ميخائيل سعد - الهوامش : عن الحياة اليومية ، والمنفى ، والثورة السورية

ليس المقصود من هذا العنوان الحديث عن أهمية هوامش رسائل الماجستير والدكتوراة في البحوث العلمية، رغم أن المقصود ليس بعيداً عن ذلك بمعناه العام. وليس مقصوداً منه الإشارة الى هوامش الكتب والدفاتر التي تعلمنا منذ صغرنا احترامها، رغم عدم معرفتنا لأهمية وضعها في هذا المكان، مع فراغات البياض في أسفل الصفحة وأعلاها.

ولسببٍ ما، كان يقلقني أن لا أجد تفسيراً لوجود الهامش على اليسار، لأننا تعلمنا أنه يجب أن يكون دائماً على يمين الصفحة. ولكن، عندما بدأت بتعلم الفرنسية، في بداية المرحلة الاعدادية، عرفت أن هامش الغربيين غير هامشنا، لأنهم يكتبون من اليسار إلى اليمين، وكنت أعتقد أن سبب ذلك يعود لحَوَلٍ في عيونهم، أو لأنهم يسراويون جميعاً، إلى أن تكفّل الزمن بتصحيح تصوراتي الخائطة تلك، بالاضافة لاكتشافي أن ثمة شعوباً على كوكب الارض، هوامشُ صفحاتها غير موجودة أصلاً، لا على اليمين ولا على اليسار، وإنما هي في أعلى الصفحة وفي أسفلها، لأنهم يكتبون لغاتهم من الأعلى باتجاه الأسفل. ما لم أعرفه حتى الآن رغم تجاوزي الخامسة والستين من العمر، أمضيت ربعها على الأقل في عصر العولمة، كيف تكون هوامش اللغات في قلب القارة الافريقية، وبعض المناطق المهملة من العالم. والهامش، عادةً، يكون حيث يبتدىء الفعل الانساني ولا ينتهي، فهل غاب الفعل البشري في تلك المناطق؟!

أحاول، منذ بدأت الكتابة، الابتعاد عن منهجية كتابة الهوامش في الأبحاث؛ كل أنواع الأبحاث، لأن المبالغة في الدقة تدفع الناس للهرب من العمل الجاد والقراءة الجادة، التي تكون عادةً متعبة، بعكس الهوامش التي تترك مجالاً لخيالات القارىء، والتي تزين له ما تبقى له من حيزٍ في الفكرة والمكان والحياة. لذلك قررت أن تكون هوامشي مختلفة عما يكتبه المحترفون، وأقرب ما تكون لحياة الناس.

عن أصلي الريفي

ولدت عام ١٩٤٩، في قريةٍ جبلية تدعى "خربة حزور" لفلاحٍ وفلاحة، وكان ترتيبي الخامس بين من بقي حياً مِمَن أنجبتهم أمي، قبل أن تموت بدورها إثر إنجابها الطفل السابع الذي مات بدوره. وقد قالت لي زوجة عمي إنهم كانوا يتعاملون معي كمخلوقٍ في طريقه للموت؛ فجسدي كان هزيلاً أكثر من اللازم، ولون جلد جسدي الأسمر يزداد اقتراباً من اللون الأسود المزرق، والموسم موسم حصاد، وليس هناك من يملك الوقت للاهتمام بطفلٍ سيموت. كانت أمي، كما قالت زوجة عمي، هي الوحيدة التي لم تفقد الأمل باستمراري بالحياة، إلا أنها كانت، كغيرها، قد ألفت الموت، الذي كان زائراً عادياً في ذلك الزمن، يطرق أبواب الجميع دون تمييز. ورغم أن أبي كان من الفلاحين الميسورين لأنه كان قد وصل الى الصف الخامس الابتدائي، وكانت تصله كل سنة ”بقجة“ من الثياب المستعملة، يرسلها له والده المهاجر الى الارجنتين، فتميزه عن غيره من الفلاحين، إلا أن العادات المحلية والأفواه الجائعة المفتوحة دفعت بوالدتي للذهاب إلى العمل في الأرض بعد يومين من ولادتي، وهكذا تم إبعادي عن مركز الحب والاهتمام، وعرفت أول هامشٍ للحياة. قاومت الموت، أو ربما مرّ بقربي ولم يلحظ وجودي لصغر حجمي وسواد "وجهي".

لم أعرف أبداً تاريخ ميلادي، رغم أنني تعلّمت الاحتفال به في العشرين من كانون الأول من كل عام، تشبهاً بالمثقفين العلمانيين. وعندما سألت والدي، عندما درجت عادة الاحتفال بأعياد الميلاد، عن يوم مولدي، قال إنه لا يذكر، وإن كان يميل للظن أنه وقع أيام الحصاد.

ابتداءً من الرابعة من عمري تغير "وضعي الاجتماعي"، فبعد أن كنت ابن فلاح، أصبحتُ ابن شرطي. في المدن التي خدم فيها والدي، كنت أُعرف في الروضة والمدرسة، وعند الصبايا، فيما بعد، بابن الفلاح، رغم أن والدي كان يحمل ثياب الدولة ومسدسها، ولم يحدث أن حمل "صمده" على كتفه، وسار به في الدروب، كما كان يفعل عندما كان فلاحاً.


عطية سعد (والد الكاتب)

في القرية، وخاصة في سنوات الخمسينيات عندما كان عدد القرويين في المدينة قليلاً، كان أصدقاء طفولتي يتعاملون معي كـ "أجنبي" أو "ابن مدينة" عندما أعود لقضاء الصيف في القرية. وكان يمتعني الإحساس بأنني متميز في نـظرهم، وأنني في مركز اهتمامهم، خاصةً عندما أبدأ باختراع القصص الغريبة عن المدينة التي تثير انتباههم. مع الزمن جاء من أبناء القرية مَن كان أمهر مني في رواية أحداث المدينة، فدفعني ذلك إلى الهامش، أو إلى مكاني الطبيعي مع بقية الأطفال.

عشت ٣٦ سنة في المدينة، أي من سن الرابعة وحتى تاريخ هجرتي القسرية، دون أن أتمكن من كسر قشرة "البيضة" والدخول إلى عالمها الشهي والمُتخيل. كنت كلما اعتقدت انني رسَّخت أقدامي في مكانٍ ما على سطح تلك البيضة لاختراقها يحدث ما يحركها، فأتدحرج ساقطاً عنها قبل أن أتمكن من الدخول. ومع ذلك، كان عليّ البحث عن التوازن المطلوب بين عيشي في المدينة ورغبتي بالانتساب اليها وبين إحساسي بالرفض من قِبل ناسها ودفعي إلى هامشها. وللتوضيح أضيف، ليس فقط الوسط الاسلامي من كان يرفض اعتباري "مدينياً"، وإنما الوسط المسيحي للمدينة أيضاً. فقد عشت في حيٍ مسيحي حمصي أكثر من عشرين عاماً دون أن أستطيع كسب صداقات حقيقية فيه، وكان أغلب أبناء وبنات الحي ينظرون إلي كفلاح أو ابن فلاح. كل هذا دفعني إلى "الأطراف" أبحث عن صداقات فيه، تلبي حاجاتي العاطفية والثقافية، وأستطيع أن استخدم فيها لهجتي القروية بصوت مرتفع.

في أثناء عيشي في المدينة تعلمت التماهي معها عبر استخدام لهجة أبناء المدينة، وما أن أدلف إلى البيت حتى أستخدم آلياً لهجة القرية التي انقطعت عن العيش فيها منذ طفولتي، ولكنها كانت مستمرة في المنزل عبر اللغة وعلاقات أفراد الاسرة ببعضهم البعض، ونمط الطعام، وبعض أنواع الثياب.

في طفولتي الريفية المبكرة، كنت مجبراً على تنفيذ أوامر الكبار في البيت، بضرورة الاستحمام مساء السبت استعداداً للذهاب الى قداس الأحد صباحاً، بجسدٍ نظيف وثياب نظيفة، توخياً للطهارة المسيحية المطلوبة قبل دخول الكنيسة.



اختفت هذه العادة في المدينة، لأننا لم نكن ملزمين بالذهاب إلى الكنيسة، التي كانت في أغلب الأحيان خارج الأحياء الفقيرة المتطرفة التي سكنَّاها في المدن التي خدم فيها والدي كشرطي. ومع مرور الوقت، أصحبت ممارستنا للطقوس الدينية والذهاب إلى الكنيسة موسمية، أي في الاعياد والمناسبات الاجتماعية من زواج وعماد وغيرهما، ولم يكن ذلك ملزماً للاطفال، وهكذا أصبحت "الكنيسة" شيئاً كمالياً في حياتنا، كما كانت في القرية، وأصبحنا، ربما برغبتنا، هامشيين بالنسبة لجماعة المؤمنين، مما عمَّقَ شعورنا بريفيتنا، وبُعدَنا عن ممارسة الطقوس الدينية وهموم المؤمنين عن الحياة الآخرة، أما في الحياة الدنيا فقد كنا، بالفطرة، من أفضل أنواع المؤمنين، دون التبجح بذلك.

عندما عملت بالسياسة مع وصول حافظ الأسد الى السلطة، وكنت قد بلغت العشرين من العمر، وجدت نفسي في حزبٍ معارض، لم يكن فيه، على حد علمي، أي عضو "ابن مدينة"، فقد اقتصر الأعضاء فيه على الريفيين. وكان الوضع مشابهاً في الأحزاب اليسارية الأخرى. فقد بقيت الكتلة "المدينية" بعيدة، بشكلٍ عام، مع بعض الاستثناءات، عن الانخراط بالأحزاب اليسارية والقومية أحياناً. لست بصدد البحث عن الأسباب، ولكن هذا الوضع زاد في الانقسام الحاد ما بين المدينة والريف، وقد رأينا ذلك واضحاً في الثورة السورية والمآلات التي وصلت اليها. لم يكن هذا ما أبحث عنه، فقد كنت أريد فهم مجتمع المدينة، حيث أعيش، والانخراط في همومه، فتركت الحزب، ولكن مع ذلك بقيت على هامش المدينة التي كنت أحلم بالوصول الى عمقها.

هوامش الكتاب

استجابةً لرغباتي في الغوص عميقاً، والابتعاد عن السطح الثقافي، وغيره من السطوح، قررت، بعد قراءة رواية ”البحث عن وليد مسعود“ للروائي جبرا ابراهيم جبرا، وكانت قد صدرت حديثاً عام ١٩٧٨، أن أكتب عنها، فقد وجدت فيها نفسي. في القراءة الأولى، تركت نفسي تنساق وراء الأحداث دون أن أسجل أي كلمة. في القراءة الثانية، بدأت بتسجيل ملاحظاتي على "هوامش الرواية". في القراءة الثالثة للرواية، أختفت الهوامش، وحل مكان الفراغ خربشات وملاحظات بقلم الرصاص، فقررت أن الوقت حانَ لكتابة مقال طويل عن الرواية، "يُرَسِّمني"، على الطريقة الكنسية، ناقداً أدبياً، فأنا مثل غيري من أبناء مجتمعي الذين يجهلون قوانين "العمارة"، وأريد الوصول بقفزةٍ واحدة إلى قمة الهرم.

كنت وقتها أخدم عسكريتي الإجبارية بعد خروجي مباشرةً من السجن السياسي، وتشاء الصدف، ربما، أن تكون قطعتي العسكرية في "تل الزعتر" بعد عامين من تدميره من قبل قوات الأسد.




مخيم تل الزعتر

كنت قائد جماعة مدفع هاون ١٦٠ مم، وعندي ثمانية عناصر في الجماعة، أحدهم وأنشطهم وأقربهم الى قلبي شابٌ كردي من قرى عفرين، كان أمياً تماماً. في أحد الأيام ذهبت في إجازة قصيرة، وعندما عدت، بحثت عن الرواية، كي أبدأ بنقل الهوامش فلم أجدها. سألت سكان "الخيمة" عنها فأنكر الجميع معرفتهم بمصيرها. في اليوم الثالث للبحث، وكنت قد فقدت الأمل بمعرفة مصير الرواية، اقترب "برو": مني وقال دون أن ينظر بوجهي: "حضرة الرقيب أول، أنا أعرف ماذا حصل لكتابك"، قلت له: "تكلم يا رجل". قال: "في إحدى الليالي الباردة كنت أقوم بنوبة حراسة، فشعرت بالبرد والحاجة إلى كأسٍ من الشاي. بحثت عن شيءٍ أشعله، فلم أجد إلا كتابك أمامي، وكنت قد ظننت انك انتهيت منه، فبدأت بتمزيق أوراقه ووضعها في النار تحت إبريق الشاي.

في البداية صدمني الأمر، ولكن بعد تفكير، رأيت أنني الملام عندما لم أضع الرواية في مكان أمين، وثانياً أن حاجة "برو" للشاي أهمُّ من رغبتي في أن أصبح ناقداً "قدّ الدنيا" دفعة واحدة.

هوامش الثورة

أصل الثورة هو أن النظام همّشَ الشعب كله، ونظر إليه كمجموعةٍ من العبيد، مهمتم الأساسية هي مديح السلطان والتسبيح بحمده، فكانت الثورة محاولةً من الشعب لاستعادة السيطرة على المركز.

بالنسبة لي، كسوريٍ خارج حدود الوطن منذ أكثر من ربع قرن، لم استطع التصديق أن ثورةً سوريةً ستنشب ضد نظام الأسد المدعوم دولياً منذ وصول الأسد الأب الى السلطة عام ١٩٧٠. لأن هذ النظام كان يعمل، ويعتقد أنه نجح في ذلك، على إعادة صياغة "رعاياه" كما يريدهم، أي مجرد عبيدٍ خانعين، ومن يشذّ عن القاعدة تلك، كان مصيره الموت أو السجن أو التهجير والهجرة؛ بمعنى عام، تهميش الجميع، كي يبقى هو الفاعل الوحيد في المركز.

بعد مرور السنة الأولى، وبفعل عوامل خارجية وداخلية وذاتية، بدأ بعض من قام بالثورة بممارسة سياسة تهميش الشركاء في الوطن، فظهرت الانقسامات الطائفية والجهوية والأيديولوجية والدينية، وبدا الجميع مشغولاً ببعضه، تاركين النظام يلعب بالجميع. كان لهذه الانقسامات صداها الواضح والسريع في المهاجر، وظنَّ كل طرف أنه مهدد من الطرف الآخر وليس من النظام. حاولت، كابن أقليةٍ دينة، مع قلةٍ قليلةٍ جداً، أن نكسر هذا الاصطفاف، لكننا فشلنا، وتم التشكيك بنا من الجهتين. ولا أعلن سراً إذا قلت إن بعض اصدقائي المقربين كان ينظر إليَّ بعين الشك مع تقدم علميات الإبادة المذهبية التي تعرض لها السوريون ولا زالوا، ما ترك خيبةً كبيرة في نفسي، وأنا الذي كنت أظن أنني، في سلوكي وكلامي وكتاباتي، فوق الطوائف، ولكن، للأسف، كان حجم الدم أكبر وأقوى من عمل العقل، فشعرت أنني قد هُمّشت ثلاث مرات؛ مرةً أولى من نظام الأسد، ومرة ثانية من بلد الاغتراب والهجرة، ومرة ثالثة من أبناء وطني، وأقساها كانت الأخيرة.



خلاصة ما كتبته هو تجربة شخصية، للحياة في "الهوامش"، منذ طفولتي وحتى بلوغي السابعة والستين من العمر، ومحاولاتي الفاشلة للدخول إلى المركز. ورغم خصوصية التجربة، إلا أنها باعتقادي تحمل تجربة كثير من السوريين الذين عاشوا ظروفاً تشابه ظروفي. وأملي أن يُتاح لي الوقت والقدرة على تفصيل ما ورد في هذا المقال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...