ألف ليلة و ليلة رحاب الخترشي - شهرزاد: المرأة والحكاية

كان يا ماكان في قديم الزمان ملك وعد مع كل اكتمال قمر بالزواج من عذراء يريق دمها مع انبلاج الصبح. هذا الرجل الطفولي و المقهور من النساء جميعا بسبب خيانة زوجته له كان كابوس الصبايا في ذلك العصر، ففي كل شهر تفتك فتاة من حضن الحياة، ويتم إرسالها بعد أن تقضي ليلة مع شهريار ومنها إلى سيف الجلاد.

الوضع كان مأساويا بالنسبة لكل عائلة أحد أفرادها فتاة لم تتزوج بعد، إلى أن قررت شهرزاد إبنة وزير شهريار وضع حد لهذا العبث الدامي، عبر تقديم نفسها للزواج بشهريار ووضع خطة محكمة لوضع حد لجور هذا الحاكم و بطشه.

و بالرغم من أننا نستطبن في خيالنا الشعبي أن شهرزاد أنقذت حياتها بفعل جمالها و إغرائها للملك ونصب الفخاخ العاطفية له، إلا أننا نتغاضى عن قيمة القص في تغيير وعي هذا الملك. والأهم من هذا قدرة هذه المرأة على حياكة قصص مشوقة و متينة تسردها و تقّسم حلقاتها بطريقة ذكية.

المثير للإنتباه هنا أننا نجد في جداتنا و أمهاتنا أثرا لشهرزاد في ولعهن بالقص و الخرافة، يمررن من خلال أحداثها وشخصياتها وتفاصيلها العبر و الحكم إلى الأجيال الجديدة.

سلطة اللغة وسلطة السيف

تمثل شخصية شهرزاد حالة من الوعي متقدمة على بنات جنسها في ذلك العصر، فبفضل ثقافتها الواسعة وإلمامها بقصص التاريخ والحكم والعبر تمكنت، معتمدة على طلاقة لسانها و قوة تفكيرها من التغلب على سلطة السيف ووضع حذ لجبروتها. وهنا تظهر المعركة بين اللسان و الخطابة كسلطة لغوية تمتلكها المرأة.

فبعد الافراط في القتل بدافع التشفي والانتقام تظهر شهرزاد ابنة الوزير: تلك مرأة ذكية واسعة الإطلاع، وتهذعقد العزم على لجم بطش السلطان.

وينطلق مسلسل من القصص المتداخلة، بطريقة جذابة ومثيرة تجيد حبكتها وتبنيها بشكل يتصاعد التشويق فيه ساعة بعد ساعة حتى يبلغ ذروته مع انبلاج فجر اليوم الموالي، “فتسكت شهرزاد عن الكلام المباح “

يتواصل الحكي، والموت يؤجل ليلة بعد ليلة إلى أن تتمكن (شهرزاد) من انجاب طفل للملك، تغدو به زوجة كاملة ذات هيمنة وسلطة ومكانة.

المرأة و سلطة القص

حين كانت شهرزاد تقص حكاياها، كانت تستلهم هذه الغريزة الدفينة في نفس المرأة التي استطاعت بواسطتها ان تسيطر على شهريار فتحيله طفلاً يستسلم لها متحرقا لمعرفة مآل الشخصيات التي ابتدعتها بخيالها الخصب.

هي واعية تمام الوعي بسلطة القص على الإنسان، وبنفس الدافع تماما بث معاوية بن أبي سفيان القصاصين يروون للناس الحكايات في المساجد والساحات للسيطرة عبر القصص على الدهماء بعد أن مكنته آلته العسكرية من فرض سيطرته على خاصة الناس.

وحسب الناقد سعيد مصلح السريحي تطرح القصة في مستواها الأول نفسها باعتبارها جسداً لغوياً، متينا مكونا من كلمات، لغة ولكنها لغة خاصة، لغة أدبية يتحدث فيها القاص، كما يتحدث المتلقي، ولكنه يتحدث على نحو خاص.

انها لغة تدعو الى الانتباه الى ذاتها، تشير الى شكلها، توقع المستمع في حبائلها، تحرضه على ان يعايشها ويعاشرها، يستمتع بها. والقصة في هذا المستوى تماثل القصيدة أو تقترب منها، تحفل مثلها بلغة استعارية، تترك المتلقي يترنح بين حقائقها ومجازاتها، يجرب لذة الإصغاء الى رنين الكلمات فيها، يستمع اليها وهي تتجاوب في صدى صوت القاص في القصة الشفاهية، أو يوقظها من سبات الكلمات المكتوبة حينما يقرأ همساً بعض الكلمات، ليستمتع بصدى صوته وكأنما هو صوت آخر يحدثه ويروي له.

و ليس بالصدفة ان هذه الحكايات تسردها إمرأة (شهرزاد) فالنساء لهن الحضور الاكبر في جل الحكايا. ثم ان الليل حسب المفهوم النفسي والتاوي الصيني، يمثل الجانب الانثوي من الوجود، عكس النهار الذي يمثل الجانب الذكوري.

الحكايات جميعا تسردها شهرزاد في الليل حيث تهيمن الروح الانثوية على الكون. وليس بالصدفة ان تسمية “ليلة” صارت هي اسم هذه النتاج الشعبي العبقري: “ألف ليلة و ليلة”

و يرى البعض أن شهرزاد كانت مثالا للمرأة المتمردة على الصورة النمطية لحريم السلطان اللاتي لا حول لهن و لاقوة. هي المرأة التي ترى نفسها قادرة على تغيير فكر السلطان و نظرته للعالم، لا فقط عنصر امتاع و تحقيق لشهواته، شجاعة تغامر بتقديم نفسها كبش فداء لبنات جنسها، دون الاستسلام لما تعده قدرا محتوما، بل بثقة في النفس وفي سحر الخيال و قدرته علة تغيير مسار الأحداث وقلب الوقائع.

الخيال يصنع الحقيقة

حين يواجه الإنسان واقعا يؤلمه، يحاول تصور عالم أفضل، والخيال كان الفرس التي إمتطتها شهرزاد وقادتها وجعلت شهريار مسافرا على متنها فوق سرجها.

ومع توالي الليالي وتعاقب الحكايات، تمكنت هذه الانثى من ان تهبط الى اعماق الرجل وتشرع في اخماد نيران الحقد المتأججة، بذكاء سبق نظريات (فرويد) بقرون مديدة.

هكذا، من خلال جلسات علاج نفسي تلقائية، توصّلت الراوية إلى أن تحكي لشهريار قصته الخاصة عبر هذه الحكايا التي يلتحم فيها الواقع و الخيال و تظهر فيها قيم العدالة والانسانية.

ظلت (شهرزاد) تسرد حكايات ألف ليلة وليلة، حتى استطاعت ان تروض نزعة الشر والعدوانية عند رفيقها المعذب. عندها، صحا شهريار وانجلت عنه سكرته وقال:

“والله إن هذه الحكاية لَحكايتي، وهذه القصة قصتي؛ لقد كنت في حال من الغضب والحنق حتى أعدتني إلى صوابي” ثم استعاد عقله وطهر قلبه وثاب إلى رشده”.

فلكأن شهرزاد عملت بمقولة محمود دوريش حين قال

“لنذهبْ إلى غَدنا واثقين بصدق الخيال”

فشهرزاد غيرت القدر بفضل قصص لا نهاية لها، و هي لعمري سمة من سمات المبدعين و الفنانين، فكما يقول نيتشة “لنا الفن حتى لا تقتلنا الحقيقة”

جداتنا حفيدات شهرزاد

في ليالي الشتاء الباردة أو سمر الصيف الممتع، تتفنن جداتنا في سرد خرافات تقمن بتصويرها و سردها بطريقة فنية مبدعة، فتتفرع أوراق خيالنا و ترنو نحو السماء لنحلق في هذه القصص الغابرة و نستلهم من عبرها وأحداثها أبلغ المعاني.

و الجميل في كل هذا أن هذه القصص زينت ليالي طفولتنا، وكنا نغرق فيها و نتخيل أنفسنا نعيش مع أبطالها أو نحاول رسم ملامح وجوهم في أذهاننا.

فالطفل في أعوام طفولته الأولى يتمتع بمخلية خصبة، وهذه القصص تذكرة عبوره نحو هذا العالم السحري، و لعلنا لا نزال نستحضر هذه القصص التي استلهمت أحداثها من ألف ليلة و ليلة، كالسندباد و قصص الجن و العفاريت و الحوريات.

عالم الشرق يزخر بالقصص الغامضة و العجيبة التي تختلف من بلد إلى آخر فماهي أشهر القصص ببلادك؟ بح لنا بها وأخبرنا عنها كي نخطهل لمن بعدنا!



رحاب الخترشي
باحثة في علم الإجتماع

رحاب الخترشي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...