يمكن المرء، اي القارئ المتعدد الاهتمامات عموماً، وقارئ الأدب شعراً ونثراً على وجه التخصيص، يمكنه ان يلهو هذه المرة بعض الشيء، كأن يغمض عينيه ثم يفتح كيفما اتفق الكتاب الذي نحن بصدده، والواقع في 425 صفحة من القطع الكبير، فهو سيجد، لا محالة، اياً كانت الصفحة والموضوع الذي سيقت فيه، ما يحقق بعض صبوته ومشتهاه من قراءة الأدب: المتعة والمؤانسة، وهذه طريقة للقول بأن كتاب الروائي وفقيه العلامات الأدبية، الإيطالي المولود في الاسكندرية امبرتو ايكو، والصادر حديثاً بالفرنسية منقولاً عن الإيطالية لدى دار "غراسيه" في عنوان جامع هو "حول الأدب"، يحفل بإشراقات بحثية ذات طابع موسوعي من دون ان يتخلى عن هاجس الإمتاع والمؤانسة الملازم لأحوال الشغف الأدبي.
الكتاب يتضمن حوالى عشرين نصاً، بعضها لا يتعدى بضع صفحات، فيما يمتد معظم النصوص الأخرى على نيف وعشرين صفحة. والنصوص هذه عبارة عن مداخلات ومحاضرات ومقالات اعدّها ايكو لمناسبات مختلفة تمتد زمنياً من منتصف التسعينات من القرن الماضي الى ايامنا هذه تقريباً. لا داعي للقول، إذاً، بأن ما يجمع بين هذه النصوص إنما هو العنوان العريض للأدب وشواغله. بعبارة اخرى، تتوالى النصوص كما لو انها لوحات بحثية تنقل النظر من هذه التيمة الى تلك، وتقارب كل واحدة هذا الوجه او ذاك من وجوه الاشتغال بحبور وغبطة قل نظيرهما على الأدب صناعة وتأويلاً وتعقّلاً لعدد من ابرز نتاجاته ذات الصفة العالمية. إنها بالأحرى سلسلة من الحفريات المعرفية - السيميائية التي تحضّ على التوغل في اكتناه مداخل ومخارج العمل الأدبي من دون ان تستنفد الطابع المفتوح بالضرورة للأثر الأدبي، اي من دون ان يغلق الباب امام تأويلات اخرى زاعماً حيازة القول الفصل والتفسير النهائي حول هذه المسألة او تلك.
"اللغة، تعريفاً، تذهب حيثما تشاء، ولا يستطيع اي مرسوم صادر من اعلى، من السياسة، او من الأكاديمية، ان يوقف سيرها ويجعلها تنعطف نحو وضعيات توصف زعماً بأنها مثلى .... تذهب اللغة حيثما تشاء، على انها تبقى حساسة حيال إيحاءات الأدب. فبدون دانتي، لم يكن ممكناً ان تنشأ لغة ايطالية موحدة". تكاد هذه العبارات القليلة، المأخوذة من محاضرة ألقاها ايكو عام 2000 وتناول فيها "بعض وظائف الأدب"، تكاد تلخّص الخطوط العريضة لمنظاره البحثي. فاللغة اشبه بكائن حي ينمو ويشق طريقه الخاص به. على ان هذا النمو لا يحصل في الفراغ، بل في ظل شروط تاريخية وثقافية تستدعي إحداث تحولات تتراسل مع ازدياد الحاجة الى التعبير المنطلق والمفتوح ذي الأغراض المتنوعة. ومن هنا حساسية اللغة حيال موحيات الأدب الذي يشكّل، بحسب ايكو، احدى السلطات غير المادية، بحيث يستحيل تقدير مفاعيلها بالاستناد الى معايير الوزن والحجم الماديين. والفكرة هذه ينطلق منها ايكو لمقاربة بعض وظائف الأدب، خصوصاً في زمن المعلوماتية والتواصل عبر الكتابة الإلكترونية، مشدداً على ان الأدب لا يفيد ولا يصلح لشيء، إذا كان هذا الشيء محمولاً على معنى الأثر المادي المباشر، وغنيّ عن القول، ربما ان مقاربة ايكو التي تشكل النص الأول لكتابه تحفل بتلميحات وأفكار نجدها مدعاة توسّع ومعالجة في نصوص اخرى، وفي مقدّمها نص حول "التناص" او التفاعل النصي ومستويات القراءة. فالكتب ونصوصها، على ما يشدد ايكو، تتحدث في ما بينها وتخاطب بعضها البعض بطريقة حميمية تستدعي من دارس العلامات الأدبية وتقنيات السرد ان يكشف عن منطقها وآليات اشتغالها.
على النحو هذا، يتناول ايكو بعض القراءات الحديثة للقسم الثالث من عمل دانتي التأسيسي "الكوميديا الإلهية"، اي القسم المتعلق بصورة وتمثيلات "الفردوس". فيرى ان من الخطأ القول بأنه لا يمكن ان يكون هناك شعر يقوم على الذكاء المحض. ويعلل ايكو مكاشفته النقدية هذه بلفت النظر الى ان فكرتي النور واللون كانتا شديدتي الحضور في العصر الوسيط، وكانت هاتان التيمتان تتغذيان من مرجعيات لاهوتية وتخييلية مبثوثة في تمثيلات وعبارات الحياة القروسطية. فيلحظ في هذا السياق ان علماء اللاهوت جعلوا من النور مبدأ ميتافيزيقياً، وأن علم البصريات تطور بتأثير العرب طوال قرون العصر الوسيط. وأنتج هذا تأملات حول عجائب قوس القزح، ومعجزات المرايا، وهذه المرايا تبدو، بطريقة غريبة احياناً، متشكلة من مادة سائلة في "الفردوس". ويستفاد من هذا ان دانتي لم يبتكر شعرية للنور لاعباً على مادة متمنّعة او متحفظة على الشعر. فهو وجد هذه المادة في كل ما كان قائماً حوله، وراح يعيد صوغها على طريقته متوجهاً الى جمهور من القراء كانوا يستشعرون النور واللون بوصفهما مدار لوعة وشغف حقيقيين.
يلجأ ايكو في عدد من نصوص كتابه الى مادة ادبية مخصوصة يستند إليها للتوسع في شرح فكرة او تيمة عامة، ما يجعل هذه النصوص اشبه بتمرينات او تطبيقات حاذقة تنم عن خبرة كبيرة في قراءة النصوص الأدبية قراءة تأويلية للعلامات السيميولوجيا، فهو، مثلاً، يكرّس مقالة طويلة لقصة في عنوان "سيلفي" للكاتب الفرنسي جيرار دونرفال. يخوض ايكو في دقائق هذه القصة المكتوبة عام 1853، ساعياً الى تحليل اللعبة الأدبية التي تولّد اثراً غامضاً لدى القارئ يطلق عليه صفة "الأثر او المفعول الضبابي". وفي تحليله هذا، يستخدم ايكو ادوات ومفاتيح اساسية للنقد الأدبي والمعالجة النصّية، ويرينا كيف ان الكاتب نرفال يدخل خلسة او متسللاً الى القصة التي يرويها بطلها في صيغة المتكلم. وفي مقالة رابعة، نرى ايكو يتناول الفوارق السيميائية بين "المفارقة" وبين الأمثولة الحكمية المقتضبة افوريزم. ولهذا الغرض يعود ايكو الى مؤلَّف للكاتب الإيطالي بيتيغريللي الذي ذاع صيته كصاحب عبارات حكمية طريفة، من نوع ان "علم النحو اداة معقدة تعلّمكم اللغات، لكنها تمنعكم عن الكلام". ويرى ايكو ان احدى القرائن الصالحة للتمييز بين "المفارقة" وبين الأمثولة الحكمية القابلة للارتجاع، اي لقلب عباراتها، تكمن بالضبط في صعوبة قلب عبارات المفارقة. ويضرب مثلاً على ذلك تعريفاً للفكرة الصهيونية اخذه بيتيغريللي من الكاتب تريستان برنار، وهو تعريف "يصح" بالطبع قبل نشوء دولة اسرائيل"، بحسب ايكو. ويقول التعريف ان "الصهيونية هي ان يطلب شخص يهودي مالاً من يهودي آخر من اجل إرسال يهودي ثالث الى فلسطين". هذه المعادلة، في رأي ايكو، يستحيل قلبها، ما يدل على ان شكلها الصائب كان يحتوي على حقيقة معينة، او هذا على الأقل ما كان تريستان برنار يريد منا ان نقبله كحقيقة. ولئن كانت مقالة ايكو عبارة عن مداخلة ألقيت في مؤتمر حول اوسكار وايلد في جامعة بولونيا الإيطالية عام 2000، فإنه يخصص القسم الثاني منها للحديث عن امثولات ومفارقات وايلد، ويعرض الكثير منها، خالصاً الى القول، من دون مجاملة، بأنه من الصائب ألاّ نطلب من وايلد تمييزاً قاطعاً بين المفارقات الصحيحة، والأمثولات الحكمية البديهية وتلك التي تحتمل قلب عباراتها اي خاطئة، او خالية من قيمة الحقيقة، فما يفصح عنه ويشهره وايلد، إنما هو ضرب من السيولة البلاغية المسلية وليس شغفاً فلسفياً.
في مقالة طويلة اخرى، يتناول ايكو فكرة "المكتبة العالمية" واختيارها ادبياً بطرائق مختلفة على يد كتّاب مختلفين. على انه يقارن على وجه التخصيص، حول هذه الفكرة بالذات، بين تجربة جيمس جويس وتجربة الكاتب الأرجنتيني بورخيس، صاحب التأثير الكبير على ايكو نفسه في الكتاب نص مشوّق جداً يتحدث فيه ايكو عن "قلق التأثير" عموماً، وعن علاقته ببورخيس تحديداً. يرى ايكو ان التجريبية الأدبية تشتغل على المكان الذي نقيم فيه وهو اللغات، على ان للغة وجهين، وهذا ما يعرفه جيداً علماء الألسنية. فهناك الدال من جهة، والمدلول من جهة اخرى، الدال ينظّم الأصوات، فيما المدلول ينظّم الأفكار. وهذا التنظيم للأفكار، الذي تتكون منه صورة ثقافة معينة، ليس مستقلاً عن اللغة. فمن دون لغة، لن يكون هناك افكار، بل دفق من الاختبار غير المكتمل وغير المفكّر فيه. العمل تجريبياً على اللغة، وعلى الثقافة التي تنشرها وتنقلها هذه اللغة، يعني اذاً ان ينشط المرء على جبهتين اثنتين: جبهة الدال، لاعباً على الكلمات وبها فمن خلال تدمير وإعادة تنظيم الكلمات، نقوم بإعادة تنظيم الأفكار، وجبهة المدلول، عبر اللعب على الأفكار، من خلال دفع الكلمة الى ملامسة آفاق جديدة غير محسوبة. ويخلص ايكو من شرحه هذا الى القول بأن "جويس لعب على الكلمات، فيما لعب بورخيس على الأفكار". يتضمن الكتاب بالطبع نصوصاً - مداخلات اكثر اتساماً بالطابع البحثي النظري. ونخص بالذكر معالجتين اثنتين، الأولى منهما تتعلق بالرمز، والثانية بالأسلوب. في النص الأول، وهو عبارة عن محاضرة ألقيت عام 1994، يعتبر ايكو ان "الرمز" مصطلح يجدر التعامل معه بحذر كبير، منتبهين الى السياقات التي ينوجد فيها كي نعرف المعنى الذي يحمله في موضع معين وليس في موضع آخر. "حتى أنا بالفعل، لم اعد اعرف ما الذي يكون رمزاً". ويلحظ ايكو ان الاستعارة لا تندرج ضمن النظام الرمزي. كذلك الأمر بالنسبة الى التعبير بواسطة الأمثولة اليغوريا. والحق ان التمييز بين هذه المحتويات حصل في الغرب في وقت متأخر، مع نشأة الرومنطيقية، وخصوصاً مع "افوريزمات" الكاتب الألماني غوته المعروفة. اما في العهد الكلاسيكي والقروسطي فإن "الرمز" و"الأمثولة" اليغوريا كانا مترادفين. النص الثاني وهو ايضاً طويل بعض الشيء، عبارة عن مداخلة ألقيت عام 1995 في مؤتمر ادبي ايطالي مخصص لتناول الأسلوب. ها هنا ايضاً، يشير ايكو الى ان الكلمة لا تحوز على تاريخ متجانس. فهي، في البداية، كانت مرادفة "للكتابة" وبالتالي لطريقة التعبير الأدبي. ثم راحت بسرعة تعيّن الأنواع الأدبية التي ازداد ترميزها وتعاظم. وترافق ذلك مع إفشاء قواعد صارمة للكتابة بحيث ان الأسلوب صار سمة للشجاعة وللقوة الروحية اللتين تحضان على انتهاك القاعدة. ومع انتشار المفاهيم الرومنطيقية عن الموهبة و"العبقرية" راح مفهوم "الأسلوب" يتخذ وضعية مختلفة تماماً، خصوصاً في نهاية القرن التاسع عشر مع انتشار النزعة الانحطاطية والتلاعبية، الى حد ان الأسلوب صار يتماهى مع الطرافة الغرائبية التي تحتقر النماذج. وعلى هذه الأرضية ستنشأ الملامح الجمالية لأعمال الطلائع الأدبية ذات الأثر التاريخي. يمكننا ان نضيف الى لائحة النصوص "النظرية" نصاً ثالثاً يعود فيه ايكو الى كتاب ارسطو حول الشعر متعقباً بطريقة نقدية ابرز وجوهه ناهيك عن تأويلاته اللاحقة وأثره في بناء المفاهيم الشعرية والأدبية.
وسط التشكيلة المتنوعة من المقاربات التي يحفل بها كتاب "حول الأدب" نقع بطبيعة الحال على بعض النصوص القصيرة، قد يكون ابرزها النص الممتع الذي يتناول فيه ايكو "اسلوب" المانيفست، اي الكتاب الصغير المعروف عربياً باسم "البيان الشيوعي" والذي قرأه مئات الملايين في العالم. على اي حال، يجد القارئ متعة كبيرة وهو يتنقل بين مقاربات متنوعة تطاول شواغل ادبية بارزة، اذ ان ايكو يزاوج على الدوام بين المعرفة الموسوعية الطابع وبين الحرص على التشويق السردي. وقد يكون مفيداً ان نشير الى ان ايكو يتحدث عن هذه المسألة بالذات في النص الأخير والطويل نسبياً، من الكتاب، وهو نسخة منقحة ومزيدة لنص نشر في ايطاليا عام 1996 في عنوان "كيف أكتب". فها هنا، يعرض ايكو طريقة عمله الفكري والسردي، وتجربته ككاتب متحدثاً عن بداياته مع الكتابة والتأليف في سن مبكرة، وكيف انه عزف عن محاولة الكتابة المسماة ابداعية طوال ثلاثين عاماً، مكتفياً بالعمل البحثي الدائر على قراءة العلامات الأدبية وتأويلاتها وفلسفتها. ولم يشعر ايكو، بحسب ما يقول، بأي اسف او ندم بسبب عزوفه عن الخوض في عمل فني قاصراً جهده ومهارته على وضع "مؤلفات ذات طابع علمي اكاديمي. على انه يشير في الوقت نفسه الى انه عندما ناقش اطروحته حول المشكلة الجمالية لدى القديس توما الاكويني، اندهش من ملاحظة اعتراضية قدمها احد الأساتذة المقوَّمين للأطروحة. ومع ان هذا الأستاذ نشر لاحقاً الأطروحة كما هي، فإنه قال لإيكو بأنه سرد مراحل بحثه كما لو ان الأمر يتعلق بتحقيق او استقصاء، الى حد انه يتحدث عن المسالك الخاطئة والفرضيات التي استبعدها بالتالي. الباحث الناضج يقوم بهذه التجارب، اضاف الأستاذ، إلا انه لا ينقل الى الجمهور في ما بعد سوى خلاصاته. يوافق ايكو على ان اطروحته كانت بالفعل كما وصفها الأستاذ، لكنه مع ذلــك لم يســتشعر هذا كأنه ضـرب من التقييد. بل على العكس، "ففي هذه اللحظة بالذات، ترسخت قناعتي بــأن اي بحــث يــنبغي ان يكون مروياً على هذا النحو. وأحسب انني سلكت هذا المسلك خلال اعدادي لسائر محاولاتي التالية".
حسن شامي
من جريدة الحياة
الكتاب يتضمن حوالى عشرين نصاً، بعضها لا يتعدى بضع صفحات، فيما يمتد معظم النصوص الأخرى على نيف وعشرين صفحة. والنصوص هذه عبارة عن مداخلات ومحاضرات ومقالات اعدّها ايكو لمناسبات مختلفة تمتد زمنياً من منتصف التسعينات من القرن الماضي الى ايامنا هذه تقريباً. لا داعي للقول، إذاً، بأن ما يجمع بين هذه النصوص إنما هو العنوان العريض للأدب وشواغله. بعبارة اخرى، تتوالى النصوص كما لو انها لوحات بحثية تنقل النظر من هذه التيمة الى تلك، وتقارب كل واحدة هذا الوجه او ذاك من وجوه الاشتغال بحبور وغبطة قل نظيرهما على الأدب صناعة وتأويلاً وتعقّلاً لعدد من ابرز نتاجاته ذات الصفة العالمية. إنها بالأحرى سلسلة من الحفريات المعرفية - السيميائية التي تحضّ على التوغل في اكتناه مداخل ومخارج العمل الأدبي من دون ان تستنفد الطابع المفتوح بالضرورة للأثر الأدبي، اي من دون ان يغلق الباب امام تأويلات اخرى زاعماً حيازة القول الفصل والتفسير النهائي حول هذه المسألة او تلك.
"اللغة، تعريفاً، تذهب حيثما تشاء، ولا يستطيع اي مرسوم صادر من اعلى، من السياسة، او من الأكاديمية، ان يوقف سيرها ويجعلها تنعطف نحو وضعيات توصف زعماً بأنها مثلى .... تذهب اللغة حيثما تشاء، على انها تبقى حساسة حيال إيحاءات الأدب. فبدون دانتي، لم يكن ممكناً ان تنشأ لغة ايطالية موحدة". تكاد هذه العبارات القليلة، المأخوذة من محاضرة ألقاها ايكو عام 2000 وتناول فيها "بعض وظائف الأدب"، تكاد تلخّص الخطوط العريضة لمنظاره البحثي. فاللغة اشبه بكائن حي ينمو ويشق طريقه الخاص به. على ان هذا النمو لا يحصل في الفراغ، بل في ظل شروط تاريخية وثقافية تستدعي إحداث تحولات تتراسل مع ازدياد الحاجة الى التعبير المنطلق والمفتوح ذي الأغراض المتنوعة. ومن هنا حساسية اللغة حيال موحيات الأدب الذي يشكّل، بحسب ايكو، احدى السلطات غير المادية، بحيث يستحيل تقدير مفاعيلها بالاستناد الى معايير الوزن والحجم الماديين. والفكرة هذه ينطلق منها ايكو لمقاربة بعض وظائف الأدب، خصوصاً في زمن المعلوماتية والتواصل عبر الكتابة الإلكترونية، مشدداً على ان الأدب لا يفيد ولا يصلح لشيء، إذا كان هذا الشيء محمولاً على معنى الأثر المادي المباشر، وغنيّ عن القول، ربما ان مقاربة ايكو التي تشكل النص الأول لكتابه تحفل بتلميحات وأفكار نجدها مدعاة توسّع ومعالجة في نصوص اخرى، وفي مقدّمها نص حول "التناص" او التفاعل النصي ومستويات القراءة. فالكتب ونصوصها، على ما يشدد ايكو، تتحدث في ما بينها وتخاطب بعضها البعض بطريقة حميمية تستدعي من دارس العلامات الأدبية وتقنيات السرد ان يكشف عن منطقها وآليات اشتغالها.
على النحو هذا، يتناول ايكو بعض القراءات الحديثة للقسم الثالث من عمل دانتي التأسيسي "الكوميديا الإلهية"، اي القسم المتعلق بصورة وتمثيلات "الفردوس". فيرى ان من الخطأ القول بأنه لا يمكن ان يكون هناك شعر يقوم على الذكاء المحض. ويعلل ايكو مكاشفته النقدية هذه بلفت النظر الى ان فكرتي النور واللون كانتا شديدتي الحضور في العصر الوسيط، وكانت هاتان التيمتان تتغذيان من مرجعيات لاهوتية وتخييلية مبثوثة في تمثيلات وعبارات الحياة القروسطية. فيلحظ في هذا السياق ان علماء اللاهوت جعلوا من النور مبدأ ميتافيزيقياً، وأن علم البصريات تطور بتأثير العرب طوال قرون العصر الوسيط. وأنتج هذا تأملات حول عجائب قوس القزح، ومعجزات المرايا، وهذه المرايا تبدو، بطريقة غريبة احياناً، متشكلة من مادة سائلة في "الفردوس". ويستفاد من هذا ان دانتي لم يبتكر شعرية للنور لاعباً على مادة متمنّعة او متحفظة على الشعر. فهو وجد هذه المادة في كل ما كان قائماً حوله، وراح يعيد صوغها على طريقته متوجهاً الى جمهور من القراء كانوا يستشعرون النور واللون بوصفهما مدار لوعة وشغف حقيقيين.
يلجأ ايكو في عدد من نصوص كتابه الى مادة ادبية مخصوصة يستند إليها للتوسع في شرح فكرة او تيمة عامة، ما يجعل هذه النصوص اشبه بتمرينات او تطبيقات حاذقة تنم عن خبرة كبيرة في قراءة النصوص الأدبية قراءة تأويلية للعلامات السيميولوجيا، فهو، مثلاً، يكرّس مقالة طويلة لقصة في عنوان "سيلفي" للكاتب الفرنسي جيرار دونرفال. يخوض ايكو في دقائق هذه القصة المكتوبة عام 1853، ساعياً الى تحليل اللعبة الأدبية التي تولّد اثراً غامضاً لدى القارئ يطلق عليه صفة "الأثر او المفعول الضبابي". وفي تحليله هذا، يستخدم ايكو ادوات ومفاتيح اساسية للنقد الأدبي والمعالجة النصّية، ويرينا كيف ان الكاتب نرفال يدخل خلسة او متسللاً الى القصة التي يرويها بطلها في صيغة المتكلم. وفي مقالة رابعة، نرى ايكو يتناول الفوارق السيميائية بين "المفارقة" وبين الأمثولة الحكمية المقتضبة افوريزم. ولهذا الغرض يعود ايكو الى مؤلَّف للكاتب الإيطالي بيتيغريللي الذي ذاع صيته كصاحب عبارات حكمية طريفة، من نوع ان "علم النحو اداة معقدة تعلّمكم اللغات، لكنها تمنعكم عن الكلام". ويرى ايكو ان احدى القرائن الصالحة للتمييز بين "المفارقة" وبين الأمثولة الحكمية القابلة للارتجاع، اي لقلب عباراتها، تكمن بالضبط في صعوبة قلب عبارات المفارقة. ويضرب مثلاً على ذلك تعريفاً للفكرة الصهيونية اخذه بيتيغريللي من الكاتب تريستان برنار، وهو تعريف "يصح" بالطبع قبل نشوء دولة اسرائيل"، بحسب ايكو. ويقول التعريف ان "الصهيونية هي ان يطلب شخص يهودي مالاً من يهودي آخر من اجل إرسال يهودي ثالث الى فلسطين". هذه المعادلة، في رأي ايكو، يستحيل قلبها، ما يدل على ان شكلها الصائب كان يحتوي على حقيقة معينة، او هذا على الأقل ما كان تريستان برنار يريد منا ان نقبله كحقيقة. ولئن كانت مقالة ايكو عبارة عن مداخلة ألقيت في مؤتمر حول اوسكار وايلد في جامعة بولونيا الإيطالية عام 2000، فإنه يخصص القسم الثاني منها للحديث عن امثولات ومفارقات وايلد، ويعرض الكثير منها، خالصاً الى القول، من دون مجاملة، بأنه من الصائب ألاّ نطلب من وايلد تمييزاً قاطعاً بين المفارقات الصحيحة، والأمثولات الحكمية البديهية وتلك التي تحتمل قلب عباراتها اي خاطئة، او خالية من قيمة الحقيقة، فما يفصح عنه ويشهره وايلد، إنما هو ضرب من السيولة البلاغية المسلية وليس شغفاً فلسفياً.
في مقالة طويلة اخرى، يتناول ايكو فكرة "المكتبة العالمية" واختيارها ادبياً بطرائق مختلفة على يد كتّاب مختلفين. على انه يقارن على وجه التخصيص، حول هذه الفكرة بالذات، بين تجربة جيمس جويس وتجربة الكاتب الأرجنتيني بورخيس، صاحب التأثير الكبير على ايكو نفسه في الكتاب نص مشوّق جداً يتحدث فيه ايكو عن "قلق التأثير" عموماً، وعن علاقته ببورخيس تحديداً. يرى ايكو ان التجريبية الأدبية تشتغل على المكان الذي نقيم فيه وهو اللغات، على ان للغة وجهين، وهذا ما يعرفه جيداً علماء الألسنية. فهناك الدال من جهة، والمدلول من جهة اخرى، الدال ينظّم الأصوات، فيما المدلول ينظّم الأفكار. وهذا التنظيم للأفكار، الذي تتكون منه صورة ثقافة معينة، ليس مستقلاً عن اللغة. فمن دون لغة، لن يكون هناك افكار، بل دفق من الاختبار غير المكتمل وغير المفكّر فيه. العمل تجريبياً على اللغة، وعلى الثقافة التي تنشرها وتنقلها هذه اللغة، يعني اذاً ان ينشط المرء على جبهتين اثنتين: جبهة الدال، لاعباً على الكلمات وبها فمن خلال تدمير وإعادة تنظيم الكلمات، نقوم بإعادة تنظيم الأفكار، وجبهة المدلول، عبر اللعب على الأفكار، من خلال دفع الكلمة الى ملامسة آفاق جديدة غير محسوبة. ويخلص ايكو من شرحه هذا الى القول بأن "جويس لعب على الكلمات، فيما لعب بورخيس على الأفكار". يتضمن الكتاب بالطبع نصوصاً - مداخلات اكثر اتساماً بالطابع البحثي النظري. ونخص بالذكر معالجتين اثنتين، الأولى منهما تتعلق بالرمز، والثانية بالأسلوب. في النص الأول، وهو عبارة عن محاضرة ألقيت عام 1994، يعتبر ايكو ان "الرمز" مصطلح يجدر التعامل معه بحذر كبير، منتبهين الى السياقات التي ينوجد فيها كي نعرف المعنى الذي يحمله في موضع معين وليس في موضع آخر. "حتى أنا بالفعل، لم اعد اعرف ما الذي يكون رمزاً". ويلحظ ايكو ان الاستعارة لا تندرج ضمن النظام الرمزي. كذلك الأمر بالنسبة الى التعبير بواسطة الأمثولة اليغوريا. والحق ان التمييز بين هذه المحتويات حصل في الغرب في وقت متأخر، مع نشأة الرومنطيقية، وخصوصاً مع "افوريزمات" الكاتب الألماني غوته المعروفة. اما في العهد الكلاسيكي والقروسطي فإن "الرمز" و"الأمثولة" اليغوريا كانا مترادفين. النص الثاني وهو ايضاً طويل بعض الشيء، عبارة عن مداخلة ألقيت عام 1995 في مؤتمر ادبي ايطالي مخصص لتناول الأسلوب. ها هنا ايضاً، يشير ايكو الى ان الكلمة لا تحوز على تاريخ متجانس. فهي، في البداية، كانت مرادفة "للكتابة" وبالتالي لطريقة التعبير الأدبي. ثم راحت بسرعة تعيّن الأنواع الأدبية التي ازداد ترميزها وتعاظم. وترافق ذلك مع إفشاء قواعد صارمة للكتابة بحيث ان الأسلوب صار سمة للشجاعة وللقوة الروحية اللتين تحضان على انتهاك القاعدة. ومع انتشار المفاهيم الرومنطيقية عن الموهبة و"العبقرية" راح مفهوم "الأسلوب" يتخذ وضعية مختلفة تماماً، خصوصاً في نهاية القرن التاسع عشر مع انتشار النزعة الانحطاطية والتلاعبية، الى حد ان الأسلوب صار يتماهى مع الطرافة الغرائبية التي تحتقر النماذج. وعلى هذه الأرضية ستنشأ الملامح الجمالية لأعمال الطلائع الأدبية ذات الأثر التاريخي. يمكننا ان نضيف الى لائحة النصوص "النظرية" نصاً ثالثاً يعود فيه ايكو الى كتاب ارسطو حول الشعر متعقباً بطريقة نقدية ابرز وجوهه ناهيك عن تأويلاته اللاحقة وأثره في بناء المفاهيم الشعرية والأدبية.
وسط التشكيلة المتنوعة من المقاربات التي يحفل بها كتاب "حول الأدب" نقع بطبيعة الحال على بعض النصوص القصيرة، قد يكون ابرزها النص الممتع الذي يتناول فيه ايكو "اسلوب" المانيفست، اي الكتاب الصغير المعروف عربياً باسم "البيان الشيوعي" والذي قرأه مئات الملايين في العالم. على اي حال، يجد القارئ متعة كبيرة وهو يتنقل بين مقاربات متنوعة تطاول شواغل ادبية بارزة، اذ ان ايكو يزاوج على الدوام بين المعرفة الموسوعية الطابع وبين الحرص على التشويق السردي. وقد يكون مفيداً ان نشير الى ان ايكو يتحدث عن هذه المسألة بالذات في النص الأخير والطويل نسبياً، من الكتاب، وهو نسخة منقحة ومزيدة لنص نشر في ايطاليا عام 1996 في عنوان "كيف أكتب". فها هنا، يعرض ايكو طريقة عمله الفكري والسردي، وتجربته ككاتب متحدثاً عن بداياته مع الكتابة والتأليف في سن مبكرة، وكيف انه عزف عن محاولة الكتابة المسماة ابداعية طوال ثلاثين عاماً، مكتفياً بالعمل البحثي الدائر على قراءة العلامات الأدبية وتأويلاتها وفلسفتها. ولم يشعر ايكو، بحسب ما يقول، بأي اسف او ندم بسبب عزوفه عن الخوض في عمل فني قاصراً جهده ومهارته على وضع "مؤلفات ذات طابع علمي اكاديمي. على انه يشير في الوقت نفسه الى انه عندما ناقش اطروحته حول المشكلة الجمالية لدى القديس توما الاكويني، اندهش من ملاحظة اعتراضية قدمها احد الأساتذة المقوَّمين للأطروحة. ومع ان هذا الأستاذ نشر لاحقاً الأطروحة كما هي، فإنه قال لإيكو بأنه سرد مراحل بحثه كما لو ان الأمر يتعلق بتحقيق او استقصاء، الى حد انه يتحدث عن المسالك الخاطئة والفرضيات التي استبعدها بالتالي. الباحث الناضج يقوم بهذه التجارب، اضاف الأستاذ، إلا انه لا ينقل الى الجمهور في ما بعد سوى خلاصاته. يوافق ايكو على ان اطروحته كانت بالفعل كما وصفها الأستاذ، لكنه مع ذلــك لم يســتشعر هذا كأنه ضـرب من التقييد. بل على العكس، "ففي هذه اللحظة بالذات، ترسخت قناعتي بــأن اي بحــث يــنبغي ان يكون مروياً على هذا النحو. وأحسب انني سلكت هذا المسلك خلال اعدادي لسائر محاولاتي التالية".
حسن شامي
من جريدة الحياة