أصبحت الحرب هي الموضوع الأكثر حضورا في الرواية العربية في القرن الجديد، فالحرب أصبحت واقعا يوميا يعيشه الإنسان العربي، وحتى لا يقع الكاتب العراقي وارد بدر السالم في دائرة التكرار أو تناول أحداث مستهلكة، آثر في روايته الأحدث "شظية في مكان حساس" (الصادرة في بغداد 2019) أن يحكي عن بغداد ما بعد الحرب، وقد ذكرتني روايته بمقولة الأنثروبولوجي الكندي اريك جانيون عن الألم، وإنه ليس شيئا غير الذات الموجوعة نفسها، فليست الذات إلا وعيها بالألم.
الرواية - وبامتداد مائتي وخمسين صفحة - تسرد رحلة أسرة عراقية مع الألم الجسدي والنفسي الذي صهرها، وأعاد تشكيلها وصياغة حياتها عقب تعرضها لمحنة لا تكون استثنائية في زمن الحرب.
تحكي الرواية عن "نور" وهي امرأة أربعينية تتعرض للإصابة عقب انفجار آخر مفخخة في بغداد، بحسب العنوان الفرعي للرواية، الذي أثبته المؤلف ربما ليقول إن الحرب قد انتهت وأن روايته عن الحرب بعد أن تنتهي.
تصف الرواية يوم انفجار المفخخة بأنه "يوم الفزع الكبير الذي أحرق السوق والناس، وأحال حياتنا إلى جحيم مبهم، وعرض جسد زوجتي الخجول في المستشفيات والعيادات الطبية الخاصة إلى العيون التي رأته، وتنقلت عليه وفحصته ولمسته في أكثر المناطق سرية وعفة".
هكذا أدى الانفجار وما تلاه إلى انتهاك الجسد الذي كان "اجتماعيا ومقدسا لأنه كان سريا" لكنه "تبعثر في الإنفجار، وانسلخ عنه الحياء قسرا في الفحوصات والمعالجات، والترميم والترقيع، فأزالوا عنه الحشمة، ففقد استقلاليته ليموت مؤقتا".
هذا الانتهاك تعبر عنه الرواية بكلمة "العري" التي يتواتر ذكرها كثيرا، بمعنى انكشاف الستر، سواء كانت فعلا تمارسه الزوجة التي فقدت خفرها وحياءها القروي فتقول لزوجها: "أحتاجك .. خذني.. ادخلني" أو حينما يصف الزوج سلوك زوجته، ويلاحظ أن "العري" كفعل أو كلمة حضر كلما تفاقم شعور الشخصية بالعجز أو الحيرة، فجاء تعبيرا عن توتر الذات الساردة بين رغبتها في البوح، وخشيتها من الفضيحة (تكرر في النص وصف الشظية بالفضيحة).
وأيضا تستخدم الدكتورة تمارا نفس الوصف حينما تتحدث عمن يقصدون عيادتها كطبيبة نفسية، باعتبارهم مصابين بفوبيا الحرب، وتقول للزوج في معرض تفسيرها لحالة نور: "هذه هي الحرب، تعرينا حينما لا نكون مستعدين للعري، وتنزع منا الخجل لتكشف عن بعض ما لا يجب أن ينكشف فينا، فتجعلنا نرى في الجمال قبحا كثيرا".
طقوس الراقصة
يلجأ وارد بدر السالم في أغلب رواياته إلى نمط الراوى العليم، وعادة ما يجيىء السرد عنده بضمير المتكلم، فيسرد الأحداث بأسلوب مباشر، وقد يتحول من راصد أو مراقب للأحداث إلى مشارك فيها، خاصة وأن الراوي في "شظية في مكان حساس" هو الزوج، وهو شريك في الأحداث وفي الألم، وأيضا في التشظي مثل الزوجة نور التي تواجه تشظيا نفسيا وبدنيا عقب إصابتها في الانفجار، لذلك عمد الكاتب إلى تشظية البناء الفني لروايته، فبدأ مباشرة بما يشبه المفتتح، وعبر ثمانية مقاطع مرقمة، أولها حوارية قصيرة بين الأب وابنته لبنى، يبدأها بسؤال يبدو غريبا "منذ متى وأمك ترقص؟"، تجيبه "منذ أكثر من ساعة" ويلحظ الأب أن وجه ابنته اكتسى بألم مبكر، بينما يتساءل في المقطع الأخير "الرقص فرح الجسد أم ألمه؟". ويتساءل معه القارىء: لم ترقص الأم كل هذه المدة؟ وما سر حزن الابنة وألمها؟
شظية جارحة
ونجد الجواب في المقطع الأخير "ترقص في حجرتها وحيدة لتنتزع حشرة الحديد الناعمة لاهثة، دائخة الرأس، متكسرة الروح، وهي تصارع الشظية المتحركة في مكانها الحساس، لعلها تنزلق فجأة وينتهي الألم الغريب الذي اجتاحها منذ ستة أشهر".
الرقص إذن ممارسة تقوم الزوجة بها كنوع من العلاج المرجو لعل الشظية تنزلق وتغادر جسدها، أو لعله طقس تؤديه حتى تطلق روح الشظية الشريرة أسرها، لذلك تؤديه وحيدة وبعنف ولمدة طويلة منهكة.
ويفضي المفتتح إلى مقتبس من جاستون باشلر "كل شيء يرتج حين يرتعش النور"، والارتجاج يفتت الأشياء والأشخاص يحيلها إلى شظايا يلملمها الكاتب في فصلين الأول قصير، يلامس بدايات التغير الذي يصيب نفس وروح نور، والثاني يشغل نحو مائتي صفحة من متن الرواية، ويبدأ بما يسميه "فضيحة الشظية" ثم تتوالى النثارات أو الشظايا التي تبدو كل منها كتفصيلة أو جزء من لوحة فسيفساء ترصد الخراب الذي أحدثته الحرب بأرواح البشر.
حشرة الحديد
يصبح جسد نور ميدانا للحرب، فقد اخترقته شظايا كثيرة، بأحجام متوسطة وصغيرة، تم استخراجها كلها إلا واحدة، بحجم رأس دبوس، لم يستأصلها الجراح الذي برر للزوج تركه لتلك الشظية الصغيرة لحساسية الموضع الذي سكنته، وطمأنه بأنها ستزول مع الوقت أو تستقر في مكانها، لكن الشظية لم تزل ولم تستقر، وتصبح الشظية المتبقية بداخلها هي الحرب، فبعد ستة أشهر من المعاناة، تغيرت نور وكأنها خرجت من قبر إلى الحياة ثانية، تصبح أخرى غير التي خبرها الزوج لعشرين عاما، فالقروية الخجول المحتشمة تصبح امرأة أخرى تماما بفعل الشظية التي تصفها الرواية بأنها "حشرة الحديد الناعمة"، التي تتحرك في المكان الحساس فتعمل كما لو أنها عضو ذكري، تصيب الزوجة بحكة تشعرها بحاجة دائمة لممارسة الجنس، فيتحول الزوج إلى آلة جنسية، وأصبح يرى الزوجة "شظية جارحة"، لكنه رغم ما يصيبه من ألم ومن قرف يظل متعاطفا معها، ويتألم لحالها وهو يراها "تذوب من الألم وتتوحش كثيرا بسبب الحكة المهيجة"، ويراها تنهار أمام ألمها الجنسي الذي يقتلها ببطء، فيخشى أن تنتحر لتنهي آلامها، ويعاود التردد على المستشفيات والعيادات الطبية ما بين نفسية وعضوية حتى يقترح أحد الجراحين علاجا ناجعا يتمثل في إجراء عملية ختان لنور، فلن يستطيع استئصال الشظية إلا باستئصال المكان الحساس الذي سكنته، وفي ذلك علاج لحالتها الراهنة ووقاية من تداعيات أخطر قد تحدث مستقبلا، يتكفل الزوج بإقناع زوجته بالموافقة على إجراء العملية، فتفيض عيناها بالدمع، بينما هو يضمها إلى صدره وهو يهمس لها: "هذه هي الحرب حبيبتي نور، تقص فينا أعز ما نملك".
middle-east-online.com
alarab.news
الرواية - وبامتداد مائتي وخمسين صفحة - تسرد رحلة أسرة عراقية مع الألم الجسدي والنفسي الذي صهرها، وأعاد تشكيلها وصياغة حياتها عقب تعرضها لمحنة لا تكون استثنائية في زمن الحرب.
تحكي الرواية عن "نور" وهي امرأة أربعينية تتعرض للإصابة عقب انفجار آخر مفخخة في بغداد، بحسب العنوان الفرعي للرواية، الذي أثبته المؤلف ربما ليقول إن الحرب قد انتهت وأن روايته عن الحرب بعد أن تنتهي.
تصف الرواية يوم انفجار المفخخة بأنه "يوم الفزع الكبير الذي أحرق السوق والناس، وأحال حياتنا إلى جحيم مبهم، وعرض جسد زوجتي الخجول في المستشفيات والعيادات الطبية الخاصة إلى العيون التي رأته، وتنقلت عليه وفحصته ولمسته في أكثر المناطق سرية وعفة".
هكذا أدى الانفجار وما تلاه إلى انتهاك الجسد الذي كان "اجتماعيا ومقدسا لأنه كان سريا" لكنه "تبعثر في الإنفجار، وانسلخ عنه الحياء قسرا في الفحوصات والمعالجات، والترميم والترقيع، فأزالوا عنه الحشمة، ففقد استقلاليته ليموت مؤقتا".
هذا الانتهاك تعبر عنه الرواية بكلمة "العري" التي يتواتر ذكرها كثيرا، بمعنى انكشاف الستر، سواء كانت فعلا تمارسه الزوجة التي فقدت خفرها وحياءها القروي فتقول لزوجها: "أحتاجك .. خذني.. ادخلني" أو حينما يصف الزوج سلوك زوجته، ويلاحظ أن "العري" كفعل أو كلمة حضر كلما تفاقم شعور الشخصية بالعجز أو الحيرة، فجاء تعبيرا عن توتر الذات الساردة بين رغبتها في البوح، وخشيتها من الفضيحة (تكرر في النص وصف الشظية بالفضيحة).
وأيضا تستخدم الدكتورة تمارا نفس الوصف حينما تتحدث عمن يقصدون عيادتها كطبيبة نفسية، باعتبارهم مصابين بفوبيا الحرب، وتقول للزوج في معرض تفسيرها لحالة نور: "هذه هي الحرب، تعرينا حينما لا نكون مستعدين للعري، وتنزع منا الخجل لتكشف عن بعض ما لا يجب أن ينكشف فينا، فتجعلنا نرى في الجمال قبحا كثيرا".
طقوس الراقصة
يلجأ وارد بدر السالم في أغلب رواياته إلى نمط الراوى العليم، وعادة ما يجيىء السرد عنده بضمير المتكلم، فيسرد الأحداث بأسلوب مباشر، وقد يتحول من راصد أو مراقب للأحداث إلى مشارك فيها، خاصة وأن الراوي في "شظية في مكان حساس" هو الزوج، وهو شريك في الأحداث وفي الألم، وأيضا في التشظي مثل الزوجة نور التي تواجه تشظيا نفسيا وبدنيا عقب إصابتها في الانفجار، لذلك عمد الكاتب إلى تشظية البناء الفني لروايته، فبدأ مباشرة بما يشبه المفتتح، وعبر ثمانية مقاطع مرقمة، أولها حوارية قصيرة بين الأب وابنته لبنى، يبدأها بسؤال يبدو غريبا "منذ متى وأمك ترقص؟"، تجيبه "منذ أكثر من ساعة" ويلحظ الأب أن وجه ابنته اكتسى بألم مبكر، بينما يتساءل في المقطع الأخير "الرقص فرح الجسد أم ألمه؟". ويتساءل معه القارىء: لم ترقص الأم كل هذه المدة؟ وما سر حزن الابنة وألمها؟
شظية جارحة
ونجد الجواب في المقطع الأخير "ترقص في حجرتها وحيدة لتنتزع حشرة الحديد الناعمة لاهثة، دائخة الرأس، متكسرة الروح، وهي تصارع الشظية المتحركة في مكانها الحساس، لعلها تنزلق فجأة وينتهي الألم الغريب الذي اجتاحها منذ ستة أشهر".
الرقص إذن ممارسة تقوم الزوجة بها كنوع من العلاج المرجو لعل الشظية تنزلق وتغادر جسدها، أو لعله طقس تؤديه حتى تطلق روح الشظية الشريرة أسرها، لذلك تؤديه وحيدة وبعنف ولمدة طويلة منهكة.
ويفضي المفتتح إلى مقتبس من جاستون باشلر "كل شيء يرتج حين يرتعش النور"، والارتجاج يفتت الأشياء والأشخاص يحيلها إلى شظايا يلملمها الكاتب في فصلين الأول قصير، يلامس بدايات التغير الذي يصيب نفس وروح نور، والثاني يشغل نحو مائتي صفحة من متن الرواية، ويبدأ بما يسميه "فضيحة الشظية" ثم تتوالى النثارات أو الشظايا التي تبدو كل منها كتفصيلة أو جزء من لوحة فسيفساء ترصد الخراب الذي أحدثته الحرب بأرواح البشر.
حشرة الحديد
يصبح جسد نور ميدانا للحرب، فقد اخترقته شظايا كثيرة، بأحجام متوسطة وصغيرة، تم استخراجها كلها إلا واحدة، بحجم رأس دبوس، لم يستأصلها الجراح الذي برر للزوج تركه لتلك الشظية الصغيرة لحساسية الموضع الذي سكنته، وطمأنه بأنها ستزول مع الوقت أو تستقر في مكانها، لكن الشظية لم تزل ولم تستقر، وتصبح الشظية المتبقية بداخلها هي الحرب، فبعد ستة أشهر من المعاناة، تغيرت نور وكأنها خرجت من قبر إلى الحياة ثانية، تصبح أخرى غير التي خبرها الزوج لعشرين عاما، فالقروية الخجول المحتشمة تصبح امرأة أخرى تماما بفعل الشظية التي تصفها الرواية بأنها "حشرة الحديد الناعمة"، التي تتحرك في المكان الحساس فتعمل كما لو أنها عضو ذكري، تصيب الزوجة بحكة تشعرها بحاجة دائمة لممارسة الجنس، فيتحول الزوج إلى آلة جنسية، وأصبح يرى الزوجة "شظية جارحة"، لكنه رغم ما يصيبه من ألم ومن قرف يظل متعاطفا معها، ويتألم لحالها وهو يراها "تذوب من الألم وتتوحش كثيرا بسبب الحكة المهيجة"، ويراها تنهار أمام ألمها الجنسي الذي يقتلها ببطء، فيخشى أن تنتحر لتنهي آلامها، ويعاود التردد على المستشفيات والعيادات الطبية ما بين نفسية وعضوية حتى يقترح أحد الجراحين علاجا ناجعا يتمثل في إجراء عملية ختان لنور، فلن يستطيع استئصال الشظية إلا باستئصال المكان الحساس الذي سكنته، وفي ذلك علاج لحالتها الراهنة ووقاية من تداعيات أخطر قد تحدث مستقبلا، يتكفل الزوج بإقناع زوجته بالموافقة على إجراء العملية، فتفيض عيناها بالدمع، بينما هو يضمها إلى صدره وهو يهمس لها: "هذه هي الحرب حبيبتي نور، تقص فينا أعز ما نملك".
"شظية في مكان حساس".. الحرب بعد أن تنتهي | أحمد رجب | MEO
الرواية تحكي عن امرأة أربعينية تتعرض للإصابة عقب انفجار آخر مفخخة في بغداد.
حشرة حديدية تحيل حياة أسرة عراقية إلى جحيم | | صحيفة العرب
"شظية في مكان حساس".. رواية الحرب بعد أن وضعت أوزارها