جونيتا ميل Joanita Male - إنها مهنة ليلية It is a Night Job.. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

يجب أن تدرك أنني لم أختر هذه الحياة بملء إرادتي. الحياة تلك هي التي اختارتني. ربما كان لطفولتي دور كبير في تهيئتي لتلك المهنة – هذا إذا اعتبرتها "مهنة". لقد امتهنت أمي ذلك "العمل"، وكذلك فعلت أمها من قبلها. لذا أظن أنه لم يكن بمقدوري تفادي الاشتغال بتلك المهنة.

كان الجو بارداً في ذلك المساء، في حوالي السابعة. كنت متأكدة من أن الجو لن يمطر في تلك الأمسية، فالمطر يوقف عملنا تماما. فكما تتخيل، فالشارع ليس هو المكان المفضل للواحدة منا والمطر الغزيز يهطل على رأسها. كانت السماء صافية وشديدة الزرقة، ومرصعة ببعض النجوم. هذا ما جعلني أثق في أن المطر لن يهطل ذلك المساء. سمعت من الكثيرين أن ظهور النجوم في السماء أقوى إشارة إلى أن السماء ستمسك مطرها عنا. شكرا للرب!

كنت أرتدي فستانا أبيض اللون. كان ضيقا مطاطا يشف بوضوح عن تقاسيم جسدي، خاصة أَوْراكي. اللون الأبيض في الملابس لون ممتاز، يجعل الواحدة منا تتميز عن بقية الفتيات الأخريات، خاصة إن كان لونها شديد السواد مثلي. وضعت مكياجي. وكانت أمي قد تولت مهمة تدريبي على وضع المكياج بمهارة، ونصحتني بأن يكون لون دهان شفتي أحمرا داكنا (وليس فاقع الحمرة، فذلك يصلح لفاتحات البشرة)، مع وضع ظلال خفيفة للعينين. كنت ألبس حذاءً بكعب يبلغ طوله ستة بوصات، ليس من أجل مسايرة الموضة، بل لأني قصيرة نوعا ما. فطولي لا يتجاوز خمسة أقدام وبوصة واحدة، مما يجعلني أقصر فتاة هنا. ولم أكن أرتدي أي ملابس داخلية، فقد تعلمت أن خير وسيلة لجذب الزبائن أحيانا هي أن تريهم عرضا تمهيديا لما قد يظفرون به بعد قليل.

أقف الآن على رصيف شارع بيرتون، ذلك الشارع الصغير الذي يسبق الدوار المؤدي لطريق يوسف لولي. كان معظم الفتيات يقفن قبلي في ذلك المكان المظلم الذي تنعدم فيه أي إضاءة. كان ذلك هو ميزته الكبرى، وهو مما أحبه في ذلك الشارع، إذ أن أي إضاءة تلوح من بعيد مقبلة لذلك الشارع تبشر بقدوم زبون محتمل. كانت كل المباني على طرفي الشارع هي بيوت سكنية حوُلت لمكاتب. وكانت لها بوابات كبيرة مهيبة وفي مداخلها ثبتت لافتات ضخمة. ولم يكن هنالك أي أثر للحياة في تلك المكاتب في ذلك الوقت من المساء.

أضواء. انحنيت بسرعة بما فيه الكفاية لأريي قائد السيارة عينة خاطفة لما سيحصل عليه إن اختارني. وانحيت وأدرت جسمي أكثر لأريه جزءً من وجهي. ولم أنس أن أضع على فمي ابتسامة، فقد غدوت الآن مجيدة لتلك الحركات بسبب كثرة التكرار، فالإجادة تأتي مع كثرة المران. لم يلزم أن أكون سعيدة حتى ابتسم. يمكنني أن آتي بابتسامة عند إبداء الزبون لأقل عرض ... تلك هي من أهم المتطلبات الأساس لمهنتنا.

أبطأت سيارة "كورونا" من سيرها أمامي. صار بمقدوري الآن تقدير ما سيدفعه الزبون، وقدرت أن صاحب الكورونا هذا لن يدفع المبلغ الذي سأطلبه. ولكني تعلمت أيضا من تجارب سابقة كثيرة ألا أرفض أي عرض أحصل عليه، وإلا فسأبيت على الطَّوى إن فعلت.

وأطل من نافذه السيارة وجه حدَّق في ولكني لم أتبين منه إلا إنه رجل أسود صاحب عينين واسعتين وأسنان بيضاء براقة.

صاح في بنفاذ صبر: "أركبي". بدا أنه كان يريد أن يبتعد سريعا عن المكان قبل أن يراه أحد. دخلت سيارته وابتسامتي المصطنعة لا تزال على وجهي. لم أكن متأكدة إلى أن سنذهب، ولكن كان علي أن أكون واضحة معه في شأن أسعاري.

سألته بصوت عال وأنا أرفع حاجبي، كما هي عادتي: "مدة طويلة أم قصيرة؟"

أجابني هو أيضا بصوت مرتفع: "طويلة. كَمْ؟"

فكرت في نفسي أن هذا الرجل ليس بالسهل، ولكني قلت له: "خمسون ألفا."

رد دون تفكير أو تردد: "أوكي." وأنطلق مسرعا ... نحو "نتندا" كما افترضت. لن تكلفني العودة لبيتي من هناك الكثير، فمنزلنا يقع في "نايلا"، وهي قريبة جدا للمكان الذي نقصده. توقف أمام فندق صغير (موتيل) اسمه ماكس، كان مقصد كل من يقطن "نتندا". نزلنا من السيارة وأسرع بالدخول للفندق وأنا أسير خلفه كجَرْوة غير مرغوب فيها. إنهم يتصرفون هكذا دوما في البدء، وكأنهم يسدون إليك جميلا. كنت أَمقَتَ ذلك الفصل!

دخلنا الغرفة، ولم يضع زمنا في خلع ملابسه، ثم استلقى على السرير المزدوج وتغطى بالبطانية البنية السميكة. كان كل ما في ذلك الفندق الصغير باعثا على الملل والضجر، فالستائر بنية قبيحة، لتناسب لون البطانيات، والجدران مطلية بلون أصفر شاحب، والأثاث في غاية البساطة. بدت الغرفة وكأنها أحضرت مباشرة من المدرسة الابتدائية القريبة.

كان كل شيء في ذلك الفندق مملا ومضجرا إلا البشر فيه. أقصد بالطبع الزبائن الذين يرتادونه. كانوا من مختلف الأنواع. فهنالك الذي يعمل في قيادة دراجة بخارية لنقل الركاب (تسمى بودا – بودا)، ويريد أن يمتع نفسه بكل ما حصل عليه من دخل طوال ذلك اليوم، وهنالك أيضا قطب المجتمع الثري الذي يأتي خفيةً وعلى استحياء، ويكره أن يراه الآخرون في ذلك المكان المحرج.

نظرت إليه مليا، فوجدته متين الجسد، وأفضل حالا من كثير من الزبائن الذي مروا علي. البداية. بدأت في خلع ملابسي، رغم أنه سيدفع لعملية "طويلة". قررت أن تكن العملية "قصيرة". لم أكن في مزاج لفعل الكثير في ذلك اليوم. سأقوم بإمتاعه بما فيه الكفاية بحيث لا يلاحظ الفرق. كنا في ذروة تلك اللحظة. ذلك الجزء لا أكرهه كثيرا. المتعة التي أهبها لهم. كلهم دون استثناء. ومضينا في العملية وسرير الفندق له صرير. وكنت أسمع أيضا من بعيد صرير الأسِرَّة في الغرف الأخرى. كان تلك الأصوات تأتي متناغمة مثل أغنية متطابقة الإيقاع والضربات الصوتية. كان وجهه يتَأوّدَ وكأنه كان يتألم. كان ذلك يعني أنني أقوم بعمل جيد.

لقد كان من المبتدئين. أنا متأكدة من ذلك، فليس هنالك أحد يسأل عن السعر.

وانتهى الأمر الآن. كنت أفكر في ذلك، فذلك كان هو الجزء الذي أمقته بالفعل. هذا هو جزء كراهية الذات. تلك هي اللحظة التي أبدأ فيها في إلقاء اللوم كله على أمي. هذه هي النقطة التي تغمرني فيها فيوض الذكريات عن أمي وهي تنتحب وتنشج كل ليلة عندما يفترقان. أقصد الرجال المختلفين الذين كانت تجلبهم للبيت. كنت دوما أفكر في سبب تعاستها. كان لديها من المال ما يكفي لرعايتنا بمفردها دون عون من أحد، وكانت أما صالحا لنا. لم أفهم حينها، ولكني صرت أفهم شعورها بعد أن كبرت.

صحت فيه: "أدفع."

لم أعد ابتسم بعد أن أنقضت المهمة. من مصلحتي عدم الابتسام في وقت الدفع.

"ولكنك تطلبين مبلغا كبيرا جدا." الآن فقط انتبه إلى أن سعري مرتفع. لم أرد عليه. الجدال في هذا الأمر لا يجدي أبدا. اكتفيت بالتحديق الصارم في وجهه لفترة طويلة. قام بسحب ورقة نقدية مُتَجَعِّدة من فئة الخمسين ألف شلن. كانت من النوع القديم الأكبر حجما والأكثر شحوبا. جذبتها منه وحشرتها في حمالة صدري قبل أن يغير رأيه. وقام إلى الحمام ليغتسل. هو مبتدئ بالفعل.

لم أضع وقتا في تفتيش جيوب بنطاله. لا شيء فيها. فتشت جيب قميصه. وجدت محفظة نقوده ولم يكن فيها إلا القليل من الأوراق النقدية المتجعدة من فئة عشرة ألف شلن. أخذتها وغادرت الغرفة على عجل.

كان فندق ماكس بعيداً عن الشارع الرئيس بصورة ملائمة (أو ربما غير ملائمة). كان هذا يعني أنه يجب علي أن أنادي على سائق (بودا – بودا). عظيم جدا!

بلغت منزلنا الآن. لبست على عجل طماقاً (leggings وهو بنطال يلتصق الساقين). لا أدري ما الذي كانت ترتديه الفتيات قبل أن يصير ذلك الطماق موضة شائعة. طرقت الباب ففتحت لي الباب أمي وهو تبتسم، فهي تعلم أني أحضرت لها معي بعض المال. كانت قد توفقت عن إحضار الرجال معها للبيت منذ زمن طويل، ولا عجب، إذ أنه ليس هنالك سوق رائج لعاهرات فوق سن الخمسين.

كيف أدخلت نفسي في هذا الأمر؟ ليس بمقدوري تفسير الأمر حتى لنفسي. ربما بسبب "الآباء" الذين صادفتهم في بيتنا، وأو ربما لتعودي على رؤية أمي وهي تضع المكياج يوميا، وتستطيع أيضا بطريقة ما أن تحسن رعايتنا. أو ربما لأني كنت أؤمن بمقولة "داوم على الاعتناء بجسدك، فإنك لا تدري متى ستحتاج إليه كي تكسب عيشك." ربما كان ذلك هو السبب.

كان ذلك المال من عملي كموظفة استقبال. هذا ما كنت أقوله لها، وهذا ما تزعم أنها تصدقه. ربما هي تصدق ذلك بالفعل، فأنا حقيقةً لا أعلم. مدت لي يدها الصغير منتظرة. كانت ما زالت متماسكة الجسم حتى وهي في سن الخمسين، رغم أنها لم تعد جميلة كما كانت. فقد فعلت مهنتها تلك بجسدها ما فعلت، وجعلت من كل ابتسامة تضعها على فمها تخفي وراءها ظلالا من الندم. كان ذلك من نتائج "مهنة الليل". لهذا سوف أتوقف. نعم أنا جادة في هذا. ربما قريبا... في يوم ما.

أمسكت بيدها محية، وسلمتها ورقة الخمسين ألف شلن. قالت لي وهي لا تزال تضع تلك الابتسامة على وجها كم هي فخورة بي. أوكي ... أنا متأكدة الآن من أن ذلك الجزء هو الجزء الذي أمقته أكثر من أي شيء آخر ... جزء تمجيد أمي لما أفعل.

ذهبت لغرفتي، فأمامي غدا يوم طويل، وعلي الجلوس لاختبار في علم الاجتماع بالجامعة التي أدرس بها.



ـــــــــــــــــــــــــــــ
نبذة قصيرة عن المؤلف:
جونيتا ميل (1980؟ –) كاتبة قصة يوغندية. نشرت هذه القصة في عام 2013م، وحظيت بعد ذلك باهتمام النقاد ودارسي الأدب الافريقي الحديث في الجامعات الغربية.

المترجم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...