كثيراً ما لفتتنا الصورة التي تتشكل فيها المرأة في تاريخ الكتابة الأدبية، وكثيراً ما طالعتنا الشكوك حول نصوص يقف وراء سطحها المثير أكثر من حقيقة اعتبارية، لذلك كان السؤال مشروعاً حول تحرر شهرزاد، في ما إذا كان تحرراً نسوياً حقيقياً؟ أم مجرد تحرر ظاهري يسعى في حقيقته إلى تعزيز المجتمع البطريركي وخدمته؟
في قراءتي لرواية «نساء كازانوفا» وجدتُني أتحرك في اتجاه التفكير في صورة المرأة بالتوازي مع حكايات في الليالي، ظاهرها احتفاءٌ بإنسانية المرأة، وباطنها مخالفٌ لهذا تماماً. فأين رواية واسيني الأعرج من هذه الصورة؟ هل أعادت إنتاجها؟ أم أزاحتها؟ وهل كانت الإزاحة كلية أم جزئية؟
في العملين «نساء كازانوفا» و «ألف ليلة وليلة» نلمس لدى (شهريار/ كازانوفا) تعصباً يؤول إلى عجز فادح في إقامة علاقة إيجابية مع النساء، وما أسهل أن نلاحظ زيجات جديدة ومتكررة تنتهي بتدمير المرأة – بقتلها جسدياً أو معنوياً- والحال أن «شهرزاد» ظهرت كما كل واحدة من نساء «كازانوفا» متمتعة بجسد يمدها بقدرة على الكلام، وبمجابهة عنف ذكوري أصبح في إمكانها تطويعه قهراً، بسبب المرض كما الحال مع «كازانوفا»، أو إقناعاً عبر الحكاية كما الحال مع «شهريار» حين توقف عن قتل النساء. وفي المنجزين كان لا بد من ملاحظة ما يمكن أن نراه ميزة أعطت للقص فرادة، حين قلبت الليالي، كما روايتنا قيد الدراسة، علاقة الرجل بالمرأة حين ظهرت بصفتها الراوية ذات اليد العليا، التي تملي لسامع يغدو إثرها الطرف المستسلم، فتكون بذلك قد قلبت الدور التقليدي للأنثى من حيث الإملاء والتلقي وحسب.
يصبح في إمكان القارئ في المنجزين الانفتاح على جدل علاقات اضطهادية متبادلة، بمعنى أننا نستطيع الوقوف على صيغة بين (شهريار/ شهرزاد) (كازانوفا/ نسائه) عنوانها التضاد؛ فلدينا في الموقعين أنموذج سلطوي لطاغية شرقي وفحل ذكوري، يستهلك المرأة مرات ومرات، تقابله أكثر من أنثى مستباحة، رهينة، لا حرمة ولا حصانة لها. إن كانت الليالي قد قدّمت المرأة بكثير من سمات الكيد والغدر والغيرة، فإن «نساء كازانوفا» لم تستبعد هذه الصفات، مع فارق كبير أن الليالي جعلت هذه السمات جزءاً من طبيعة ثابتة لاصقة بالمرأة، بينما تعاملت معها « نساء كازانوفا» باعتبارها جزءاً لا يتجزأ عن سياقات خارجية أودت إليها. وفي إمكاننا التدليل على ما نقول من خلال واحدة من أبرز حكايات الليالي التي تطالعنا في الإطار وفيها نسمع عن جني كان قد خطف امرأة من زوجها ليلة عرسها وحبسها في قاع البحر، لا يطلق سراحها إلا حين يشاء في وقت محدود. فما كان من هذه المرأة سوى استغفال هذا الجني وخيانته مع كثير من الرجال، بدليل الخواتم الكثيرة التي تحتفظ بها بعدد الرجال الذين تلقاهم. يأتي حكم الليالي على المرأة بإدانة مطلقة تكتفي بإجابة شهريار وشاه زمان في صوت واحد «الله الله إن كيدهن عظيم»؛ اللازمة الأدبية التي تستدعي أحاييل النساء، التي تصاغ بنبرة دينية ليكون الحكم قاطعاً على الجنس النسائي كله بالشر والخيانة. لكنّ تأملاً لحال امرأة أُنكرت آدميتها يدفعنا للتفكير بأن ما فعلته هو انتقام من جني عجزت عن الإفلات منه، ويصبح بإمكاننا التعامل معها باعتبارها رمزاً لإحباط يصيب المرأة حين تغيب الرابطة العاطفية فتندفع آنئذ للبحث عن نقطة ضعف تشبع رغبتها بالانتقام.
في «نساء كازانوفا» لا يسمح الروائي بإلقاء الأحكام بجاهزية مسبقة، وتبقى الرواية بعيدة عن تنميط، يلقي الصفات تباعاً على المرأة بعيداً عما تعرضت له من ظلم وإجحاف، حرصت نساء كازانوفا على أن يسمعنه إياه بكامل تفاصيله. وبالتالي فإن تناظراً بين «روكينا» و«امرأة الصندوق» من منظور الراوي في العملين، يسمح لنا بوضع كل من شهريار والجني بمكانتيهما العظيمة، باعتبارهما تعبيراً عن سلطة ذكورية مضخمة على نحو سحري خرافي؛ فخطف الجني للفتاة ليلة عرسها يعكس قهراً جنسياً يتجلى عبر وضعها «في علبة، وجعل العلبة داخل الصندوق، مع إحكام إقفال الصندوق بسبعة أقفال، وجعله في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج. كل هذا يقع في إطار فانتازي يحمي السلطة الذكورية ويعزز سلطة السيد على العبد. وهو ما تنكره رواية «نساء كازانوفا» بحمولة لغوية تتعاطف مع «روكينا» التي يوازي اختطاف «كازانوفا» لها وحرمانها من الزواج بابنه ما فعله الجني بامرأة الصندوق. ولذلك تحضر سلسلة انتقامات عنيفة تقوم بها « روكينا» مشفوعة – ولا أقول مبررة- برغبة في الرد على الظلم بما يوازيه. وهو ما يتكرر حضوره مع شخصيات أخرى لم تجد سبيلاً سوى الرد على الظلم بآخر يوازيه.
لا أعرف إن كان الصواب قد جانبني وأنا أرى في «ساراي» – امرأة كازانوفا المدللة التي غارت النساء منها- موضوعاً لرغبة جنسية منحازة إلى خصائصها الجسدية أو تفوقها الجنسي أكثر من إمكاناتها الذهنية. أذكر هذا بدون أن يغيب عني ما يرد في الرواية عن تفوق ذئبي واجهت به إخوتها الذين رموها في البئر. إلا أني بقيت أرى في علاقتها مع «كازانوفا» مستوى اشتهاء جسدي كانت له الغلبة على فعل مؤانسة عقلية من شأنها تعزيز القدرة على الاستمرارية. تحضر «ساراي» بصورتها هذه بالتوازي مع ظاهرة لافتة في الليالي مع نساء بمواهب وإمكانيات – بمن في ذلك شهرزاد- بقيت موجهة لإمتاع رجل واحد (شهريار/ كازانوفا)، وظلت المرأة فيها كما الأنموذج المرغوب في عالم الذكور وفي مخيالهم، محتفظة بصورة الجارية التي تمتع سيدها وتعطيه دمها كي يدوم شبابه. لكن ما كان لي أن أحكم على نحو نهائي بأن هذا ما أراده واسيني الأعرج عن المرأة. فبمجرد أن تنهي «زينا» مجابهتها بالحكي مع «كازانوفا» حتى نصل إلى نتيجة مفادها أن المرأة في إمكانها أن تحضر بقوة المعرفة والثقافة- لا بالجسد وحده- أداة من أدوات تعرية ذكورية. وهو ما فعلته «زينا» حين كانت قادرة على تجاوز « كازانوفا» بشقها العاقل القادر على مواجهة سلطة غاشمة. وهو ما تفردت به شهرزاد من قبل حين تمكنت بمعرفتها من إيقاف مسارات تعسفية مارس فيها شهريار رغبته الانتقامية من المرأة. وبالتالي فإن هذه الصورة لم تكن غائبة عن حكايات الليالي، بل كانت حاضرة مع حكاية «تودد» الجارية التي انتصرت على قامات ذكورية محملة بالجاه والمعرفة، إلا أن المسارين لم يكونا متماثلين في نهاية الحكاية، فزينا اختطت لنفسها مساراً حراً خلافاً لتودد التي سخّرت كل إمكانياتها العقلية من أجل سيدها وحسب.
وكما في الليالي يحضر تأثير المرأة عاملاً في تحديد معالم حياة كازانوفا العملية، كما يغدو انتباهه مرتكزا على بناء القصر وجلب الجواري لكل واحدة فيه جناح. لنكون في الحالتين مع ذكورية محملة بالجاه والمعرفة، تحضر في الليالي في نطاق جمالي مقبول ومستساغ، بينما تحضر في «نساء كازانوفا» جزءاً من مكون نفسي يحمل جبروتاً هو جزء من عنجهية سلطوية تدينها الرواية.
يبقى في ذهني سؤال من باب الطرفة وحسب: لمَ كانت ذرية كازانوفا كما شهريار من الذكور وحسب؟ أسأل السؤال دون ريب عندي أن واسيني الأعرج من جنس الكتاب الذكور الذين استطاعوا بقوة اللغة الوقوف بالمرصاد أمام خطابات تقليدية ذكورية تزين قهر المرأة وإلغاءها، فجاءت رواياته أكثر انحيازاً للمرأة من كثيرات آلين على أنفسهن مهمة الدفاع عن المرأة.
٭ كاتبة واكاديمية اردنية
في قراءتي لرواية «نساء كازانوفا» وجدتُني أتحرك في اتجاه التفكير في صورة المرأة بالتوازي مع حكايات في الليالي، ظاهرها احتفاءٌ بإنسانية المرأة، وباطنها مخالفٌ لهذا تماماً. فأين رواية واسيني الأعرج من هذه الصورة؟ هل أعادت إنتاجها؟ أم أزاحتها؟ وهل كانت الإزاحة كلية أم جزئية؟
في العملين «نساء كازانوفا» و «ألف ليلة وليلة» نلمس لدى (شهريار/ كازانوفا) تعصباً يؤول إلى عجز فادح في إقامة علاقة إيجابية مع النساء، وما أسهل أن نلاحظ زيجات جديدة ومتكررة تنتهي بتدمير المرأة – بقتلها جسدياً أو معنوياً- والحال أن «شهرزاد» ظهرت كما كل واحدة من نساء «كازانوفا» متمتعة بجسد يمدها بقدرة على الكلام، وبمجابهة عنف ذكوري أصبح في إمكانها تطويعه قهراً، بسبب المرض كما الحال مع «كازانوفا»، أو إقناعاً عبر الحكاية كما الحال مع «شهريار» حين توقف عن قتل النساء. وفي المنجزين كان لا بد من ملاحظة ما يمكن أن نراه ميزة أعطت للقص فرادة، حين قلبت الليالي، كما روايتنا قيد الدراسة، علاقة الرجل بالمرأة حين ظهرت بصفتها الراوية ذات اليد العليا، التي تملي لسامع يغدو إثرها الطرف المستسلم، فتكون بذلك قد قلبت الدور التقليدي للأنثى من حيث الإملاء والتلقي وحسب.
يصبح في إمكان القارئ في المنجزين الانفتاح على جدل علاقات اضطهادية متبادلة، بمعنى أننا نستطيع الوقوف على صيغة بين (شهريار/ شهرزاد) (كازانوفا/ نسائه) عنوانها التضاد؛ فلدينا في الموقعين أنموذج سلطوي لطاغية شرقي وفحل ذكوري، يستهلك المرأة مرات ومرات، تقابله أكثر من أنثى مستباحة، رهينة، لا حرمة ولا حصانة لها. إن كانت الليالي قد قدّمت المرأة بكثير من سمات الكيد والغدر والغيرة، فإن «نساء كازانوفا» لم تستبعد هذه الصفات، مع فارق كبير أن الليالي جعلت هذه السمات جزءاً من طبيعة ثابتة لاصقة بالمرأة، بينما تعاملت معها « نساء كازانوفا» باعتبارها جزءاً لا يتجزأ عن سياقات خارجية أودت إليها. وفي إمكاننا التدليل على ما نقول من خلال واحدة من أبرز حكايات الليالي التي تطالعنا في الإطار وفيها نسمع عن جني كان قد خطف امرأة من زوجها ليلة عرسها وحبسها في قاع البحر، لا يطلق سراحها إلا حين يشاء في وقت محدود. فما كان من هذه المرأة سوى استغفال هذا الجني وخيانته مع كثير من الرجال، بدليل الخواتم الكثيرة التي تحتفظ بها بعدد الرجال الذين تلقاهم. يأتي حكم الليالي على المرأة بإدانة مطلقة تكتفي بإجابة شهريار وشاه زمان في صوت واحد «الله الله إن كيدهن عظيم»؛ اللازمة الأدبية التي تستدعي أحاييل النساء، التي تصاغ بنبرة دينية ليكون الحكم قاطعاً على الجنس النسائي كله بالشر والخيانة. لكنّ تأملاً لحال امرأة أُنكرت آدميتها يدفعنا للتفكير بأن ما فعلته هو انتقام من جني عجزت عن الإفلات منه، ويصبح بإمكاننا التعامل معها باعتبارها رمزاً لإحباط يصيب المرأة حين تغيب الرابطة العاطفية فتندفع آنئذ للبحث عن نقطة ضعف تشبع رغبتها بالانتقام.
في «نساء كازانوفا» لا يسمح الروائي بإلقاء الأحكام بجاهزية مسبقة، وتبقى الرواية بعيدة عن تنميط، يلقي الصفات تباعاً على المرأة بعيداً عما تعرضت له من ظلم وإجحاف، حرصت نساء كازانوفا على أن يسمعنه إياه بكامل تفاصيله. وبالتالي فإن تناظراً بين «روكينا» و«امرأة الصندوق» من منظور الراوي في العملين، يسمح لنا بوضع كل من شهريار والجني بمكانتيهما العظيمة، باعتبارهما تعبيراً عن سلطة ذكورية مضخمة على نحو سحري خرافي؛ فخطف الجني للفتاة ليلة عرسها يعكس قهراً جنسياً يتجلى عبر وضعها «في علبة، وجعل العلبة داخل الصندوق، مع إحكام إقفال الصندوق بسبعة أقفال، وجعله في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج. كل هذا يقع في إطار فانتازي يحمي السلطة الذكورية ويعزز سلطة السيد على العبد. وهو ما تنكره رواية «نساء كازانوفا» بحمولة لغوية تتعاطف مع «روكينا» التي يوازي اختطاف «كازانوفا» لها وحرمانها من الزواج بابنه ما فعله الجني بامرأة الصندوق. ولذلك تحضر سلسلة انتقامات عنيفة تقوم بها « روكينا» مشفوعة – ولا أقول مبررة- برغبة في الرد على الظلم بما يوازيه. وهو ما يتكرر حضوره مع شخصيات أخرى لم تجد سبيلاً سوى الرد على الظلم بآخر يوازيه.
لا أعرف إن كان الصواب قد جانبني وأنا أرى في «ساراي» – امرأة كازانوفا المدللة التي غارت النساء منها- موضوعاً لرغبة جنسية منحازة إلى خصائصها الجسدية أو تفوقها الجنسي أكثر من إمكاناتها الذهنية. أذكر هذا بدون أن يغيب عني ما يرد في الرواية عن تفوق ذئبي واجهت به إخوتها الذين رموها في البئر. إلا أني بقيت أرى في علاقتها مع «كازانوفا» مستوى اشتهاء جسدي كانت له الغلبة على فعل مؤانسة عقلية من شأنها تعزيز القدرة على الاستمرارية. تحضر «ساراي» بصورتها هذه بالتوازي مع ظاهرة لافتة في الليالي مع نساء بمواهب وإمكانيات – بمن في ذلك شهرزاد- بقيت موجهة لإمتاع رجل واحد (شهريار/ كازانوفا)، وظلت المرأة فيها كما الأنموذج المرغوب في عالم الذكور وفي مخيالهم، محتفظة بصورة الجارية التي تمتع سيدها وتعطيه دمها كي يدوم شبابه. لكن ما كان لي أن أحكم على نحو نهائي بأن هذا ما أراده واسيني الأعرج عن المرأة. فبمجرد أن تنهي «زينا» مجابهتها بالحكي مع «كازانوفا» حتى نصل إلى نتيجة مفادها أن المرأة في إمكانها أن تحضر بقوة المعرفة والثقافة- لا بالجسد وحده- أداة من أدوات تعرية ذكورية. وهو ما فعلته «زينا» حين كانت قادرة على تجاوز « كازانوفا» بشقها العاقل القادر على مواجهة سلطة غاشمة. وهو ما تفردت به شهرزاد من قبل حين تمكنت بمعرفتها من إيقاف مسارات تعسفية مارس فيها شهريار رغبته الانتقامية من المرأة. وبالتالي فإن هذه الصورة لم تكن غائبة عن حكايات الليالي، بل كانت حاضرة مع حكاية «تودد» الجارية التي انتصرت على قامات ذكورية محملة بالجاه والمعرفة، إلا أن المسارين لم يكونا متماثلين في نهاية الحكاية، فزينا اختطت لنفسها مساراً حراً خلافاً لتودد التي سخّرت كل إمكانياتها العقلية من أجل سيدها وحسب.
وكما في الليالي يحضر تأثير المرأة عاملاً في تحديد معالم حياة كازانوفا العملية، كما يغدو انتباهه مرتكزا على بناء القصر وجلب الجواري لكل واحدة فيه جناح. لنكون في الحالتين مع ذكورية محملة بالجاه والمعرفة، تحضر في الليالي في نطاق جمالي مقبول ومستساغ، بينما تحضر في «نساء كازانوفا» جزءاً من مكون نفسي يحمل جبروتاً هو جزء من عنجهية سلطوية تدينها الرواية.
يبقى في ذهني سؤال من باب الطرفة وحسب: لمَ كانت ذرية كازانوفا كما شهريار من الذكور وحسب؟ أسأل السؤال دون ريب عندي أن واسيني الأعرج من جنس الكتاب الذكور الذين استطاعوا بقوة اللغة الوقوف بالمرصاد أمام خطابات تقليدية ذكورية تزين قهر المرأة وإلغاءها، فجاءت رواياته أكثر انحيازاً للمرأة من كثيرات آلين على أنفسهن مهمة الدفاع عن المرأة.
٭ كاتبة واكاديمية اردنية