَلِّبُ بصري في دوائر الدُّخان المتصاعدة من سجائرَ، أشعلها الواحدة، تلو الأخرى، أطردُ أنفاسها؛ فَتَخْرُج، وَ قَدْ اختلطت بأنفاسي الحارقة. أتذكَّرُ مقولة أحدهم: ندخن؛ لنخفَّفَ من همومنا. أتحسَّس حجرًا ثقيلًا يجثم على صدري؛ فأرمق الأعقاب الَّتي ملأت المنفضة بشكٍّ، وارتياب. مرَّ قُرابة الشَّهر، وأنا على تلك الحال. أقبع طيلةَ الوقت داخلَ غرفتي المغلقة، ألوذ بصمتي و عزلتي بَعْدَ أنْ صار الكلام شوكًا في حلقي، وصارت الوجوه مرايا مهشَّمةً، لا أستبين ملامح أصحابها، و لا أرغب في مجالسة أيّ منهم.
أمدُّ يدي إلى فنجان، كدت أذهل عنه، أرتشف قهوتي المُرَّةِ. أسند رأسي إلى مسند الكرسي، وأحدِّق مليًّا إلى الجدار المقابل، أهمُّ بالنُّهوض، والخروج إلى الشُّرفة لاستنشاق بعض الهواء؛ فأشعر بأنَّ ثَمَّة كُرَةً حديديّةً و قيدًا يكبلان قدميَّ . ألتقط قلمَ رصاصٍ، و بذهنٍ شَاردٍ أرسم غزالةً، اعتدتُ أنْ أرسمها في الآونة الأخيرة بشكلٍ عفويٍّ، كُلمَّا قبضت أناملي على قلمٍ. تعدو غزالتي في الهواء، تكاد حوافرها لا تلامس الأرض؛ تبدو مذعورةً، كأنَّها تفرُّ من مطاردة سبعٍ، أو سهم صيَّادٍ.
يمور الوجع في صدري، أُنَحِّي الورقة جانبًا، ألوذُ بالموسيقى؛ ألتقط هاتفي، أضغط إحدى الأيقونات، تبدأ الأوركسترا العزف، تنساب أنغام "الهارب"*، وأنغام "الكمان" بهدوءٍ ورهافةٍ؛ تطلُّ "ريمُ" بوجهها الملائكيّ. فتاةٌ في العشرين من عمرها، طالما اشتقتُ إليها في غربتي؛ إذْ اعتدتُ السَّفر إلى إحدى الدُّول العربيَّة، حيثُ أعمل مُدَرّسًا للموسيقى. أرجع في زياراتٍ صيفيَّةٍ قصيرةٍ؛ فأجدُها كُلَّ مَرَّةٍ، قَدْ ازدادتْ طُولًا، واستدارة، و جمالًا عن ذي قبل؛ فيزداد قلبي انشراحًا.
ينساب لحن " البيانو" ناعمًا كالحرير. تخطر "ريم" في طريقها إلى كُلّيتها رشيقةً كما الغزلان، رقيقةً كما النِّسرين. تغني لها عصافير "الكناري"، و يغار عليها الصباح. أتخيَّلها عروسًا في ثوب الزِّفاف، أتخيّل شابّا وسيما يجلس بجوارها في كوشة العرس، ينظر إليها، وما إنْ تلتقي أعينهما، حتَّى ترفرف فوقهما عصافير "الكناري"، وسرعان ما ترشُّهما بالنَّغم، والحلوى، و بتلات الورد. وأنا بالقرب منهما، أنظر إليهما بحُنُوٍّ بالغٍ، تمتلئ عيناي بدموع الفرح، تتبدَّد كُلُّ مرارات غربتي، أغفر للأيَّام قسوتها. أستفيق على جرس الباب، تدخل "ريم" المنزل، تغمرني بابتساماتها، تعانقني، وتعانق أمها، تمازحني؛ تملأ قلبي بهجةً، حتَّى الجدران، والأثاث، والأشياء تطرب لعودتها؛ فيصبح القديم جديدًا، ويصبح المنطفئ لامعًا، ويصبح الباهت زاهيًا. يحين موعد سفري، تحلق بي الطائرة، أبحث عن روحي؛ فلا أجدها؛ أكتشف أنها غافلتني، وانسلت من جسدي دون أنْ أشعر، أكتشف أنَّها عادت إلى المنزل؛ لترافق "ريم"، أينما توجَّهت.
يرفع "المايسترو" عصاه، يقطع "التشيلو"* بصوته الجهير نجوى "الهارب"، و "الكمان"، وَسُرعانَ ما ينفخ عازفو "الترومبيت"* الثَّلاثة آلاتهم النحاسيَّة؛ فيخرج النَّغم حادًّا نافذًا، ويتلاشى على الفور حرير "البيانو". تغادر "ريم" المنزل بقلبٍ منقبضٍ، ترى الصَّباح عابسًا، على غير عادته، تبتسم له، لكنَّه لا يبتسم، في حين تحلِّق عصافير "الكناري" فوق رأسها بصمتٍ مطبقٍ.
تتوقف "الأوركسترا" عن العزف، فجأةً؛ تصمت جميع الآلات. تمرُّ لحظاتٍ ترقُّبٍ، يهتف بعدها "الكونترباص"* بصوته الغليظ. تعبر "ريم" الشَّارع، تُقْبِلُ سيَّارةٌ مسرعةً، تضطرب عصافير "الكناري"، يصرخ الصَّباح في وجه ابنتي الشَّاردة؛ لعلَّها تنتبه. تدهسها عجلاتُ السَّيَّارة، تتمدَّد على الأسفلت غارقةً في دمائها، تحطُّ عصافير "الكناري"، و زهور النّسرين علي جثمانها، و يبكي لفقدها الصَّباح.
تعزف "التوبا"* لحنًا جنائزيًا؛ أصرخ بدوري: أيتُّها الموسيقى لا ترشي الملح، وصبغتك الكاوية؛ فجرحي طازجٌ، لن يندمل. أغلق هاتفي، و لكنَّ الجدران تفاجئني بموسيقى أخرى من لحمي و دمي، لا أدري أمن بين ثنايا الجدران، أم من صدري ينوح ذلك الناي القديم؟! يستبدُّ بي الشَّجن، أعاود التَّحديق إلى الغزالة المرسومة، أبصرها تغادر الورقة، وما إنْ تقفز من الشُّرفة، حتَّى تعرج برفقة روحي، و عصافير "الكناري"، وما تبقى من نور الصَّباح إلى سماءٍ بعيدةٍ، تسكنها "ريم".

--------------------------------------
* الهارب، والتشيلو، والكونترباص: آلات موسيقية وترية.
* الترومبيت والتوبا: آلتا نفخ نحاسيتان.


** منشورة في مجلة "القصة" عدد يناير ٢٠٢٤

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى