يعمد القاص المصري ممدوح عبدالستار، منذ أول أعماله القصصية "السمان يستريح في النهر" (الفائزة بجائزة سعاد الصباح 1988) وحتى أحدثها "الحكاية الثانية" (الدار الثقافية، تونس 2019) إلى التمرد على أشكال الكتابة القصصية السائدة، فيعمد إلى تقديم قصص تحفل بالعجائبي والغرائبي، مصورا للا مألوف في سياق المعتاد، فالعجائبية تكمن في انتفاء الألفة وتزداد حدتها حينما يمزج القاص بينها وبين الواقعي، مفترضا تعامل المتلقي لها باعتيادية، فالسرد العجائبي يكتسب طابعا إيهاميا فيبدو وكأنه أحداث تجري باعتيادية.
وكل من العجائبي والغرائبي يثير الدهشة والحيرة، وتظهر دلالته في الأثر النفسي الذي يتركه لدى القارىء تجاه تلك الظاهرة الغريبة، والتمييز بينهما يقوم على التردد الذي يحس به القارئ حيال تصديق نص حدث ما، ثم يحسم أمره؛ فإذا رأى أن قوانين الطّبيعة سليمة، وتسمح بتفسير الظواهر التي تصورها القصة، فالنص عندئذ يدخل ضمن السرد الغرائبي، بينما يدخل في السرد العجائبي إذا افترض وجود قوانين جديدة للطبيعة يمكنه أن يفسر الظواهر بواسطتها.
مفارقة واستلاب
"تعود أن يرمي هدومه في أي ركن، بعيدا عن جسده، فيحس بارتياح، ويقفز كفراشة، ويحلق في غرفته، قافلا إياها حتى لا يقتحم عليه أحد خلوته، فيضطر لارتداء ملابسه مرة أخرى".
الكاتب كان موفقا في اعتماده شبه المطلق على ضمير المتكلم، إذ أتاح حضور الراوي في الحدث بأن يصعد من غرائبية أو عجائبية الحدث، كما أّنه يوهم المتلقّي بواقعية الأحداث
هكذا تبدأ القصة الأولى "انتظار"، معتمدة على الخروج عن المألوف والمتوّقع بما يتلاقى مع المفارقة التي تطرح أمراً جديداً في إطار عادي مألوف، "وتقول شيئاً وهي تقصد العكس"، فهذا الشخص الذي يتعامل مع ملابسه باعتبارها سجنا، فينزعها ويرميها ليرتاح نراه يغلق على نفسه غرفته ليشعر بالحرية، وكأنه استسلم لسجنه وأصبح كل ما يعنيه أن يكون السجن أكثر اتساعا، ولما يتلصص عليه الراوي، يراه "يحك جلده ولحمه بقوة، فيظفر بهما، ويضعهما بجواره على السرير، أو أرض الغرفة، حتى بانت عظامه، واستراح في نوم عميق".
هكذا يكتشف المتلصص أن جاره الذي كان يتيه بجسده قد أصابه الجرب، يلفظه الناس فيهجرهم مستترا بجدران غرفته غير دارٍ بأنهم يتلصصون عليه، وبالرغم من تعقبهم له لا يشعر بوجودهم، فيسرف في التخفي لدرجة أنه حينما ينظر في مرآته "لم يجد إلا بقعا سوداء"، فكأن وجوده أصبح عدما، وحينما تفوح الرائحة النتنة لجثته يقومون بإشعال النار في الغرفة للتخلص من آثاره، عندئذ يتحدث الراوى بضمير الجمع نحن وليس أنا: "استرحنا قليلا وفرحنا، وقد بات لنا أن نكون غير خائفين هذه المرة، واستلقى كل منا عاريا تماما في غرفته، منتظرين النار التي أفرحتنا".
هكذا ينجح السرد الغرائبي في رصد استلاب الذات في مجتمع يهمشها، وينتهك خصوصيتها، على الرغم من إن معاناة ذلك المقصي لا تخصه وحده، فبذرة الداء كامنة في دواخل أولئك الذين فرحوا بالنار وهي مصيرهم. وكذلك الشخصيات في كل القصص تعاني التهميش والإقصاء، وكلهم مثله يموتون دون أثرا بل حتى دون شاهد قبر، كما في "قصة لم يكتبها كاتب".
افتقاد الدفء
القارىء لأعمال ممدوح عبدالستار لا يجد فيها قصة بالمعنى المعتاد الذي يهدف إلى إحداث نوع من وحدة الانطباع أو الأثر، أما القصة عنده فتتعمد إحداث نوع من التشتيت للانطباع بسبب افتقادها غالبا للحدث المركزى، لذا سيجد القارىء نفسه إزاء سرد مختلف نوعا ما إذ يتعمد تصوير العالم بكل رحابته وتعقيداته عبر أحداث بسيطة يلتقطها من الواقع المعيش، ويقدمها بشكل عجائبي مازجا إياها برؤيته التي تتساءل عن أسباب تشظى الذات وانسحاقها، وتدين الواقع المؤدي إلى ذلك، وهذا ما نجده في قصة "ذراع يحمل الفاكهة"، حيث يختزل الرجل في الذراع الذي يعمل ويكسب ويحمل الفاكهة، فلما لم يفعل بترته الزوجة بالبلطة، فيمنح الرجل ذراعه المقطوع لعابر سبيل فيلفه عائدا إلى زوجته لكنها ترفضه لأنه لا يؤكل، فيغلق على نفسه غرفته ويخلع ذراعه، ويضع مكانها ذراع الرجل، ثم ينزل إلى سوق الروبابيكيا ليبيع ذراعه، فلم يجد مشتريا، ويلتقى بصاحب الذراع ويأخذ ذراعه ويلطمه بها ويضرب بها رجلا حاول أن يساعده، كل لطمة أطارت رقبة فيحمل الرجل الرقبتين معا عائدا إلى زوجته التي تلتهمهما بنهم.
سرد مختلف
هكذا يكون العجائبي انعكاسا لليومي والمعيش، بتمزقه، وفوضاه، فيطرح نفسه كنوع من الرفض والاحتجاج .
وتبرز الحاجة إلى استشعار الدفء كمطلب إنساني بسيط في أكثر من قصة منها "السدود" وهي سواتر يقيمها سكان الشارع عندما يعلو ماء المطر لمنعه من دخول بيوتهم، لكن السدود تصبح حدودا للبيوت فيحدث النزاع والتشاتم بين الجيران، والنسوة في تدافعهن يدسن عليها فتنهار، وحينما ينظر الراوى من السطح يجد السدود كلها قد انمحت، هكذا يؤدي اختلافهم إلى الفشل في مواجهة خطر يحدق بالجميع.
وفي قصة "اختلاف بسيط" يتكرر تشظي الذات، ويصبح الراوي هو المروي عنه، الذي يتخذ اسم المؤلف ممدوح عبدالستار، وهو نفسه الميت، كذلك تبدأ "قصة لم يكتبها الكاتب" بالإعلان عن موت الكاتب، الذي كان "سيدا للعراء" فلم يمتلك دارا ولا قبرا، كما يتكرر تشظي الذات تمهيدا لموتها وفنائها، فتتكرر في القصة وفي المجموعة بعامة كلمة جثة وغيرها من الكلمات الدالة على الموت والقتل. ويتكرر كذلك تعبير عن الذات عن عجزها ووحدتها، كما في "ثقب في بطاقتي الشخصية" حيث يكتشف الراوي أنه يعيش في العراء.
وتواجه الذات واقعها بتشويهه وإبراز العجائبي فيه نازعة عنه القداسة، كما في قصة "الحكاية الثانية"، التي ترفض الماضي باعتباره مسئولا عن كل بؤس الحاضر، فيقول الراوي "بعد أن استمعت إلى الحكاية الثانية، رفضت الحكاية الأولى، كانت الحكاية الأولى تضفي على جدي هالة قدسيّة، تجعله كائنا خرافيا، وأنا أود جدي بشراً من لحم ودم، حتى أستطيع أن أنتمي إليه بفخر".
هكذا منحت العجائبية والغرائبية قصص المجموعة دلالات قادرة على تصوير الواقع وإدانته في بنية جديدة تعرض الحقيقة وفقا لرؤية الكاتب، وليس كما حدثت بالفعل. لذلك كان الكاتب موفقا في اعتماده شبه المطلق على ضمير المتكلم، إذ أتاح حضور الراوي في الحدث بأن يصعد من غرائبية أو عجائبية الحدث، كما أّنه يوهم المتلقّي بواقعية الأحداث.
سرد عجائبي يرصد تشظي الذات ويدين الواقع | أحمد رجب | MEO
وكل من العجائبي والغرائبي يثير الدهشة والحيرة، وتظهر دلالته في الأثر النفسي الذي يتركه لدى القارىء تجاه تلك الظاهرة الغريبة، والتمييز بينهما يقوم على التردد الذي يحس به القارئ حيال تصديق نص حدث ما، ثم يحسم أمره؛ فإذا رأى أن قوانين الطّبيعة سليمة، وتسمح بتفسير الظواهر التي تصورها القصة، فالنص عندئذ يدخل ضمن السرد الغرائبي، بينما يدخل في السرد العجائبي إذا افترض وجود قوانين جديدة للطبيعة يمكنه أن يفسر الظواهر بواسطتها.
مفارقة واستلاب
"تعود أن يرمي هدومه في أي ركن، بعيدا عن جسده، فيحس بارتياح، ويقفز كفراشة، ويحلق في غرفته، قافلا إياها حتى لا يقتحم عليه أحد خلوته، فيضطر لارتداء ملابسه مرة أخرى".
الكاتب كان موفقا في اعتماده شبه المطلق على ضمير المتكلم، إذ أتاح حضور الراوي في الحدث بأن يصعد من غرائبية أو عجائبية الحدث، كما أّنه يوهم المتلقّي بواقعية الأحداث
هكذا تبدأ القصة الأولى "انتظار"، معتمدة على الخروج عن المألوف والمتوّقع بما يتلاقى مع المفارقة التي تطرح أمراً جديداً في إطار عادي مألوف، "وتقول شيئاً وهي تقصد العكس"، فهذا الشخص الذي يتعامل مع ملابسه باعتبارها سجنا، فينزعها ويرميها ليرتاح نراه يغلق على نفسه غرفته ليشعر بالحرية، وكأنه استسلم لسجنه وأصبح كل ما يعنيه أن يكون السجن أكثر اتساعا، ولما يتلصص عليه الراوي، يراه "يحك جلده ولحمه بقوة، فيظفر بهما، ويضعهما بجواره على السرير، أو أرض الغرفة، حتى بانت عظامه، واستراح في نوم عميق".
هكذا يكتشف المتلصص أن جاره الذي كان يتيه بجسده قد أصابه الجرب، يلفظه الناس فيهجرهم مستترا بجدران غرفته غير دارٍ بأنهم يتلصصون عليه، وبالرغم من تعقبهم له لا يشعر بوجودهم، فيسرف في التخفي لدرجة أنه حينما ينظر في مرآته "لم يجد إلا بقعا سوداء"، فكأن وجوده أصبح عدما، وحينما تفوح الرائحة النتنة لجثته يقومون بإشعال النار في الغرفة للتخلص من آثاره، عندئذ يتحدث الراوى بضمير الجمع نحن وليس أنا: "استرحنا قليلا وفرحنا، وقد بات لنا أن نكون غير خائفين هذه المرة، واستلقى كل منا عاريا تماما في غرفته، منتظرين النار التي أفرحتنا".
هكذا ينجح السرد الغرائبي في رصد استلاب الذات في مجتمع يهمشها، وينتهك خصوصيتها، على الرغم من إن معاناة ذلك المقصي لا تخصه وحده، فبذرة الداء كامنة في دواخل أولئك الذين فرحوا بالنار وهي مصيرهم. وكذلك الشخصيات في كل القصص تعاني التهميش والإقصاء، وكلهم مثله يموتون دون أثرا بل حتى دون شاهد قبر، كما في "قصة لم يكتبها كاتب".
افتقاد الدفء
القارىء لأعمال ممدوح عبدالستار لا يجد فيها قصة بالمعنى المعتاد الذي يهدف إلى إحداث نوع من وحدة الانطباع أو الأثر، أما القصة عنده فتتعمد إحداث نوع من التشتيت للانطباع بسبب افتقادها غالبا للحدث المركزى، لذا سيجد القارىء نفسه إزاء سرد مختلف نوعا ما إذ يتعمد تصوير العالم بكل رحابته وتعقيداته عبر أحداث بسيطة يلتقطها من الواقع المعيش، ويقدمها بشكل عجائبي مازجا إياها برؤيته التي تتساءل عن أسباب تشظى الذات وانسحاقها، وتدين الواقع المؤدي إلى ذلك، وهذا ما نجده في قصة "ذراع يحمل الفاكهة"، حيث يختزل الرجل في الذراع الذي يعمل ويكسب ويحمل الفاكهة، فلما لم يفعل بترته الزوجة بالبلطة، فيمنح الرجل ذراعه المقطوع لعابر سبيل فيلفه عائدا إلى زوجته لكنها ترفضه لأنه لا يؤكل، فيغلق على نفسه غرفته ويخلع ذراعه، ويضع مكانها ذراع الرجل، ثم ينزل إلى سوق الروبابيكيا ليبيع ذراعه، فلم يجد مشتريا، ويلتقى بصاحب الذراع ويأخذ ذراعه ويلطمه بها ويضرب بها رجلا حاول أن يساعده، كل لطمة أطارت رقبة فيحمل الرجل الرقبتين معا عائدا إلى زوجته التي تلتهمهما بنهم.
سرد مختلف
هكذا يكون العجائبي انعكاسا لليومي والمعيش، بتمزقه، وفوضاه، فيطرح نفسه كنوع من الرفض والاحتجاج .
وتبرز الحاجة إلى استشعار الدفء كمطلب إنساني بسيط في أكثر من قصة منها "السدود" وهي سواتر يقيمها سكان الشارع عندما يعلو ماء المطر لمنعه من دخول بيوتهم، لكن السدود تصبح حدودا للبيوت فيحدث النزاع والتشاتم بين الجيران، والنسوة في تدافعهن يدسن عليها فتنهار، وحينما ينظر الراوى من السطح يجد السدود كلها قد انمحت، هكذا يؤدي اختلافهم إلى الفشل في مواجهة خطر يحدق بالجميع.
وفي قصة "اختلاف بسيط" يتكرر تشظي الذات، ويصبح الراوي هو المروي عنه، الذي يتخذ اسم المؤلف ممدوح عبدالستار، وهو نفسه الميت، كذلك تبدأ "قصة لم يكتبها الكاتب" بالإعلان عن موت الكاتب، الذي كان "سيدا للعراء" فلم يمتلك دارا ولا قبرا، كما يتكرر تشظي الذات تمهيدا لموتها وفنائها، فتتكرر في القصة وفي المجموعة بعامة كلمة جثة وغيرها من الكلمات الدالة على الموت والقتل. ويتكرر كذلك تعبير عن الذات عن عجزها ووحدتها، كما في "ثقب في بطاقتي الشخصية" حيث يكتشف الراوي أنه يعيش في العراء.
وتواجه الذات واقعها بتشويهه وإبراز العجائبي فيه نازعة عنه القداسة، كما في قصة "الحكاية الثانية"، التي ترفض الماضي باعتباره مسئولا عن كل بؤس الحاضر، فيقول الراوي "بعد أن استمعت إلى الحكاية الثانية، رفضت الحكاية الأولى، كانت الحكاية الأولى تضفي على جدي هالة قدسيّة، تجعله كائنا خرافيا، وأنا أود جدي بشراً من لحم ودم، حتى أستطيع أن أنتمي إليه بفخر".
هكذا منحت العجائبية والغرائبية قصص المجموعة دلالات قادرة على تصوير الواقع وإدانته في بنية جديدة تعرض الحقيقة وفقا لرؤية الكاتب، وليس كما حدثت بالفعل. لذلك كان الكاتب موفقا في اعتماده شبه المطلق على ضمير المتكلم، إذ أتاح حضور الراوي في الحدث بأن يصعد من غرائبية أو عجائبية الحدث، كما أّنه يوهم المتلقّي بواقعية الأحداث.
سرد عجائبي يرصد تشظي الذات ويدين الواقع | أحمد رجب | MEO