أومأ فرنسيُّ لفتاةٍ عربيةٍ في مقهىً باريسيّ؛ لا يراها إلا هوَ... إلا أنها أشاحتْ بوجهها عنه؛ وأسقطتْ كبرياءه.. فسأل نفسه:
- أتعرفُها؟..
- لا. ولكنها.. تعرفني من لحن القول؛ فأنا فرنسي وكفى.
- هاااأنتَ تتكسّرُ أمامها؛ كعطرٍ فرنسيّ؛ ضاعت في الدربِ روائحه.
لكن قل لي: ماذا أعجبك بها؟
- لسانُها...! فقد كانت هنا؛ قبل أيامٍ ونطقت بما لا يُعرف.
- هذا طبيعي.. فأنتَ لا تفهم لغتها.
- كثيرات لا أعرفُ لغاتهن؛ ولكن هنا فجوة نادرة في فضاء الإيقاع لم يبلغه الإدراك التواصلي.
قال الساردُ: وحينَ أدركَهُ..أدركَها .
.
هذه (خلاصةُ) حكايةٍ من حكايات (ألفِ إيقاعٍ وإيقاعْ)، وتلك الفتاةُ، بطلةٌ في (مقامات الحريري) خرجتْ من سجن أبي زيد السروجي؛ لتذرعَ شوارعَ باريس تيهًا؛ تجرّ ذيول المقامات النائمةِ على عُقدِ الحياة، وعلى ركام الصراعات في الغرب والشرق. فقد جاءها نبأ المقهى، على أجنحةِ جبريل وميكال. غربَت ذاتُ الفرنسي في خيوطها، وصحتْ على حيرةٍ : كيف تقيّمُ هذه الذيول العربية؟
خرجتْ الذاتُ لتتلبس طرقَ الذاتِ في فضاءاتٍ، لا تدركها الأبصار. وليس الحديثُ هنا عن أصلٍ وفرعْ؛ إنما الحديث عن ذاتٍ وعتْ فروعا لها في آخرٍ أدركَ آخرًا في زمنٍ سابقٍ، حين كسّرت برواز المكان.
.
فما حكايةُ المقامات؟
المقاماتُ هي وعيُ الذاتِ بتفننها. ساردٍ وقاصٍّ ومقصقصٍ، وراوٍ، وممثّلٍ هزلي جادّ، ومخرجٍ يلتقطُ النهاياتِ قبل أوانها، وشاعرٍ لا يشعرُ في لحظاتِ حديْثِهِ مرةً، ويشعرُ مراتٍ كثيرة، ونبيٌّ يتصارعُ مع أجنحة الملائكةِ، وملكٌ يلوّن الزمان، وتاجرٍ أحمقٍ يملك الأموال، وشحاذٍ في رتبةِ سلطان، ومحتالٍ يستجدي الإبداع، ومبدعٍ يغرفُ من جيبِ السلطان، وزاهدٍ لا يعبدُ إلا الأموال، ومعربدٍ يهوى الجنسِ والحيوان، وعاشقٍ يهوى الأنام، وشاربٍ يعبدُ مزاجَ الفكر والألوان، ورجلٍ يكتب النساء، وامرأةٍ تحارب الرجال، وكاتبٍ يخطّ دفاتر الجنسِ بلا ذكورٍ ولا نسوان، ومعدمٍ يفلسف الوجود، وزاهدٍ تصومع في جبل الأوراق والنسيان، وعابدٍ سما إلى ربّات الخدور والجنان... ولا ينتهي الوصف، إلا بموت اللسان..!
لما كتبَ الحريريُّ في (البصرة) مقاماتِه؛ قال الناسُ في (بغداد) : هذه ليستْ من عمله، فليست من فضائله، ولا تُشاكل ألفاظه.
وقولُهم هذا يشرحُ انغلاقَ الذاتِ على أفعالٍ واعيةٍ؛ إذ لم يعوا أن تتفرع ذاتُ الحريري إلى ذوات. لهذا فالحريريُّ قال لهم: سأصنعُ مقامةً أخرى، أُضيفها إلى ما كتبتُ؛ لتكون دليلًا على صدقي. إلا أنَّ ذواته الأخرى لم تخرجْ طالما كان في (بغداد) بين من سجنوا ذاته وأغلقوا سُبل الخروج؛ فانغلقَ ذهنُ الحريريِّ، حتى عاد إلى البصرة؛ فعملَ (عشرَ) مقاماتٍ إضافية.
فحديثُ المقامات حديثُ السحرِ الذي انتبهَ لزمانِ الخطوط المبعثرة على الرمالِ، ولم يثرْ منها إلا ما أدركه، وأسعفتْهُ قوافلُ الظرفِ والمكان.وما تلك الفتاةُ التي كانت تتجوّلُ في باريسَ، إلا ذواتا خرجت من ضيقِ الأنساق، إلى سعةِ الكتابة الغيرية في شذرٍ تعبيري يؤسس لخطٍ غير متأسسٍ إلا بوعي من متلقٍ يعي تعدده. والسحرُ هنا يقابلُ العقلنة، التي محت تأمل ما وراءَ، وما بعد. وما انطلقَ من (عِقال) النسقِ إلا قِلة، هم في بعض لحظاتهم سجناء له؛ ولهذا فإن ذلك (الفرنسي) الذي أنبهر بلسان الفتاة، كان يرى أن العلم منتج غربي، وكل تطوّر جاء يمحي ثنائيةَ العقل واللاعقل هو مؤسس غربي أيضا. بينما تلك الفتاة خرجت من ضيق مقامات الحريري حين انتهى مطافُ أبي زيد السروجي، واستقرّ في مكانه (سروج)؛ وترك الكذب. خرجتْ من ضيق المقامات؛ لأنها لا تربط الآخر من خلال شرقٍ وغرب..، إنما من خلال تحررها من قيدِ المكان والزمان.
أخذت صديقها الفرنسي، وغادرا بهويةِ الكلام وحسب.
- أتعرفُها؟..
- لا. ولكنها.. تعرفني من لحن القول؛ فأنا فرنسي وكفى.
- هاااأنتَ تتكسّرُ أمامها؛ كعطرٍ فرنسيّ؛ ضاعت في الدربِ روائحه.
لكن قل لي: ماذا أعجبك بها؟
- لسانُها...! فقد كانت هنا؛ قبل أيامٍ ونطقت بما لا يُعرف.
- هذا طبيعي.. فأنتَ لا تفهم لغتها.
- كثيرات لا أعرفُ لغاتهن؛ ولكن هنا فجوة نادرة في فضاء الإيقاع لم يبلغه الإدراك التواصلي.
قال الساردُ: وحينَ أدركَهُ..أدركَها .
.
هذه (خلاصةُ) حكايةٍ من حكايات (ألفِ إيقاعٍ وإيقاعْ)، وتلك الفتاةُ، بطلةٌ في (مقامات الحريري) خرجتْ من سجن أبي زيد السروجي؛ لتذرعَ شوارعَ باريس تيهًا؛ تجرّ ذيول المقامات النائمةِ على عُقدِ الحياة، وعلى ركام الصراعات في الغرب والشرق. فقد جاءها نبأ المقهى، على أجنحةِ جبريل وميكال. غربَت ذاتُ الفرنسي في خيوطها، وصحتْ على حيرةٍ : كيف تقيّمُ هذه الذيول العربية؟
خرجتْ الذاتُ لتتلبس طرقَ الذاتِ في فضاءاتٍ، لا تدركها الأبصار. وليس الحديثُ هنا عن أصلٍ وفرعْ؛ إنما الحديث عن ذاتٍ وعتْ فروعا لها في آخرٍ أدركَ آخرًا في زمنٍ سابقٍ، حين كسّرت برواز المكان.
.
فما حكايةُ المقامات؟
المقاماتُ هي وعيُ الذاتِ بتفننها. ساردٍ وقاصٍّ ومقصقصٍ، وراوٍ، وممثّلٍ هزلي جادّ، ومخرجٍ يلتقطُ النهاياتِ قبل أوانها، وشاعرٍ لا يشعرُ في لحظاتِ حديْثِهِ مرةً، ويشعرُ مراتٍ كثيرة، ونبيٌّ يتصارعُ مع أجنحة الملائكةِ، وملكٌ يلوّن الزمان، وتاجرٍ أحمقٍ يملك الأموال، وشحاذٍ في رتبةِ سلطان، ومحتالٍ يستجدي الإبداع، ومبدعٍ يغرفُ من جيبِ السلطان، وزاهدٍ لا يعبدُ إلا الأموال، ومعربدٍ يهوى الجنسِ والحيوان، وعاشقٍ يهوى الأنام، وشاربٍ يعبدُ مزاجَ الفكر والألوان، ورجلٍ يكتب النساء، وامرأةٍ تحارب الرجال، وكاتبٍ يخطّ دفاتر الجنسِ بلا ذكورٍ ولا نسوان، ومعدمٍ يفلسف الوجود، وزاهدٍ تصومع في جبل الأوراق والنسيان، وعابدٍ سما إلى ربّات الخدور والجنان... ولا ينتهي الوصف، إلا بموت اللسان..!
لما كتبَ الحريريُّ في (البصرة) مقاماتِه؛ قال الناسُ في (بغداد) : هذه ليستْ من عمله، فليست من فضائله، ولا تُشاكل ألفاظه.
وقولُهم هذا يشرحُ انغلاقَ الذاتِ على أفعالٍ واعيةٍ؛ إذ لم يعوا أن تتفرع ذاتُ الحريري إلى ذوات. لهذا فالحريريُّ قال لهم: سأصنعُ مقامةً أخرى، أُضيفها إلى ما كتبتُ؛ لتكون دليلًا على صدقي. إلا أنَّ ذواته الأخرى لم تخرجْ طالما كان في (بغداد) بين من سجنوا ذاته وأغلقوا سُبل الخروج؛ فانغلقَ ذهنُ الحريريِّ، حتى عاد إلى البصرة؛ فعملَ (عشرَ) مقاماتٍ إضافية.
فحديثُ المقامات حديثُ السحرِ الذي انتبهَ لزمانِ الخطوط المبعثرة على الرمالِ، ولم يثرْ منها إلا ما أدركه، وأسعفتْهُ قوافلُ الظرفِ والمكان.وما تلك الفتاةُ التي كانت تتجوّلُ في باريسَ، إلا ذواتا خرجت من ضيقِ الأنساق، إلى سعةِ الكتابة الغيرية في شذرٍ تعبيري يؤسس لخطٍ غير متأسسٍ إلا بوعي من متلقٍ يعي تعدده. والسحرُ هنا يقابلُ العقلنة، التي محت تأمل ما وراءَ، وما بعد. وما انطلقَ من (عِقال) النسقِ إلا قِلة، هم في بعض لحظاتهم سجناء له؛ ولهذا فإن ذلك (الفرنسي) الذي أنبهر بلسان الفتاة، كان يرى أن العلم منتج غربي، وكل تطوّر جاء يمحي ثنائيةَ العقل واللاعقل هو مؤسس غربي أيضا. بينما تلك الفتاة خرجت من ضيق مقامات الحريري حين انتهى مطافُ أبي زيد السروجي، واستقرّ في مكانه (سروج)؛ وترك الكذب. خرجتْ من ضيق المقامات؛ لأنها لا تربط الآخر من خلال شرقٍ وغرب..، إنما من خلال تحررها من قيدِ المكان والزمان.
أخذت صديقها الفرنسي، وغادرا بهويةِ الكلام وحسب.