تقديم :
يقدم موران في هذا المقال تحليلا عميقا لأزمة التنمية كما تمارس حاليا بدوغمائية عمياء لا تفتح إمكانية للنقد، ويقدم تحليلا عميقا لأزمة الحضارة الغربية التي تعمم نفسها كنموذج مطلق لا يرقى إليه الشك، ويبرز ما ترتب عن هذا التعميم من انعكاسات مدمرة على صعيد المجتمعات الغربية نفسها وعلى صعيد بقية بلدان العالم. ويصوغ نقدا شاملا للاختيارين اللذين أفرزتهما الحضارة الغربية الحديثة بشقيها الرأسمالي الليبرالي والاشتراكي الشيوعي. إنه مقال يهم الجميع إذن ويحثنا على التفكير وإعادة النظر في الاختيارات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية… التي تدعي أنها الطريق الوحيد الأمثل والأخير أمام البشرية لكي تحقق الرفاهية والسعادة… ورغم مناخ اليأس الذي يسود الواقع ، فإن المقال ينفتح في نهايته على أفق متفائل يستمده الكاتب من حس تاريخي عميق. ( المترجم).
I – مفهوم التنمية
التنمية مفهوم من وضع هيئة الأمم المتحدة، هيمن خلال النصف الأول من القرن العشرين. والتنمية كلمة ذات سلطة، تلتقي حولها كل الإيديولوجيات السياسية المبتذلة خلال عقود الخمسينات والستينات. ولكن هل تم التفكير فيها حقا؟ لقد فرضت نفسها في نفس الوقت كمفهوم ذي سيادة، كمفهوم واضح، تجريبي ( قابل للقياس بواسطة مؤشرات نمو الإنتاج الصناعي والرفع من مستوى العيش)، وغني (يدل في حد ذاته وفي نفس الوقت على النمو، الازدهار وتقدم الفرد والمجتمع). ولكن لم يتم الانتباه إلى أنها أيضا مفهوم غامض، غير دقيق، أسطوري وفقير.
المشكل الأولي هو مشكل مفاهيم. إذا كانت هناك أزمة تنمية، فإن أحد أول انعكاسات هذه الأزمة، وكل الأزمات الأخرى، هو أن يتحول ما كان دقيقا إلى ملتبس، وما كان واضحا إلى ضبابي، وأن يبرز التناقض داخل مفهوم كان يبدو منسجما.
يؤسس مفهوم التنمية وضوحه على وضوح المفهوم البيولوجي حيث يعتبر الأول نفسه امتدادا للثاني، ويعتبر نفسه بسذاجة نظيرا له على المستوى السوسيو- اقتصادي. من المعلوم فعلا أن الأجسام البيولوجية تتطور انطلاقا من بويضة خلال مرحلة هي في نفس الوقت مرحلة نمو لعناصرها المكونة وتفتح لإمكانياتها. ولكن حتى على المستوى البيولوجي، فإن مصطلح النمو يطرح عدة مشاكل. ماذا يحدث أثناء مسلسل التطور البيولوجي بحصر المعنى خلال تشكل الجنين؟ ما يحدث هو مسلسل تخصص الخلايا. ولكن ما يبدو تطورا على مستوى الكل يبدو كتقهقر وانحلال على مستوى العناصر. إن خلايا البشرة مثلا تشيخ قبل الأوان، والخلايا الأرقى، خلايا الدماغ، تفقد قدرتها على تنظيم أيضها. وبعبارة أخرى، يتم إنتاج خلايا متخصصة من خلال تلف نسبي للخلايا الأخرى. وهكذا فإن مسلسل التطور، حتى من وجهة نظر بيولوجية يتحقق في حدود، ومع إكراهات، بل مع حالات تقهقر. إن كل خلية من خلايانا تملك مجموع الرأسمال المعلوماتي الذي يشكل شخصيتنا. لكن جزءا قليلا من هذه المعلومات فقط هو الذي يعبر عن نفسه، أما الباقي فيظل مكبوتا. يبين لنا ذلك أن التطور البيولوجي ليس مفهوما أحادي الدلالة.
إلا أن المشكل الأساسي يوجد خارج هذا: إن كل تطور بيولوجي هو تكرار لتطور سابق مسجل جينيا، وهكذا دواليك. إنه عودة دورية لماض، وليس بناء لمستقبل غير مسبوق. (أما) خصوصية التطور السوسيو-اقتصادي فتكمن في نزوعه نحو بناء مستقبل غير مسبوق. ومع ذلك كان الحديث عن هذا التطور يتم بيقين يفوق يقين الحديث عن التطور البيولوجي، وكنا نعتقد أننا نسير بوضوح تام نحو تقدم مضمون.
لماذا كانت فكرة التطور تبدو بديهية ومفرحة إلى هذه الدرجة؟ لأنها كانت تعتمد على شيء نموذجي: فكرة أن العلم، العقل، التقنية والصناعة أمور مترابطة فيما بينها؛ كل واحدة منها تطور الأخرى، وجميعها تضمن تطور الإنسان؛ ينظر لهذا التطور إذن كازدهار للعقلانية. إلا أن العقلانية الغربية كانت على درجة من الانغلاق والضيق بحيث كانت تقصي كل ما لم تستطع إدماجه، وتعتبره لاعقلانيا، بدءا بتعقيد الكائن الحي. أضف إلى ذلك أن العلم والتقنية قد تطورا بطريقة كمية. ومن هنا جاءت فكرة أن الأكثر هو الأحسن دائما (كلما ازداد الإنتاج، وكلما ازداد التخصص، كان ذلك أحسن، الخ.)؛ ويسود الاقتناع بأن النمو الكمي يؤول دائما إلى نمو كيفي.
كان الأساس الذي تقوم عليه الفكرة الكبرى المتعلقة بالتنمية هو النموذج الكبير للإنسية الغربية: إن التنمية السوسيو-اقتصادية، مدعومة بالتطور العلمي – التقني تضمن من تلقاء نفسها ازدهار وتقدم المؤهلات البشرية، كما تضمن حريات الإنسان وقدراته. هذه هي الأفكار التي كانت تغذي فكرة التنمية كحقيقة بديهية، وتستبعد الشك فيها رغم أنه وارد بشكل أساسي: هل من المؤكد أن التنمية الاقتصادية/ الصناعية/ التقنية/ العلمية تولد من تلقاء نفسها الازدهار والتقدم البشري-الاجتماعي؟ هنا كان ولا زال يبرز جوابان متعارضان يبعدان الشك: أ- نعم، إذا تحقق ضمن شروط ليبرالية/ ديمقراطية (غير استبدادية)؛ ب – نعم، إذا تحققت التنمية عن طريق القضاء على الاستغلال والسلطة الرأسماليين، أي عن طريق الاشتراكية. وفي الحالتين، فإن التنمية في حد ذاتها لا يعتريها الشك؛ يكفي أن نزيل الحاجز الأساسي الذي يمكن أن يحرفها عن طريقها أو يعرقلها. ( السؤال الغائب هو: ألا تفرز التنمية من تلقاء نفسها خميرة لاستبداد جديد ورأسمالية جديدة؟) .
على هذه الأسس ازدهرت خلال الستينات أسطورة التنمية (في الوقت الذي كانت العلامات الأولى للأزمة قد بدأت في الظهور). وتؤكد هذه الأسطورة نفسها من خلال مظهرين: مظهر شمولي مركب هو أسطورة المجتمع الصناعي؛ ومظهر اختزالي ذي طابع اقتصادي-تقنوقراطي.
أ – أسطورة المجتمع الصناعي هي أسطورة سان- سيمونية جديدة تعتبر أن المجتمعات التي بلغت المرحلة الصناعية سوف تقلص تناقضاتها، صراعاتها وتفاوتاتها القصوى، وسوف تضمن للأفراد أقصى درجات السعادة التي يمكن لمجتمع أن يوفرها، وباختصار، سوف تؤدي تدريجيا إلى حل المشاكل الاجتماعية والبشرية الأساسية التي طرحت عبر التاريخ. وعلى المستوى العالمي، فإن الرأسمالية وما يسمى الاشتراكية سيلتقيان عند نموذج اجتماعي متشابه في الأساس حيث تساهم الوفرة والتوازن في تقوية بعضهما. لقد كانت هذه الأسطورة قوية، لكنها لم تدم طويلا. لقد برز بعد الحرب، ابتداء من سنوات 1950 -1955 ، وانتشر بداية عقد الستينات، وفجأة أصبح إشكاليا ابتداء من 1968-1969-1970.
ب – وفي نفس الوقت، وبما أنه كان يبدو واضحا أن التنمية الصناعية هي محرك التنمية الاقتصادية، التي أصبحت بدورها محرك التنمية الاجتماعية، التي أصبحت بدورها محرك تنمية وازدهار البشرية، فقد كان واضحا أن ضمان النمو سيؤدي وفق تسلسل ضروري إلى ضمان كل أشكال التنمية .
هكذا إذن كنا في نفس الوقت أمام أسطورة شمولية، متعددة الأبعاد وغنية، وممارسة اختزالية، تقنوقراطية وفقيرة، ما دام خبراء النمو هم قادة التنمية ومحاسبوها.
أضف إلى ذلك أن هذه الأولوية الفعلية التي تمنح لممارسة تقنو-اقتصادية، اقتصادوية وفقيرة تؤدي بهذه الممارسة لأن تجعل من نفسها غاية في ذاتها. مع العلم أن الاعتقاد الذي كان سائدا هو أن :
النمو الصناعي – التنمية الاقتصادية – التنمية الاجتماعية – ازدهار البشرية. ويحيل ازدهار البشرية بدوره على النمو الصناعي الذي يغذيه:
النمو الصناعي – التنمية/ الازدهار
ولكن، بما أن فكرة التنمية الاجتماعية وفكرة التنمية البشرية فكرتان ضبابيتان، ولتجنب هذه الضبابية ، يتم قياسهما بمؤشر وبمنحنيات اقتصادية. وهكذا، فإن المؤشر الوحيد القابل للقياس من وجهة نظر التقنوقراطيين هو النمو الصناعي نفسه:
النــمـــو الــصــنـاعــي
وبينما يسود الاعتقاد بأننا نصنع النمو من أجل التنمية (الاجتماعية والبشرية)، فإننا عمليا نصنع النمو من أجل النمو. وهنا نكتشف في أصل مفهوم التنمية نفسه أن ما هو فقير هو بالضبط ما يبدو الأكثر غنى: فكرة الإنسان وفكرة المجتمع. لقد بنينا فكرة التنمية على أسطورة إنسانوية/ عقلانوية أحادية البعد وفقيرة حول الإنسان، وعلى فكرة آلية / اقتصادوية ذات نظرة ضيقة بشكل مدهش حول المجتمع. هناك ألف سبب يتبادر إلى الذهن، وليس في نيتنا أن نسرد هذه الأسباب هنا. نكتفي بذكر السبب الذي يحظى بنسبة أقل من الاهتمام: إن أنتروبولوجيتنا ليست معقدة بما يكفي، لأنها تتغذى بالأسطورة الضيقة حول الإنسان الذكي/ صانع الأدوات l’homo sapiens/faber، وسوسيولوجيتنا ليست معقدة بما يكفي لجعلها تدرك ما هي التنمية الاجتماعية الحقيقية.
هذا النقص الأساسي مرتبط بنقص خاص في تصورنا للتنمية: فهو تصور تبسيطي، مشوه، آلي، خطي، معقلن وراض عن نفسه. والحال أن كل تطور اجتماعي يحمل في ذاته بالضرورة حالات تراجع وفقد وتدمير أكثر مما يحمله التطور البيولوجي. وغالبا ما يكون ثمن اكتساب الإنجاز هو فقد القدرة. ففي المدرسة والمصنع والمكتب نتعلم أشياء وننسى أشياء أخرى. وفي حالات كثيرة نحتاج إلى القيام بتراجعات حقيقية وحالات تقهقر كي نتمكن من التطور. هذا هو معنى الرسالة الإنجيلية (يجب أن نعود أطفالا كي نفهم بعض الأشياء)، ومعنى رسالة روسو التي أراد البعض أن يرى فيها حلما ساذجا بجنة خيالية مفقودة. إن معنى كلمة روسو هو أن التطور يقتضي بالضرورة عودة تقهقرية إلى أصل قديم، بالمعنى العميق لكلمة “أصل” (arkhe)، أي العودة إلى مبدأ أساسي وأولي. إلا أن أحد مظاهر أزمة التنمية هاته هو أنها تؤدي إلى ظهور نوع من الحاجة إلى تقليدية جديدة، روسوية جديدة، أصولية جديدة. إن النظر إلى مسلسل النمو باعتباره نزعة تطورية بديهية يخفي في الواقع غموض الغايات، وغياب أي نموذج مؤسس، وحالة التيه وانعدام اليقين في عملية التنمية.
في واقع الأمر، كان انعدام اليقين هذا يتوارى أمام بديهية ازدهار الإنسان وتقدمه الاجتماعي اللذين كانا محايثين للتطور المزدوج للتقنية والعلم كعاملين يحرران الإنسان من الإكراهات المادية، يضمنان تقدم العقلانية والمعرفة، ويجعلان من الإنسان الذكي / صانع الأدواتl’homo sapiens /faber السيد المستنير للكون.
الأكثر من ذلك أننا نسينا أن التنمية تعني التنمية الذاتية. الذاتية = الإنسان ( المجتمع، الفرد). يجب تصور التنمية إذن كــ :
تنمية ذاتية
وذلك ضمن عمليات تكرار لا تنتهي حيث تصبح التنمية وسيلة وغاية لنسق التنظيم الذاتي (المجتمع، الفرد).
لا يمكن طبعا أن نقدم هنا نظرية تنبؤية حول المجتمع وحول الإنسان . ولكن يجب أن نكشف عن انعدام اليقين، عن الغموض، وعن الطابع الأسطوري حيث كنا نرى اليقين والوضوح و العقلانية. وذلك هو ما ستبينه لنا أزمة التنمية.
2 – أزمة النمو أم نمو أزمة؟
لقد حاولنا في مقال سابق أن نحدد مفهوم الأزمة انطلاقا من : أ- تزايد نسبة الشك، ب- توقف عمليات الضبط وانطلاق عمليات الانفلات، ج – تحول علاقات التكامل إلى علاقات تعارض، د – تزايد أو تراجع البحث عن الحلول (يرجع إلى مقال “من أجل نظرية للأزمة”، ص 175 – 190 من الكتاب).
هل يعتبر مثل هذا التعريف للأزمة قابلا للتطبيق، قبل ظهور الأزمة الاقتصادية خلال العشر سنوات الأخيرة، على فكرة التنمية نفسها؟ أعتقد أن مفهوم التنمية نفسه قد دخل في أزمة خلال عقد الستينات. ففي الوقت الذي كان هذا المفهوم يدعي الدمج المنسجم والمتناغم بين مفاهيم النمو، الازدهار، الحرية، السعادة، التوازن، الخ، فإنه قد أصبح إشكاليا، ودخلت هذه المفاهيم في علاقة تعارض؛ ففي الوقت الذي كانت تفرض نفسها كيقين، تحولت إلى موضوع شك. خلال عقد الستينات، عرفت فعلا البلدان المسماة في اللغة السوسيولوجية السائدة بلدانا صناعية متقدمة نموا صناعيا شبه مستمر، وارتفاعا شاملا في ثرواتها على المستوى المالي، وارتفاعا في قدرتها الشرائية في ما يخص مستوى العيش. كان كل شيء يبدو بالنسبة للملاحظين المتفائلين منهم والمتشائمين ( مثل ماركوز Marcuse) وكأنه يسير في اتجاه الإدماج المتزايد للجماهير القروية والعمالية الواسعة، والالتحاق المتزايد بعالم الرفاهية، والازدهار الهادئ للحياة الفردية ضمن الحياة الخاصة وضمن وقت الفراغ. وقليلون هم أولئك الذين شعروا منطقيا ومن خلال بعض المؤشرات الفرعية والهامشية أن أزمة تتهيأ وتعلن عن نفسها داخل وبواسطة هذه التنميات نفسها.
عمليا، حدثت بعض الفورات المحلية، وبعض الانفجارات الفرعية، التي تم إهمالها في البداية، لأنها اعتبرت بمثابة حوادث عرضية؛ وحين يلاحظ أن هذه الحوادث تشكل مصدرا لتوجهات جديدة، يبذل جهد من أجل عقلنة الظواهر الجديدة بإرجاعها إلى بعض المشاكل ذات الطابع التقني الاقتصادي. وبالفعل، فإن كل ظاهرة من هذه الظواهر تؤثر على أسطورة التنمية وعلى النموذج الذي يشكل خلفية لها. نذكر بأن الأزمة الاقتصادية لسنة 1973 وما تلاها قد سبقتها أزمة في الحضارة أثرت على الرؤية السائدة حول التنمية. لقد تمثلت الأسطورة الكبرى خلال سنوات الخمسينات، سواء في صورتها الرأسمالية أو الاشتراكية، في الاعتقاد بأن التنمية، إذا لم تكن قد حققت السعادة بالضرورة، فإنها على الأقل ستخلق الشروط الحقيقية لازدهار السعادة البشرية. وأعتقد أنه لم يسبق لفكرة السعادة أن تغلغلت في تطور حضارة ما، ثم خيبت الآمال بمثل هذه السرعة. وبالفعل، فهناك حيث تحققت الشروط المادية، التقنية والاقتصادية للسعادة، ثمة بالضبط انتشر مناخ القلق.
أضف إلى ذلك أننا رأينا كيف تعمق ” قلق حضارة” جديد داخل وبواسطة التنمية الاقتصادية، وهي التنمية التي تجلب معها أيضا إحساسا بعدم الرضى وبالوحدة، وكيف أن ثقافة وسائل الإعلام المفروض فيها أن تخلق الغبطة، قد حولت فكرة السعادة إلى فكرة إشكالية.(1)
ورأينا أيضا أن التنمية، وهي تدمج فئات واسعة من القرويين والعمال ضمن نسيج الحضارة الحضرية /البورجوازية قد أدت إلى تصدع وقطائع داخل هذه الحضارة الظافرة (2).
وقد رأينا أن التنمية، وهي تحقق نموذجا ثقافيا / حضاريا بورجوازيا، تقوم في نفس الوقت بهدم هذا النموذج. وفي الوقت الذي تشتغل فيه هذه التنمية بواسطة ومن أجل ازدهار نموذج إنساني رجولي، راشد، بورجوازي، أبيض، فإنها تثير ردود فعل متعددة لا تعترض فقط على هيمنة هذا النموذج ، بل تعترض أيضا على قيمته. وهكذا فإن بذورا شابة أنثوية، متعددة الإثنيات، متعددة الأجناس، قد بدأت تشتغل، لكن بشكل غير منظم، ولم يتشكل بعد نموذج إنساني جديد قائم في نفس الوقت على ازدهار سلالة النوع البشري وعلى ازدهار الاختلافات.
وقد رأينا أخيرا أن النزعة الطبيعية الجديدة، والنزعة التقليدية الجديدة اللتين بدا وكأنهما لا تخصان سوى الحياة الخاصة ووقت الفراغ، قد تضافرتا ضمن “وعي إيكولوجي” أصبح من الآن فصاعدا يهم كل أبعاد الحياة الاقتصادية والاجتماعية ويشكك في مفهوم التنمية كما كان سائدا حتى ذلك الوقت.
إن الحركة المضادة للتلوث، والحركة الطبيعية الجديدة المكونتين للنزعة الإيكولوجية الساذجة تحملان في طياتهما رسالة عميقة ذات أهمية لم نعرف مداها بعد. يتعلق الأمر في نفس الوقت بـ: أ- زوال فكرة اللانهائية، وهي الفكرة الزائفة التي انخرط فيها النمو الصناعي ومجموع المسلسل الضخم المسمى تنمية؛ ب – هناك ضرورة حتمية منطقيا للتخلي عن الفكرة الاختزالية التي كانت تجعل من النمو الصناعي ترياقا كونيا للتنمية البشرية-الاجتماعية. يمكن القول بالتأكيد إن هذا الوعي الإيكولوجي يشكل جزءا من مغامرة التنمية. إن من طبيعة البيولوجيا أو المجتمع أن تتحول فيهما المنحنيات الأسية عاجلا أم آجلا إلى منحنيات على شكل S؛ إن عمليات الضبط الخارجية ( إكراهات المحيط) والداخلية ( المراقبة الذاتية) تتدخل، ولا تمثل الكارثة المتوقعة خطيا سوى رؤية ذهنية مجردة: إن عملية الإنذار بنهاية العالم تساهم عمليا في التصحيح. هذا مؤكد. ولكن هذا بالضبط هو ما لم نعه ، ويجب علينا أن نعيه: إنه الطابع المنفلت للتنمية وعدم خضوعها للضبط. كنا نعتقد أنها موضوع مضبوط بفضل التقنية، ولكن هذه الأخيرة لا تقوم بدور التنظيم إلا على المدى القصير، وساهمت، على العكس من ذلك بشكل كبير في الانفلات المستعصي على التحكم. كان ممكنا أن نعتقد أنه يمكن التحكم فيها بفضل العلم. ولكن العلم نفسه تحول إلى مسلسل غير مضبوط. كان ممكنا أن نعتقد أنه يمكن التحكم فيها بفضل المثل الإنسانية الديمقراطية، ولكن هذه الأخيرة بدل أن تقود التنمية، تحولت إلى دمى مبتورة الأوصال وأقنعة إيديولوجية. وكان بالإمكان أن نؤمن بأن التقدم يقودها، لكن يبدو أن هذا التقدم الخطي/ الأحادي يسير نحو الهاوية. كان بالإمكان أن نؤمن بأن العقلانية هي التي تقودها، لكن هذه العقلانية كانت في الواقع عقلنة هذيانية تشبه حالة العصاب، وتكتفي بوضع قناع العقلانية.
“أزمة الحضارة“
هذا يعني أن الأزمة الإيكولوجية ليست سوى مظهر وعرض لأزمة أكثر راديكالية تؤثر في مبادئ العقل، في المعتقدات الثابتة والأساطير المحركة لحضارتنا. بهذا المعنى يمكن أن نتحدث فعلا عن أزمة الحضارة.
هذه الأزمة تبين لنا المتعدد ضمن ما كنا نعتقده أحاديا، وتبين التناقض في ما كان يبدو منطقيا، وتبين الفساد في ما كان يبدو خلاصا، أي في العلم، العقل، التقدم، التنمية، وهي العناصر التي لم تعد منذ الآن تقدم الرفاهية، السعادة، الحرية والحياة فقط، ولكن تجلب أيضا القلق، الآلام، العبودية والتدمير.
من هنا بالضبط ، يتم البحث داخل هذه الأزمة وبواسطتها، عن أصل أسطوري، وأيضا عن أسس مفقودة ( من هنا جاءت الحركات الأصولية الجديدة)؛ ومن هنا أيضا جاء التقليل من شأن الحداثة لصالح ما بعد الحداثة أو لصالح نزعة تقليدية جديدة وكلاهما تتمردان عن هذه الحداثة.
إن أزمة التنمية لا تكمن فقط في أزمة الأسطورتين الكبيرتين للغرب الحديث: غزو الطبيعة (الموضوع) من طرف الإنسان (الذات/ سيدة العالم) ، وانتصار الفرد البورجوازي المعزول. إنه تعفن النموذج الإنساني – العقلاني للإنسان الذكي / صانع الأدوات، حيث كان يعتقد أن العلم والتقنية سيحققان ازدهار النوع البشري.
هنا أيضا سنقصي البديل التبسيطي المتمثل في رفض العلم، رفض العقلانية، رفض النزعة الإنسانية. يجب أن نجد أسئلة حيث كنا نرى أجوبة واضحة: إن العلم والتقنية والعقلانية والنزعة الإنسانية، بالصورة التي تمارس بها، هي سبب المشاكل التي يفترض أنها جاءت لتحلها.
إن أزمة التنمية تكمن أيضا في أزمة التحكم في كيفية تطور تنميتنا الخاصة. لقد اعتقدنا أننا نتحكم في الطبيعة، ولكن تحكمنا كان مفتقدا للمراقبة. واعتقدنا أننا نتحكم في الاقتصاد، ولكن الأزمة التي ظهرت سنة 1973 قد بينت أن مراقبة الاقتصاد لم تكن بها ثغرات فحسب، ولكنها كانت أيضا مؤقتة. واعتقدنا أننا نتحكم في التقنية، ولكن التقنية هي التي كانت منفلتة من أي مراقبة ، وتتحكم في أنشطتنا الاقتصادية والاجتماعية، كما أننا عاجزون عن التحكم في العمليات التي تنجزها الإعلاميات، علم الحاسوب والإلكترونيك. إننا غير قادرين على مراقبة التحول الذي يشهده العالم، وهو تحول متأزم باستمرار، فوضوي، متخبط، مجنون. وهذا التحول مفرح (لأننا لم نسقط حتى الآن في هيمنة إمبراطورية وحيدة على العالم)، بقدر ما هو محزن (لأننا لم نتمكن من الوصول إلى فيدرالية عالمية تعتبر ضرورية). لقد كررت عدة مرات أننا نعيش “عصر الحديد عالميا”، “ونعيش عصر ما قبل التاريخ على مستوى العقل البـشـري”. (انـظـر : نـقـد ذاتـي Autocritique ، 1959، ومـن أجـل الـخـروج مـن الـقـرن العشرين Pour sortir du XXè siècle، 1981).
يجب أن ندرك أنه لا يمكن القيام بأي ضبط في إطار مبدأ فكري يحدد بالذات هذه العمليات المتسلسلة غير المضبوطة، ويجعلنا عميانا إزاءها.
إن أزمة التنمية هي الترابط والتضافر بين هذه الأزمات التي ذكرنا، تلك التي تظهر الآن، وتلك التي ستظهر مستقبلا. إنها تبين أن المجتمع المسمى صناعيا يفرز مشاكل راديكالية لا يستطيع حلها في نفس الوقت الذي يعمل على حل أو على التخفيف من مشاكل أخرى راديكالية أيضا. إنها لا تقودنا إلى رفض مفهوم التنمية، ولكن إلى نقد ما اتسمت به حتى الآن من طابع أسطوري، اختزالي (تقني-اقتصادوي)، مبتور (وبتار إذن).
لقد رأينا أنها ليست فقط أزمة مفهوم. يتعلق الأمر في نفس الوقت بأزمة أنتروبولوجية / اجتماعية، أزمة ثقافية / حضارية، أزمة نمو صناعي / اقتصادي، أزمة في الغرب، أزمة في الشرق، أزمة في الجنوب، أزمة عالمية. وكما هو الحال دائما، فإن أزمة الإيديولوجيا المهيمنة هي تعبير عن أزمة الأسس التي يقوم عليها المجتمع نفسه. إن مفاهيم العلم، التقنية، العقلانية، وهي التي كانت تبدو بمثابة مفاهيم موجهة، مراقبة وضابطة، قد تبين أنها على العكس من ذلك مفاهيم عمياء، غير مراقبة، صانعة للاعقلانية، لاعقلانية كان شكلها الأكثر تطرفا دائما (لأنه الشكل الأكثر تسترا) هو العقلنة: العقلنة الإيديولوجية (حيث يتم التعتيم على كل ما لا يمكن إدماجه ضمن النموذج المذهبي المجرد)، عقلنة تقنية-بيروقراطية ( حيث التعتيم ، بل تتم التصفية المادية لكل ما لا يدخل ضمن النموذج النفعي البتار).
تنمية أزمة التنمية
إنها أزمة ملموسة وتوليدية في نفس الوقت. إنها تتعلق بالوجود الظاهر للمجتمعات، وبحياة الأفراد، وسوف تؤدي إلى اختلالات متزايدة الحجم. وهي توليدية بمعنى أنها تؤثر على البنيات التوليدية التي تضمن الاستمرار الذاتي للمجتمع، أي مجموع القواعد والمبادئ والمعايير التي توجه التنظيم الذاتي والإنتاج الذاتي وكذلك ما يعبر عنه بصورة غير دقيقة بإعادة الإنتاج الاجتماعي.
يجب إذن أن ننتبه إلى ضخامة وراديكالية الأزمة، أي أن نتخلى عن أي أمل في حل سريع.
لن نتناول هنا مشاكل أزمة التنمية في البلدان المسماة متخلفة. سنشير مع ذلك إلى أن أزمة التنمية في بلدان العالم الثالث لا تشكك فقط في الطرق الخاصة بزرع وتحقيق التنمية على الطريقة الغربية: إنها تشكك أكثر من ذلك ، من وجهة نظر حضارات غير غربية منشغلة بالمحافظة على هويتها، في ملاءمة نموذج لا يمكن أن ينغرس (خارج تربته) إلا وأدى إلى إفلاس الثقافات التقليدية وتفكيكها. لنذكر بأن التنمية قد تحققت في الغرب نفسه عن طريق تدمير ثقافات وإفراز آلام بشرية. فخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تم استئصال أعداد هائلة من الفلاحين من قراهم، من عاداتهم، من ثقافتهم، وتم حشرهم في هوامش المدن الإنجليزية. هل هو ماض انتهى؟ ليس الأمر كذلك في حقيقة الأمر. إن ذلك هو ما يحدث (اليوم) في كل مدن العالم الثالث. هناك أعداد ضخمة من القرويين استؤصلت من جذورها وانتقلت إلى ساو بولو، إلى سانتياغو… كل ذلك يتم مقابل عمليات تدمير هائلة. إذا أردنا أن نعرف إذن كيف نضع حلولا دقيقة، علينا أن نتجرأ على النظر إلى غموض المستقبل. في نظري أن أحد مظاهر الوعي الأكثر خصوبة اليوم في مجال الأنتروبولوجيا هو أننا أدركنا أن إنسان الحضارات التقليدية ليس طفلا فقيرا، أو شيطانا. إنه يتوفر، على العكس من ذلك، على تنميات على المستوى الشخصي، والمستوى الحسي، المستوى السيكولوجي وعلى مستوى المهارات، أغنى بكثير مما لدى أي شخص متخصص في مجتمعنا، كما أنه يتوفر على فلسفة (خاصة به). هل يعني هذا أن علينا العودة إلى فكر تقليدي؟ لا بل يعني أن ندرك الخسائر التي قدمناها ثمنا للفوائد التي نتحدث عنها. بعبارة أخرى، علينا أن ندرك وعينا بالتنمية يجب أن يضع في الاعتبار خاصيتي الغموض والتعقيد. وهكذا فإن النموذج الغربي للتنمية يعرف أزمة، سواء في الغرب (نفسه) أو في بلدان العالم الثالث، وهما أزمتان تؤكد إحداهما الأخرى، وتزيد إحداهما الأخرى تعقيدا. من هنا تفتح أمامنا آفاق تنميات أخرى، أو آفاق تنميات جديدة.
3 – الحل الزائف
إن شيوعية الأجهزة (الشيوعية الرسمية) تزعم أنها تتوفر على التصور والصيغة المناسبين للتنمية الحقيقية والجيدة. إنها تدعي امتلاك النظرية المناسبة للتطور الاجتماعي، وهي الماركسية. وتزعم أنها ستحقق تنمية الازدهار، (بواسطة) الاشتراكية. وتزعم أنها السلطة القادرة على المراقبة والفعل، المتسمة بالوعي الدقيق بالوسائل والغايات (بواسطة) الحزب. إن الحزب الوحيد تنيره الحقيقة العلمية، التي يتم تأويلها دائما حسب هوى الظروف من طرف قادتها الذين لا يرقى إليهم الشك. إن الحزب الذي يحتل جهاز الدولة، ويلغي كل قوى معارضة أو منتقدة، ويعتبرها حتما رجعية ومجرمة، يتوفر (افتراضا) على قوة هائلة تمكن من تنظيم المجتمع وتوجيه تنميته في اتجاه الشيوعية. ثم إن الحزب يعبر (افتراضا) عن إرادة الجماهير الشعبية التي لم تعد في حاجة إلى التعبير (عن إرادتها) مباشرة، أو عن طريق الاقتراع أو الاحتجاج أو الإضراب.
ومباشرة بعد ذلك يؤدي هذا الحل إلى إنكار أي إشكالية تهم أزمة العلم أو التقنية أو العقلانية، ويعتبرها أزمات زائفة لا تعكس سوى أزمة واحدة هي أزمة الرأسمالية. وهكذا يتم تبني مجموع الموروث المتعلق بالنموذج الغربي.
لكن يجب أن نتساءل عن العلاقة بين مفهوم التنمية ومفهوم الاشتراكية. إن الاشتراكية، من منظور اشتراكيي القرن التاسع عشر وحتى 1917، هي ثمرة التطور الصناعي. وانطلاقا من أطروحات أبريل 1917 بدأ مسلسل أفرز الشيوعية الستالينية. ففي التصور المنبثق عن الستالينية، أصبحت الاشتراكية هي محرك للتنمية الصناعية، بدلا من أن تكون ثمرة لها. وساد التفكير بشكل متزايد، وبدا للكثيرين بشكل متزايد أن “الاشتراكية” هي النموذج الوحيد والأحسن لتنمية العالم الثالث. وهكذا عرفت النظرية تحولا قويا يضاهي أو يفوق التحول الذي أحدثه القديس بول حين جعل رسالة موجهة إلى اليهود بمثابة رسالة موجهة للوثنيين، فتحولت في النهاية إلى رسالة مضادة لليهود. إنه أمر يتسم بأهمية مماثلة. وهو بمثابة ورطة تدعو إلى التأمل. إن ما يسمى النموذج الاشتراكي للتنمية لا يوجد عند ماركس. إنه نموذج يمكن تسميته بالنموذج الستاليني المتطرف. وبطبيعة الحال، فحتى في هذا النموذج لا يمكن أن نستبعد الاضطرابات، خاصة حينما ينشب صراع بين المصلحة الوطنية واشتراكية السلطة ( في بولونيا وهنغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا): إن التناقضات التي يراد كنسها بالجرافات ستهز هذه المجتمعات عاجلا أم آجلا، وستكشف حقيقتها (أكذوبتها)، والتناقض الكبير هو ذلك الذي يوجد بين الخطاب الشيوعي حول المساواة والحرية وبين الواقع المؤسساتي لدكتاتورية الحزب.
يجب أن ننظر إلى الأمر من داخل تجربة البلدان المسماة اشتراكية كي نفهم أن شيوعية الجهاز (الرسمي) قد أعادت تكريس مجتمع طبقي هرمي، وأنها تقصي إمكانيات هائلة للتنمية، وأنها لا يمكن أن تحافظ على وجودها إلا بواسطة القهر المعمم، وأن حضارة الأنانية والفردية والبورجوازية هي السمات الحقيقية، وأن الشيوعية ليست سوى قناع لمجتمع العنف والقهر، وأن رذائل التكنوقراطية والبيروقراطية منتشرة، وأن الإنسان الجديد ليس سوى أسطورة تافهة، وأن النظرية الماركسية حول الإنسان والمجتمع، مع كل إسهامها الغني، هي نفسها غير كافية ومبتورة، ومن ثمة فهي نظرية تفقر وتبتر (الواقع).
وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن لبلدان العالم الثالث، أو على الأقل تلك التي لا تخضع خضوعا مطلقا لسلطة الحاكم ، أن تبتكر نموذجا جديدا؟ هل يمكنها على الأقل أن تتجنب الأسوأ، عن طريق اقتباس مناهج ووصفات متنوعة من عادات أمم أخرى ومن تقنياتها المكتسبة؟ هل يمكنهم فعل شيء آخر غير استخدام تجربتهم الضاربة في جذور التاريخ، والمنبثقة عن ثقافتهم، واستخلاص العبر العملية من التجارب الزراعية والصناعية والحضرية والتعاونية… الخ التي ظهرت في أرجاء العالم؟
أقصد بذلك: هل يوجد نموذج خارج التجارب والتركيبات الحائرة التي تتلمس طريقها؟ لا أعتقد ذلك. أعتقد أن هناك إمكانية للتقدم ضمن الشروط المحلية التاريخية المعطاة، بألم أقل، وفظاعة أقل، وشر أقل. ولكن النموذج الجديد لم يولد بعد. إن الوعي بالنقص الكبير في النماذج أولوية بالنسبة لأي تقدم سياسي أو اجتماعي ضمن مشروع التنمية. إن أغلب معاصرينا يعتقدون واهمين أن النموذج موجود. فلو تم التعامل بنوع من الشك مع ما يسمى النموذج الاشتراكي، لو تمكنا من الفحص والمراقبة، لشكل ذلك دفعة قوية لخيالنا. أعتقد أننا يوم نقتنع بأن هذا النموذج الاشتراكي يعاني بالفعل من أزمة عميقة، وأنه عاجز عن حل بعض القضايا الأساسية، حينها سيوجد أمل في البحث. أما اليوم، فإن البحث تعوقه الأسطورة. أضيف كلمة أخرى: نحن أوروبيون، ونحن غربيون، ونواجه خطر الجهل والنسيان لأننا أعضاء ضمن مجموعة من الأمم التي كانت من قبل إمبريالية استعمارية، ولأننا أيضا لا زلنا نستفيد من الإمبريالية الاقتصادية الجديدة، ونجني ثمار لاتكافؤ اقتصادي لا شك فيه. من الصعب إذن أن نتجنب خجلا قد يشل أفكارنا. لدي انطباع بأن الخوف من التفكير في مشاكل العالم الثالث يرجع إلى مرض الخجل هذا، وهو خجل له دافع عميق، ولكنه يحول بيننا وبين صياغة نقد (ذاتي) قد يبدو لنا ثمرة غير واعية لرغبتنا في الحفاظ على رفاهيتنا، وذلك انطلاقا من خجلنا القبلي من الإمبريالية السابقة، وخجلنا الحاضر من الإمبريالية الاقتصادية الحالية، وخجلنا من امتياز النعيم والغنى في عالم تتفاقم فيه مشاكل التزايد السكاني ونقص التغذية؛ ومن هنا فإننا نعتبر التفكير في مشكل الحريات ترفا فكريا.
هذا يعني أننا لا يمكن أن نحلل المشاكل دون تحليل ذاتي جاد ومثمر، بل تحليل نفسي ذاتي يوازيه نقد ذاتي.
4- الأفق
نلاحظ إذن أن الفكر التقني-الاقتصادوي في الغرب البورجوازي لا يمتلك الحل. ونرى (أيضا) أن شيوعية الأجهزة (الرسمية) لا تمتلك الحل. إننا لا نرى حلا في الأفق. قصارى ما يمكن فعله هو أن نعلن بشكل “مثالي” عن الشروط الضرورية لإعداد حل.
إن الحلول لا يمكن أن تأتي إلا من تضافر وعي جديد (في الفكر والممارسة)، وابتكارات نابعة من لاوعي الجسم الاجتماعي نفسه.
من زاوية الفكر الواعي، يجب :
أ- إعادة صياغة مفهوم التنمية وإعادة بنائه. يجب أن نكف عن رهن التنمية بالنمو، ولكن أن نرهن النمو بالتنمية. يجب أن نكف عن رهن التنمية الاجتماعية للإنسان بالتنمية التقنية / العلمية، ولكن أن نرهن التنمية التقنية / العلمية بالتنمية البشرية. قد يبدو ذلك بديهيا. ولكن هذا الأمر يحيلنا من جديد على المشكل الأساسي: ما معنى التنمية الاجتماعية؟ وما معنى التنمية البشرية؟ كنا نعتقد أنهما مفهومان واضحان، لكنهما (قي الواقع) لا زالا أجوفين ضبابيين، لأننا نعيش على تصور فقير وضيق حول الإنسان والمجتمع. وعلى الفور ندرك أننا في حاجة مستعجلة لنظرية حول الإنسان والمجتمع.
ب – يتعلق الأمر بالتفكير في مشاكل التنمية مثلما نفكر في جميع المشاكل النظرية الإنسانية والاجتماعية، أي أن نضع مشاكل التنمية في نفس المستوى الفكري للمفاهيم من الدرجة الثانية، أي تلك التي تقتضي دائما إرجاع الموضوع (وهو هنا التنمية) إلى الذات ( وهي هنا المجتمع والإنسان)؛ ويعني ذلك بالضرورة استعمال المقطع اللفظي: “ذاتي” ( le préfixe : « auto »). يجب إذن أن يكون المفهوم المفتاح، كما قلنا هو التنمية – الذاتية auto-développement .
في هذه الحالة، نحن مقتنعون بإمكانيات تنمية الإنسان والمجتمع. ولكننا مقتنعون بنفس الدرجة بأن هذه التنمية لا تنفصل عن تحول اجتماعي.
إن المجتمع الحديث لا يمكن أن يتطور دون أن يتغير جذريا. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نعتبر أزمات التنمية بمثابة دفعات أولى نحو التغيير، تتجلى فيها الانحرافات المبشرة بحركات مستقبلية ممكنة. ومن هنا يمكن أن نفترض أن العبقرية اللاواعية ( للمجتمع وللنوع البشري) قد بدأت تشتغل. ولكن يجب أن نعلم أننا فقط في بداية الوعي النظري وفي بداية الانبثاقات الإبداعية للاوعي الاجتماعي. إن الأزمة نفسها تفرز أيضا إمكانيات التقهقر، وتشجع على اللجوء السحري للحل الزائف.
كذلك يبدو الأفق في نهاية هذا القرن (القرن العشرين) غير مضمون. ولكي نتمكن من وضع تنبؤ ما، يجب بداية أن نعترف في الوقت نفسه بإمكانية وبعدم احتمال فرضيتين متطرفتين.
الفرضية القصوى الأولى هي فرضية الكارثة. وهي ممكنة ماديا لأن البشرية المتطورة قد راكمت وسوف تراكم بشكل متزايد قدرة على التدمير الذاتي، ليست ذرية فحسب، ولكن أيضا ديموغرافية وإيكولوجية. إلا أن ضخامة التهديد الحراري-النووي نفسها تلعب دور الكابح. إن من المحتمل جدا أن تأخذ المنحنيات الأسية للنمو الديموغرافي ولنمو الخطر الإيكولولوجي شكل المحنيات S (وثمن ذلك هو تبذيرات وآلام لا يمكن التنبؤ بها).
الفرضية القصوى الثانية هي التحول الاجتماعي الذي يمكن أن يشكل ولادة جديدة للبشرية. إن المؤهلات موجودة كما قلنا في الكائن البشري وفي الكائن الاجتماعي، وهما ليسا إلا في بداية تطورهما. إن هناك تطلعات تزداد عمقا بدأت تظهر في هذا الاتجاه وتتبلور من خلال الكلمات الأسطورية المتمثلة في الاشتراكية، الشيوعية، الفوضى. ولكن هذه القوى لا زالت ضعيفة ومشتتة، ليس هذا فحسب، بل إنها لا زالت تائهة، محرفة عن غايتها، مؤسطرة، وهناك نوايا حسنة هائلة تعتقد أنها تعمل لخدمة الثورة، وهي في الواقع تعمل دون وعي منها على سحق بذور الثورة. بالنسبة لي، هذه هي المأساة الكبرى للعصر، وهو ما يضعف احتمال “الولادة الجديدة للبشرية”، وولادة التنمية “الحقيقية”.
بين هذين القطبين القصويين، يتراءى لنا احتمال عصر وسيط عالمي. وقد بدأ هذا العصر فعلا. وبدل خلق تركيب مثمر بين النظام والفوضى، وهو ما يفترض أن يشكل التقدم، فإننا نرى معالم تجاور نظام متصلب ( تضمنه أجهزة لا ترحم)، وفوضى غير خلاقة (ستذوب داخلها القواعد “المتحضرة”).
هذه الفرضية هي بالتأكيد الأكثر احتمالا. ولكن كل التغييرات الكبرى، كل التقدمات الكبرى، في تاريخ الحياة كما في تاريخ الإنسان، كانت انتصارا لغير المحتمل.
( Edgar Morin, développement de la crise du développement, in. Sociologie, Fayard, 1987, p. 439).
هوامش:
“قضية الرفاهية” انظر مقالا سابقا، ص 277 -282 من الكتاب)
“تحديث جماعة فرنسية” انظر مقالا سابقا، ص 253 -276 من الكتاب)
“العام الأول من العصر الإيكولوجي”، انظر مقالا سابقا، ص 390 – 396 من الكتاب).
* نقلا عن:
تنمية أزمة التنمية – إدغار موران | ترجمة: مصطفى ناجي - الموجة الثقافية
يقدم موران في هذا المقال تحليلا عميقا لأزمة التنمية كما تمارس حاليا بدوغمائية عمياء لا تفتح إمكانية للنقد، ويقدم تحليلا عميقا لأزمة الحضارة الغربية التي تعمم نفسها كنموذج مطلق لا يرقى إليه الشك، ويبرز ما ترتب عن هذا التعميم من انعكاسات مدمرة على صعيد المجتمعات الغربية نفسها وعلى صعيد بقية بلدان العالم. ويصوغ نقدا شاملا للاختيارين اللذين أفرزتهما الحضارة الغربية الحديثة بشقيها الرأسمالي الليبرالي والاشتراكي الشيوعي. إنه مقال يهم الجميع إذن ويحثنا على التفكير وإعادة النظر في الاختيارات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الثقافية… التي تدعي أنها الطريق الوحيد الأمثل والأخير أمام البشرية لكي تحقق الرفاهية والسعادة… ورغم مناخ اليأس الذي يسود الواقع ، فإن المقال ينفتح في نهايته على أفق متفائل يستمده الكاتب من حس تاريخي عميق. ( المترجم).
I – مفهوم التنمية
التنمية مفهوم من وضع هيئة الأمم المتحدة، هيمن خلال النصف الأول من القرن العشرين. والتنمية كلمة ذات سلطة، تلتقي حولها كل الإيديولوجيات السياسية المبتذلة خلال عقود الخمسينات والستينات. ولكن هل تم التفكير فيها حقا؟ لقد فرضت نفسها في نفس الوقت كمفهوم ذي سيادة، كمفهوم واضح، تجريبي ( قابل للقياس بواسطة مؤشرات نمو الإنتاج الصناعي والرفع من مستوى العيش)، وغني (يدل في حد ذاته وفي نفس الوقت على النمو، الازدهار وتقدم الفرد والمجتمع). ولكن لم يتم الانتباه إلى أنها أيضا مفهوم غامض، غير دقيق، أسطوري وفقير.
المشكل الأولي هو مشكل مفاهيم. إذا كانت هناك أزمة تنمية، فإن أحد أول انعكاسات هذه الأزمة، وكل الأزمات الأخرى، هو أن يتحول ما كان دقيقا إلى ملتبس، وما كان واضحا إلى ضبابي، وأن يبرز التناقض داخل مفهوم كان يبدو منسجما.
يؤسس مفهوم التنمية وضوحه على وضوح المفهوم البيولوجي حيث يعتبر الأول نفسه امتدادا للثاني، ويعتبر نفسه بسذاجة نظيرا له على المستوى السوسيو- اقتصادي. من المعلوم فعلا أن الأجسام البيولوجية تتطور انطلاقا من بويضة خلال مرحلة هي في نفس الوقت مرحلة نمو لعناصرها المكونة وتفتح لإمكانياتها. ولكن حتى على المستوى البيولوجي، فإن مصطلح النمو يطرح عدة مشاكل. ماذا يحدث أثناء مسلسل التطور البيولوجي بحصر المعنى خلال تشكل الجنين؟ ما يحدث هو مسلسل تخصص الخلايا. ولكن ما يبدو تطورا على مستوى الكل يبدو كتقهقر وانحلال على مستوى العناصر. إن خلايا البشرة مثلا تشيخ قبل الأوان، والخلايا الأرقى، خلايا الدماغ، تفقد قدرتها على تنظيم أيضها. وبعبارة أخرى، يتم إنتاج خلايا متخصصة من خلال تلف نسبي للخلايا الأخرى. وهكذا فإن مسلسل التطور، حتى من وجهة نظر بيولوجية يتحقق في حدود، ومع إكراهات، بل مع حالات تقهقر. إن كل خلية من خلايانا تملك مجموع الرأسمال المعلوماتي الذي يشكل شخصيتنا. لكن جزءا قليلا من هذه المعلومات فقط هو الذي يعبر عن نفسه، أما الباقي فيظل مكبوتا. يبين لنا ذلك أن التطور البيولوجي ليس مفهوما أحادي الدلالة.
إلا أن المشكل الأساسي يوجد خارج هذا: إن كل تطور بيولوجي هو تكرار لتطور سابق مسجل جينيا، وهكذا دواليك. إنه عودة دورية لماض، وليس بناء لمستقبل غير مسبوق. (أما) خصوصية التطور السوسيو-اقتصادي فتكمن في نزوعه نحو بناء مستقبل غير مسبوق. ومع ذلك كان الحديث عن هذا التطور يتم بيقين يفوق يقين الحديث عن التطور البيولوجي، وكنا نعتقد أننا نسير بوضوح تام نحو تقدم مضمون.
لماذا كانت فكرة التطور تبدو بديهية ومفرحة إلى هذه الدرجة؟ لأنها كانت تعتمد على شيء نموذجي: فكرة أن العلم، العقل، التقنية والصناعة أمور مترابطة فيما بينها؛ كل واحدة منها تطور الأخرى، وجميعها تضمن تطور الإنسان؛ ينظر لهذا التطور إذن كازدهار للعقلانية. إلا أن العقلانية الغربية كانت على درجة من الانغلاق والضيق بحيث كانت تقصي كل ما لم تستطع إدماجه، وتعتبره لاعقلانيا، بدءا بتعقيد الكائن الحي. أضف إلى ذلك أن العلم والتقنية قد تطورا بطريقة كمية. ومن هنا جاءت فكرة أن الأكثر هو الأحسن دائما (كلما ازداد الإنتاج، وكلما ازداد التخصص، كان ذلك أحسن، الخ.)؛ ويسود الاقتناع بأن النمو الكمي يؤول دائما إلى نمو كيفي.
كان الأساس الذي تقوم عليه الفكرة الكبرى المتعلقة بالتنمية هو النموذج الكبير للإنسية الغربية: إن التنمية السوسيو-اقتصادية، مدعومة بالتطور العلمي – التقني تضمن من تلقاء نفسها ازدهار وتقدم المؤهلات البشرية، كما تضمن حريات الإنسان وقدراته. هذه هي الأفكار التي كانت تغذي فكرة التنمية كحقيقة بديهية، وتستبعد الشك فيها رغم أنه وارد بشكل أساسي: هل من المؤكد أن التنمية الاقتصادية/ الصناعية/ التقنية/ العلمية تولد من تلقاء نفسها الازدهار والتقدم البشري-الاجتماعي؟ هنا كان ولا زال يبرز جوابان متعارضان يبعدان الشك: أ- نعم، إذا تحقق ضمن شروط ليبرالية/ ديمقراطية (غير استبدادية)؛ ب – نعم، إذا تحققت التنمية عن طريق القضاء على الاستغلال والسلطة الرأسماليين، أي عن طريق الاشتراكية. وفي الحالتين، فإن التنمية في حد ذاتها لا يعتريها الشك؛ يكفي أن نزيل الحاجز الأساسي الذي يمكن أن يحرفها عن طريقها أو يعرقلها. ( السؤال الغائب هو: ألا تفرز التنمية من تلقاء نفسها خميرة لاستبداد جديد ورأسمالية جديدة؟) .
على هذه الأسس ازدهرت خلال الستينات أسطورة التنمية (في الوقت الذي كانت العلامات الأولى للأزمة قد بدأت في الظهور). وتؤكد هذه الأسطورة نفسها من خلال مظهرين: مظهر شمولي مركب هو أسطورة المجتمع الصناعي؛ ومظهر اختزالي ذي طابع اقتصادي-تقنوقراطي.
أ – أسطورة المجتمع الصناعي هي أسطورة سان- سيمونية جديدة تعتبر أن المجتمعات التي بلغت المرحلة الصناعية سوف تقلص تناقضاتها، صراعاتها وتفاوتاتها القصوى، وسوف تضمن للأفراد أقصى درجات السعادة التي يمكن لمجتمع أن يوفرها، وباختصار، سوف تؤدي تدريجيا إلى حل المشاكل الاجتماعية والبشرية الأساسية التي طرحت عبر التاريخ. وعلى المستوى العالمي، فإن الرأسمالية وما يسمى الاشتراكية سيلتقيان عند نموذج اجتماعي متشابه في الأساس حيث تساهم الوفرة والتوازن في تقوية بعضهما. لقد كانت هذه الأسطورة قوية، لكنها لم تدم طويلا. لقد برز بعد الحرب، ابتداء من سنوات 1950 -1955 ، وانتشر بداية عقد الستينات، وفجأة أصبح إشكاليا ابتداء من 1968-1969-1970.
ب – وفي نفس الوقت، وبما أنه كان يبدو واضحا أن التنمية الصناعية هي محرك التنمية الاقتصادية، التي أصبحت بدورها محرك التنمية الاجتماعية، التي أصبحت بدورها محرك تنمية وازدهار البشرية، فقد كان واضحا أن ضمان النمو سيؤدي وفق تسلسل ضروري إلى ضمان كل أشكال التنمية .
هكذا إذن كنا في نفس الوقت أمام أسطورة شمولية، متعددة الأبعاد وغنية، وممارسة اختزالية، تقنوقراطية وفقيرة، ما دام خبراء النمو هم قادة التنمية ومحاسبوها.
أضف إلى ذلك أن هذه الأولوية الفعلية التي تمنح لممارسة تقنو-اقتصادية، اقتصادوية وفقيرة تؤدي بهذه الممارسة لأن تجعل من نفسها غاية في ذاتها. مع العلم أن الاعتقاد الذي كان سائدا هو أن :
النمو الصناعي – التنمية الاقتصادية – التنمية الاجتماعية – ازدهار البشرية. ويحيل ازدهار البشرية بدوره على النمو الصناعي الذي يغذيه:
النمو الصناعي – التنمية/ الازدهار
ولكن، بما أن فكرة التنمية الاجتماعية وفكرة التنمية البشرية فكرتان ضبابيتان، ولتجنب هذه الضبابية ، يتم قياسهما بمؤشر وبمنحنيات اقتصادية. وهكذا، فإن المؤشر الوحيد القابل للقياس من وجهة نظر التقنوقراطيين هو النمو الصناعي نفسه:
النــمـــو الــصــنـاعــي
وبينما يسود الاعتقاد بأننا نصنع النمو من أجل التنمية (الاجتماعية والبشرية)، فإننا عمليا نصنع النمو من أجل النمو. وهنا نكتشف في أصل مفهوم التنمية نفسه أن ما هو فقير هو بالضبط ما يبدو الأكثر غنى: فكرة الإنسان وفكرة المجتمع. لقد بنينا فكرة التنمية على أسطورة إنسانوية/ عقلانوية أحادية البعد وفقيرة حول الإنسان، وعلى فكرة آلية / اقتصادوية ذات نظرة ضيقة بشكل مدهش حول المجتمع. هناك ألف سبب يتبادر إلى الذهن، وليس في نيتنا أن نسرد هذه الأسباب هنا. نكتفي بذكر السبب الذي يحظى بنسبة أقل من الاهتمام: إن أنتروبولوجيتنا ليست معقدة بما يكفي، لأنها تتغذى بالأسطورة الضيقة حول الإنسان الذكي/ صانع الأدوات l’homo sapiens/faber، وسوسيولوجيتنا ليست معقدة بما يكفي لجعلها تدرك ما هي التنمية الاجتماعية الحقيقية.
هذا النقص الأساسي مرتبط بنقص خاص في تصورنا للتنمية: فهو تصور تبسيطي، مشوه، آلي، خطي، معقلن وراض عن نفسه. والحال أن كل تطور اجتماعي يحمل في ذاته بالضرورة حالات تراجع وفقد وتدمير أكثر مما يحمله التطور البيولوجي. وغالبا ما يكون ثمن اكتساب الإنجاز هو فقد القدرة. ففي المدرسة والمصنع والمكتب نتعلم أشياء وننسى أشياء أخرى. وفي حالات كثيرة نحتاج إلى القيام بتراجعات حقيقية وحالات تقهقر كي نتمكن من التطور. هذا هو معنى الرسالة الإنجيلية (يجب أن نعود أطفالا كي نفهم بعض الأشياء)، ومعنى رسالة روسو التي أراد البعض أن يرى فيها حلما ساذجا بجنة خيالية مفقودة. إن معنى كلمة روسو هو أن التطور يقتضي بالضرورة عودة تقهقرية إلى أصل قديم، بالمعنى العميق لكلمة “أصل” (arkhe)، أي العودة إلى مبدأ أساسي وأولي. إلا أن أحد مظاهر أزمة التنمية هاته هو أنها تؤدي إلى ظهور نوع من الحاجة إلى تقليدية جديدة، روسوية جديدة، أصولية جديدة. إن النظر إلى مسلسل النمو باعتباره نزعة تطورية بديهية يخفي في الواقع غموض الغايات، وغياب أي نموذج مؤسس، وحالة التيه وانعدام اليقين في عملية التنمية.
في واقع الأمر، كان انعدام اليقين هذا يتوارى أمام بديهية ازدهار الإنسان وتقدمه الاجتماعي اللذين كانا محايثين للتطور المزدوج للتقنية والعلم كعاملين يحرران الإنسان من الإكراهات المادية، يضمنان تقدم العقلانية والمعرفة، ويجعلان من الإنسان الذكي / صانع الأدواتl’homo sapiens /faber السيد المستنير للكون.
الأكثر من ذلك أننا نسينا أن التنمية تعني التنمية الذاتية. الذاتية = الإنسان ( المجتمع، الفرد). يجب تصور التنمية إذن كــ :
تنمية ذاتية
وذلك ضمن عمليات تكرار لا تنتهي حيث تصبح التنمية وسيلة وغاية لنسق التنظيم الذاتي (المجتمع، الفرد).
لا يمكن طبعا أن نقدم هنا نظرية تنبؤية حول المجتمع وحول الإنسان . ولكن يجب أن نكشف عن انعدام اليقين، عن الغموض، وعن الطابع الأسطوري حيث كنا نرى اليقين والوضوح و العقلانية. وذلك هو ما ستبينه لنا أزمة التنمية.
2 – أزمة النمو أم نمو أزمة؟
لقد حاولنا في مقال سابق أن نحدد مفهوم الأزمة انطلاقا من : أ- تزايد نسبة الشك، ب- توقف عمليات الضبط وانطلاق عمليات الانفلات، ج – تحول علاقات التكامل إلى علاقات تعارض، د – تزايد أو تراجع البحث عن الحلول (يرجع إلى مقال “من أجل نظرية للأزمة”، ص 175 – 190 من الكتاب).
هل يعتبر مثل هذا التعريف للأزمة قابلا للتطبيق، قبل ظهور الأزمة الاقتصادية خلال العشر سنوات الأخيرة، على فكرة التنمية نفسها؟ أعتقد أن مفهوم التنمية نفسه قد دخل في أزمة خلال عقد الستينات. ففي الوقت الذي كان هذا المفهوم يدعي الدمج المنسجم والمتناغم بين مفاهيم النمو، الازدهار، الحرية، السعادة، التوازن، الخ، فإنه قد أصبح إشكاليا، ودخلت هذه المفاهيم في علاقة تعارض؛ ففي الوقت الذي كانت تفرض نفسها كيقين، تحولت إلى موضوع شك. خلال عقد الستينات، عرفت فعلا البلدان المسماة في اللغة السوسيولوجية السائدة بلدانا صناعية متقدمة نموا صناعيا شبه مستمر، وارتفاعا شاملا في ثرواتها على المستوى المالي، وارتفاعا في قدرتها الشرائية في ما يخص مستوى العيش. كان كل شيء يبدو بالنسبة للملاحظين المتفائلين منهم والمتشائمين ( مثل ماركوز Marcuse) وكأنه يسير في اتجاه الإدماج المتزايد للجماهير القروية والعمالية الواسعة، والالتحاق المتزايد بعالم الرفاهية، والازدهار الهادئ للحياة الفردية ضمن الحياة الخاصة وضمن وقت الفراغ. وقليلون هم أولئك الذين شعروا منطقيا ومن خلال بعض المؤشرات الفرعية والهامشية أن أزمة تتهيأ وتعلن عن نفسها داخل وبواسطة هذه التنميات نفسها.
عمليا، حدثت بعض الفورات المحلية، وبعض الانفجارات الفرعية، التي تم إهمالها في البداية، لأنها اعتبرت بمثابة حوادث عرضية؛ وحين يلاحظ أن هذه الحوادث تشكل مصدرا لتوجهات جديدة، يبذل جهد من أجل عقلنة الظواهر الجديدة بإرجاعها إلى بعض المشاكل ذات الطابع التقني الاقتصادي. وبالفعل، فإن كل ظاهرة من هذه الظواهر تؤثر على أسطورة التنمية وعلى النموذج الذي يشكل خلفية لها. نذكر بأن الأزمة الاقتصادية لسنة 1973 وما تلاها قد سبقتها أزمة في الحضارة أثرت على الرؤية السائدة حول التنمية. لقد تمثلت الأسطورة الكبرى خلال سنوات الخمسينات، سواء في صورتها الرأسمالية أو الاشتراكية، في الاعتقاد بأن التنمية، إذا لم تكن قد حققت السعادة بالضرورة، فإنها على الأقل ستخلق الشروط الحقيقية لازدهار السعادة البشرية. وأعتقد أنه لم يسبق لفكرة السعادة أن تغلغلت في تطور حضارة ما، ثم خيبت الآمال بمثل هذه السرعة. وبالفعل، فهناك حيث تحققت الشروط المادية، التقنية والاقتصادية للسعادة، ثمة بالضبط انتشر مناخ القلق.
أضف إلى ذلك أننا رأينا كيف تعمق ” قلق حضارة” جديد داخل وبواسطة التنمية الاقتصادية، وهي التنمية التي تجلب معها أيضا إحساسا بعدم الرضى وبالوحدة، وكيف أن ثقافة وسائل الإعلام المفروض فيها أن تخلق الغبطة، قد حولت فكرة السعادة إلى فكرة إشكالية.(1)
ورأينا أيضا أن التنمية، وهي تدمج فئات واسعة من القرويين والعمال ضمن نسيج الحضارة الحضرية /البورجوازية قد أدت إلى تصدع وقطائع داخل هذه الحضارة الظافرة (2).
وقد رأينا أن التنمية، وهي تحقق نموذجا ثقافيا / حضاريا بورجوازيا، تقوم في نفس الوقت بهدم هذا النموذج. وفي الوقت الذي تشتغل فيه هذه التنمية بواسطة ومن أجل ازدهار نموذج إنساني رجولي، راشد، بورجوازي، أبيض، فإنها تثير ردود فعل متعددة لا تعترض فقط على هيمنة هذا النموذج ، بل تعترض أيضا على قيمته. وهكذا فإن بذورا شابة أنثوية، متعددة الإثنيات، متعددة الأجناس، قد بدأت تشتغل، لكن بشكل غير منظم، ولم يتشكل بعد نموذج إنساني جديد قائم في نفس الوقت على ازدهار سلالة النوع البشري وعلى ازدهار الاختلافات.
وقد رأينا أخيرا أن النزعة الطبيعية الجديدة، والنزعة التقليدية الجديدة اللتين بدا وكأنهما لا تخصان سوى الحياة الخاصة ووقت الفراغ، قد تضافرتا ضمن “وعي إيكولوجي” أصبح من الآن فصاعدا يهم كل أبعاد الحياة الاقتصادية والاجتماعية ويشكك في مفهوم التنمية كما كان سائدا حتى ذلك الوقت.
إن الحركة المضادة للتلوث، والحركة الطبيعية الجديدة المكونتين للنزعة الإيكولوجية الساذجة تحملان في طياتهما رسالة عميقة ذات أهمية لم نعرف مداها بعد. يتعلق الأمر في نفس الوقت بـ: أ- زوال فكرة اللانهائية، وهي الفكرة الزائفة التي انخرط فيها النمو الصناعي ومجموع المسلسل الضخم المسمى تنمية؛ ب – هناك ضرورة حتمية منطقيا للتخلي عن الفكرة الاختزالية التي كانت تجعل من النمو الصناعي ترياقا كونيا للتنمية البشرية-الاجتماعية. يمكن القول بالتأكيد إن هذا الوعي الإيكولوجي يشكل جزءا من مغامرة التنمية. إن من طبيعة البيولوجيا أو المجتمع أن تتحول فيهما المنحنيات الأسية عاجلا أم آجلا إلى منحنيات على شكل S؛ إن عمليات الضبط الخارجية ( إكراهات المحيط) والداخلية ( المراقبة الذاتية) تتدخل، ولا تمثل الكارثة المتوقعة خطيا سوى رؤية ذهنية مجردة: إن عملية الإنذار بنهاية العالم تساهم عمليا في التصحيح. هذا مؤكد. ولكن هذا بالضبط هو ما لم نعه ، ويجب علينا أن نعيه: إنه الطابع المنفلت للتنمية وعدم خضوعها للضبط. كنا نعتقد أنها موضوع مضبوط بفضل التقنية، ولكن هذه الأخيرة لا تقوم بدور التنظيم إلا على المدى القصير، وساهمت، على العكس من ذلك بشكل كبير في الانفلات المستعصي على التحكم. كان ممكنا أن نعتقد أنه يمكن التحكم فيها بفضل العلم. ولكن العلم نفسه تحول إلى مسلسل غير مضبوط. كان ممكنا أن نعتقد أنه يمكن التحكم فيها بفضل المثل الإنسانية الديمقراطية، ولكن هذه الأخيرة بدل أن تقود التنمية، تحولت إلى دمى مبتورة الأوصال وأقنعة إيديولوجية. وكان بالإمكان أن نؤمن بأن التقدم يقودها، لكن يبدو أن هذا التقدم الخطي/ الأحادي يسير نحو الهاوية. كان بالإمكان أن نؤمن بأن العقلانية هي التي تقودها، لكن هذه العقلانية كانت في الواقع عقلنة هذيانية تشبه حالة العصاب، وتكتفي بوضع قناع العقلانية.
“أزمة الحضارة“
هذا يعني أن الأزمة الإيكولوجية ليست سوى مظهر وعرض لأزمة أكثر راديكالية تؤثر في مبادئ العقل، في المعتقدات الثابتة والأساطير المحركة لحضارتنا. بهذا المعنى يمكن أن نتحدث فعلا عن أزمة الحضارة.
هذه الأزمة تبين لنا المتعدد ضمن ما كنا نعتقده أحاديا، وتبين التناقض في ما كان يبدو منطقيا، وتبين الفساد في ما كان يبدو خلاصا، أي في العلم، العقل، التقدم، التنمية، وهي العناصر التي لم تعد منذ الآن تقدم الرفاهية، السعادة، الحرية والحياة فقط، ولكن تجلب أيضا القلق، الآلام، العبودية والتدمير.
من هنا بالضبط ، يتم البحث داخل هذه الأزمة وبواسطتها، عن أصل أسطوري، وأيضا عن أسس مفقودة ( من هنا جاءت الحركات الأصولية الجديدة)؛ ومن هنا أيضا جاء التقليل من شأن الحداثة لصالح ما بعد الحداثة أو لصالح نزعة تقليدية جديدة وكلاهما تتمردان عن هذه الحداثة.
إن أزمة التنمية لا تكمن فقط في أزمة الأسطورتين الكبيرتين للغرب الحديث: غزو الطبيعة (الموضوع) من طرف الإنسان (الذات/ سيدة العالم) ، وانتصار الفرد البورجوازي المعزول. إنه تعفن النموذج الإنساني – العقلاني للإنسان الذكي / صانع الأدوات، حيث كان يعتقد أن العلم والتقنية سيحققان ازدهار النوع البشري.
هنا أيضا سنقصي البديل التبسيطي المتمثل في رفض العلم، رفض العقلانية، رفض النزعة الإنسانية. يجب أن نجد أسئلة حيث كنا نرى أجوبة واضحة: إن العلم والتقنية والعقلانية والنزعة الإنسانية، بالصورة التي تمارس بها، هي سبب المشاكل التي يفترض أنها جاءت لتحلها.
إن أزمة التنمية تكمن أيضا في أزمة التحكم في كيفية تطور تنميتنا الخاصة. لقد اعتقدنا أننا نتحكم في الطبيعة، ولكن تحكمنا كان مفتقدا للمراقبة. واعتقدنا أننا نتحكم في الاقتصاد، ولكن الأزمة التي ظهرت سنة 1973 قد بينت أن مراقبة الاقتصاد لم تكن بها ثغرات فحسب، ولكنها كانت أيضا مؤقتة. واعتقدنا أننا نتحكم في التقنية، ولكن التقنية هي التي كانت منفلتة من أي مراقبة ، وتتحكم في أنشطتنا الاقتصادية والاجتماعية، كما أننا عاجزون عن التحكم في العمليات التي تنجزها الإعلاميات، علم الحاسوب والإلكترونيك. إننا غير قادرين على مراقبة التحول الذي يشهده العالم، وهو تحول متأزم باستمرار، فوضوي، متخبط، مجنون. وهذا التحول مفرح (لأننا لم نسقط حتى الآن في هيمنة إمبراطورية وحيدة على العالم)، بقدر ما هو محزن (لأننا لم نتمكن من الوصول إلى فيدرالية عالمية تعتبر ضرورية). لقد كررت عدة مرات أننا نعيش “عصر الحديد عالميا”، “ونعيش عصر ما قبل التاريخ على مستوى العقل البـشـري”. (انـظـر : نـقـد ذاتـي Autocritique ، 1959، ومـن أجـل الـخـروج مـن الـقـرن العشرين Pour sortir du XXè siècle، 1981).
يجب أن ندرك أنه لا يمكن القيام بأي ضبط في إطار مبدأ فكري يحدد بالذات هذه العمليات المتسلسلة غير المضبوطة، ويجعلنا عميانا إزاءها.
إن أزمة التنمية هي الترابط والتضافر بين هذه الأزمات التي ذكرنا، تلك التي تظهر الآن، وتلك التي ستظهر مستقبلا. إنها تبين أن المجتمع المسمى صناعيا يفرز مشاكل راديكالية لا يستطيع حلها في نفس الوقت الذي يعمل على حل أو على التخفيف من مشاكل أخرى راديكالية أيضا. إنها لا تقودنا إلى رفض مفهوم التنمية، ولكن إلى نقد ما اتسمت به حتى الآن من طابع أسطوري، اختزالي (تقني-اقتصادوي)، مبتور (وبتار إذن).
لقد رأينا أنها ليست فقط أزمة مفهوم. يتعلق الأمر في نفس الوقت بأزمة أنتروبولوجية / اجتماعية، أزمة ثقافية / حضارية، أزمة نمو صناعي / اقتصادي، أزمة في الغرب، أزمة في الشرق، أزمة في الجنوب، أزمة عالمية. وكما هو الحال دائما، فإن أزمة الإيديولوجيا المهيمنة هي تعبير عن أزمة الأسس التي يقوم عليها المجتمع نفسه. إن مفاهيم العلم، التقنية، العقلانية، وهي التي كانت تبدو بمثابة مفاهيم موجهة، مراقبة وضابطة، قد تبين أنها على العكس من ذلك مفاهيم عمياء، غير مراقبة، صانعة للاعقلانية، لاعقلانية كان شكلها الأكثر تطرفا دائما (لأنه الشكل الأكثر تسترا) هو العقلنة: العقلنة الإيديولوجية (حيث يتم التعتيم على كل ما لا يمكن إدماجه ضمن النموذج المذهبي المجرد)، عقلنة تقنية-بيروقراطية ( حيث التعتيم ، بل تتم التصفية المادية لكل ما لا يدخل ضمن النموذج النفعي البتار).
تنمية أزمة التنمية
إنها أزمة ملموسة وتوليدية في نفس الوقت. إنها تتعلق بالوجود الظاهر للمجتمعات، وبحياة الأفراد، وسوف تؤدي إلى اختلالات متزايدة الحجم. وهي توليدية بمعنى أنها تؤثر على البنيات التوليدية التي تضمن الاستمرار الذاتي للمجتمع، أي مجموع القواعد والمبادئ والمعايير التي توجه التنظيم الذاتي والإنتاج الذاتي وكذلك ما يعبر عنه بصورة غير دقيقة بإعادة الإنتاج الاجتماعي.
يجب إذن أن ننتبه إلى ضخامة وراديكالية الأزمة، أي أن نتخلى عن أي أمل في حل سريع.
لن نتناول هنا مشاكل أزمة التنمية في البلدان المسماة متخلفة. سنشير مع ذلك إلى أن أزمة التنمية في بلدان العالم الثالث لا تشكك فقط في الطرق الخاصة بزرع وتحقيق التنمية على الطريقة الغربية: إنها تشكك أكثر من ذلك ، من وجهة نظر حضارات غير غربية منشغلة بالمحافظة على هويتها، في ملاءمة نموذج لا يمكن أن ينغرس (خارج تربته) إلا وأدى إلى إفلاس الثقافات التقليدية وتفكيكها. لنذكر بأن التنمية قد تحققت في الغرب نفسه عن طريق تدمير ثقافات وإفراز آلام بشرية. فخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تم استئصال أعداد هائلة من الفلاحين من قراهم، من عاداتهم، من ثقافتهم، وتم حشرهم في هوامش المدن الإنجليزية. هل هو ماض انتهى؟ ليس الأمر كذلك في حقيقة الأمر. إن ذلك هو ما يحدث (اليوم) في كل مدن العالم الثالث. هناك أعداد ضخمة من القرويين استؤصلت من جذورها وانتقلت إلى ساو بولو، إلى سانتياغو… كل ذلك يتم مقابل عمليات تدمير هائلة. إذا أردنا أن نعرف إذن كيف نضع حلولا دقيقة، علينا أن نتجرأ على النظر إلى غموض المستقبل. في نظري أن أحد مظاهر الوعي الأكثر خصوبة اليوم في مجال الأنتروبولوجيا هو أننا أدركنا أن إنسان الحضارات التقليدية ليس طفلا فقيرا، أو شيطانا. إنه يتوفر، على العكس من ذلك، على تنميات على المستوى الشخصي، والمستوى الحسي، المستوى السيكولوجي وعلى مستوى المهارات، أغنى بكثير مما لدى أي شخص متخصص في مجتمعنا، كما أنه يتوفر على فلسفة (خاصة به). هل يعني هذا أن علينا العودة إلى فكر تقليدي؟ لا بل يعني أن ندرك الخسائر التي قدمناها ثمنا للفوائد التي نتحدث عنها. بعبارة أخرى، علينا أن ندرك وعينا بالتنمية يجب أن يضع في الاعتبار خاصيتي الغموض والتعقيد. وهكذا فإن النموذج الغربي للتنمية يعرف أزمة، سواء في الغرب (نفسه) أو في بلدان العالم الثالث، وهما أزمتان تؤكد إحداهما الأخرى، وتزيد إحداهما الأخرى تعقيدا. من هنا تفتح أمامنا آفاق تنميات أخرى، أو آفاق تنميات جديدة.
3 – الحل الزائف
إن شيوعية الأجهزة (الشيوعية الرسمية) تزعم أنها تتوفر على التصور والصيغة المناسبين للتنمية الحقيقية والجيدة. إنها تدعي امتلاك النظرية المناسبة للتطور الاجتماعي، وهي الماركسية. وتزعم أنها ستحقق تنمية الازدهار، (بواسطة) الاشتراكية. وتزعم أنها السلطة القادرة على المراقبة والفعل، المتسمة بالوعي الدقيق بالوسائل والغايات (بواسطة) الحزب. إن الحزب الوحيد تنيره الحقيقة العلمية، التي يتم تأويلها دائما حسب هوى الظروف من طرف قادتها الذين لا يرقى إليهم الشك. إن الحزب الذي يحتل جهاز الدولة، ويلغي كل قوى معارضة أو منتقدة، ويعتبرها حتما رجعية ومجرمة، يتوفر (افتراضا) على قوة هائلة تمكن من تنظيم المجتمع وتوجيه تنميته في اتجاه الشيوعية. ثم إن الحزب يعبر (افتراضا) عن إرادة الجماهير الشعبية التي لم تعد في حاجة إلى التعبير (عن إرادتها) مباشرة، أو عن طريق الاقتراع أو الاحتجاج أو الإضراب.
ومباشرة بعد ذلك يؤدي هذا الحل إلى إنكار أي إشكالية تهم أزمة العلم أو التقنية أو العقلانية، ويعتبرها أزمات زائفة لا تعكس سوى أزمة واحدة هي أزمة الرأسمالية. وهكذا يتم تبني مجموع الموروث المتعلق بالنموذج الغربي.
لكن يجب أن نتساءل عن العلاقة بين مفهوم التنمية ومفهوم الاشتراكية. إن الاشتراكية، من منظور اشتراكيي القرن التاسع عشر وحتى 1917، هي ثمرة التطور الصناعي. وانطلاقا من أطروحات أبريل 1917 بدأ مسلسل أفرز الشيوعية الستالينية. ففي التصور المنبثق عن الستالينية، أصبحت الاشتراكية هي محرك للتنمية الصناعية، بدلا من أن تكون ثمرة لها. وساد التفكير بشكل متزايد، وبدا للكثيرين بشكل متزايد أن “الاشتراكية” هي النموذج الوحيد والأحسن لتنمية العالم الثالث. وهكذا عرفت النظرية تحولا قويا يضاهي أو يفوق التحول الذي أحدثه القديس بول حين جعل رسالة موجهة إلى اليهود بمثابة رسالة موجهة للوثنيين، فتحولت في النهاية إلى رسالة مضادة لليهود. إنه أمر يتسم بأهمية مماثلة. وهو بمثابة ورطة تدعو إلى التأمل. إن ما يسمى النموذج الاشتراكي للتنمية لا يوجد عند ماركس. إنه نموذج يمكن تسميته بالنموذج الستاليني المتطرف. وبطبيعة الحال، فحتى في هذا النموذج لا يمكن أن نستبعد الاضطرابات، خاصة حينما ينشب صراع بين المصلحة الوطنية واشتراكية السلطة ( في بولونيا وهنغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا): إن التناقضات التي يراد كنسها بالجرافات ستهز هذه المجتمعات عاجلا أم آجلا، وستكشف حقيقتها (أكذوبتها)، والتناقض الكبير هو ذلك الذي يوجد بين الخطاب الشيوعي حول المساواة والحرية وبين الواقع المؤسساتي لدكتاتورية الحزب.
يجب أن ننظر إلى الأمر من داخل تجربة البلدان المسماة اشتراكية كي نفهم أن شيوعية الجهاز (الرسمي) قد أعادت تكريس مجتمع طبقي هرمي، وأنها تقصي إمكانيات هائلة للتنمية، وأنها لا يمكن أن تحافظ على وجودها إلا بواسطة القهر المعمم، وأن حضارة الأنانية والفردية والبورجوازية هي السمات الحقيقية، وأن الشيوعية ليست سوى قناع لمجتمع العنف والقهر، وأن رذائل التكنوقراطية والبيروقراطية منتشرة، وأن الإنسان الجديد ليس سوى أسطورة تافهة، وأن النظرية الماركسية حول الإنسان والمجتمع، مع كل إسهامها الغني، هي نفسها غير كافية ومبتورة، ومن ثمة فهي نظرية تفقر وتبتر (الواقع).
وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن لبلدان العالم الثالث، أو على الأقل تلك التي لا تخضع خضوعا مطلقا لسلطة الحاكم ، أن تبتكر نموذجا جديدا؟ هل يمكنها على الأقل أن تتجنب الأسوأ، عن طريق اقتباس مناهج ووصفات متنوعة من عادات أمم أخرى ومن تقنياتها المكتسبة؟ هل يمكنهم فعل شيء آخر غير استخدام تجربتهم الضاربة في جذور التاريخ، والمنبثقة عن ثقافتهم، واستخلاص العبر العملية من التجارب الزراعية والصناعية والحضرية والتعاونية… الخ التي ظهرت في أرجاء العالم؟
أقصد بذلك: هل يوجد نموذج خارج التجارب والتركيبات الحائرة التي تتلمس طريقها؟ لا أعتقد ذلك. أعتقد أن هناك إمكانية للتقدم ضمن الشروط المحلية التاريخية المعطاة، بألم أقل، وفظاعة أقل، وشر أقل. ولكن النموذج الجديد لم يولد بعد. إن الوعي بالنقص الكبير في النماذج أولوية بالنسبة لأي تقدم سياسي أو اجتماعي ضمن مشروع التنمية. إن أغلب معاصرينا يعتقدون واهمين أن النموذج موجود. فلو تم التعامل بنوع من الشك مع ما يسمى النموذج الاشتراكي، لو تمكنا من الفحص والمراقبة، لشكل ذلك دفعة قوية لخيالنا. أعتقد أننا يوم نقتنع بأن هذا النموذج الاشتراكي يعاني بالفعل من أزمة عميقة، وأنه عاجز عن حل بعض القضايا الأساسية، حينها سيوجد أمل في البحث. أما اليوم، فإن البحث تعوقه الأسطورة. أضيف كلمة أخرى: نحن أوروبيون، ونحن غربيون، ونواجه خطر الجهل والنسيان لأننا أعضاء ضمن مجموعة من الأمم التي كانت من قبل إمبريالية استعمارية، ولأننا أيضا لا زلنا نستفيد من الإمبريالية الاقتصادية الجديدة، ونجني ثمار لاتكافؤ اقتصادي لا شك فيه. من الصعب إذن أن نتجنب خجلا قد يشل أفكارنا. لدي انطباع بأن الخوف من التفكير في مشاكل العالم الثالث يرجع إلى مرض الخجل هذا، وهو خجل له دافع عميق، ولكنه يحول بيننا وبين صياغة نقد (ذاتي) قد يبدو لنا ثمرة غير واعية لرغبتنا في الحفاظ على رفاهيتنا، وذلك انطلاقا من خجلنا القبلي من الإمبريالية السابقة، وخجلنا الحاضر من الإمبريالية الاقتصادية الحالية، وخجلنا من امتياز النعيم والغنى في عالم تتفاقم فيه مشاكل التزايد السكاني ونقص التغذية؛ ومن هنا فإننا نعتبر التفكير في مشكل الحريات ترفا فكريا.
هذا يعني أننا لا يمكن أن نحلل المشاكل دون تحليل ذاتي جاد ومثمر، بل تحليل نفسي ذاتي يوازيه نقد ذاتي.
4- الأفق
نلاحظ إذن أن الفكر التقني-الاقتصادوي في الغرب البورجوازي لا يمتلك الحل. ونرى (أيضا) أن شيوعية الأجهزة (الرسمية) لا تمتلك الحل. إننا لا نرى حلا في الأفق. قصارى ما يمكن فعله هو أن نعلن بشكل “مثالي” عن الشروط الضرورية لإعداد حل.
إن الحلول لا يمكن أن تأتي إلا من تضافر وعي جديد (في الفكر والممارسة)، وابتكارات نابعة من لاوعي الجسم الاجتماعي نفسه.
من زاوية الفكر الواعي، يجب :
أ- إعادة صياغة مفهوم التنمية وإعادة بنائه. يجب أن نكف عن رهن التنمية بالنمو، ولكن أن نرهن النمو بالتنمية. يجب أن نكف عن رهن التنمية الاجتماعية للإنسان بالتنمية التقنية / العلمية، ولكن أن نرهن التنمية التقنية / العلمية بالتنمية البشرية. قد يبدو ذلك بديهيا. ولكن هذا الأمر يحيلنا من جديد على المشكل الأساسي: ما معنى التنمية الاجتماعية؟ وما معنى التنمية البشرية؟ كنا نعتقد أنهما مفهومان واضحان، لكنهما (قي الواقع) لا زالا أجوفين ضبابيين، لأننا نعيش على تصور فقير وضيق حول الإنسان والمجتمع. وعلى الفور ندرك أننا في حاجة مستعجلة لنظرية حول الإنسان والمجتمع.
ب – يتعلق الأمر بالتفكير في مشاكل التنمية مثلما نفكر في جميع المشاكل النظرية الإنسانية والاجتماعية، أي أن نضع مشاكل التنمية في نفس المستوى الفكري للمفاهيم من الدرجة الثانية، أي تلك التي تقتضي دائما إرجاع الموضوع (وهو هنا التنمية) إلى الذات ( وهي هنا المجتمع والإنسان)؛ ويعني ذلك بالضرورة استعمال المقطع اللفظي: “ذاتي” ( le préfixe : « auto »). يجب إذن أن يكون المفهوم المفتاح، كما قلنا هو التنمية – الذاتية auto-développement .
في هذه الحالة، نحن مقتنعون بإمكانيات تنمية الإنسان والمجتمع. ولكننا مقتنعون بنفس الدرجة بأن هذه التنمية لا تنفصل عن تحول اجتماعي.
إن المجتمع الحديث لا يمكن أن يتطور دون أن يتغير جذريا. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نعتبر أزمات التنمية بمثابة دفعات أولى نحو التغيير، تتجلى فيها الانحرافات المبشرة بحركات مستقبلية ممكنة. ومن هنا يمكن أن نفترض أن العبقرية اللاواعية ( للمجتمع وللنوع البشري) قد بدأت تشتغل. ولكن يجب أن نعلم أننا فقط في بداية الوعي النظري وفي بداية الانبثاقات الإبداعية للاوعي الاجتماعي. إن الأزمة نفسها تفرز أيضا إمكانيات التقهقر، وتشجع على اللجوء السحري للحل الزائف.
كذلك يبدو الأفق في نهاية هذا القرن (القرن العشرين) غير مضمون. ولكي نتمكن من وضع تنبؤ ما، يجب بداية أن نعترف في الوقت نفسه بإمكانية وبعدم احتمال فرضيتين متطرفتين.
الفرضية القصوى الأولى هي فرضية الكارثة. وهي ممكنة ماديا لأن البشرية المتطورة قد راكمت وسوف تراكم بشكل متزايد قدرة على التدمير الذاتي، ليست ذرية فحسب، ولكن أيضا ديموغرافية وإيكولوجية. إلا أن ضخامة التهديد الحراري-النووي نفسها تلعب دور الكابح. إن من المحتمل جدا أن تأخذ المنحنيات الأسية للنمو الديموغرافي ولنمو الخطر الإيكولولوجي شكل المحنيات S (وثمن ذلك هو تبذيرات وآلام لا يمكن التنبؤ بها).
الفرضية القصوى الثانية هي التحول الاجتماعي الذي يمكن أن يشكل ولادة جديدة للبشرية. إن المؤهلات موجودة كما قلنا في الكائن البشري وفي الكائن الاجتماعي، وهما ليسا إلا في بداية تطورهما. إن هناك تطلعات تزداد عمقا بدأت تظهر في هذا الاتجاه وتتبلور من خلال الكلمات الأسطورية المتمثلة في الاشتراكية، الشيوعية، الفوضى. ولكن هذه القوى لا زالت ضعيفة ومشتتة، ليس هذا فحسب، بل إنها لا زالت تائهة، محرفة عن غايتها، مؤسطرة، وهناك نوايا حسنة هائلة تعتقد أنها تعمل لخدمة الثورة، وهي في الواقع تعمل دون وعي منها على سحق بذور الثورة. بالنسبة لي، هذه هي المأساة الكبرى للعصر، وهو ما يضعف احتمال “الولادة الجديدة للبشرية”، وولادة التنمية “الحقيقية”.
بين هذين القطبين القصويين، يتراءى لنا احتمال عصر وسيط عالمي. وقد بدأ هذا العصر فعلا. وبدل خلق تركيب مثمر بين النظام والفوضى، وهو ما يفترض أن يشكل التقدم، فإننا نرى معالم تجاور نظام متصلب ( تضمنه أجهزة لا ترحم)، وفوضى غير خلاقة (ستذوب داخلها القواعد “المتحضرة”).
هذه الفرضية هي بالتأكيد الأكثر احتمالا. ولكن كل التغييرات الكبرى، كل التقدمات الكبرى، في تاريخ الحياة كما في تاريخ الإنسان، كانت انتصارا لغير المحتمل.
( Edgar Morin, développement de la crise du développement, in. Sociologie, Fayard, 1987, p. 439).
هوامش:
“قضية الرفاهية” انظر مقالا سابقا، ص 277 -282 من الكتاب)
“تحديث جماعة فرنسية” انظر مقالا سابقا، ص 253 -276 من الكتاب)
“العام الأول من العصر الإيكولوجي”، انظر مقالا سابقا، ص 390 – 396 من الكتاب).
* نقلا عن:
تنمية أزمة التنمية – إدغار موران | ترجمة: مصطفى ناجي - الموجة الثقافية